مسألة العقلية في الفكر المعاصر

بناصر البعزاتي

 

1 – تقديم في التنظير للمعرفة: كثرت الكتابات والمناقشات حول مسألة العقلية، والعقلية في العلم خاصة، خلال الثلث الأخير من القرن العشرين[1]. والخوض في مسألة العقلية وثيق الصلة بالتفكير في موضوعات الصدق والصواب والموضوعية والتجرد والبحث عن الحقيقة. فقد تحولت التحليلات الإبستمولوجية للفاعلية العلمية والتقييمات النظرية لمنجزات العلم بدرجة كبيرة، وبرزت توجهات نقدية تتهم العلم بالذوبان في البرامج التكنولوجية المخططة من طرف الدول والشركات الكبرى. وأهم ما يميز هذه التحولات هو النزوع إلى مراجعة ما كان يعتبر من قبيل الحقائق والبديهيات خلال زمن طويل. لهذا يندرج السؤال حول العقلية في سياق تحولات ثقافية وحضارية وإيديولوجية واسعة المدى.

 

1-1-نتج عن الاتساع التدريجي لرقعة البحث العلمي منذ ما يزيد عن قرن أن كثرت الأبنية (البناءات) المفهومية في كل العلوم، وتعددت مقرراتها وانعكاساتها على النشاط المنتج في جل الميادين. فقد اكتسبت الفاعلية العقلية قدرة فائقة على النسج والإنشاء والتشييد، استفادة من تاريخ طويل من المحاولات؛ وتكثف التواصل بين العلماء، مما يسهل البحث عن سبل البناء والبرهنة والاختبار. وأصبح النشاط المفهومي يغتني ويتحول، ويعيد سبك منتجاته بسرعة، مما يجعل أن النظرية العلمية لا تستقر على صيغة قارة ثابتة. لذا فإن مسألة القيمة الصدقية للعبارات العلمية لم تعد تلقائية و"بينة بذاتها"، بل أضحت تحتاج إلى الكشف عن السند الذي يدعمها، سواء من الواقع أو من المعتقدات المشتركة أو من المؤسسات أو من كل ذلك.

 

1-2-إن البحث من أجل إرساء المعرفة على أسس صلبة شأن قديم؛ إذ حاول الإغريق تصنيف وتحديد المبادئ التي يقوم عليها البرهان الرياضي منذ زمن أفلاطون وأرسطو، خصوصا لدى العالم الرياضي الممتاز أودكسوس وتلاميذه. لكن البحث في المبادئ لم يعق خصوبة البرهان الرياضي، التي أنشأت ترسانات من المعادلات تتجاوز كل سقف مفترض، منذ قرون. وبرزت خلال القرن التاسع عشر، بعد تاريخ طويل من التمهيد، أنساق هندسية تملك من التماسك الداخلي ما يجعلها متسقة لا يمكن إقصاؤها من حقل العلم، رغم التعارض الموجود فيما بين المبرهنات المقررة في الأنساق المختلفة. إذ فرض تعدد الأنساق نفسه في الميدان العلمي الواحد، مما جعل إسناد قيمة الصدق إلى هذه المبرهنة أو تلك يتجاوز الاعتبار التقليدي الذي كان يجعل صدق عبارة ما متوقفا على موافقتها للواقعة الموضوعية. فقد أصبحت خاصية التماسك الداخلي للنسق أهم من اتفاق عباراته مع العلم الخارجي واحدة واحدة؛ خصوصا وقد تبين أن الأبنية الرياضية إنشاءات عقلية تتمتع بكونها تشتمل "قوانين شكلية"، وليست اكتشافات في العالم الخارجي. فنتج عن هذا التغير التدريجي في الرؤية أن تراجع التشبث بما كان يعتبر عند جل العلماء من قبيل اليقينيات، وأصبحت خصائص الصدق والصحة والبداهة والتماسك مقيدة بمجال القول الذي تحدده المبادئ الأولية (تعريفات وأوليات ومسلمات) التي يبني عليها العالِم، وليست يقينية بإطلاق. ولذلك تكاثرت الأنساق المتماسكة؛ واختلفت الآراء حول مناهج التعقل والبناء التي تسمح بهذا التعدد؛ وبذلك تبين أن براهين الرياضيات، مثال الدقة والصرامة، ليست فوق الزمان، وأن الرياضيات ليست صرحا ثابتا ووحيدا[2].

 

1-3-كما استمر البحث في سبل التمييز بين المعرفة الصائبة والمعارف العامة (الآراء)، حرصا على عدم الاستسلام للأوهام والميول الذاتية. وقد عرف القرن العشرون أهم محاولة من أجل تحصين المعرفة العلمية، من خلال توضيح لغة العلم وتنقيتها مما اعتبر رواسب المعتقدات "غير العلمية". فتبنى الوضعانيون وكارل بوبر لغة المنطق الاستنباطي الصارمة، من أجل إعادة البناء المنطقية للعبارات العلمية، وإبراز قيمتها الدلالية، في مقابل بيان خلو العبارات الأخرى من المعنى أو إبهامها. لكن كل محاولات إيجاد معيار دقيق وكوني للدلالة انتهت إلى الفشل، ولم يستقر النقاش على صيغة بينة من أجل تسطير الحدود بين عبارة "ذات دلالة" وعبارة "غير ذات دلالة". وأصبحت مسألة تميز المعرفة العلمية مطروحة لنقاش واسع لا ينتهي لدى الدارسين اليوم. فتراجع نموذج العلم الخالص، واتضح أن كل المعارف مؤهلة للتطور مبدئيا، من خلال انفتاحها على مجالات مستحدثة باستمرار.

 

1-4-برزت محاولات مغايرة من أجل تمييز المعرفة العلمية عن غيرها، تعتبر أن بين المعرفة العلمية والمعارف غير العلمية "قطيعة إبستمولوجية"، حيث لا يمكن أن تتطور المعارف العامة لتصبح علما إلا إذا انسلخت عن المسلمات والصور والتشبيهات التي تشوب أسلوب النظر العفوي. وحسب هذا التصور، وأهم ممثليه كاستون باشلار، فإن لغة العلم واحدة ذات حصانة برهانية تفرض نفسها على "العقل" فرضا، ومن هنا كونيتها. لكن تطور البحث بين أن التعدد في العلم ليس سلبيا دائما، بل يمكن أن يخصب البناء المفهومي؛ كما أن الصور والتشبيهات والاستعارات ليست عائقا دائما، بل لا تصبح عائقا إلا بعد أن تكون قد هيأت بذاتها ظروف تجاوزها من خلال نسج الفرضيات وتقديم الإمكانات المفهومية المطلوبة في البناء التجديدي[3].

 

1-5-عرفت الإبستمولوجيا الوضعانية الجديدة نقاشا خصبا خلال حوالي ثلاثة عقود؛ وهذه فضيلة لدى الآخذين بها، حيث حرصوا على تحليل اللغة العلمية واللغة العادية على السواء؛ وقد أثمرت المناقشة آراء تصحيحية متدرجة، خصوصا خلال الخمسينات. فتبلورت لدى ج.همبل وو.كواين وا.ناجل أفكار تحاول مراجعة التمييز بين الأحكام: تحليلية وتركيبية، ذات معنى وخالية من المعنى. ومن جهة أخرى عرفت مسألة الاستقراء نقاشا بين المؤكدين لدور الاستقراء في تكون المعرفة وبين المعارضين؛ فتبينت ضرورة مراجعة مبدإ الانطلاق من الأحكام التجريبية المفردة أو الجزئية. وتبين أنه لا توجد قاعدة تجريبية تشكل المنطلق، لأن كل تجربة أو ملاحظة إلا وهي مندرجة في سيرورة مفهومية لا بداية لها ولا نهاية. فلا توجد تجربة نقية؛ وكل تجربة إلا وهي "ملطخة بالنظرية" التي تتم في نطاقها، ما دامت النظرية هي التي تقترح التجربة وتراقبها وتوجهها. بل إن التجربة لحظة في سيرورة البحث النظري الذي لا ينقطع، قبل التجربة وخلالها وبعدها؛ وكما أن التجربة تؤطر بالنظرية فإن هذه تتأثر بها.

 

1-6-عرف الفكر الفلسفي لدى المنطقي ل.فتكنشتاين تحولا مهما، برز في كتاباته الأخيرة خلال الأربعينات، خصوصا في كتاب أبحاث فلسفية، الذي طبع ونشر بعد موته. وبالنظر إلى التأثير الذي كان للفيلسوف الكبير على التصور الوضعاني الجديد من ذي قبل، فإن تراجعه عن كتاباته الأولى شكل مرفدا أساسيا للنقد الموجه للوضعانية. ويتميز الكتاب المذكور بتأكيده على وزن السياق والتداول في تحميل العبارات معاني معينة، وعلى دور التعود والتمرين في تكون القواعد. فعند فتكنشتاين أن "دلالة كلمة ما هي استعمالها في اللغة"، وأنه "هكذا تستعمل هذه الكلمات"، وأيضا "لا يمكن النصح بكيفية اشتغال الكلمة؛ بل على المرء أن يتبصر استعمالها وأن يتعلم منه"، وأيضا "فلتتعلم الدلالة من خلال الاستعمال"، وكذلك "فلتتعلم دلالة الكلمة من استخداماتها! (وعادة يمكن أن يقول المرء في الرياضيات بالمثل: أترك البرهان يعلمك ما قد تم البرهان عليه"[4]. وقد كان للكتاب تأثير مهم لا في فلسفة المنطق واللغة والتداوليات فحسب، بل أيضا في السوسيولوجيا، وفي سائر الدراسات الإنسانية بدرجة ما.

 

2 – تحولات في التحليل: صاحبت هذه المناقشات الإبستمولوجية تحولات مفهومية في مناهج البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية. فالإنسانيات، عبر تطورها، تحاول الاستفادة مما ينجز في العلوم "الحقة" من أجل تمتين سبل بحثها والتعبير عن نتائج استطلاعاتها بالأعداد والمنحنيات والجداول في سبيل تعليل عقلي للظواهر. ومن هنا ذلك التداخل بين التحليل الإبستمولوجي والدراسات الإنسانية والاجتماعية، إلى درجة أن كل مدرسة في هذه الدراسات تقوم على خلفيات إبستمولوجية، صريحة أو مضمرة، وأن لكل تصور إبستمولوجي امتدادات في مدرسة معينة من تلك الدراسات.

 

2-1-خلال الخمسينات اتسعت رقعة المناقشة في كل الحقول المعرفية، من خلال المزاوجة بين البحث الميداني وتحليل الأنسجة الثقافية والمقارنة بينها، في سياق النقد المتبادل بين المدارس الفكرية؛ في حين شهدت كل التصورات، الوضعانية والعقلانية، نضجا داخليا، من خلال انفتاحها على المناهج الوظيفية والبنيوية في العلوم الإنسانية. ونشرت كتب كثيرة مهمة ضد التصورات التقليدية للمعرفة، تدعو إلى تلاقح الأفكار، ومراجعة التمييز بين العلوم "الصورة" والتجريبية والإنسانية، وبضرورة التداخل بين المناهج والتقاليد في الميادين المختلفة. إذ في سنة 1958 وحدها، صدر كتاب س.تولمين استعمالات الدليل، الذي يركز على تناول غير صوري للاستدلال؛ وصدر كتاب ن.ر.هانسن إطارات الاكتشاف، الذي يهدم فيه ركائز التجربانية؛ وصدر كتاب

 

م.بولانيي المعرفة الشخصية، الذي ينتقد فيه الموضوعانية الوضعانية؛ وصدر كتاب ب.ونتش فكرة العلم الاجتماعي، الذي يستلهم أسلوب فتكنشتاين التداولي ويدعو إلى تطبيقه في البحث السوسيولوجي؛ وصدر كتاب خ.برلمان مع ألبرشت تيتيكا كتاب التدليل الذي يجعل المنطق تابعا لسبل الإقناع الأخرى بدل التبعية في الاتجاه المعاكس الذي كانت تقول به التناولات الصورية[5]. وتؤكد كل هذه التحليلات على دور المقام والتداول والتواصل في شحذ الاستدلال والتجربة والاختبار وإنتاج المعنى. وخلال تلك الفترة التي صدرت فيها هذه الكتب تبلورت أفكار لا وضعانية جديدة لدى ت.كون وب.فيرابند[6]، تؤكد على أن الممارسة العلمية لا تخضع لمنطق سابق محدد؛ حيث اغتنت اللغة الإبستمولوجية بتشغيل مفردات جديدة مثل الإبدال واللاقياسية والتغير المفهومي، للتعبير عن مقامية المعرفة العلمية، وتم التأكيد على الانتماء الثقافي للفاعلية العلمية.

 

2-2-تطورت الدراسات التاريخية وتشعبت، خصوصا عبر انتشار منهج الحوليات، حيث تم التأكيد على تمفصل الأبعاد المختلفة للحياة الاقتصادية والمجتمعية والثقافية؛ وانعطف الاهتمام نحو مظاهر الحياة العامة من عادات طبخ وأكل ورقص لدى المجموعات الثقافية. وتبين أن البحث التاريخي لا ينفصل عن مسار الأفكار في كل الدراسات، فنشط البحث في تاريخ الحضارات والفنون والأشكال الرمزية، مما أبرز غنى تلك الثقافات التي كان يعتقد أنها مجرد كيانات مرحلية بسيطة وفقيرة ثقافيا. هكذا تطور البحث التاريخي في تفاعل عضوي مع البحث في العلوم المجاورة.

 

2-3-تطور البحث السيكولوجي، سواء لدى المدرسة السلوكية أو لدى مدرسة الشكل، فتبلورت نظرية للإدراك والتعلم تؤكد على التفاعل بين المفاهيم والتكوين الثقافي وفيزيولوجية الدماغ في عملية الإدراك والتعرف والتعلم والتمييز. كما اغتنى البحث في اللسانيات وكشف عن كون اللغات الغربية لا تقل نسقية وقدرة على التعبير والقصدية في شحذ النشاط الإدراكي.

 

 2-4 وحصل ما يسميه البحث "ثورة الأنثروبولوجيا" ، بدءا من ملنوفسكي إلى أواسط القرن، خصوصا من خلال أبحاث رادكليف-براون وأفانيس برتشارد وليفي ستراوس لأنظمة القرابة والبنيات الذهنية والأنسجة الرمزية لدى مجموعات ثقافية غريبة[7]. فتبلور جدل خصب حول عقلية المعتقدات وتكوينها البنيوي وترابطها الوظيفي. وحذر الباحثون من التصنيفات التراتبية التي تقحم الثقافات في ترسيمة تطورية وضعانية، تؤدي إلى مواقف احتقارية للثقافات البدائية. وينتقد جاك كودي كل تصنيف تراتبي، ويؤكد أن كل التصنيفات لا تستطيع أن تتحرر من الخلفيات الثقافية للدارس، لذا يجب التحرر منها[8].

 

2-5-وفي مجال البحث في حقل بقايا الثقافات المندثرة، يتحدث البعض عن "أركيولوجيا جديدة" أو عن "ثورة في الأركيولوجيا"، بحكم استفادة هذه الدراسات من تأويل الأنسجة الرمزية الذي تقوم به الأنتربولوجيا[9]. وقد كان لهذه التحولات المفهومية في الأركيولوجيا والأنتربولوجيا، التي نتجت عن التحليل النظري والبحث الميداني، انعكاسات على البحث في تاريخ العلوم والإبستمولوجيا؛ فتبلورت رؤى تؤكد على الحذر من الأحكام المسبقة في تأويل النصوص وبقايا الثقافات. وتغيرت النظرة إلى المعارف التقليدية، بحكم أن كل معرفة تندمج مع بيئتها المحلية وتقدم أفهاما مناسبة للظواهر التي تهم المتداولين بدرجة معينة؛ كما كشف البحث عن حضارات قديمة غنية، لكنها اندثرت بحكم عوامل كثيرة، مما يصب في ضرورة المزيد من الحذر في إطلاق الأحكام.

 

2-6-كما عرف تاريخ العلوم تطورا بعد الخمسينات، من خلال اكتشاف كراسات ومخطوطات جديدة؛ فاغتنى البحث، وتجاوز الترسيمة التطورية الوضعانية التقليدية التي ترتب نمو العلوم في الفترة ما قبل النهضة الأوروبية في درجة دنيا، وكأن الفكر العلمي مقصور على مجتمع دون آخر. إذ برزت كتابات مهمة تنتمي إلى الحضارات غير الغربية، تكشف عن مستوى متقدم من الفاعلية العقلية العلمية، لا يختلف في شيء عن المستوى الذي عند كوبرنيك أو كاليلي. فبدأ الباحثون يقتنعون بأن البحث في ماضي العلم يجب أن يتحرر من الأحكام التقييمية المتسرعة ومن الإسقاطات المركزية؛ كما اتجه البحث تدريجيا نحو اعتبار العلم ميدانا متفاعلا مع الشروط المجتمعية والثقافية، لا ميدانا متعاليا عن التاريخ.

 

2-7-صاحب هذه التحولات الفكرية تغير في مفاهيم العلم الأساسية، مثل الانتظام والاطراد والاتصال. إذ برزت أبحاث تريد الكشف عن تفاصيل الظواهر الطبيعية؛ فاستنتج بعض الدارسين أن ظواهر الطبيعة غير مطردة وغير منتظمة بالشكل الذي رددته التصورات العقلانية الكلاسيكية. وعندهم أن فكرة قابلية فهم الطبيعة باستعمال الرياضيات كأداة منهجية لا تصمد دائما أمام ما تزخر به الظواهر من تفاعلات غير متوقعة. فعن السؤال "كم يبلغ طول شاطئ بريطانيا؟"، الذي طرحه بنوا ب. مندلبروت، يعجز الباحث عن تقديم جواب قار، لأن عوامل التعرية والمد والجزر وتلاطم الأمواج تجعل أن طول الشاطئ لا يستقر على وضع واحد. كما كتب مندلبروت، هو من متزعمي الأسلوب الجديد في النظر إلى منهج الرياضيات في دراسة الطبيعة: "النتيجة من أكثر الأمور غرابة: إذ ينكشف طول خط الشاطئ بكونه فكرة وهمية تنفلت مما بين أصابع من يرغب في القبض عنه. فكل مناهج القياس تؤدي في النهاية إلى النتيجة بأن الطول النمطي لخط الشاطئ كبير جدا، ومحدد بكيفية سيئة، بحيث من الأفضل أن يعتبر لا نهائيا"[10]. ولهذا يستنتج مندلبروت أن الطبيعة معقدة جدا، ويتعذر على الدارس أن يلاحظ كل الحلقات البينية التي تفصل الحالات المتعددة الأوجه التي تلبسها الظواهر في تفاعلاتها المتشابكة. فكل صرح المعرفة يتوقف على سلم معين للدراسة، وهو سلم مشروط بالحدوس التي تطرأ على العقل الدارس؛ وبما أنه يمكن تصور ما لا يحصى من السلاليم، فكيف يمكن التأكد من أن هذه المعرفة هي الصائبة وليست معرفة أخرى؟ إن الملاحظ يدرك حقلا ما، ويبدو له متكونا من كائنات طبيعية ما، على مسافة معينة؛ وما أن يقترب من الحقل، حتى تتغير معرفته به جذريا؛ وعندما يقترب أكثر، تتغير المعرفة، وهكذا… وكما كتب جيمس كليك: "الملاحظ الذي يرى العمارة من أي مسافة يجد جزئية ما تجذب عينه. والتأليف يتغير عندما يقترب المرء، وتظهر على المسرح عناصر جديدة من البنية"[11]. وقد جعل الصحفي كليك من الظواهر المعقدة غير المنضبطة حقلا لنمط جديد لا يخضع للمعايير العلمية الكلاسيكية.

 

3 – جاذبيات إيديولوجية: لم ينفلت العلم من الصراعات الإيديولجية والسياسية والمذهبية: حيث يزج به في المناقشات حول "معقولية السلطة" و"منطق التاريخ" و"تسخير العلم" و"المعرفة المزيفة" و"الانتماء". ومن جهة أخرى كشف البحث التاريخي والسوسيولوجي أن السلط تستخدم العلماء من أجل جمع المعلومات وتخزينها وتحليلها والمقارنة بينها، من أجل المراقبة والهيمنة والتوسع. فانتشر شعور لدى المثقفين بالحذر من "حياد" العلم ومن "حقيقة" أحكامه، مما قدم ذريعة لمختلف التيارات الإيديولوجية لاتهام العلم والعلماء بالتواطؤ وخدمة السلطات، مقابل امتيازات وأسفار؛ وأصبح من الصعب إقناع أحد بموضوعية العلم.

 

3-1-لقد عرف تاريخ الأفكار، منذ القرن السابع عشر إلى أواسط القرن العشرين، اعتزازا بالإنجازات العلمية وإعجابا بما تقدمه العلوم من خدمات للفهم والقرار والعمل. ووصلت الإشادة بالعلم إلى حد أن بعض العلماء ادعوا أن العلم قد وصل أوجه؛ حيث كتب ألبرت مايكلسن مثلا سنة 1902: "كل القوانين والوقائع الأساسية للعلم الفيزيائي الأكثر أهمية قد اكتشفت، وهي الآن محققة بكيفية متينة بحيث ليس بالإمكان تبديلها نتيجة اكتشافات جديدة"[12]. لكن ما أن مرت سنوات قليلة عن هذا الإقرار حتى "بدأ" البحث يأتي بأبنية مفهومية غيرت مبادئ العلم تغييرا عميقا، وراجعت أفكارا كانت عزيزة عند السابقين، مثل الحتمية والتحديد؛ واتضح، بخلاف ما كان يظن، أن الجهل لا يتراجع بتقدم العلم؛ بل أن العلم نفسه يفضي إلى مزيد من التساؤل، فتتسع رقعة المجهول باتساع رقعة المعلوم.

 

3-2-سادت الفكر العلمي نظرة أحادية، تعتبر العلم كيانا واحدا يترجم الواقع الواحد. فإذا بتكاثر الفرضيات وسبل الاختيار يبين أن العلم لا يبني حقائق ثابتة على وقائع خامة عذراء، بل يطغى عليه الطابع الافتراضي، بما أن كل أحكامه قابلة لإعادة النظر. وقد جعل هذا الأمر بعض الدارسين ينادون بأن التعدد لا يسكن الفلسفة والفن فحسب، بل يسكن العلم كذلك. ولا يسير تطور الفكر العلمي في خط متصل ذي بعد واحد، بل ينمو في اتجاهات متعددة؛ واختيار الفرضيات لا يأتي جزافيا ولا بالاستماع إلى الوقائع الناطقة من تلقاء ذاتها؛ بل تتدخل فيه القناعات القيمية والانشغالات العملية؛ والوقائع تبلور وتؤول في إطار المناخ الفكري السائد.

 

3-3-ارتبط تطور العلم منذ عصر النهضة الأوروبية بفكرة التقدم: فقد وجد الناس أن العلم يقدم خدمات للفنون والتقنيات والاقتصاد والطب. لكن المزيد من التقدم والتوسع الذي دخلت فيه الدول الأوروبية منذ القرن الثامن عشر قد كشف عن الاستعمال الذي يتهيأ له العلم لخدمة التوسع والسيطرة أكثر فأكثر، لا على المجال الطبيعي فحسب، لكن على المجال البشري والثقافي أيضا. وكما كتب هـ.براون: "في –البلدان التي في طريق التقدم- يستطيع المهتمون بالسياسة أن يضيفوا أن العلم ليس مجرد عامل للتقدم، بل هو أيضا وسيلة تخدم المصالح السياسية والاقتصادية "للبلدان المتقدمة" ولهيئاتها المتجاوزة لحدودها الوطنية"[13].

 

3-4-أصبح العلم يرتبط أكثر فأكثر بالتكنولوجيا، مما جعل العلم يرتبط بالسياق نحو التسلح وبمشاكل البيئة. لقد اعتقد المحللون العقلانيون أن العلم بعيد عن المشاكل القيمية، اعتبارا أنه يكشف عن بنيات الواقع ولا شأن له بالخلفيات المعيارية؛ غير أن التحليل أبرز أن المعرفة لا تنفصل عن القيم إلا بدرجة معينة (حسب اختلاف توجهات المحللين). فخلال التدفق التجديدي للأفكار العلمية وتوجهها التنويري، منذ القرن الثامن عشر، اعتبر الدارسون أن تطور العلم ذاتي ينبثق من الواقع عن طريق إعمال ملكة العقل النقدي بدون تدخل للقيم؛ فاصطحبت هذا النظر رؤية تفاؤلية إزاء العلم. لكن بشاعة الحروب التي توظف التقنيات التي ساهم العلم في صناعتها جعلت الناظر يشك في استقلالية مضامين العلم عن التخطيط المؤسسي. ثم تزايد النقد إزاء العلم ومشاركته في تقوية الأنظمة المختلفة وفي تبرير مزاعمها، وإزاء ما اعتبر تواطؤا من طرف العلماء ضد إرادة المواطنين.

 

3-5-بحكم إدراك تدخل الاختيارات الشخصية في التجربة والاستدلال يؤكد بعض الدارسين على تسييس العلم من خلال انخراطه في دواليب المؤسسات. كتبت إ.ستنكرس: "إن التمييز الذي يجري بين الواقع والمحتمل والمتوهم يترجم الفضاء الذي تبرز في حدودها القصوى علاقات الحضوة والسلطة داخل العلوم [...] والسؤال الحقيقي للفيزياء إذن سؤال سياسي واجتماعي"[14]. وهكذا أصبح التفكير في العلم يفضي إلى تفكير حول القرار والسلطة، لدى كثير من الدارسين الذين يؤكدون على الملابسات المؤسسية التي تجري فيها الفاعلية العلمية. فخلال تاريخ طويل، كان مقياس العلمية سندا لمحاربة الجهل و"الظلام"؛ في حين أصبح التمسك بفكرة حياد العلم يرمى بضيق الأفق وبالتواطؤ مع أصحاب الامتيازات وبالتهرب من إعمال كفاءة النقد.

 

3-6-لذا يركز الدارسون خلال العقود الثلاثة المتأخرة على الجانب العملي والتقني للعلم؛ فينتقدون الممارسة الطبية التي تصدر إلى مجتمعات أجنبية عن التربة الثقافية التي تكونت فيها: إذ عندما تنتقل خبرة طبية ما من سياق تاريخي إلى آخر لا بد أن تنتج مضاعفات سيئة على صحة الأهالي، وأن تخل بالخبرة المحلية في العلاج، وأن تمس بالقيم التي تؤطرها. ولم تكن الممارسة الطبية العصرية بريئة في أغلب الأحيان، بل كانت تنجز تجارب لاختبار مفعول أدوية مضرة. فكثرت التحليلات النقدية إزاء الممارسة الطبية المعاصرة وخلفياتها الثقافية ومراميها الاقتصادية، خصوصا عندما تصدر إلى مجتمعات أجنبية. إن الدول المتوسعة تدعي أنها، باستعمال الطب العصري، تداوي أمراض السكان المحليين، بينما في الواقع أنها تفرض تصنيفا أجنبيا للأمراض، على حساب المعارف المعتادة الفعالة أفضل[15].

 

هذه الأجواء الفكرية الجديدة والمواقف النقدية، المرتبطة بالبحث الميداني، تترابط فيما بينها وتتواصل، مما يؤدي إلى تغير في الموقف من العلم ومن الوعود التي ارتبطت به منذ قرون. بل تغيرت الرؤية حول طرق اشتغال العلم بالذات، في أبنيته المفهومية وفي تقنياته في التجريب والاختبار والإقناع.

 

4 – مناهضة العقلية: تراجعت التصورات التي ظلت تعالج الفاعلية العلمية معتبرة إياها ماهية ذات بنيان داخلي متميز؛ ونمت تصورات نقدية، وتجذرت بعضها رامية العلم بأوصاف قدحية.

 

4-1-تراجع لدى كثير من الدارسين دور المنطق في الفاعلية العلمية، وساد التركيز على الخيال والحدس والتخمين والتداعي؛ فذهب البعض إلى أن العلم لا يخلو من مفارقات وتناقضات، وأن العقل بالذات لا يتمتع بكيان منفصل عن الممارسة، التي تفرض عليه مواقف ظرفية مضطربة. ففي نظر إ.كلاين، يعيش العقل بالمفارقات ويتغير بطبعه، لذا ينمو  من خلال التناقضات والأحكام المسبقة[16]. وبما أن "العقل" العلمي مضطرب في أحكامه، فكيف يجوز القول إنه يكشف عن الواقع أو لا؟

 

4-2-جل الفلاسفة المتأخرين، خصوصا التفكيكيون والتأويليون ما بعد الحداثيين، ينتقدون مهمة الإبستمولوجيا في سبيل تحديد نمط من العقلية يجعل المعرفة العلمية منزهة عن الاعتبارات الظرفية. بل ويرون أن لا وجود لحقل فكري خالص تطرح فيه مسائل إبستمولوجية خصوصية، ما دامت المعرفة العلمية شأنا عموميا قابلا للنقد الفلسفي. ففي نظر ب.فيرابند، لا يوجد ميدان نظري إبستمولوجي خالص، بل إن ما يوجد هي آراء تقدم تحت الطلب، فيجد كل طرف ضالته، في شكل تبادل الخدمات؛ ولهذا ينادي بأنه لا حاجة إلى الإبستمولوجيا. ويعبر رتشارد رورتي عن فكرة قريبة: "لا تحتاج الهرمنوتيكا إلى إبدال إبستمولوجي جديد، كما لا يحتاج الفكر السياسي الليبرالي إلى إبدال جديد حول السيادة"[17]. فمسائل العلم شأن عمومي، يمكن النظر إليه من أي زاوية؛ لهذا يطغى النقد الفلسفي على التحليل الإبستمولوجي لدى هؤلاء، ومرجعيتهم في ذلك هي هايدكر وفوكو ودريدا..

 

4-3-إذا كان الحداثيون يتحدثون عن العلم كسبيل عقلي من أجل الفهم السليم للطبيعة وتسخيرها من أجل التحرر من الجهل والمرض والعجز، فإن ما بعد الحداثيين يرون في العلم وسيلة للسيطرة، لا على الطبيعة فحسب، لكن على الإنسان أيضا؛ ذلك لأن العلم أصبح أداة طيعة في يد المؤسسات المالية والصناعية والعسكرية من أجل خدمة المشاريع التكنولوجية البعيدة عن خدمة سعادة الإنسان. وقد استعملت قوى التوسع العلم لبسط سيطرتها الثقافية وفرض نمط العيش المربح عندها. كما كتب بينسن وشيت-بينسن: "إن استعمال علم الفلك والجيوفيزياء كوسيلة للإمبريالية الثقافية، بمثابة معطى بديهي في الماضي القريب، آت من التقدير التقليدي للملاحظات السماوية بكونها مقياسا للقوة الثقافية. فالمراصد وسجلات الملاحظة التي تنتجها، موضوع مقبول من لدن الجميع"[18]. ويفهم من هذا أن الرصد الفلكي لم يكن يتغيى فهم الكون بقدر ما كان يرمي إلى خدمة الحكام، عن طريق تكوين جداول، من أجل تسخيرها في التنجيم والتنبؤ بأحوال السلاطين والحكام والممالك..

 

4-4-تزايد الاهتمام بالبحث السوسيولوجي حول العلم، منذ السبعينات؛ وبرز ما دعي من قبل مدرسة إدنبره "البرنامج القوي" في سوسيولوجيا العلم. ويؤكد العاملون في إطار هذه المدرسة أن لا شأن للعلم بوقائع طبيعية، ما دامت كل الأحكام أبنية (بناءات) تحت الطلب و/أو التعليمات، تصطبغ بطابع اعتباطي ظرفي. ولا يمكن الحديث عن صواب نظرية ما، ما دام المتحكم فيها هو رضى المؤسسات عما يبنى. فلا يستعمل هؤلاء مفردات "العقلية" و"الصدق" و"الصحة" و"البرهان"، لأن العلم في نظرهم وليد التفاوض والتناور والمصالح. ويؤكدون أن التناور لا يخص العلاقات "الخارجية" للعلم مع الوسط المجتمعي، بل هو من طبيعة العلم بالذات، ما دام البحث العلمي تلبية لرغبة في الهيمنة والسيطرة. فتكون تصور بناءاني، ينكر وجود الوقائع الطبيعية، بحجة أن الوقائع بالذات ما هي إلا حصيلة قرارات مؤسسية؛ مما يجعل الحديث عن صدق عبارات العلمية بدون قيمة.

 

4-5-تجذر النقد الذي ينتقد العقلية في العلم، من خلال تتبع الثغرات التي من صميم العلم بالذات: "لكن توجد أيضا لا عقلانية إبستمولوجية أو سوسيولوجية، يمكن اعتبارها غير مباشرة. فتجذر النسبانية الإبستمولوجية يعود لكي يسمح بالانمحاء التدريجي لحدود [خاصية] العلمية، وبتلاشي المكون النظري الذي ييسر الانزلاقات اللاعقلانية بكيفية غير مباشرة"[19]. ومن الملاحظ أن التفكير في موضوع العلم قد انسلخ عن المعتاد الحريص على التقعيد، ودخل في نفق لا حد له، لا يسمح بالتمييز بين السجال والنقد البناء. ولا تبالي النسبانية البناءانية بتصنيف العبارات والاستدلالات، لأن التصنيف في اعتبارها مجرد ترسيمات اصطناعية: إذ يتطلب التصنيف مقاييس، وكل مقياس مشبوه، ما دام من إملاء انشغالات ظرفية.

 

4-6-لقد غزا التناول العقلي جل مرافق الحياة عمليا، حتى تلك الأمور التي كانت تعتبر من قبيل الحياة الحميمية للأفراد؛ وبالمقابل كلما نمت العقلنة كشفت عن تعقد العلاقات بين الإنسان والطبيعة، وتعقد علاقاته مع الانسجة الثقافية والعقدية، فانكشف ضعف العقلنة بالذات. وكما كتب د.جانيكو: "لم يصل العلم من ذي قبل ما وصله من العقلنة، لكن لم يكن العقل أبدا أكثر عجزا مما هو عليه. فعالم اليوم هو في نفس الوقت عالم انتصار الأنوار، بفضل تقدم العلوم والنجاحات التقنية، وهو أيضا عالم عيوبها أكثر شناعة وتقلباتها غير القابلة للتوقع"[20]. ففي حين تكتسح العقلنة كل مرافق الحياة، لا يوجد تحليل يستطيع تقديم السند الذي تقوم عليه هذه العقلنة، ويحل مشاكل من صنع العقلنة بالذات؛ وكأن العقلنة تسير خبط عشواء، تخطط ولا تبرر.

 

5 – العقلية في كنف السلطة: أوصلت التحليلات التي تبحث في أواصر العلم مع المحيط عبر الحقب التاريخية المختلفة إلى أن العلم جزء لا يتجزأ من الحياة المجتمعية، ويجب تناوله من خلال هذه الارتباطات. وتبين أن خاصية العقلية ذات صلة بالمعيارية السائدة في ثقافة حقبة ما، وليست ميزة ثابتة. وتبلورت منذ الربع الثالث من القرن العشرين في ظل كل الميادين النظرية، أفكار تؤكد على ارتباط الأفكار والممارسة العلمية بالسياق التاريخي والمقام التداولي، اللذين يفرضان على العلم توجها معينا واختيارات في المضامين والأسلوب. ويتحدث الدارسون عن تحولات متشعبة في التنظير للعلم والمعرفة، تدير ظهرها للغة الوضعانية. فعند آندراس كرتس أن التوجهات التي تطبع نظرية العلم الحالية تتمثل في "المنعطف التداولي" و"المنعطف السوسيولوجي" و"المنعطف الطبيعاني"[21]. فتتجه الدراسات نحو البحث التجريبي، من أجل الكشف عن الشروط العيانية التي تؤثر في الممارسة العلمية من خلال انتقاء الفرضيات وإخضاعها لسبل اختبارية تتحكم فيها اختيارات المؤسسات النافذة.

 

5-1-يتضح أن التجديد العلمي يتوقف على الرخاء الاقتصادي؛ وهذا الرخاء لا بد أنه يتحقق على حساب فئات مجتمعية من نفس الرقعة الجغرافية أو على حساب مجموعات بشرية من مناطق أخرى. هكذا يزج التوسع بالعلوم في صراع مع الثقافات المحلية. كتب بينسن وشيت-بينسن: "التجديد في العلوم المعتمدة على الملاحظة يتم في سياق التوسع العنيف. عندما تكون حضارة ما بصدد استقطاب فعلي لمجموعات بشرية أجنبية وثقافات غريبة، فإن التصورات التقليدية من كل الأجناس تخضع للتغيير"[22]. وفعلا فإن الفترات التي يزدهر فيها النشاط العلمي في أحضان حضارة ما هي الفترة التي تكون فيها تلك الحضارة في نمو وتوسع يخرج عن حدودها "الأصلية"؛ وهذا صحيح بالنسبة لكل الحضارات.

 

5-2-وبما أن العلم طرف في الصراعات، فإنه لا يملك أي ميزة محايدة خاصة؛ هذا ما وصل إليه بعض الدارسين مثل فيرابند ونشيطي اليسار الجديد. وكما كتب بينسن وشيت-بينسن: "العلم ببساطة منتوج ثقافي مثل المنتوجات الثقافية الأخرى؛ وليس، في أي من أحكامه، اصدق من صدق موسيقى موتسارت مثلا"[23]. فلا يوجد أي مقياس لفرز عبارات العلم وتمييزها عن الخطاب العادي؛ ولهذا يتحدث البعض عن العلم بكونه سردا عاديا، يجب أن يخضع لتحليل الخطاب العادي، بدلا من الإعجاب الذي أحيط به من لدن العقلانيين. فيتحدث البعض عن العلم الأنثوي كما يتحدث عن الرواية الأنثوية..

 

5-3-هكذا تغيرت أدوات البحث وزاوية النظر في دراسة العلم: ففيما مضى، كان الدارسون يبحثون عن آليات البناء والاستدلال والاختبار، بينما يركز دارسو اليوم على البعدين التواصلي والمؤسسي للعلم. ويركز المتأخرون على الاقتضاءات التداولية التي تقف وراء انتشار أسلوب العلم في النظر والمعالجة والفهم، والأدوات التقنية والإعلامية التي يستغلها العلماء (تحت وصاية المؤسسات) لفرض وجهة نظرهم ضدا عن أي مقاومة، حيث تتهافت وسائل الإعلام على نشر نتائج البحث العلمي. وكما كتب ت.ف.جايرن: "أصبحت الندوة الصحافية جزءا من العلم، بحيث أصبح الصحافيون مسجلين كحلفاء حيويين في القيام بالاكتشاف العلمي"[24]. فالنشر عبر وسائل الإعلام أصبح هاجسا أساسيا في البحث العلمي، به تقاس مقدرة الباحثين ومصداقية أعمالهم؛ بل إن الطريق إلى وسائل النشر ليست في متناول الجميع، لأنها تخضع للعلاقات والولاءات، وهو ما يدعم موقف القائلين بأن المؤسسات والمصالح هي التي تفرض فكرة ما، ولا يتعلق الأمر بصدق ذاتي للعبارات.

 

5-4-احتد الصدام بين العلم والتقاليد الثقافية، خصوصا في الحقول التطبيقية مثل الزراعة والري والمعمار والتطبيب. فقد تبين أن المعمار والطب وتقنيات الزراعة والري العصرية تؤدي إلى انفصامات مهمة في الأنسجة المحلية التي تصدر إليها. ويتحدث جايرن عن الصراع بين العلم والأساليب المحلية، وعن وجهة نظر متعددة للفاعلين فيها وللدارسين؛ وعنده أن تصدير العلوم والتقنيات يؤدي إلى احتقار المعارف والتقنيات المحلية المندمجة، وأن الحوار المثمر صعب المنال ما دام المصدرون متمسكين بمبدإ تفوق العلم والتقنية المعاصرين على الخبرة المحلية[25]. ويؤكد ت.جايرن الأفكار التي عبر عنها ألبرت وكابريل هوارد، أنه "بالفعل، لو أنصت العلم والحداثة للفلاحين [الهنود من طرف التقنيين البريطانيين ].. لكان من الممكن تجنب بعض مشاكل الفلاحة"؛ إذ كان على العلم أن يتكيف مع المعرفة والممارسة المحليتين، لا أن يأخذ مكانهما في تلك الشروط المحددة. وكما كتب ألبرت وكابريل هوارد، وهما خبيرين ممارسة وملاحظة: "إن الممارسات الفلاحية الحالية للهند تستحق التقدير، كيفما بدت بأنها غريبة أو بدائية بالنسبة للأفكار الغربية. ويظهر أن محاولة تحسين الفلاحة الهندية بوضعها على الخط الغربي كانت خطأ أساسا"[26].

 

5-5-ينفي كثير من المحللين أن تعبر أحكام العلم عن وقائع طبيعية؛ حيث يؤكدون أن أحكام العلم لا تنطلق من أساس تجريبي أو واقعي معين، إنما تنبع من أحكام سابقة سبق أن حصل الاتفاق حولها بنسبة ما، فتكون خلفية تتناسل عنها أحكام أخرى. وما يجعل أحكام العلم مقبولة لدى جماعة العلماء لا يأتي من كونها تحمل تفسيرا صائبا لوقائع معينة، ولا من كونها تتمتع بموضوعية ما، بل إن ذلك القبول مشروط بالتضامن بين الجماعة التي تأخذ بها لاعتبارات ظرفية. فكتب ر.رورتي بهذا الصدد: "يمكن إيجاز الرفض الذي لدي للتصورات التقليدية للعقلية بالقول بأن المعنى الوحيد الذي يكون فيه العلم مثلا هو كونه نموذج التضامن الإنساني"؛ والتشبث بما تعتبره جماعة العلماء من قبيل العقلية العلمية ينصب في إطار المجهود من أجل الدفاع عن كيانها كفئة مهنية منظمة، وذات مكانة اجتماعية ورمزية، تساهم في تطور الحضارة؛ "ولها [الجماعة] أن تماهي [تطابق ] العقلية مع ذلك المجهود [من أجل الحفاظ على الحضارة] عوض أن تماهيها مع رغبة في الموضوعية. وهكذا لن تحس بحاجة إلى أساس أكثر صلابة من الوفاء المتبادل [داخل الجماعة]"[27]. إذن، صواب الخطاب العلمي يتوقف على "مصداقية" العلماء، وهذه متعلقة "بالثقة" بين العلماء، مما يفرض عليهم "تضامنا" مهنيا وفكريا؛ في حين يؤدي "انعدام الثقة" لدى شخص ما إلى "طرده" من الجماعة العلمية[28]. ولهذا، فعند رورتي، ليست مفاهيم "العقلية" و"الموضوعية" و"الصدق (الحقيقة)" و"الخير" إلا ماهيات لا طائل فيها من زاوية النقد الفلسفي الذي يؤكد على المقتضيات التداولية للأفكار؛ بل إن تلك الصفات مجرد أفكار "مثالية أفلاطونية مترابطة" لا تفيد في فهم العلم[29]. فوجود العلم بالذات تلبية لمقتضيات نفعية، وبالتالي يجب تفسيره في سياق تلك المقتضيات، لا في التفكير في نماذج مثلى للسلوك وإسقاطها على العلم. وفي نفس الاتجاه يؤكد باري بارنس على البعد العملي للمعرفة، إذ يقول: "تتوقف كيفية سلوك الناس على ما يعرفونه. فكل ما هو معروف يمكن أن يؤثر في سلوك الناس. وإذن، كل ما يعرفه الناس يكون [يشكل ] وجودهم كمجتمع"[30]. وينتج عن هذه الرؤى أن المعرفة والمجتمع متلاحمان، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر؛ وكل فصل يؤدي لا محالة إلى فهم اعتباطي مزيف.

 

5-6-تصب التوجهات النقدية لصرح العلم في سياق تقوية الأفكار النسبية ونبذ التحجر حتى إن كان دفاعا عن العلم؛ وترتمي بعض الانتقادات في التطرف، حيث تدفع بالنقد في مزالق شكانية لا تعترف بأي تمييز بين الأفكار. وهذه تصورات نسبانية، غير نقدية وغير تفاعلية، وبالتالي لا تقر بأي خاصية للتطور الحضاري والتقدم العلمي؛ إذ عندها أن العلم لا يختلف في أي شيء عن الأنسجة الثقافية الأخرى. وتفضي هذه الأفكار إلى انزواء ماهاني (ماهوي) لا يسند الصواب إلى أي شيء. ويفتح هذا الانزواء غير التاريخي الباب إلى تناسل دعاوي أصولية تضفي طابعا قدسيا عن لحظة من الماضي تعتبرها هي عين الصواب، وتجتثها من التفاعل التاريخي المتعدد الأوجه بين الثقافات، معتزة بما تعتبره من قبيل "الذات الصافية"، وحاكمة بالبطلان على ما تعتبره من "الدخيل الأجنبي". هكذا، بعد أن كان أغلب الدارسين ينظرون إلى العلم كمنقذ من الظلام، أصبح يوحي لدى كثير بتشاؤم حول الحاضر والمستقبل.

 

6 – نظر نقدي: تناسلت الرؤى خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، بدرجة أنه من المستحيل أن يلم بها الدارس في كل تفاصيلها. ولا تغرف هذه الرؤى من نفس المعين، ولا تصب في نفس الاتجاه؛ لكن من الملاحظ أن المواقف النسبانية تنتشر بكيفية أكثر. وتقدم هذه الرؤى قراءة لماضي المعارف وكأن هذه مجرد صدى لسلطة المتحكمين في المجتمع، غير مهتمة بالبناء الاستدلالي للعلم ولا بخصوصية مضامينه. ففي حين استفاد التحليل الإبستمولوجي من البحث التاريخي، انعطف هذا الأخير، لدى كثير من الباحثين، نحو الاهتمام بالمقتضيات المجتمعية والثقافية والسياسية للعلم.

 

6-1-لكن، هل ما يشد الباحثين إلى العلم هو مجرد حرص على التضامن فيما بينهم؟ أو ليس البناء الاستدلالي في العلم أقوى من التدليل في المعارف الأخرى؟ هل تستوي المعارف التي تعرضت لامتحانات متكررة مع المعارف التي تنتشر بالرواية والاعتقاد الساذج بدون امتحان؟ إن الخاصية البنائية للعلم لا تصنع وقائع برغبة ذاتية أو تحت ضغط المؤسسات؛ إنما تتبلور أحكام العلم من خلال حوار عقلي نقدي بناء فيما بين العلماء من جهة، وبينهم وبين الوقائع من جهة ثانية. فالبلورة التقريبية تقترح، وتهيئ المجال لامتحان الفرضيات؛ والوقائع تفرض قدرا مهما من المقاومة والحصانة، لكي تعين الفرضية الأوثق. وبما أن الفرضيات لا تلقى نفس المقاومة من طرف الوقائع، فبالضرورة لا تتمتع بنفس الوثاقة في ما تقترحه.

 

6-2-ليس الباحث كائنا خارج دائرة الإنسانية، فلا بد أن يستغل علاقاته بقدر ما تسهل له عمل البحث؛ لكنه بالمقابل لا يرتمي في التزمت العقيم ولا في الانتهازية المستسلمة لميول النافذين. ولا شك أن العلماء ارتبطوا في الغالب بعلاقات صداقة أو تأييد متبادل مع الحكام والأمراء. فقد كان ك.كاليلي مثلا في علاقات حميمية مع بعض الأمراء المتنورين، وكان يتبادل الهدايا معهم؛ إذ بين ماريو بياجيولي أن تبادل الهدايا بين كاليلي والأمير الفلورنسي كوسيمو الميديسي لعب دورا في تشجيع العالم على المضي قدما في أبحاثه ونشرها، كما بين أن الكشوفات العلمية وصنع الأدوات العلمية كانت تقدم للأمراء كهدايا؛ بل وقد سمى كاليلي أقمار المشتري التي كشف عنها بالتلسكوب أقمارا ميديسية[31]. ولكن يذهب بياجيولي بعيدا في الادعاء بأن كاليلي كان ينظم توقيت الكشف عن إبداعاته للأمراء لكي ينال رضاهم ويحصل على امتيازات، وأن "ستراتيجيات كاليلي من أجل ربح التأييد من قبل كوسيمو الشاب لم تكن أصيلة"؛ وأن العالم الإيطالي كان يتصيد الفرص في الإعلان عن منجزاته وأنه "استعمل الاحتفالات لا لإقامة ترابطات جديدة للرعاية فحسب، بل أيضا لاختبار الروابط القديمة التي ظلت غير فعالة لوقت ما"[32]. وفي رأي بياجيولي، فإن "انتماء كاليلي إلى التصور الكوبرنيكي [لنظام الفلك ] يبدو أنه كان يتأرجح بحسب إدراكه لإمكانيات الرعاية البلاطية. فالشروط التي قدم فيها هدية التلسكوب لمجلس المستشارين البندقي تبين آنذاك أن كاليلي لم يكن يفكر في التلسكوب بكونها أداة علمية تستطيع تأييد القضية الكوبرنيكية، بل بكونها نوعا مرتبا من السلاح"[33]. لكن هل فرضت القناعات نفسها بفضل التحالف مع الأمراء؟ إن فحص بياجيولي يكشف عن حلقات مهمة أغفلتها التحليلات العقلانية التقليدية؛ لكن نظره لا يخلو من مبالغات: فهو لا يهتم بالجدل الفكري والرصد الفلكي والبحث التجريبي والصياغة الرياضية، وقد نبغ فيها كاليللي في وقت كان كثير من النافذين يقفون ضده. لقد تعامل كاليلي مع بعض أصحاب النفوذ، لأن آخرين من ذوي النفوذ كانوا يمنعون البحث التجديدي في العلم؛ ولم توجد مؤسسات مختصة بالبحث العلمي آنذاك.

 

6-3-ولا شك أن المكانة الاجتماعية تلعب دورا في انتشار الأفكار وأخذها مأخذ الجد من لدن الجماعة الفكرية. وبهذا فإن س.شابن على صواب حيث أبرز اندماج المعرفة في علاقات الشرف والنبل في إنكلترا خلال العصر الحديث. كتب شابن: "إذن، فتوزيع الثقة يملك نفس الامتداد الذي للجماعة، وحدوده هي حدود الجماعة"؛ وعليه، فإن "الممارسات التي من خلالها ننجز الصدق تساوي نظامنا الأخلاقي"[34]. لقد ارتبط معيار الصدق بقيم النبل والقداسة والشرف، وهي قيم تلقى الرعاية من لدن الفئات المجتمعية السائدة، من القابضين بزمام السلطات الدينية والسياسية. فالقيم التي تتشبث بها الفئات النافذة، وتفرضها على المجتمع كآلية تمييز وفرز بين الأقاويل وبين أصحابه، لا بد أن تتسرب إلى الحكم على الأقاويل وتقارير التجارب. فالنبيل لا ينطق إلا لكي يؤخذ كلامه مأخذ الجد، في حين لا يعار اهتمام جدي لمنطوق أشخاص من فئات دنيا. ولذا يقال عن أقوال النبيل ووعوده وتهديداته، كما ورد على لسان شكسبير: "كلماته وعود، وقسمه إيحاء"[35]. ففي علاقات التبعية لا تكون لخطاب التابعين نفس قيمة خطاب النافذين، لأن هؤلاء هم الذين يشرعون لنمط السلوك "اللائق". وهذه المواقف تجري طبق القول المأثور "لأن وعود النبلاء بمثابة أفعال"[36]، إذ لا يتصور كلام النبيل بمعزل عن الإنجاز الفعلي في الواقع العياني لذلك الكلام؛ ولذا لا يؤخذ كلام النبيل مأخذ كلام عادي. ويأخذ سوسيولوجيو العلم المعاصر بوضعه في سياق العلاقات المؤسسية، حيث أصبحت المؤسسات المستحدثة تقوم مقام النبلاء، حيث تفرض قيمها واعتباراتها المصلحية وتوجهاتها نحو التوسع والانتشار. غير أن شابنيبالغ نوعا ما إذ يرد صواب المعرفة إلى التبعية وحدها، بدون حديث عن وزن الوقائع؛ بل هي نظرة إرجاعانية من طينة أخرى، والحال أن التحليل السوسيولوجي قد تبلور لينتقد الإرجاعانية الوضعانية.

 

6-4-اتسعت رقعة النقد؛ وغزا التصور النسباني كل الميادين المعرفية؛ ووصلت الاختلافات في الرأي إلى سجالات ينال فيها المشاركون من بعضهم البعض؛ حيث يتهم كل اتجاه الآخر بالجهل والانتهازية. فالمدافعون عن عقلية العلم المتميزة يرمون المناهضين للعقلية بالجهل بآليات العلم الخاصة؛ وفي نظر مناهضي العقلية، فإن العلماء الممارسين مجرد دميات غارقة في السذاجة أو الانتهازية. ويصل احتداد السجال أحيانا إلى استعمال بعض العبارات المبتذلة، لا تقدم معلومات ولا أدلة تستحق التحليل.. ويتهم ماريو بونخ الفيلسوف هايدكر بالعمل مع النازية؛ في حين يتهم الفريق الآخر العلماء بإرادة احتكار الكلمة وتوزيع الغنائم..[37] وهذا السجال هو ما أطلق عليه اسم "حروب العلم"، وكأن الصراع حول العلم قد أصبح صراعا داخل عبارات العلم. فحروب العلم "نقاش مدوي حول طبيعة الممارسة والمعرفة العلميتين، وحول من هو المؤهل للفصل في كليهما"[38]. هكذا يؤكد كثير من الدارسين اليوم أن الطموح نحو معرفة علمية موحدة لم يعد ذا بال؛ إذ بما أن العلم يتطور باستمرار، فلا بد من قبول التعدد في العلم، وبالتالي لا يمكن الركون إلى تصور موحد للعقلية العلمية؛ ويلزم عن ذلك إقرار بالتعدد في كل شيء؛ فتنمحي تلك الحدود التقليدية بين العلم والفلسفة والفنون والمعتقدات. والمنطق بالذات يتكيف مع المستجدات، فلا بد أن يكتسي صبغة التعدد. وكما كتب آندراس كرتس: "عندما لا تتوفر مبادئ وحيدة للعقلية، فعلى المرء أن يعترف بالعقلية الإنسانية المتعددة، وعليه أيضا أن يتمكن من إيجاد تفسير لكون أشكال محددة للعقلية تكشف عن نفسها كسمات ذات خصائص متميزة. إذ حيث لا يمكن أن تقتبس [تشتق ] مبادئ العقلية من صفات طبيعية للإنسان، يكون المطلوب أن نبحث عن الأسباب المسؤولة [ عن ذلك] في المجتمع"[39]. ولهذا، لم يعد من الممكن أن تنسب خصائص قارة للعقل وهو بصدد العمل العلمي، بما أن المجتمع ينزل بثقله على "العقل" من خلال القيم والمعايير التي تتبناها المؤسسات وتفرضها عليه فرضا. فحيث كانت الإبستمولوجيا التقليدية تبحث عن تفسير للعقلية في التناسب بين الوقائع والأحكام، بين التجربة والبناء المفهومي، بين المعطيات والمنطق؛ تؤكد التناولات الحالية على الملابسات الاجتماعية والثقافية التي تشرط كل الأنشطة المفهومية، كانت من العلم أو من غيره، ولا فرق عندها. لكن هل يحق التشطيب على مفهوم "العقلية" من التحليل للمعرفة وملابساتها؟ وبالمقابل، هل يكفي اتهام هايدكر بعلاقة مع النازية للتشطيب على نقده الفلسفي؟.. لقد كانت التصورات العقلانية التقليدية تتبنى تصورا موضوعانيا وغير تاريخي للعلم، لكن التصورات النسبانية تتبنى تصورا شكانيا وغير تاريخي للعلم أيضا. وتاريخ المعارف يبين أن الأبنية المفهومية تتعاقب، لكن اللاحق يقدم تفسيرا أفضل من السابق. وليست طرق الإنشاء في العلوم وفي غير العلوم متكافئة، لأن الاستدلال في البناء العلمي أقوى من تداعيات الأسطورة مثلا. ولهذا لا مفر من الإقرار بأن هذا الاستدلال أقوى من ذاك، وبالتالي أن هذا التفسير أوثق من ذاك[40].

 

6-5-ليس التحول الذي يعيشه الفكر العلمي والنظر الإبستمولوجي غريبا: فكلما كان الانتقال من إبدال نظري إلى إبدال جديد برزت رؤى تعيد النظر في كنه النظرية العلمية والمنهج العقلي والعلاقات بين العلم والطبيعة والأنسجة الثقافية. لكن الآراء المغالية لا تؤثر في الفاعلية العلمية بالمعنى الذي يضع البحث على سكة الإبدال الجديد، لأنه لا يفعل إلا أن يهول من عمق التحول وطلاق البديهيات السابقة، دون أن يباشر البحث لكي يكشف عن فرضيات بناءة. ويمكن اعتبار مواقف فيرابند وسوسيولوجيي "البرنامج القوي" من نمط النقد التهويلي الفوضوي، أي غير البناء. في حين أن النقد الذي يساهم في توليد الجديد هو الذي يتريث في أحكامه من أجل بلورة فهم أفضل للعقلية العلمية، يتسم بالمرونة والبنائية. إن الاستفادة من ماضي العلم ضرورية من أجل تقييم التحول الذي يعرفه الفكر المعاصر خلال الثلث الأخير من القرن. وتاريخ العلم يعلمنا أن الصواب يكون مع الفهم الذي يزاوج بين النقد والبناء، بين الدليل الذي يكشف حدود الإبدال السابق ويقدم فرضيات تفضي إلى إبدال جديد من خلال تقديم فرضيات خصبة، لا من خلال رفع شعارات. وتفترض هذه الدينامية البنائية وجود تعدد للأفكار، في خلاف وحوار وتنافس، من أجل أن تفرض الفكرة الأصوب نفسها بالامتحان والدليل. أما الموقف القائل "إن كل فكرة تكافئ أخرى" فإنه مجرد شعار لا يفضي إلى فهم أفضل للعقلية[41].

 

6-6-لا مكان للقطع في عقلية العلم؛ بل إن التحقق والإبطال مشروطان بالإبدال النظري، وبالمجال الذي يبلوره هذا الأخير. ولا يتنافى هذا الإقرار مع فكرة مرنة عن التقدم والنسبية، وهما سمتان متكاملتان في الفكر العلمي. وما الإجماع النسبي والتضامن البارزين بين العلماء إلا حاصل هذا الحرص على البحث على الدليل الأقوى والتفسير الأوثق للوقائع المدروسة. لهذا لا يمكن إرجاع العقلية إلى مجرد تضامن بين الممارسين؛ بل الأصح أن التضامن ناتج عن الانخراط في عقلية متميزة؛ وكما كتب جون فرلونك: "ليس الإجماع والتقليد ضمانتين للعقلية؛ بل هما نتاج لها"[42]. فمن خصائص العقلية أنها تستثمر خزان التقليد العلمي من المعارف والخبرات المتراكمة، وتعمل من أجل إعادة سبك المعارف القائمة وتمتينها عبر الكشف عن قوتها وحدودها، ومن أجل تقديم فرضيات تمدد تلك المعارف أو تراجع بعض أحكامها.

 

7 – خاتمة: لا شك أن الذين يجعلون العلم صدى للواقع يتجاهلون وزن الملابسات الثقافية في تحفيز البحث وتأطيره وتقييده؛ ولا شك أن الذين يجعلون العلم مجرد نسج تتحكم فيه الظرفيات، يتجاهلون وزن الطبيعة في تقييد عبارات العلم وتهذيبها. فالبلورة العلمية تبني شبكات مفهومية، ذات مستويات مختلفة من جودة النسج، من أجل تحويل الواقع لا من أجل بنائه أنطولوجيا. فليس "العلم هو الطبيعة"، وليس "العلم هو الثقافة"، إنما هو بناء مفهومي يأتي بعد بناء آخر، يحدد مجال صدق عبارات البناء السابق، فيوسع المجال المعلوم ويفتح مجالا جديدا. وبذلك تكون عقلية العلم معبرة عن هذه الدينامية النقدية والبنائية، من خلال حوار بين العلماء فيما بينهم، وما بينهم والطبيعة. وبما أن الحوار لا ينتهي عند حقائق نهائية، فإنه يجب النظر إلى كل بناء نظري في علاقاته مع السابق.

 

7-1-لقد كانت المعارف العلمية حتى الحرب الكبرى الثانية أنساقا إقليمية تقبل الجمع في نسق شمولي متسق نسبيا أو مجموعة أنساق منسجمة بدرجة ما؛ أما بعد الحرب، فقد تناسلت الأنساق وتشعبت؛ وتطورت بسرعة؛ وأصبح من المستحيل أن تجتمع في نسق موحد متسق. ويرى في ذلك بعض من يهوى التهويل والتضخيم أن العلم أصبح لا عقليا؛ في حين أن العلم لم يتغير في سبل اشتغاله، بل إن الجزئيات التي يكتشفها لا تقبل التقييد في صيغ موحدة، بحكم تعقدها. فالذي تغير بالفعل هو مفهوم العقلية، إذ أصبح أكثر اتساعا وأكثر دينامية، لا يتحجر في صيغ منتهية.

 

7-2-ليس الغرض من الملاحظات السابقة هو إلغاء التميز والاختلاف بين الأنسجة الثقافية بإطلاق، ولا تنزيه الشأن العلمي وجعله فوق التاريخ، لكن إعادة النظر في التصنيفات التقليدية مهمة أساسية، من أجل انتقاد العقلانية التقليدية (رمز الحداثة) والنسبانية الحالية (رمز ما بعد الحداثة) معا. وكما كتب جاك كودي: "بدون أن نرغب في إنكار خصوصية التقاليد الثقافية، بما فيها تقليد أوروبا، فمن السهل المبالغة في هذه الدعاوي، خاصة عندما يكون مجتمعنا [ الأوروبي ] معنيا بذلك"[43]. فالتقاليد الثقافية التي طورت آليات للإبداع والتقعيد والتنظيم أكثر تطورا من التي ظلت محدودة الآفاق؛ وليس من قبيل التحجر ولا من قبيل الاستلاب أن يقول الدارس ذلك. وبما أن الفكر العلمي أكثر قدرة على النظر والفحص من الأفكار الأخرى، فلا توجد ذريعة للقول إن كل التقاليد الثقافية متكافئة.

 

7-3-ليست الإمبريالية الثقافية (ولا الاقتصادية والسياسية) مرتبطة بالعلم ارتباطا لزوميا، وليست ناتجة عن تطوره بالضرورة. فقد عرف ماضي الإنسانية إمبريالية ثقافية من لدن مجموعات ثقافية لم تكن تمتلك معارف علمية، وانطلقت تغزو المجموعات الأخرى وتفرض عليها قيمها ونظرتها للأمور، وتحطم جوانب من الثقافات المحلية، باسم ما تعتبره رسالة تقويمية.. أما كون مجموعة من العلماء قد خدموا برامج التوسع، عن وعي أو عن غير وعي، فلا يعني ضرورة أن غزو الثقافات سمة أساسية من الفكر العلمي بالذات. لهذا ليست مسؤولية المؤسسات المختلفة في التوسع والغزو بنفس الوزن.

 

7-4-ويمكن القول عن الخلاف بين الحداثة (التي تمجد الضبط العقلي) وما بعد الحداثة (التي تنتقد التنميط والأحادية) نفس ما قلناه عن العقلانية والنسبانية. فإذا استثنينا بعض الإقرارات التهويلية (من كلا الجانبين)، فليست ما بعد الحداثة ندا ونقيضا للحداثة؛ بل هي نقد لتلك النزعة الانتصارية المغالية في التفاؤل، التي طبعت بعض الكتابات الحداثية، خصوصا تلك (العلمانية)[44] التي كانت ترى أن العلم مفتاح سحري لحل كل المشاكل. وقد كانت بعض التحليلات تنتقد تلك النزعة المغالية في التفاؤل حتى في نطاق الحداثة ذاتها، لأن الحداثة لم تكن توجها موحدا. والتصور الذي يندرج فيه هذا العرض لا يأخذ بتشاؤمية بعض التحليلات ما بعد الحداثية المهولة التي تدين العلم والعقلية، باسم خصوصيات شبه وهمية، بل ينشد فهما أكثر تفتحا ومرونة للعقلية، بدون احتقار التقاليد الثقافية الأخرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - حد "عقلية" (rationality، من ratio وrational) آت من "عقَل" و"عقْل" و"تعقّل" (إعمال العقل)؛ وهو يرتبط بالبحث التعليلي الذي يرمي إلى ربط الظواهر بشروطها؛ فالعقلية خاصية تعبر عن الإعمال النقدي لملكة التمييز والترتيب والتصنيف والعقلنة، من أجل تكوين معيارية تصنف الخطاب وتقعده وتضبطه وتقيمه في ميدان محدد. في حين أن حد "ذهنية" (mentality، من mens) آت من "الذهن"، وهو مجموع الحالات الشعورية والسلوكية والثقافية والفكرية التي تطبع قوما أو فئة مجتمعية في ظروف تاريخية محددة، دون أن يدل على سمات ماهية قارة؛ والذهنية مواقف وحالات، وليست معيارية للنظر والتقعيد والتقييم. أما حد "المعقولية" (reasonableness) من "معقول" (reasonable) فإنه معيارية لتصنيف السلوك والممارسات والمواقف والحكم عليها.

[2]  - Morris Kline ; Mathematics : The Loss of Certainty, Oxford U.P., 1980, pp276, 303, 318, 320, & passim.

[3] - لكن غنى التحليل الباشلاري لتكون المفاهيم العلمية وتطورها يقدم أدوات نقدية تمكن من مراجعة فكرة "القطيعة" من داخل ذلك التحليل نفسه، بسبب انفتاح الإبستمولوجيا الباشلارية على تاريخ العلم؛ خصوصا وأنه يدعو إلى تصور منفتح نقدي للفاعلية العقلية في العلم وفي الإبستمولوجيا.

[4]  - Ludwig Wittgenstein, Philosophische Untersuchungen (1953), s. 262 : « Die Beteudung eines Wortes ist sein Gebrauch in der Sprache » ; s.334 : «So werden diese Worte gebraucht » ; s.387 : « Wie ein Wort funktioniert, Kann man nicht erraten. Man muss seine Anwendung ansehen und daraus lernen » ; s.550 : « Lass dich die Bedeutung durch den Gebrauch Lehren » ; & s.563 : « Lass dich die Bedeutung der Worte von ihren Verwendungen lehren ! (?hnlich kann man in der Mathematik oft sagen : Lass den Beweis dich Iheren, was bewiesen wurde) ». In Werkausgabe, Band 1, Suhrkamp T.W., Frankfurt, 1997.

[5]-S.E.Toulmin, The Uses of Argument, Cambridge U .P., 1958; N.R. Hanson, Patterns of Discovery, Cambridge U.P., 1958; Michael Polanyi, Personal Knowledge, Routledge & Kegan Paul, London, 1958; Peter Winch, The Idea of a Social Science and its Relation to Philosophy, Routledge & Kegan Paul, 1958; Chaïm Perelman & L. Olbrechts – Tyteka, Traité de l’Argumentation, 2 vol. PUF, Paris, 1958.

[6] - بخصوص هذين الدارسين، انظر تحليلنا المفصل لأفكارهما في كتاب الاستدلال والبناء، 1999.

[7] - C.Jarvie ; The Revolution in Anthropology (1964), Routledge & Kegan Paul, London, 1967, pp XV-XVII & §6.

[8] - Jack Goody ; La Raison Graphique (1977), trad. & prés. de Jean Bazin et Alban Bensa, Minuit, Paris, 1979, pp40-45, 69 & s.

[9] - Donn T. Bayard; (Science, Theory, and Reality in the  «New Archaeology», American Antiquity), 34 (1969), pp376-384 & Paul S.Martin; «The Revolution in Archaeology », American Antiquity, 36 (1971), pp.1-8.

[10]-Benoit B.Mandelbrot; The Fractal Geometry of Nature (1977), W.H.Freeman & co., New York, 1983, p25.

[11]  - James Gleick ; CHAOS : Making a New Science, Cardinal, London, 1987-88, p117.

[12]-Albert Michelson (1902): «The more important fundamental laws and facts of physical science have all been discovered and these are now so firmly established that the possibility of their ever being supplanted in consequence of new discoveries is remote». In Hanbury Brown, The Wisdom of science, Cambridge U.P., 986, p66.

[13] - Hanbury Brown ; The Wisdom of Science, Cambridge U .P., 1986, p103.

[14]- Isabelle Stengers, Actes du Colloque de Cerisy sur l’Autoorganisation, p44 ; in Dominique Terré-Fornacciari, Les sirènes de l’Irrationnel, Albin Michel, Paris, 1991, p136.

[15] - انظر الدراسات التي يشتمل عليها كتاب الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية، تحرير دافيد أرنولد

 (Imperial Medecine and  Indigenous Societies, ed. David Arnold, Manchester UP, 1988.) ، ترجمة مصطفى إبراهمي فهمي، الكويت، 1998.

[16]  - Etienne Klein ; Coversations avec le Sphinx : Les Paradoxes en physique, Albin Michel, Paris, 1991, pp12, 28, 43, 50, 236-237.

[17]  - Richard Rorty ; Philosophy and the Mirror of Nature, Basil Blackwell, Oxford, 1980, p325.

[18]  - Lewis Pyenson and Susan Sheets-Pyenson ; Servants of Nature : A History of Scientific Institutions, Entreprises and Sensibilities, W.W.Norton, New York & London, 1999, p123 : « The use of astronomy and geophysics as an instrument of cultural imperialism […] ».

[19]  - Dominique Terré-Fornacciari ; Les Sirènes de l’Irrationnel, Albin Michel, Paris, 1991, p10.

[20]  - Dominique Janicaud ; A Nouveau la philosophie, Albin Michel, Paris, 1991, p45.

[21]  - Andràs Kertész ; Die Modularit?t der Wissenschaft, Viewig, Wiesbaden, 1991, s. 34.

[22]  - L.Pyenson ans S.Sheets-Pyenson ; Servants of Nature, p113 : « Innovation in the sciences of observation occurs in the context of aggressive expansion ».

[23]  - .Pyenson and S.Sheets-Pyenson, p437 : « And the most damaging criticism : science is simply a cultural product like other cultural products ; it is no more true in any of its judgments than, say, Mozart"s music is true».

[24]  - Thomas F.Gieryn ; Cultural Boundaries of Science : Credibility on the Line, The University of Chicago Press, Chicago & London, 1999, p200 : « The press conference became part of science, as journalists were enlisted as vital allies in making a scientific discovery ».

[25]  - Thomas F.Gieryn ; Cultural Boundaries of Science, pp242-254.

[26]  - Albert and Gabrielle Howard ; in Thomas F.Gieryn, op.cit., p245.

[27]  - Richard Rorty ; Objectivity, Relativisim, and Truth (Philosophical Papers, vol. 1), Cambridge U.P., 1991, p39 : « My rejection of traditional notions of rationality can be summed up by saving that the only sense in which science is exemplary is that it is a model of human solidarity ». & p45 : « It [community] would identify rationality with that effort, rather than with the desire for objectivity. So it would feel no need for a foundation more solid than reciprocal loyalty ».

[28]  - S.Shapin ; op.cit. pp19-2.

[29]  - Richard Rorty ; Consequences of pragmatism, University of Minnesota Press, Minneapolis, 1982, ppXIII-XVII.

[30]  - Barry Barnes, Nture of Power, pp45-46 : « How people act depends upon what they know. Anything that is known may affect how people act. Therefore, everything that people know is constitutive of their existence as a society ». In S.Shapin, op.cit., p28.

[31]  - Mario Biagioli ; Galileo Courtier : The Practice fo science in the culture of Absolutism, The University of Chicago Press, Chicago & London, 1993, pp11-101.

[32]  - Mario Biagioli ; op.cit., pp22-28.

[33]  - Mario Biagioli ; op.cit., p127.

[34]  - Steven Shapin ; A Social History of Truth : Civility and Science in Seventeenth-Century England, The University of Chicago Press, Chicago & London, 1994, p36 : « The distribution of trust is therefore coextensive with the community, and its boundaries are the community"s boundaries » & p37 : « The practices by which we accomplish truth amount to our moral order ».

[35]  - Shakespeare : « His words are bonds, his oaths are oracles » ; in S.Shapin, op.cit., p68.

[36]  - « Quia promissa Nobilium pro factis habentur » ; in S.Shapin, op.cit., p69.

[37]  - Thomas F.Gieryn ; op.cit., pp340-362.

[38]  - Colin Macilwain ; « Campuses Ring to a Stormy Clash over Truth and Reason », Nature, 387 (1997), p331 : The science wars are « a rumbling debate about the nature of scientific practice and knowledge, about who is qualified to pronounce on either ». In Thomas F.Gieryn, op.cit., p341.

[39]  - Andràs Kertész ; Die Modulart?t der Wissenschaft, ss. 35-36 : « Wenn es keine unikalen Prinzipien der Rationalit?t gibt, dann muss man die Vielfalt menschlicher Rationalit?t anerkennen, und man muss auch eine Erkl?rung dafür finden k?nnen, warum bestimmte Arten der Rationalit?t die für sie charakteristischen, spezifischen Eigentümlochkeiten aufweisen. Da die Prinzipien der Rationalit?t also nicht aus den natürlichen Eigenschaften des Menschen allein abdeteilet werden k?nnen, liegt es auf der Hand, die für sie verantwortlichen Ursachen in der Gesellschaft zu suchen ».

[40] - انظر مقالنا "الاستدلال: مستويات في القوة والوثاقة"، ضمن كتاب آليات الاستدلال في العلم، منشورات كلية الآداب- الرباط.

[41]  - Arne Naess ; The pluralist and possibilist aspect of the scientific entreprise, oslo & london, 1972, pp67, 100, 124.

انظر القسم الثالث من كتابنا الاستدلال والبناء، في مناقشة مسألة التعدد والمقارنة بين الرؤى.

[42]  - John Furlong ; « Rationality, Cognitive Science, and the Theory of Argumentation », in Argumentation : Perspectives and Approches, ed. Frans H.Van Eemeren & al, foris, 1987, p362 : « Consensus and tradition, then, are not guarantors of rationality ; they are its effects ».

[43]  - Jack Goody ; The East in the West, Cambridge U.P., 1996, p. : « Without wishing to deny the specificity of cultural traditions, including that of Europe, it is easy to exaggerate these claims, especially when our own society (very successful in these latter centuries) is involved ».

[44] - العلمانية (scientism) هي المذهب الذي يدعي أن العلم قادر على الإتيان بحلول ناجعة لكل المشاكل، بما في ذلك الاجتماعية الحميمية، وهي غير اللائكية، التي هي الموقف الداعي إلى الفصل بين السلطة الدينية والسياسية.

المصدر: http://www.aljabriabed.net/n32_04bouazati.(2).htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك