حوار مع بيير هادو حول مقولة الهم...

حاروه: فرانسوا إيوالد

ترجمـة: عبـد الله زارو

 

س: يبدو أن موضوعة الهم كانت، في بادئ الأمر، من اهتمامات الفلسفة الإغريقية. فضمن أي ملابسات حدث ذلك؟

 

ج: لنسجل بدءا أن مقولة الهم كانت ملتبسة من أول إلى آخر تاريخها كما بين ذلك جيدا (مارتن هايدغر) في الصفحات البليغة التي خصصها لهذه المقولة في كتابه الكائن والزمان. بالفعل، إن للهم، في ذات الوقت دلالات متعددة فهو يحيل على فكرة الاعتناء، الإخلاص والعناية التي نوليها لمسألة ما أو لشخص بعينه كما قد يحيل على شعور بالاكتئاب الناتج عن أشياء تؤرقنا أو تعذبنا.

 

في الفكر الإغريقي، ظهرت فكرة الهم، أول ما ظهرت، مع (هزيود) وجماعة التراجيديين والفلاسفة السوفسطائيين من خلال تأملهم في المظاهر الناتجة عن قساوة العيش أو عن التزام بعلاقة زواجية أو الانخراط في مسؤولية الأبوة أو حتى المشكلات الناجمة عن تسيير الشأن العام. ارتبط الهم بالعيش داخل المدينة وبالأخص بالانخراط في أنشطة مفرطة وهو ما بينه (بول دومون) في كتابه اللامع المدينة الإغريقية القديمة والمثل الأعلى للهدوء.

 

أما الجديد عند (سقراط) بهذا الخصوص، أو بالأحرى ما نسبه (أفلاطون) إليه فهو استعماله لأول مرة لمقولة: "الانشغال بالذات". كان سكان أثينا مهمومين بالشأن السياسي، بسمعتهم وبأجسادهم وبكل الأشياء التي ليست "هُمْ"، غير أنهم لم يكونوا مهمومين بذواتهم أي بنمط عيشهم الخاص سواء كان هذا صادقا أو منافقا، عادلا أو غير عادل، محمودا أو ممقوتا. أتى (سقراط) فدعاهم إلى العودة إلى ذواتهم وهو ما يعني، بالضبط، إلى تغيير موضوع همهم.

 

س: الانشغال بالذات إذن معناه العودة إلى الذات والعمل على إحداث تغيير في سلم قيمها من خلال هذه العودة؟

 

ج: من حيث المبدأ، نسبغ نوعا من القيمة على موضوع همنا وانشغالنا. أن نغير موضوع همنا أو انشغالنا معناه إذن القيام بعملية قلب للقيم وتغيير للاتجاه الذي تسير فيه انشغالاتنا حتى الآن. أما الكلمات التي استعملها (سقراط) للتعبير عن الهم فهي "الانتباه لشيء"، وهي مطابقة لمسعى أفلاطوني آخر حيث يستعمل (أفلاطون) عبارة "حمل ذواتنا على التطابق مع أفكارنا". في هذا السياق، سياق الدعوة إلى "التركيز على الذات"، يظهر شخص (سقراط) في المأدبة.

 

إذا كان (سقراط) يدعو الناس إلى العودة إلى ذواتهم وتغيير اتجاه اهتماماتهم وهمومهم فلأنه، هو ذاته، مهموم بالآخرين. فكما قال عنه (أفلاطون) في الدفاع: لن تجد أناسا كثيرين كسقراط الذي تخلى كلية عن مصالحه الشخصية لينشغل بكل مواطن على حدة. لا ينفصل هم الذات إذن، في التصور السقراطي، عن هم الآخر.

 

س: نريد معرفة نقطة تمفصل الانشغال بالذات والانشغال بالآخر، فالأول يبدو كما لو كان منفصلا عن الثاني؟

 

ج: تتجسد النزوعات الأنانية بالأحرى في انشغال الناس بأشياء العالم الخارجي بغرض إخضاعها لنزواتهم. فهذا انشغال يندرج ضمن فعل الامتلاك. وكما قال (سقراط) في الدفاع، لا ينبغي أن تكون انشغالاتنا ناتجة عما نمتلكه وما لا نمتلكه بل عما نحن إياه وما لسنا إياه. وحتى يتحقق ذلك، يتعين أولا معرفة نمط وجودنا الفعلي الذي يختصر نمطنا في العيش. لكن لا يتعلق الأمر هنا بأنا متمركزة على نفسها بل بأنا ناجحة في الرقي إلى مستوى الكوني من خلال ممارسة الحوار. (سقراط) نفسه لا يعدو أن يكون فردا منشغلا بالآخرين، باحثا عن كيف يجعلهم يكتشفون مستوى آخر في ذواتهم: إنه مستوى اللوغوس من خلال خطاب عقلاني يمكن الأفراد من ولوج مستوى الكوني. هذا بالضبط هو الهدف من كل المحاورات السقراطية. فهذه تناشد الآخرين الانشغال بذواتهم. فعندما يسأل (سقراط) محاوريه يجعلهم يكتشفون جهلهم بالقيم التي تنظم حياتهم، لكن ما كان يسعى إليه، بشكل خاص، هو أن يتعلموا إخضاع أفكارهم لهذا الحكم المشترك الذي هو العقل. لم يكن (سقراط) يلح إلا على نوع من الاتفاق بين مخاطبيه. بمعنى آخر، إن الحوار هو تقدم مشترك من خلال اتفاقات متعاقبة بين مخاطبين متحاورين. فبمقتضاه يمتثلون لمقتضيات التماسك العقلاني ويرقون إلى وجهة نظر مشتركة لا فردية. هكذا يتكشف ويتحقق الانشغال بالآخر من خلال الحوار ذاته. يتعلق الأمر بمعرفة وجود وجهة نظر أخرى غير وجهة نظرنا، ويتعين، من هذا المنطلق، على كل من السائل والمجيب، أن يتجاوزا وجهتي نظريهما في اتجاه الامتثال للمقتضيات الموضوعية للعقل. من هذا المنظور بالذات، يتحدد الانشغال بالذات كنجاح للذات في تجاوز فرديتها والتهيؤ للانخراط في رؤية كونية، عقلانية وموضوعية.

 

ليس لمقولة الانشغال بالذات بالنسبة لسقراط، وبالأخص بالنسبة لأفلاطون من معنى آخر إلا الانشغال بالآخر. يتعين الانشغال بالذات للانخراط في الحياة "السياسية" على اعتبار أن أولى مزايا ممارس السياسة قدرته على النظر إلى الأمور ضمن توجه كوني وعقلاني كالذي تحدثنا عنه للتو.

 

س: هل لنا أن نعرف العلاقة بين "الانشغال بالذات" و"اعرف نفسك بنفسك" السقراطية؟

 

ج: ستجد في الألسبياد أن "الانشغال بالذات" و"معرفة الذات" شيء واحد ومسعى واحد. فالانشغال بالذات معناه العزوف عن الانشغال بما ليس هي أي بما نمتلكه أو نبتغي امتلاكه (ممتلكات، جاه..) أو ما يكون في خدمتنا (أجسادنا مثلا) والانشغال، بالمقابل، بكينونتنا أي بالروح فينا. والدليل على هذا هو ما قاله (سقراط) نفسه في الألسبياد من أن الحوار بين كائنين هو بين روحين، وفي علاقة حب الروح هي التي تهوى روحا أخرى. فالمحب بحق هو المحب لروح وهو لن يتخلى عن موضوع حبه ولو فقد الجسد كل نضارته وشبابه. نلاحظ أن ما يسميه (سقراط) "روح" هو ما نطلق عليه اليوم "شخص" أو "ذات". أن تعرف ذاتك إذن معناه أن تنشغل بذاتك وتشيح بنظرك عن كل ما لا يمت بصلة لكينونتك وتركز اهتمامك على ما أنت إياه بالفعل أو بالأحرى ما ينبغي أن تكونه. أن تنشغل بنفسك معناه أن تنجح في معرفة نفسك بنفسك. هذه المعرفة التي هي، في واقع الأمر، تغيير، "تعديل" للذات من خلال الوعي بها.

 

س: ماذا عن المحطة الموالية في الاهتمام بهذا الموضوع؟

 

ج: لم يحظ، في ما يبدو لي، باهتمام من طرف (أرسطو)، إلا أنه حظي باهتمام بالغ في الفلسفة الهلنستية وبالأخص الرواقية والأبيقورية.

 

بالوسع القول إنه وفي كل المدارس الهلنستية، وحتى عند الشكاك أنفسهم، أنيطت بالفلسفة مهمة أساسية هي تحرير الإنسان من همومه النابعة من آماله ومخاوفه تجاه أشياء تخرج عن طوعه. في هذا المنحى، وحتى نتحرر من الهم، يجب حصر مدار لا وجود فيه لهموم أو على الأقل مدار تختزل فيه إلى حدودها الدنيا. ذلك المدار يقيم في جزء من كينونتنا ليس بمقدور أي كان انتزاعه منا.

 

بنظر الأبيقوريين، يستحيل حصر هذا المدار إلا بتمييزنا بين صنوف الرغبات. الرغبات التي لا هي بطبيعية ولا بضرورية ثم الرغبات الطبيعية وغير الضرورية وأخيرا الرغبات الضرورية والطبيعية الكافية وحدها لتحقيق سعادتنا. إن الرغبات الأساسية، بالنسبة للأبيقوريين، هي جسدية، ولذلك فالانشغال بالذات هو، بكل وضوح، انشغال بفردية كل واحد على حدة. وهو ما لا يجب فهمه على أنه ضرب من الأنانية بالمعنى المبتذل للكلمة بل كرغبة للعيش وفق الطبيعة والكينونة الكونية القمين بتحصيل متعة الوجود الخالص.

 

أما عند الرواقيين، فهذا المدار يتحدد لما تنجح الأنا في التمييز بين ما يتوقف علينا وما لا يتوقف علينا. لا يتوقف على الذات، مثلا، أن تكون جميلة، ثرية، قوية بصحة جيدة أو أن تحقق نجاحات سياسية ومهنية أو أن تكون لها سمعة، الإحساس بمتعة أو التخلص من معاناة. كل هذا وقف على عناصر خارجة عن سلطة الذات. وفي مقابل هذا، يتوقف على الذات أن تنوي شرا أو خيرا. هاهنا تتمركز الأنا إذن بنظر الرواقيين، في هذا المدار الأخلاقي الضيق المتمثل بالنية أو القصد وهو مدار لا تطاله يد أجنبية. هذا ما دفع بي إلى أن أسمي كتابي عن (مارك أوريل) الرواقي بـ القلعة الداخلية.

 

يتجلى الانشغال بالذات هنا إذن كما لدى (أفلاطون) في ملاقاة الأنا الأساسي وفصله عن كل ما هو غريب عنه. غير أن الرواقيين والأبيقوريين يربطون تحقق هذا الهدف بإحداث تغيير جذري في علاقتنا بالزمن، ذلك أن الانفصال عن كل ما هو غريب عنا معناه التحرر من الماضي والمستقبل. تنشغل بذاتك إذن، في هذا السياق، معناه أن تركز على الحاضر أي الزمن الوحيد الذي نعيش فيه بالفعل ونكون فيه عين ذواتنا لأننا نتصرف فيه.

 

بالرواقية والأبيقورية معا، نلاحظ هذا الحضور القوي لإرادة التخلص من الهموم من خلال فعل التمركز حول الهم الأساس الذي هو الانشغال بالذات.

 

س: هل نفهم من هذا أنه للتخلص من الهموم يجب علينا أن نكتفي بالانشغال بذواتنا؟

 

ج: تماما، لكني أعود فأقول إن الانشغال بالذات لا يلغي الانشغال بالآخر. وأرى بأنه يجب التمييز في هذا المنحى، بين التقليد الأفلاطوني-الرواقي والتقليد الأبيقوري. ذلك أن هناك نماذج متعالية ومختلفة تستوحي تصوراتنا من هم الآخر والانشغال بالآخر. فنموذج الحكيم الأفلاطوني أو الرواقي هو الإله الحريص على الاعتناء بكل شيء بمعنى أنه مهموم بشؤون الآخرين دون أن تكون له هموم خاصة به. فهو بسكينة لا تشوبها شائبة ومتفرغ كلية لذاته ومتنزه في ملكوته. يطبق الرواقيون هذا النموذج على نوع الأفعال التي تقوم بها من أجل الآخر دون أن تخلق لها اضطرابا. يمكن تشبيه الحكيم الرواقي بأحد جنرالات الحرب العالمية الأولى إذ له "مشاغل" وليست له "انشغالات".

 

إنه ينهل سكينته من إيمانه بعناية ربانية ويجهد نفسه لتتماشى إرادته مع الإرادة الإلهية التي ليست شيئا آخر سوى العقل الكوني. أما الفلسفة الأبيقورية فلا تحيل على فكرة الإله المدبر، فما يصنع سعادة الآلهة، بالضبط، هو عدم اكتراثهم بالعالم خلقا وصيرورة ومآلا وهم، بسبب ذلك، ينعمون بوجود هنيء لا مكان فيه لأي هم. لا يقصي، مع ذلك، فعل الاعتناء بالذات فعل الاعتناء بالآخر. هذا الذي يتحقق من خلال رابطة الصداقة التي قد تأخذ مسارا روحيا. في هذه الحالة سيكون الانشغالان عبارة عن متعة.

 

مع الأفلاطونية الجديدة ستحصل العودة مجددا إلى التقليد الأفلاطوني وإلى نموذج الإلهالمدبر والتي تحيط عنايته بكل شيء دون أن يترتب عن ذلك إحساسه بهموم. هو ذا التصور الذي سيقابل به (أفلوطين) التصور الغنوصي لإله خالق، خاضع للأهواء، للتأمل ولفعل الإنتاج. فالخالق الأفلاطوني موجود لذاته، وهذا النموذج هو الذي حاول (أفلوطين) تطبيقه على حياته الخاصة. يقول عنه كاتب سيرة حياته أنه كان، بذات الوقت، لذاته وللآخر. إن انهماكه في تربية الأطفال لم يحل دون اهتمامه بأناه الأسمى الذي هو فكره.

 

منذ (أفلاطون) حتى نهاية العهد القديم، كان لهم الذات حضور في كل المدارس الفلسفية على شكل تمارين روحانية كالتأمل أو محاسبة الذات أو التركيز على اللحظة الحاضرة كما سبق وأن أشرت.

 

س: وماذا عن موقف المسيحية من هذه المشكلة؟

 

ج: المسيح وهو واقف على الجبل كان يوصي أتباعه بعدم الانشغال بالغذاء والكساء. مع المسيحية، يتعلق الأمر بقلب للقيم التي كانت موضوعا لرغائبنا واهتمامنا في التقليد الإغريقي. فالقيمة التي ستعلو، هذه المرة، على الغذاء والكساء والثراء هي مملكة الله، حاكميته وشرعه على هذه الأرض. حاكمية وشيكة الحدوث –حسب المسيح- إن لم تكن قد انطلقت، فعلا، عبر الروح من خلال الغفران ومحبة القريب وتجسيد إرادة الإله. مع المسيحية الأولى، سيختفي الانشغال بالذات، بالمعنى السقراطي، لكنه سيعاود الظهور في القرن الثاني الميلادي مع (كليمون ألكسندري) وبعده، وبوجه خاص، مع حركة الرهبان ستطفو على السطح، مجددا، فكرة التمارين الرياضية الروحية للعهد القديم التي كانت مرتبطة، بشكل خاص، بفعل الانشغال بالذات.

 

إن حياة الرهبنة في هذه الفترة، وهي من أشد أنواع الممارسات الحميمية للمسيحية، ستعرف بالمقولة الإغريقية "الاعتناء بالذات" كما هو شأن حياة (أنطوان الراهب) التي كتبها (أتانار ألكسندري).

 

وفي ذات الوقت، سيبرز مجددا ذلك المثل الأعلى لعدم التأثر والسكينة المعروف في التقاليد الإغريقية. فلن يتردد راهب في القرن VI، وهو (دوروتي غزة) في القول بأن السكينة هي من الأهمية بحيث يجب أن نتخلى عن كل ما من شأنه أن يصرفها عنا.

 

س: وهل كان الانشغال بالذات جزءا من قواعد التمدن في عصر النهضة وطوال العصر الكلاسيكي؟

 

ج: أنت تتحدث هنا عن فترة تاريخية مترامية ويصعب تحديدها. لكن إذا افترضنا أن الانشغال بالذات ومعرفتها مترابطان فيجدر بنا الحديث، ومنذ العصر الوسيط، عن تيمة معرفة الذات عند (القديس برنارد) على سبيل المثال. وإذا أخذنا بالاعتبار أن الأفلاطونية والرواقية والأبيقورية هي فلسفات كانت لا تزال تنعم بالحياة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر فإننا نتبين، في هذه الفترة، استدامة عدد من التمارين الروحية المرتبطة بالانشغال بالذات لدى عدد من الفلاسفة. مونتاني هو، بطبيعة الحال، واحد من الأمثلة الممتازة في هذا الباب. فكتابه تلهمه –حتى أدق التفاصيل- فكرة الانشغال بالذات رغم أنها لا تظهر لديه، وبشكل مسترسل.

 

حسبما أعرف، لم تظهر فكرة الانشغال بالذات كموضوع للتأمل الفلسفي إلا داخل الفلسفة الأخلاقية (و"الشعبية") للقرن 18 كما هو الشأن، مثلا، عند (ج –ف – ميير: 1762). يقول بهذا الصدد: "ننشغل بشيء عندما نعتبر تحقيق ذلك الشيء لكمالنا هدفا نسعى إليه ونبحث عنه بكل الوسائل الكفيلة بذلك". هذا البحث هو، على وجه الدقة، ما نسميه فن العيش. نجد رؤية مماثلة لهذه الرؤية عند (ابرهاردت، 1781) وبشكل خاص عند (كانط) في الفصل الخاص بالواجبات تجاه الذات في ميتافيزيقا الأخلاق.

 

يتمثل المبدأ–الأساس في هذه الواجبات تجاه الذات في معرفة الذات بحسبانها تحريا لصفاء القصد الأخلاقي. غير أنه –وحسب (كانط)- لا توجد أخلاق إلا انطلاقا من اللحظة التي تفرض فيها الأنا –وقد ارتقت إلى مستوى العقل الكوني- على نفسها تعاليما في العيش لها قيمة كونية. يقول (كانط): "تصرف بمقتضى حكمة تجعلك قادرا على أن تريد بحسبان هذه الحكمة قانونا كليا".

 

س: هل يمكن اعتبار الانشغال بالذات من مقولات فلسفة القرن التاسع عشر؟

 

ج: مع (غوته)، كنا بصدد انبعاث التعلّة القديمة التي ترى في الهم ما يعذب الناس. نجد هذا منذ بداية فوست الأول وعند نهاية فوست الثاني قبيل قضاء البطل الذي جعله الهم أعمى. وبالنسبة لـ (كانط)، وكما هو شأن الفلاسفة القدامى، لا يكون الإنسان عاجزا عن التحرر من الهم إلا عندما يعي القيمة اللامتناهية للحظة الحاضرة. يقول (فوست) لـ (هيلين): "عندما لا يتجه الفكر إلى الأمام ولا إلى الخلف، يكون الحاضر، إذاك، هو سعادتنا الوحيدة".

 

عند (نيتشه)، سوف نجد فكرة للفلاسفة القدامى التي كانت ترى بأن الهموم تخنق هم الذات والانشغال بها. نقرأ، على سبيل المثال، في الاعتبار الثالث من اعتبارات في غير أوانها: "كل المؤسسات التي بناها الإنسان هي هنا لتحول بين الأفراد والإحساس بحيواتهم لأنها تقوم بالتشتيت المنظم لخواطرهم". فـ"العجلة معممة لأن كل الناس يريدون الهروب من أنفسهم". إن هموم الحياة تقي الناس من تلك الهموم الأخرى المرتبطة بذواتهم، وهو ما يعني، أساسا، أنها تقيهم من قلق الوجود.

 

في هذا السياق بالذات يندرج التحليل الشهير الذي قام به (هايدغر) لمقولة الهم في كتابه الوجود والزمن. لنلاحظ، بادئ ذي بدء، في هذا التحليل أن مقولة الهم هي، بالنسبة لـ (هايدغر) ضرب من تحصيل الحاصل إذ لا وجود لهم إلا هم الذات. وبعبارة أخرى: إن الهم هو الذي يشكل الأنا. فمن الأساسي بالنسبة للكائن الإنساني أن يكون دوما قبالة ذاته مفتوحا على المستقبل دون أن يكون أبدا ذاته. فهذا نمط الوجود الخاص بالكائن البشري. غير أن هنالك طرقا مختلفة نعبر من خلالها عن انشغالنا بذواتنا. يرى (هايدغر) أن الهم الذي من شأنه أن يجعلنا في حضرة ذواتنا قد يبعدنا عنها في اتجاه موضوعات خاصة كتلك التي يتشكل منها نسيج الحياة اليومية فتتحول إلى مصدر لانشغالنا بها حالة امتلاكنا أو افتقادنا لها سواء بسواء. إن العالم الحديث ضحية للنزعة الحركية التي تفضي بالناس إلى اللاأصالة. وكما هو الشأن في الفلسفة القديمة، نجد عند (هايدغر) تجاوزا للهم لكن ليس على نفس الطريقة. فالأولى ترى التجاوز في الصدق من خلال معانقة الذات في حين يرى (هايدغر) إمكانية التجاوز من خلال القلق الذي ينتابنا عند هجراننا لتلك الأشياء الخاصة التي تسبب لنا هموما. عندئذ، نلج مرحلة تكون فيها الكينونة ملهمة لنا(…).

 

س: كيف تفسرون هذا الظهور المتجدد لمسألة الهم في الأدبيات الفلسفية المعاصرة؟

 

ج: صرح (هايدغر) نفسه –عند تحليله لمسألة الهم- بكونه إنما تبنى هذا المنظور في إطار محاولاته الرامية إلى تأويل الأنثربولوجيا الأوغسطينية أي الأنثربولوجيا الإغريقية-المسيحية مقارنة مع الأسس التي تقوم عليها الأنطولوجيا الأرسطية. أعترف بعجزي الكامل عن تفسير قصد (هايدغر) من هذا الكلام. لكن أعتقد أنه كان يفكر، عندما تفوه بهذا الكلام، في التمثل الأوغسطيني للإنسان بحسبانه كائنا إشكاليا داخل هذا الكون وكقلق، قال (أوغسطين) "قلق هو دائما القلب (…)" وكذلك كعدم اكتمال وكخطيئة.

 

لكن، إذا كان (هايدغر) مرهف الإحساس إزاء الأنثربولوجيا الأوغسطينية فذلك راجع –على الأرجح- إلى كونه متأثرا بتيار قوي كان يخترق القرن 19 منذ (شيلنغ) مرورا بـ (كيركغارد) وصولا إلى (نيتشه) وكذلك إلى كونه مرهف الإحساس إزاء القلق الأساسي الموجود في عمق كل كائن إنساني سواء كان هذا القلق نتيجة وعي بالخطيئة أو للطابع الرهيب للوجود ذاته. ليس الهم، بمعنى ما، إلا الدرجة الأولى في سلم هذا القلق.

 

فالهم يعلن عن وجود قلق ويخفيه(…) فإذا ركزنا تفكيرنا على الهم والقلق جيدا فإننا سنخلص إلى أنهما الشيئان اللذان يسحقان أكثر الإنسان المعاصر روحيا تارة بسبب الحدث الأسطوري المرتبط بـ"موت الإله" واجتماعيا تارة أخرى بحكم شروط العيش التي يفرضها علينا المجتمع المعاصر.

 

س: آخر استعادة لمقولة الهم حصلت مه (فوكو)، أليس كذلك؟

 

ج: أود أن أدقق في البداية أن الأمر يتعلق عند (فوكو) بمقولة هم الذات (أي الانشغال بالذات) وتندرج هذه في إطار بحثه في النمط الذي تتشكل من خلاله الذات. فعلى ضوء الموضوعات الفلسفية القديمة حول الانشغال بالذات واشتغال الذات على نفسها، يقترح (فوكو) فنا في العيش، إسطيطيقا وجود، أسلوب حياة لا يعيد، بطبيعة الحالة، إنتاج التمارين الروحية للتاريخ القديم ولكنه يفتح للذات إمكانية التشكل ضمن الحرية وفي تعارض مع كل أشكال السلط الخارجية. فقد سجل (فوكو) أنه "ومنذ (كانط) لم تكن الأنا معطى فحسب بل تتشكل داخل علاقة بالأنا كذات". ربما ما يميز توظيف (فوكو) للمقولة، هو استحضارها لمنظور جمالي، منظور وجود تخلقه الذات كما تخلق موضوعا فنيا.

 

لقد فاجأ هذا التوجه الجديد في تفكير (فوكو) كل أتباعه وقرائه وأنا واحد من هؤلاء. أعلم أنه اطلع على مقالتي: "تمارين روحية" سنة 1977 وحال موته الباكر دون أن أتمكن من محاورته حول هذه الموضوعات. أفصح لي يوما أنه يعتزم تكريس كل تدريسه بالمستقبل لفلسفة العصور القديمة. على أية حال، إذا اختار (فوكو) هذا التوجه الجديد لمسار تفكيره الفلسفي، فلأنه قد وجد فيه –فكريا وروحيا أيضا- ما جعله يقدم على هذا الاختيار. قد تبدو له مقولة الانشغال بالذات هذه كحل صالح لمشكلة تشكل الذات كما أنه من الوارد أن تفتح –في نظره- للإنسان المعاصر وله شخصيا، منفذا نحو عالم له معنى.

 

س: ما هي الدلالة التي يمكن أن تكون لمقولة الهم في المجتمعات المعاصرة؟

 

ج: أقول بدءا أنني معجب جدا بأطروحتكم حول هذا الموضوع (يخاطب محاوره فرانسوا إيوالد). فمن الممكن أن يحل منظور الهم، وبشكل ممتاز، محل منظور المسؤولية الذي فقد قيمته اليوم. إنه لمن علامات توخي الضبط استبدال كلمة بأخرى. فتقول مثلا: اهتم بنفسك عوض أحس بالمسؤولية تجاه نفسك. وهذه الفكرة تتفق تماما مع ما قاله الرواقيون: الأشياء التي لا تتوقف علي لا يجب أن أهتم بها لأنني لست مسؤولا عنها. إلا أنه يجب أن أهتم بالأشياء التي تتوقف علي لأنني مسؤول عنها.

 

فضلا عن هذا، أرى بأنه من المشكوك فيه أن تنجح اسطيطيقا وجودية في سحب معنى على الوجود بل قد لا تذهب بعيدا مما ذهبت إليه المذاهب الأخلاقية القائلة بالتحقق الذاتي Self realisation والتي تنامت في الوسط الأنغلوساكسوني في بداية القرن، وهذا ما أتخوف منه.

 

بالمقابل، وقد يبدو هذا ساذجا جدا، فإنني أتشبت كثيرا بالمجهود الذي بذله الفكر الفلسفي القديم (والكانطي ضمنه كما رأينا)، وهو الذي سعى جاهدا إلى جعل الأنا تنفتح على كونية "أخلاقية". إن الانشغال بالذات والانشغال بالآخر يلتحمان داخل بوتقة إرادة العقل بلوغ كونية قوامها التوحد والحوارn

ــــــــــــــ

المرجع:

المجلة الأدبية الفرنسية، عدد مزدوج، يوليوز – غشت 1996.

 

المصدر: http://www.aljabriabed.net/n39_07zaro.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك