أدب التخاطب في السنة النبوية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف السابقين واللاحقين، نبينا محمد، وعلى آله وصبحه أجمعين.
أما بعد، فإن الكلمة من جليل نعمة الله على عباده، فهي الكاشفة عن مدفون المشاعر، والمبينة عن مكنون الضمائر، ولا يُعرف قدر هذه النعمة إلا برؤية حال من حُرمها،، وقد امتن الله على عباده بهذه النعمة فقال سبحانه: {ﭿ ﮀ َ}( )، وقال سبحانه ممتناً على عباده:{ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ } ( ).
والكلمة من أجل الأمانات التي أمر العبد بحفظها؛ لما لها من أثر بالغ في نفس قائلها وسامعها، وقد أخبر الله سبحانه أنَّ كل كلمة يلفظ بها العبد تُحصى عليه، ويسأل عنها، فقال سبحانه: { ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ}( ).
والكلمة باب من أبواب اكتساب الأجر من الله تعالى، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله:((الكلمة الطيبة صدقة))( ).
والكلمة من موجبات النجاة أو الخسران، فرب كلمة أوجبت لقائلها الجنة، ورب كلمة أوبقت صاحبها في النار، عن أبي هريرة قال: قال:((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوى بها في جهنم))( ).
والكلمةُ مُبينةٌ عن صلاح القلب و فساده، قال الله تعالى { ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ} ( ) فجعل سبحانه فلتاتِ الألسن كاشفةً عن خبيئة القلوب، وفاضحةً لها.
والكلمة لها الأثرُ النافذُ في القلوب، فرب كلمةٍ رأبت صدعاً، ورب كلمة فرقت جمعاً، ورب كلمةٍ أوقدت عزيمةً في النفس، ورب كلمةٍ خذَّلت نفساً منبعثة للطاعة، وقد جعل النبي الفألَ هو الكلمة الطيبة يستبشر بها المسلم فتنبعث همتُه وتعظم رغبته.
والكلمة دالة على عقل قائلها، وهل اللسان إلا ترجمان عن الفؤاد، وكم من ناطق فضح جهلة بنطقه.
لأجل هذه الاعتبارات وغيرها، فقد اعتنت نصوص الوحيين الشريفين، ببيان الآداب التي ينبغي أن يلتزمها المتكلم لتكون كلماته نافعةً، جالبةً له الأجر دافعةً عنه الوزر.

أسباب اختيار هذا الموضوع:
إبراز الوجه الحضاري المشرق للسنة النبوية في أدب التخاطب.
إبراز القيم الخلقية الكريمة لمفهوم التخاطب في السنة النبوية.
بيان عناية السنة بالمحافظة على الذوق العام من كل ما يخدش الحياء.
تجلية هذه الآداب دعوة لأهل الإيمان لامتثالها في حياتهم.
بيان أثر هذه الآداب في تقوية الآصرة الاجتماعية التي تربط بين أفراد المجتمع.
الدراسات السابقة:
المؤلفات التي وقفت عليها مما له صلة بهذا الموضوع تتعلق كلها بآداب الحوار، وقد تضمنت بعض المسائل المتعلقة بأدب التخاطب.
ولم أقف على دراسة مستقلةٍ تعنى بأدب التخاطب من خلال التوجيهات النبوية.
صعوبات البحث:
إن الكتابة في مثل هذه الموضوعات تكتنفها جملة من الصعوبات، ومن أبرزها:
1. تنوع نصوص الحوار النبوي، وتعدد مناسباتها، وتعدد أحوال المخاطبين، وتفرقها في جميع الأبواب التي وضعها أهل العلم، مما يجعل تتبعها واستقصاءها أمراً ليس يسيراً.
2. إنَّ استخراج تلك الآداب وتجليتها، يقتضي إنعام النظر في كل رواية، واستحضار القرائن المحتفة بتلك المناسبة، وكل ذلك مفتقرٌ إلى عبارة مشرقة تفصح عن حقيقة المراد، وهذه الأمور يعز اجتماعها في كل حين.
3. ضيق المساحة المحددة لبيان تلك التوجيهات، وإبرازها بالصورة اللائقة بها.

خطة البحث:
قمت بتقسيم البحث إلى أربعة فصول، نظراً لأن التخاطب يقوم -في تقديري- على أربعة أركان، وهي: الكلمة "لفظاً ومعنى"، والمتحدث، والمُخاطب، والوسيلة التي تنقل بها الكلمة بينهما. وقد جاءت التوجيهات النبوية شاملةً لهذه العناصر كلها:
الفصل الأول: عناية السنة بإبراز القيم الخلقية.
المبحث الأول: إعلاء قيمة الجمال في القول
المبحث الثاني: المحافظة على الذوق العام.
المبحث الثالث: التنوية بخلق الصدق.
المبحث الرابع: إبراز خلق الرفق والأناة.
المبحث الخامس: إبراز خلق الوسطية والاعتدال.
الفصل الثاني: الآداب التي ينبغي للمتحدث أن يتحلى بها.
المبحث الأول: الآداب المتعلقة بالكلمة.
المبحث الثاني: الآداب المتعلقة بلغة الجسد.
المبحث الثالث: اتقان مهارات التخاطب.
الفصل الثالث: الآداب المرعية في حق المخاطب:
المبحث الأول: حفظ الحق المعنوي للمخاطب.
المبحث الثاني: مراعاة الفروق الفردية بين المخاطبين.
المبحث الثالث: مراعاة الحال النفسية للمخاطب.
الفصل الرابع: الآداب التي ينبغي مراعاتها أثناء المحاورة:
المبحث الأول: الإخلاص، ووضوح الهدف.
المبحث الثاني: العناية بالمقدمات المتفق عليه بين المتحاورين.
المبحث الثالث: مراعاة حال المحيطين بالمخاطب.
المبحث الرابع: حسن إدارة الحوار.
الخاتمة: وفيها أبرز النتائج وأهم التوصيات.
الفهارس.
وقد سلكت في تنفيذ خطة البحث المنهج التالي:
 ذكر الأدب النبوي الكريم، ثم ذكر الدليل على ذلك الأدب، ثم بيان وجه الاستدلال، إن كان فيه بعدٌ وخفاء. وقد التزمت بالأدلةالصحيحة الصريحة، بعيداً عن التكلف، ولي أعناق النصوص لتأييد تلك الفكرة.
 الاستدلال ينطلق من أساسين:
الأول: التوجيه النبوي القولي بالتزام هذا الأدب أو ترك ما يضاده.
الثاني: الهدي النبوي العملي الذي كان عليه، فهو الأسوة الحسنة للمؤمنين، قال الله تعالى:{ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ} ( ) وذلك يشمل ما كان عليه  في الاعتقاد والعبادة والمعاملة والسلوك.
وقد جاء التأكيد على التزام هدي النبي في مواضع عديدة: وقد أمرنا باتباعه في أداء بعض العبادات: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، ((خذوا عني مناسككم))، ((من توضأ نحو وضوئي هذا))( ).
وهذان الأساسان مستمدان من تعريف السنة لدى أهل الحديث: (ما أضيف إلى النبي من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي).
 الاقتصار على إيراد مثالٍ أو مثالين في كل باب؛ وذلك أنَّ استقراء جميع النصوص الواردة في كل باب أمر يطول، وقد يخرج عن شرط البحث( ).
 تخريج الأحاديث: عزوت الأحاديث إلى مصادرها الأصلية، فما كان في الصحيحين أو أحدهما، فأكتفي بالعزو إليه؛ لأن العزو إليه دالٌ على صحته. وما كان في غير الصحيحين، فإن أنقل كلام أهل العلم في الحكم عليه. فإن وجد في الحديث اختلاف، فإني أذكر أوجه الاختلاف، وأذكر الشواهد الدالة على تقوية الحديث الذي فيه ضعف.
وسبيل هذا البحث هو الحديث الموضوعي، حيث لا يكون التوسع في التخريج، وتتبع الطرق مقصداً رئيساً، وإنما يذكر على سبيل الاختصار دون إخلال بالمقصد إن شاء الله.
كتابة الآيات بالخط العثماني، والبرنامج المستخدم هو: مصحف المدينة النبوية.
تنبيه: نظراً لكثرة النصوص الحديثية في أدب التخاطب، وتعدد مناسباتها، وبالمقابل ضيق المساحة المحددة لذلك، فقد تعذَّر التوسع في بيان القيم الحضارية السامية التي اشتملتها تلك النصوص، لا سيما وأنَّ عنوان البحث عامٌ يشمل أدب التخاطب في جميع الأحوال والمناسبات، فأصبح البحث أشبه ببيان أصول أدب التخاطب في السنة النبوية. ولعل الله أن يهيئ مناسبة لاستجلاء أوجه الكمال التي تضمنتها تلك النصوص، وللتوسع في ذكر مناسبات أخرى، لمزيد الحاجة إلى بيان أصول أدب التخاطب في السنة المطهرة؛ فإن غالب المؤلفات في أدب الحوار تعتمد في غالبها من رصد تجارب ذوي الخبرات، ومحاولة إبراز أثرها النافع، وهي تجارب نافعة، بل هي من الحكمة التي يؤتها الله من شاء من عباده، والتي ينبغي للمؤمن الانتفاع بها.

معنى التخاطب، ومفرداته:
الـخِطابُ و الـمُخاطَبة: مُراجَعَة الكَلامِ، وقد خاطَبَه بالكلامِ مُخاطَبَةً و خِطاباً، وهُما يَتـخاطَبانِ.
والمخاطبةُ مفاعلة من الخطاب، وهي: مراجعة الكلام بحضرة من يخاطبه، وضدها المغايبة( ).
فالتخاطب هو مراجعة الكلام بين طرفين أو أكثر بحضورهما.
الحوار: أصله من الحور، وهو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء( ).
والتحاور: تراجع الكلام. فهو متفق مع التخاطب، إلا أنَّ التخاطب أخص منه، لأنه يكون بحضرة من يخاطبه، وأما الحوار، فإنه أعم من ذلك. فيمكن أن يحاوره من هو غائب عنه، كمن يحاور غيره كتابةً.
الجدل: وهو بمعنى الحوار، إلا أنه يأخذ صفة الغلبة والشدة والخصومة، ولذا فإنَّ شدة الفتل تسمى في اللغة جدلاً.
وفي الاصطلاح:”القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات“، والغرض منه إلزام الخصم، ودفع حجته( ).
المحاجة: التخاصم، ورجلٌ محجاجٌ أي جَدِلٌ، والحجةُ ما دفع به الخصم، وقيل: الوجه الذي يكون فيه الظفر والغلبة. وهي بمعنى الجدل( ).
المناظرة: لغة من النظر أو من النظير، واصطلاحاً:”النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب“( ). وهي بهذا المعنى قريبة من معنى الحوار، إلا أنَّ المناظرة أدل في النظر والتفكر، كما أنَّ المحاورة أدل في مراجعة الكلام.
التجاوب: هو التحاور، وتجاوب القومُ: جاوَبَ بعضُهم بَعْضاً.
فنطاق البحث هو التوجيهات النبوية التي تعنى ببيان أدب الحديث بين المتخاطبين بمعناه الأعم.

الفصل الأول: عناية السنة بإبراز القيم الخُلقية عند التخاطب.
المبحث الأول: إعلاء قيمة الجمال في القول.
الكلمات قوالب المعاني ولبوسها، والكلمات الجميلة خير وعاء لحمل المعاني الجليلة؛ لما تُحدثه من أثر محمود في قلب السامع، فتجعله مهيأً لقبولها، قال ابن بطال:”جعل اللهُ في فطر الناس محبةَ الكلمة الطيبة، والفأل الصالح، والأنس به، كما جعل فيهم الارتياح للبشرى، والمنظر الأنيق، وقد يمر الرجل بالماء الصافي فيعجبه، وهو لا يشربه، وبالروضة المنثورة فتسره وهي لا تنفعه“( ).
والتجمل محبوب إلى الله تعالى في كل الأحوال، كما قال:((إن الله جميل يحب الجمال))( )، وجمال القول داخل في عموم الجمال الذي يحبه الله، ولا عبرة بخصوص السبب الذي ورد الحديث من أجله. بل إن الجمال في المعنويات أعظم من الجمال في المحسوسات.
وقد تنوعت النصوص المؤكدة على العناية بحسن الكلمة، ومن ذلك:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سُئل النبي عن الفَأْل فقال:((الكلمة الصالحة))، وفي روايةٍ:((الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة))( ).
عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله:((اتقوا النارَ ولو بشق تمرة، فبكلمة طيبة))( ).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله:((الكلمة الطيبة صدقة))( ).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله:((…ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))( ).
عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله:((إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قال أبو مالك: لمن يا رسول الله؟ قال: أطعم الطعام، وألان الكلام، وبات قائماً والناس نيام))( ) ، وفي رواية الحاكم:(وأطاب الكلام).
فقد اجتمع في هذه الأحاديث الشريفة أوصافاً للكلمة النافعة، وهي: (الصالحة)، و(الحسنة)، و(الطيبة)، و(اللينة)، و(قول الخير).
وهذه الأوصاف قدرٌ زائدٌ على مجرد كون الكلمة حقاً في ذاتها، أو صدقاً في خبرها، إلى ما هو أبعد من ذلك، من جمال اللفظ، وجودة السبك، وعفة المعنى، ومراعاة حال السامع، ومناسبة الزمان والمكان، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي متى تخلَّف واحدٌ منها، خرجت الكلمة من دائرة الحسن.
وقد تضمنت تلك النصوص أنواعاً من التأكيد للعناية بحسن الكلمة وجمالها:
أنها من مقتضيات الإيمان، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر…).
أنها من أسباب دخول الجنة، (إن في الجنة غرفاً…لمن أطاب الكلام).
أنها صدقةٌ تجلب لصاحبها الأجر، (الكلمة الطيبة صدقة).
أنها من أسباب حصول السرور والانشراح لدى السامع، فكما أنَّ المال يدخل السرور على القلب، فكذلك الكلمة الطيبة تدخل السرور على القلب.
أنها من الفأل الحسن الذي يبعث الهمة في نفس السامع، وهنا يتجلى أثر اجتماعي إيجابي من آثار جمال الكلمة. يضاف إلى ذلك الأثر المحمود على المتكلم من إقبال المخاطب عليه، ومحبته لحديثه، وقبوله لقوله.
كما أنَّها من أسباب سلامة صدر المخاطب من غوائل السوء التي يقذفها الشيطان في قلبه إذا كانت الكلمة غير حسنة. قال الله تعالى:{ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ}( ) فالكلمة من وسائل الشيطان التي يوغر الصدور، وينشر بها العداوات، فإحكامها، والعناية بها، يقطع على الشيطان طريقه.
فكل هذه الأوصاف دعوة لأهل الإيمان لإعلاء قيمة الجمال في القول، للظفر بمحبة الله.
المبحث الثاني: المحافظة على الذوق العام.
الكلمة من أقوى وسائل التواصل بين الخلق، والعناية بحسن انتقائها واصطفائها، مساهمة فاعلة في نشر الذوق الرفيع بين أفراد المجتمع، وذلك أنَّ ضمور المفردات الحسنة في التخاطب بين الناس، مؤذنٌ بفشو أضدادها من الكلمات المقذعة الرديئة، وهو مؤدٍ إلى فساد ذائقة أفراد المجتمع، وسبيل لزوال فضيلة الحياء عنه، وسبب لترقيق المعصية في نفوس الناس، لكثرة سماعهم لألفاظها.
ويمكن بيان عناية السنة بالمحافظة على الذوق العام في العناصر التالية:
أولاً: التحذير من الفحش في القول:
الفحش: القبيح من القول والفعل، ويأتي بمعنى التعدي في الرد والجواب( )، وقد تنوعت الأحاديث الدالة على ذم هذا الخلق والتحذير منه:
 الإخبار أنَّ الله يبغض الفحش وأهله: عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله:((ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء))( ).
 الإخبار أنَّ الفحش ليس من صفة أهل الإيمان: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله:((ليس المؤمن باللعان ولا الطَّعان، ولا الفاحش البذيء))( ). وقد بوب على هذا الحديث الإمام ابن حبان بقوله:”ذكر نفي اسم الإيمان عمن أتى ببعض الخصال التي تنقص بإتيانه إيمانه“( ).
وهذان الأمران -أعني بغض الله للفاحش، وأنه ليس من سمة أهل الإيمان- كفيلان بردع المسلم عن الوقوع في القول الفاحش؛ فإنَّ المسلم صاحب الحسن المرهف يغشاه الوجل والخوف أن تجري على لسانه كلمة فاحشة، توجب له بغض الله، أو تسلب عنه صفة الإيمان الكامل.
 أنه من أسباب دخول النار: عن أبي بكرة قال: قال رسول الله:((البذاء من الجفاء، والجفاء في النار، والحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة))( ).
وفي الحديث إشارة إلى أن بذاءة اللسان أثرٌ من آثار الجفاء، وهو غلظ الطبع، وهو دليل على قلة الحياء كما يفهم من المقابلة في الحديث.
ثانياً: التلميح فيما يستحى بدلاً من التصريح.
المتحدث اللبق ينأى بنفسه عن كل لفظٍ ينبو عنه الذوق الرفيع، أو يخدش الحياء. وإليك هذه الأمثلة:
عن عباد بن تميم عن عمه عن النبي قال:((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحا))( ).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله:((لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ))( ).
ففي هذين المثالين لم ينطق النبي بالاسم الصريح للحدث، وإنما عبَّر عنه بصفته.
وفي قصة ماعز الأسلمي لما أقرَّ على نفسه بالزنا، سأله النبي عن ذلك، فقال له:((هل غاب ذلك منك في ذلك منها، قال: نعم. قال: كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البئر؟ قال: نعم))( ) ، فعفَّ لسانه عن تسمية شيء من أعضاء الرجل أو المرأة، وكنى بما فهم السائل المراد، وأجاب عن ذلك.
وإذا كان ذلك فيما يتعلق ببيان الأحكام، ففيما دون ذلك من باب أولى وأحرى.
وتأمل النصوص المتعلقة بأمور الطهارة، وعشرة النساء، فلن تجد فيها كلمة تنافي الحياء والعفة.
ثالثاً التحذير من أذى المسلمين باللسان:
وأصناف الأذى باللسان، متعددة، فمنها: اللعن، والسخرية، والغيبة، والنميمة، وغير ذلك وجميعها ألفاظٌ تخدش الحياء، وتؤذي النفس، وتعكر الذوق العام.
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله يقول:((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))( ).
وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يقول:((أسلم المسلمين إسلاماً من سلم المسلمون من لسان ويده))( ).
وإليك نموذجاً من أصناف الأذى المنهي عنه:
اللعن: وهو في أصله: الطرد والإبعاد من الخير. وألفاظ اللعن من الألفاظ التي تؤذي النفوس، وهي كلمات ينبو عنها خلق المؤمن، ولا يليق أن تكون وصفاً للمؤمن أو خلقاً له.
وقد تنوعت دلالة الأحاديث في النهي عن اللعن:
اللعن ليس صفةً للمؤمن، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله:((ليس المؤمن باللعان…))( ).
وكثرة اللعن موجب لفاعله دخول النار، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله أنه قال:((يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير…))( ).
ولتأكيد الزجر عن اللعن والتحذير منه، فقد جاء النهي عنه، وولو كان الملعون غير عاقل، عن عمران بن حصين قال ثم بينما نحن مع رسول الله في سفر وامرأة على ناقة لها فضجرت فلعنتها فقال رسول الله خذوا متاعكم عنها وأرسلوها فإنها ملعونة قال ففعلوا فكأني انظر إليها ناقة ورقاء( ).
المبحث الثالث: التنويه بخلق الصدق.
فإنَّ صدق الحديث، يجعل صاحبه محلاً للثقة، فيُقبل قوله، ويُطمئن إلى خبره، ولا تتحقق هذه الطمأنينة إلا إذا كان هذا الخلق أصيلاً في نفس صاحبه، وإليه الإشارة في قول النبي:((ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدقَ، حتى يكتب عند الله صديقاً))( ). فأنت تلحظ أنَّ الصدق الذي يُعقب هذه الثمرات العظيمة، هو ذلك الخلق العميق في نفس صاحبه، الذي يحجبه عن الكذب، ويصونه عنه، وإذا فُقد الصدقُ، فقدت الثقة في المتحدث، والطمأنينة لخبره.
وقد تنوعت الأساليب النبوية في الدلالة على أهمية الصدق ورفيع منزلته، ومن ذلك:
 أنَّه من أول الأخلاق التي دعا إليها النبي. جاء الأمر به مفتتح الدعوة إلى الإسلام مقروناً بالأمر بعبادة الله، ففي حديث أبي سفيان قال هرقل:”وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف“( ).
 أنَّه سبب لدخول الجنة. عن عبد الله بن مسعود  قال: قال رسول الله((إن الصدق برٌ، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب فجورٌ وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً))( ).
 أنه سبب لقبول قول المتحدث والطمأنينة إلى خبره. ألا ترى أنَّ صدق النبي قبل أن يوحى إليه، كان دليلاً على صحة نبوته، فقد سأل هرقل أبا سفيان:”وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله“( ).
 أنَّ التزام الصدق سلامة من صفة النفاق فقد جاء في وصف المنافق:(وإذا حدَّث كذب).( ).
 أنه سبب للنجاة من كرب الدنيا وشدائدها. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
ففي خبر الثلاثة الذين أطبقت عليه صخرة قال:((قال أحدهم: يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق))( ).
وقد أيقن كعب بن مالك أنَّه لا نجاة له من تخلفه عن غزوة تبوك إلا بالصدق، فقال:”فعرفت أني لا أنجو إلا بالصدق“، ولما نزلت توبته بعد شدة البلاء قال:”فقلت: يا رسول الله إنما الله تعالى نجاني بالصدق وان من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت“( ).
ولما صدق حاطب بن بلعته في اعتذاره عند النبي قبل منه، وقال:”لقد صدقكم“( ).
فهذه نماذج من صور عناية السنة بتأصيل هذا الخلق في النفوس.
المبحث الرابع: إبراز خلق الرفق والأناة.
الرفق جماع الخير كله، ما خالط شيئاً إلا وأفاض عليه جمالاً وبهاءً عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي قال:((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه))( ) ، وهذا يشمل الرفق في الأقوال، والرفق في الأفعال.
والمتحدث مهما كان متحرياً في ألفاظه، فليس في مأمن من سماع ما لا يحب من سيء القول ورديئه، وتأمل هذا التوجيه النبوي الذي يفيض رحمةً وحلماً:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:((استأذن رهط من اليهود على رسول الله فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله: يا عائشة إن الله يحب الرفقَ في الأمر كله، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟! قال: قد قلت: وعليكم))( ). وفي وروايةٍ:”عليكم“ بغير الواو.
ففي هذا الموقف الذي تثور فيه كوامن النفس للانتصار، يأتي التوجيه الكريم بضرورة كبح جماحها، والمحافظة على سكونها، والترفق مع المخاطَب، واختيار الألفاظ المناسبة في الحديث.
المبحث الخامس: إبراز مبدأ الوسيطة والاعتدال:
التوسط والاعتدال صفة أصيلة في هذا الدين، وهي تشمل أصول الدين وفروعه، ليس للجفاء ولا للغلو فيه مكان. وأنت تلمح في أحكام الشريعة ما يؤكد هذا الخلق ويعلي مكانته، ويحث على الالتزام به.
ومن الأمثلة على ذلك في باب التخاطب: النهي عن المبالغة في المدح:
عن أبي موسى قال سمع النبيُّ رجلاً يُثني على رجلٍ ويُطريه في المِدْحَةِ، فقال:((أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل))( ).
وهذا محمول على المدح الذي فيه مبالغة وتجاوز للحد، وأما إذا كان المدح بما في الممدوح فلا حرج؛ إذا أمنت الفتنة على الممدوح، فقد صح أنَّ النبي مدح أصحابه بما فيهم من الصفات الحسنة.
قال الحافظ ابن حجر:”والضابط أن لا يكون في المدح مجازفة، ويُؤمن على الممدوح الإعجاب والفتنة“( ).

الفصل الثاني: الآداب التي ينبغي للمتحدث أن يتحلى بها:
من أركان نجاح المتحدث: التزامه بالآداب المرعية أثناء التخاطب، وقد عنيت السنة فيما عنيت بهذه الآداب، ومن جملة تلك الآداب ما يلي:
المبحث الأول: الآداب المتعلقة بالكلمة:
الكلمة هي أداة التخاطب بين المتحاورين، وقد اشتملت التوجيهات النبوية بيان الصفات التي تجعل الكلمة نافعة لقائلها وسامعها:
 ترك الفضول من القول.
تظل الكلمة متألقة ذات نفوذ في نفوس السامعين، إذا عرف المتكلمُ قدرها، وأوقعها موقعها اللائق بها، ولم يبتذلها حتى تصبح لغواً لا قدرها.
عن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- قال: قال:((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) وفي رواية الإمام أحمد:((قلة الكلام فيما لا يعنيه))( ).
فقد جعل النبي إمساك الإنسان لسانه عن الكلام فيما لا يعنيه، دليلاً على حسن إسلامه، وقد تكاثرت الوصايا النبوية الحاثة على ضبط اللسان والتحرز من إطلاقه، وهذه الوصايا يراد فيما يراد بها، ترك الفضول من القول الذي لا حاجة له؛ فإن اللسان من أكثر الجوارح استجابة للوقوع في الزلل، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله:((أكثر خطايا ابن آدم في اللسان))( ) ، ومع الأمن من السلامة في الوقوع في الخطأ فإنَّ كثرة الكلام داعية إلى قسوة القلب، ومقعدة على العمل.
قال الحافظ ابن رجب:”هذا يدل على أنَّ كفَّ اللسانِ وضبطَه وحبسَه، هو أصل الخير كلِه، وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه“( ).
والمراد بإمساك اللسان وخزنه: حفظه عن الوقوع في المأثم، وليس دعوة إلى لزوم الصمت وعدم الكلام، فإطلاق اللسان في قول الخير نصحاً وتعليماً وإصلاحاً من أعظم أبواب اكتساب الأجر من الله تعالى، قال الله تعالى:{ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ }( ).
وكان كلامه جزلاً لا فضول، كما في الأمثلة السابقة واللاحقة.
 ترك التكلف في الفصاحة.
هذا الدين مبناه على اليسر والسماحة، ومجانبة التكلف والتنطع، لما يجلبه من إدبار الناس عن المتكلف، ولما يورثه ذلك من إعجاب المتكلف بنفسه، عن أبى ثعلبة الخشني عن النبي قال:((إن أحبكم إليَّ وأقربكم منى في الآخرة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدَكم منى في الآخرة أسوؤكم أخلاقا، المتشدقون، المتفيهقون الثرثارون))( ).
المتشدق:”الذي يلوي شدقه للتفصح“. ولا يعني هذا ذم فصاحة الكلام وجزالته، ولكن المذموم هو التنطع في ذلك، عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال:((ألا هلك المتنطعون))ثلاثاً( ).
 توضيح المعنى.
عن أنس بن مالك عن النبي ((أنَّه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه))( ).
غاية المتحدث هي أن يُفهم كلامه على مراده، وهذا الهدي النبوي الكريم تطبيق لتلك الغاية، وفيه أيضاً الأناة في التعليم، وفيه الرفق بالسامع، وتقدير لأحوال السامعين المختلفة.
قال الخطابي:”أما إعادته الكلام ثلاثاً؛ فإنما كان يفعله لأحد معنين: أحدهما أن يكون بحضرته من يقصر فهمه عن وعي ما يقوله، فيكرر القول ليقع به الفهم؛ إذ هو مأمور بالتبليغ، وإما أن يكون القول الذي يتكلم به نوعاً من الكلام الذي يدخله الإشكال والاحتمال، فيُظاهر بالبيان لتزول الشبهة فيه ويرتفع الإشكال معه“( ).
 حسن البيان:
جودة البيان وجماله، من أنجع الوسائل لإظهار الحق والترغيب فيه، فهو يستحوذ على القلوب ويأخذ بمجامعها، وكم من حق خبا نوره وتلاشى أثره في النفوس؛ لسوء تعبير صاحبه، وكم باطل راج وشاع بين الناس؛ لفصاحته قائله وحسن بيانه.
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه لما قد رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله:((إن من البيان لسحرا أو إن بعض البيان سحر))( ).
وفي روايةٍ فقام رسول الله فقال:((أيها الناس قولوا بقولكم، فإنما تشقيق الكلام( ) من الشيطان، فإنَّ من البيان سحرا))( ).
قال الإمام الخطابي:”البيان اثنان: أحدهما ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر ما دخلته الصنعة، بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلب القلب، وعلب على النفس حتى يحول الشيء عن حقيقته، ويصرفه عن وجهه، فيلوح للناظر في معرض غيره، وهذا إذا صرف إلى الحق فيُمدح، وإذا صرف إلى الباطل يذم“( ).
 التبيّن في معنى الكلمة ومعرفة مآلاتها:
فإنَّ دلائل التوفيق للعبد أن يتأمل في كل كلمة يلفظ بها، وأن يعرف عوافبها، فإنَّ الكلمة ملكٌ لصاحبها، فإذا نطق بها ملكته، وقد جاء التحذير من إطلاق اللسان بالكلام الذي لا يعرف المتحدث عواقبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله:((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب))( ).

 الاعتناء بنبرة الصوت ودرجته.
وهذه المهارة فرقان بين المتحدث الجيد من غيره، وبها يُستدل على حالته النفسية، ويعرف بها غضبه ورضاه، والأصل أن يتحدث الرجل بالقدر الذي يُسمعُ مَن عِنده، وكان ذلك هدي النبي في أحواله كلها، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا إذا وجدت حاجة لذلك،، ولذا فقد اعتنى الرواة بالتنبيه على تلك الحال التي خرجت عن هذا الأصل، ومن تلك الأحوال:
أن يكون الموضوع الذي يتحدث عنه يقتضي رفع الصوت، عن جابر بن عبد الله قال:((كان رسول الله إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوتُه، واشتد غضبُه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى))( ) ، وفي رواية ابن حبان( ) والحاكم( ):((كان رسول الله إذا ذكر الساعة احمرت عيناه…)).
أن يكون المقام مقام تحذير وتنبيه، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنَّ النبي كان في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ((ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا))( ) ، وقد بوب عليه البخاري بقوله:”باب من رفع صوته بالعلم“.
أن يكون المراد شحذ العزائم وإذكاء الهمم: عن البراء بن عازب قال:((كان رسول الله يوم الأحزاب، ولقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا
إن الألى قد أبوا علينا

إن الملأ قد أبوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا

ويرفع بها صوته))( ).
ويتأكد الأمر بخفض الصوت أثناء التحاور؛ لما له من أثر في سكون المحاور، وحفظ وقاره.
المبحث الثاني: الآداب المتعلقة بلغة الجسد عند المتحدث:
وهذا المصطلح ”لغة الجسد“ من المصطلحات المعاصرة، ويراد به: أنَّ لهيئة الجسد لغة مؤثرة في نفس المخَاطبْ، وأنت تجد في بعض الأحاديث تطبيقاً لهذا المعنى:
 العناية بهيئة الجسد عن الحديث:
وهذه مهارة مهمة ينبغي للمتحدث أن يتقنها، فإنَّ هيئة المتحدث وقوفاً أو جلوساً، وكذلك حركة الجسد لها أثرٌ بالغ في إيصال الفكرة وتفعيلها في نفس المخاطب.
مثال ذلك في الهدي النبوي: عن أبي بكرة قال: قال رسول الله:((ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً، فقال: ألا وقول الزور. قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت))( ).
فإنَّ تغيير هيئة الجلوس تعبير عن الاهتمام بما سيأتي من الكلام، ولفتاً لنظر المخاطب ليُقبل على المتحدث، ويعتني بما سيقال له، وما اهتمام راوي الحديث ببيان تلك الهيئة إلا دليل على ذلك.
 تعابير الوجه وأثرها في نفس المخاطَب:
إنَّ الكلمة ليست لفظة مجردةً تؤخذ بمنأى عن هيئة قائلها، ألست ترى أنَّ الكلمة الواحدة، يتنوع فهمها باختلاف حال قائلها، وصفة إخراجه لها. بل إن الابتسامة التي هي دلالة على الرضا، قد يقترن بها ما يفهم منها غير ذلك، ولما قدَّم كعب بن مالك على رسوله قال:((حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب))( ) فانظر كيف استدل برؤية تقاسيم وجهه النبي على أنَّ تبسمه تبسم مغضب، وإليك بعض الأمثلة:
التبسم ودلالته على الرضا بالقول: عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت:((إن رسول الله دخل عليَّ مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أنَّ مُجززاً نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إنَّ بعض هذه الأقدام لمن بعض))( ).
فإذا نظرت إلى قول النبي فلن تجد فيه ما يدل على رضاه بقول مجزز الأسلمي غير ما كان يعلو وجهه من علامات البشر والسرور.
الغضب ودلالته عن عدم قبول القول: عن زيد بن خالد الجهني أن رجلاً سأل رسول الله عن اللُّقطة؟ فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدَّها إليه، فقال: يا رسول الله فضالةُ الغنم؟ قال: خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: يا رسول الله فضالةُ الإبل؟ قال: فغضب رسول الله حتى احمرت وجنتاه، أو احمر وجهه، ثم قال: مالك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، حتى يلقاها ربها))( ). فقد اقترن قوله بما يدل على إنكار القول بإحمرار الوجه.
المبحث الثالث: اتقان مهارات التخاطب الجيد:
الخطاب المؤثر، هو الذي يحدث أثراً محموداً في نفس السامع، ولا يكون للخطاب ذلك الأثر إلا إذا اقترن بالمهارات التي تزيده فاعليةً، وهذه المهارات تتعدد وتتنوع بحسب قدرات المتحدث وفطتنه، ومراعاته للأحوال الزمانية والمكانية، وإليك بعضاً من تلك المهارات المستفادة هدي الني:
 إثارة نفس المخاطب وتحفيزه لسماع ما يقال له: وهذا المسلك يأخذ أشكالاً متعددة، منها:
أولاً: طرح الأسئلة على المخاطب لتهيئته لما يقال له، وهو مسلك كان يفعله النبي كثيراً، عن أبي ذر قال:((كنت مع النبي في المسجد عند غروب الشمس، فقال: يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله تعالى:{ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ}( )))( ).
وتارةً يكون القصد من السؤال تحفيز السائل لاستنباط العلم بنفسه، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله:((يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: {ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ}( )، قال: فضرب في صدري، وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر))( ).
ثانياً: تكرار نداء من يُحدثه لتهيئته لما سيُقال له، عن معاذ بن جبل قال:((كنت ردف النبي ليس بيني وبينه إلا مؤخرةُ الرحل، فقال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعةً، ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعةً، ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم))( ).
فإنَّ تكرار مناداة النبي لمعاذٍ، وإرجاء إجابته بعد كل نداءٍ، يُراد به تهيئته لسماع ما سيُقال له، ومن ثم الاعتناء به، قال الحافظ ابن حجر:”وهو لتأكيد الإهتمام بما يخبره به، ويبالغ في تفهمه وضبطه“( ).
 تقريب الأمور المعنوية في قوالب حسية.
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله:((مثل الصلوات الخمس، كمثل نهر جارٍ غمرٍ على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات))( ).
عن أبي هريرة أن رسول الله قال:((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا))( ).
ففائدة ضرب المثل تقريب الأمر المعنوي في صورة المحسوس لهم، وذلك أنَّ حال المذنب كحال المغتسل في النهر بجامع أنَّ كلاً منهما تزال عنه الأقذار.
وفي الحديث مهارة من مهارات التخاطب الجيد، وذلك أنَّ النبي ساق له ابتداءً مثلاً محسوساً يعرفون صحته، ولذا كان جوابهم مؤكداً فقالوا: ”لا يبقى من درنه شيء“ ثم ساق لهم المثل المعنوي.
 ضبط المشاعر:
المحاور الجيد هو الذي يملك السيطرة على مشاعره وانفعالاته، مهما أُلقي إليه من أقوال لا يقبلها.
عن عبد الله بن مسعود قال:((لما كان يوم حنين آثر رسول الله ناساً في القسمة، فأعطى الأقرع ابنَ حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثلَ ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لقسمةٌ ما عُدل فيها، وما أُريد فيها وجه الله، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قال: فتغَّير وجهُه حتى كان كالصِّرف( ) ثم قال: فمن يعدل إن لم يعدل اللهُ ورسولُه؟! قال: ثم قال: يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر))( ).
فإنَّ الكلمة التي قيلت من هذا المعترض كلمة جارحة، تؤذي كل من عرف من نفسه العدل، فكيف برسول الله؟! ومع شدة غضبه منها، إلا أنَّه ضبط مشاعره، ولم يقل إلا حقاً، بل زاد على ذلك بذكر صبر نبي الله موسى، تسليةً لنفسه، واقتداءً به.
 مراعاة الزمان والمكان.
من تمام حكمة المتحدث، وحصافة رأيه أن يعرف التمايزَ والتفاضلَ بين الأمكنة والأزمنة، وأن لكل منها اعتباره، ولكل منها ما يناسبه، فما يقبل أن يقال في المكان المفضول ليس بالضرورة يكون مقبولاً في المكان الفاضل. وإليك هذا التوجيه النبوي الكريم:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله:((من سمع رجلا ينشد ضالةً في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله عليك؛ فإن المساجدلم تبن لهذا))( ).
فنشدان الضالة في غير المسجد جائز، وإنما نُهي عن ذلك في المسجد لخصوصية المكان، وقد جاء التعليل لذلك بقوله:(فإن المساجد لم تُبن لهذا) أي أنَّ السؤال عن الضوال جائز في غيره.
وأما تمايز الأزمنة وتفاضلها فأنت تلمح العناية به في مثل هذه النصوص: قال الله تعالى:{ ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ } ( )، فالجدال مذموم في كل زمان، ولكنه في هذا الزمن الفاضل يزداد ذماً.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله:((الصيامُ جُنةٌ فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرْفُث يومئذٍ، ولا يسخب، فإنْ سابّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم…))( )، وفي لفظ البخاري:((الصيامُ جُنةٌ فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين)).
فإنَّ الرفث والجهل والصخب أمورٌ منهي عنها في رمضان وفي غيره، ولكن لخصوصية الزمان معنى آخر، فجاء التأكيد عليها.
فمراعاة التفاضل بين أجزاء الزمان والمكان من آداب الإسلام الحسنة، ومن ذلك أنَّ ما يقبل أن يقال في أوقات الفرح والسرور، لا يقبل أن يقال في أوقات المصائب والحزن.
 جعل المحاور يستدل على الحق بنفسه.
المحاور الراغب في ظهور الحق وبيانه، لا يبالي إنْ ظهر الحق على لسانه، أو اهتدى إليه خصمه بنفسه. ولذا تجده يثير أسئلةً يكون جوابها مؤدٍ إلى الحق.
وإليك هذا المثال: عن أبي هريرة قال:((جاء رجل من بنى فزارة إلى النبي، فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود! فقال النبي: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقا. قال: فأني أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعة عرق))( ). فإنَّ النبي جعل السائل يستنتج سبب اختلاف لون الجمل الأورق، حتى إذا أدرك الحق أحاله على الأصل المعلوم لديه. قال الإمام البخاري:”باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين وقد بين النبي حكمهما ليفهم السائل“.

الفصل الثالث: الآداب المرعية في حق المخاطب:
إن التوجيهات النبوية في أدب التخاطب تتنوع أساليبها، ومن ذلك الآداب التي ينبغي مراعاتها في حق المُخَاطب:
المبحث الأول: حفظ الحق المعنوي للمُخَاطب:
من الجوانب المشرقة في التوجيهات النبوية في شأن التخاطب: اعتبار الحق المعنوي للمُخاطب، وحفظ كرامته، ويمكن ملاحظة هذا الأمر في الجوانب التالية:
 حفظ النبي الألقاب لأصحابها:
حفظ الألقاب لأصحابها، وإنزالهم منازلهم اللائقة بهم، تكريمٌ لهم ولأتباعهم، وسببٌ لانشراح صدورهم لسماع الحق.
وقد كان النبي يحفظ للناس أقدارهم عند مخاطبتهم، ومن الأمثلة على ذلك: أن سعد بن عبادة الأنصاري قال: يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء، قال رسول الله: نعم. قال: كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله: اسمعوا إلى ما يقول سيدكم؛ إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني))( ).
فلم يكن اعتراضه مسقطاً لقدره بين قومه، بل إنَّ النبي حفظ الألقاب لأصحابها وإن كانوا كفاراً، ففي مراسلاته لملوك الأرض كان يحفظ ألقابهم، ويصفهم بما يليق بهم من المنزلة في أقوامهم، فقد كتب إلى هرقل فقال:((من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم))( ).
 النهي عن منادة المخاطَب بألفاظٍ تدل على احتقاره.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال:((لا يقولنَّ أحدُكم: عبدي وأَمَتي، كلكم عبيد الله، كلُ نسائكم إماءُ الله، ولكن ليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي))( ).
المماليك والإماء إخوان لمواليهم، جعلهم الله في خدمتهم، وقد أكد النبي هذه الأخوة بقوله:((إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم))( ) ، ومن حق الأخ على أخيه ألاَّ يؤذيه بكلمةٍ تجرح مشاعره، أو تشعره بهوانه، ويتأكد هذا الأمر حال المخاطبة.
بل إن النبي نهى ينادي المملوكُ سيدَه بألفاظ التعظيم، عن أبي هريرة يحدث عن النبي أنه قال:((لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي، مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي))( ).
وإذا كان هذا النهي في حق المملوك، فإنه في حق غيره أولى.
 تقدير اجتهاد المجتهد، وعدم التقليل من شأنه:
إن الإنسان إذا استفرغ وسعه في البحث عن الحق، وأدَّاه نظره إلى اختيار أحد الآراء، فإنَّ نفسه تتطلع إلى من يُقدِّر عملَه، ويُثني على جهده، وإن لم يدرك الصواب، وفي أقل الأحوال أن لا تلحقه ملامة أو عتاب على خطأه، يدل لذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي لنا لما رجع من الأحزاب:((لا يصلين أحد العصرَ إلا في بني قريظة، فأدرك بعضُهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي فلم يُعنف واحداً منهم))( ). فقد سمع النبي مقالة الفئتين المختلفتين، ولم يعنف إحداهما، ولم ينتقص اجتهادها.
 النهي عن السخرية به.
السخرية أمر محرمٌ لا يجوز قال الله تعالى { ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ }( ) فكل لفظٍ يشعر بالانتقاص أو الازدراء فهو لفظٌ محرمٌ.
والنهي عن السخرية عامٌ في الأحوال كلها، ومن ذلك: السخرية به أثناء التخاطب والتحاور معه، عن المعرور بن سويد قال:((رأيت أبا ذر الغفاري وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألناه عن ذلك فقال إني ساببت رجلا فشكاني إلى النبي فقال لي النبي: أعيرته بأمه؟! قال: إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان يتحقق تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم))( ).
 معاتبته باللطف واللين.
تتنوع الأخطاء التي تقع من الناس، ويتنوع تبعاً لذلك أسلوب معالجة الخطأ والمعاتبة على فعله.
فمن الأخطاء ما يقتضي مساءلة المخطئ؛ لما يترتب عليها من أحكامٍ شرعية كإقامة الحدود، ومنها أخطاء عامة لا يترتب عليها شيءٌ من ذلك، وإن كانت تستدعي المؤاخذة.
وقد سلك النبي مسلك اللطف وعدم التعنيف في الحالين معاً:
ففي قصة حاطب بن بلتعة حينما أفشى سراً من أسرار الحرب إلى كفار قريشٍ، بادر بعض الصحابة إلى سؤال النبي الأذن لهم في قتله؛ لأنهم يرون ما فعله خيانةً، ولكن النبي تلطَّف معه، وقال له:((ما حملك على ما صنعت؟ فلما سمع اعتذاره قال: صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً))( ).
وفي قوله:(ولا تقولوا له إلا خيراً) تأكيد على قبول العذر وعلى ترك المؤاخذة.
وأما اللطف في المعاتبة على الأخطاء التي لا يترتب عليها حدٌ، فإن أمثلتها أكثر من أن تحصى:
عن معاوية بن الحكم السلمي قال:((بينا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القومُ بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن))( ).
 عدم التشهير به عند معاتبته:
من الآداب النبوية في حق المخاطب العناية بالستر عليه، وعدم التشهير به، حتى باتت كلمة (ما بال أقوام) (ما بال رجال) ونحوها وصفاً غالباً لمعاتبة النبي بعض أصحابه على ما يقع من الخطأ.
ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- في قصة مكاتبة بريرة -رضي الله عنها- أنَّ أهلها اشترطوا عند بيعها أن يكون لهم الولاء، فلما علم النبي بذلك خطب الناس وأثنى على الله بما هو أهله، وقال:((أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل، فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتابُ الله أحق، وشرطُ الله أوثق، ما بال رجال منكم يقول أحدهم: أعتق فلاناً والولاء لي، إنما الولاء لمن أعتق))( ).
فقد علم لمن كانت بريرة -رضي الله عنها- ، فلم يصرح باسمهم، واكتفى بالتنبيه على خطأ قولهم، تحذيراً للناس من مسلكهم.
 الإقبال على المخاطب والإصغاء لقوله.
عن أبي هريرة أن النبي …ولم يكن أحدٌ يصافحه إلا أقبل عليه بوجهه ولم يصرفه عنه حتى يخلو من كلامه))( ).
في الحديث بيان خلق نبوي كريم عند التخاطب، وهو الإقبال على المتحدث، وعدم صرف الوجه عنه حتى يفرغ من حديثه، وهو متضمنٌ لحسن الإصغاء له، وعدم مقاطعته.
ولهذا الحديث شواهد عملية كثيرة دالة على مضمونه، وأنَّ هذا الأدب هو الأصل في مخاطبة النبي لأصحابه: عن وائل الحضرمي قال:((سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسولَ الله فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه، وقال: اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم))( ).
عن أنس بن مالك ((أنَّ النبي شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال فتكلَّم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلَّم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نُخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادَها إلى برك الغماد لفعلنا…))( ).
عن جابر((أنَّ رجلاً من أسلم أتى النبي وهو في المسجد، فقال: إنه قد زنى، فأعرض عنه، فتنحى لشقه الذي أعرض، فشهد على نفسه أربع شهادات…))( ).
ففي هذه النصوص تطبيق عمليٌ لهذا الأدب، فرواة هذه الأحاديث يذكرون إعراض النبي عن المتحدث بعد سماع قوله، مما يدل على أنَّه كان مقبلاً عليه قبل ذلك، بل إن العناية ببيان إعراضه عن المتحدث، لكونه خلاف الأصل، مما يقتضي نقله والتنبيه على عليه، والأمثلة على هذا الأدب كثيرةٌ جداً.
المبحث الثاني: مراعاة الفروق الفردية بين المخاطبين:
وهذا جانب متألقٌ من جوانب عناية السنة بشأن التخاطب، وهو الاهتمام بشأن الفروق الفردية بين المخاطبين، ومخاطبة كل أحدٍ بما يناسبه. ويمكن استجلاء هذا الأدب في الأمور التالية:
 أولاً: مخاطبة الإنسان على قدر علمه:
عن معاذ بن جبل قال:((كنت رِدف النبي على حمار يقال له: عُفير، فقال: يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقُ العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا))( )
فقد خاطب النبي معاذاً بما يناسب علمه، ولم يخاطب بهذا الحديث غيره ممن ليس على هذا الوصف، بل أمر معاذاً ألاَّ يخبر به أحداً؛ لئلا يحمل الحديث على غير المراد به؛ لقلة علمه، وقد بوب الإمام البخاري على هذا الحديث بقوله:”باب من خص بالعلم قوما دون قوم؛ كراهية أن لا يفهموا“، وقال عبد الله بن مسعود:(ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)( ).
وأما مخاطبة الجاهل فإنَّ النبي كان يترفق به أثناء المخاطبة، عن أنس بن مالك((كنت أمشي مع رسول الله وعليه رداءٌ نجرانيٌ غليظُ الحاشية، فأدركه أعرابيٌ فجبذه بردائه جبذة شديدةً، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله وقد أثرت بها حاشيةُ الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مالِ الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله فضحك، ثم أمر له بعطاء))( ).
فقد عذر النبي هذا الجاهل على مقالته الجافية، وقابله بما هو علاج له، وهو الصفح عنه، وزاد على ذلك بأن أمر له بعطاء.
 ثانياً: التفريق بين الناس عند معالجة أخطائهم:
تتنوع أحوال الناس عند ارتكاب الأخطاء، والحكمة قاضية بمخاطبة كل أحدٍ بما يناسب حاله، وإليك هذه الأمثلة التي تباين فيها الأسلوب النبوي في معالجة الخطأ تبعاً لتباين حال المخطئين:
1: مخاطبة المعاند: حوار المعاند حوار غير ذي جدوي؛ فإنَّه قد أجمع أمره على عدم الاستجابة لمحاوره، فالاسترسال معه والحالة تلك، مضيعة للجهد، واستهلاك للوقت:
عن سلمة بن الأكوع ((أنَّ رجلا أكل عند رسول الله بشماله، فقال: كُل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، قال فما رفعها إلى فيه))( ).
فقد ظهر للنبي من حال هذا الرجل أنَّه معاندٌ، فلم يسترسل معه في الحديث، بل دعا عليه.
2: مخاطبة المقر بخطئه: عن أبي هريرة ((أن رسول الله دخل المسجد فدخل رجل على النبي فسلَّم فرد رسوله السلام، وقال: ارجع فصل؛ فإنك لم تُصل، فرجع يصلي كما صلَّى، ثم جاء إلى النبي فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً، فقال: والذي بعثك بالحق ما أُحسن غيرَه فعلمني…))( ).
فهذا الرجل كان ممتثلاً الأمر بالإعادة، ولكنه يكرر الخطأ جهلاً منه، فلم يعنفه بل ترفق به، وعلَّمه ما يجب عليه في صلاته.
3: مخاطبة الواقع في الخطأ اجتهاداً: عن أبي واقد الليثي ((أن رسول الله لما خرج إلى خيبر مرَّ بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يُعلقون عليها أسلحتَهم، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذاتُ أنواط، فقال النبي: سبحان الله هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم))( ).
فهذا الخطأ في مسألة الترك، ولكن الحامل على الوقوع فيه هو الاجتهاد، فلم يزيد النبي على ذكر استغرابه من هذا القول، وبيان أنَّه فعل قوم موسى، ولم يعنف القائل.
4: مخاطبة من كان ضرر خطئه متعدياً إلى غيره: عن جابر بن عبد الله قال: كان معاذ بن جبل يصلي بالناس ويطيل الصلاة، وشكا رجل ما يجده من العناء بسبب ذلك، فقد اشتد مخاطبة النبي لمعاذ، وقال له:((أفتانٌ أنت يا معاذ؟! أفتان أنت؟! اقرأ سورة كذا وسورة كذا))( ).
فقد اتسم خطاب النبي بالحزم؛ لأن الخطأ يتعلق بعامة المسلمين، فضرره متعدٍ.
وبالمقابل: نجد أنَّ النبي يحلم على من يقع في خطأ فردي ويتلطف معه:
عن ابن مسعود ((أن رجلاً أصاب من امرأة قبلةً، فأتى النبي فأخبره، فأنزل الله:{ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ }( ) فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال: لمن عمل بها من أمتي))( ) ، فهذا خطأ فردي أعقبه ندمٌ وأوبة إلى الحق، وسؤالٌ عن سبيل للسلامة من موجب الذنب، ففي رواية مسلم قال:”فاقض فيَّ ما شئت“.
 ثالثاً: تنوع وصايا النبي التي يسديها لأصحابه:
وتأمل تباين الوصايا النبوية التي كان يسديها النبي لأصحابه الذين كانوا يسألونه أن يوصيهم، فإنه كان يخاطب كل أحدٍ يما يلائم حاله.
عن أبي هريرة أن رجلا قال للنبي: أوصني، قال:((لا تغضب فردد مرارا قال: لا تغضب))( ).
عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل:((آمنت بالله فاستقم))( ).
ووصاياه تأتي بما يناسب حال طالبها، فأوصى المسافر بتقوى الله والتكبير على كل شرف( ).
وأوصى أمير السرية بتقوى الله في خاصة نفسه، وبمن معه من المسلمين، وأوصاه بآداب القتال( ).

المبحث الثالث: مراعاة الحال النفسية للمخاطب:
النفس مجبولة على محبة التأنيس والتيسير، وكراهية التنفير والتعسير، وكانت تلك وصية النبي لأصحابه، عن أنس بن مالك أنَّ النبي قال:((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا))( ).
وعن أبي بردة أنَّ النبي بعثه ومعاذاً إلى اليمن فقال لهما:((بشرا ويسرا، وعلما ولا تنفرا، وأراه قال: وتطاوعا))( ).
الأصل في مخاطبة الناس أنَّ يكون بالتيسير والتبشير، ولا يُخرج عن هذا الأصل إلا لمصلحةٍ راجحة، ومع هذا الأصل المتضمن الرحمة والشفقة بالخلق، فقد كان النبي يراعي الأحوال النفسية للمخاطبين، ويخاطب كل أحدٍ بم يلائم حاله، وإليك هذه الأمثلة:
 مراعاة حالة الملل والسآمة: إنَّ للنفس إقبالاً وإدباراً، ونشاطاً واسترواحاً، ومراعاة تباين تلك الأحوال، ومعرفة أثر ذلك على المخاطب، من دلائل التوفيق للمتحدث، ولهذا الأدب النبوي الكريم تطبيقاتٌ في سيرة النبي، فكان يباسط أصحابه ويمازحهم، وكان يعظهم ويذكرهم، وكان يعلمهم ويوجههم، ولم يكن يطغى جانب على آخر، بل يراعي مناسبة كل حال.
عن شقيق أبي وائل قال: كان عبد الله يذكرنا كل يومِ خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، إنا نحب حديثَك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كلَ يوم، فقال: ما يمنعني أن أُحدثكم إلا كراهية أن أُملَّكم؛ ((إن رسول الله كان يتخولنا بالموعظة في الأيام؛ كراهية السآمة علينا))( ).
 مراعاته في حالة السرور: فالنفس عند فرحها وسرورها، تتطلع إلى من يشاركها فرحتها؛ لأنَّ ذلك من تمام الفرحة وكمالها، وهو حديث يجد القبولَ في نفس المخاطب، وفي قصة كعب بن مالك بعد أن أنزل الله توبته، قال كعبٌ:((فلما سلمتُ على رسول الله قال: وهو يبرق وجهه من السرور، ويقول: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قال: فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: لا بل من عند الله، وكان رسول الله إذا سُر استنار وجهُه، حتى كأنه قطعةُ قمرٍ، وكنا نعرف ذلك منه))( ).
 مراعاته في حالة الحزن: عن أنس بن مالك قال:((مرَّ النبي بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك؛ لم تُصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي فأتت بابَ النبي فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك. فقال: إنما الصبر ثم الصدمة الأولى))( ).
فإنَّ النبي أمرها عند مصيبتها بتقوى الله والصبر على ذلك، ولم يؤاخذها على ردِّها مراعاة لحالة الحزن التي عليها. قال الطيبي:”صدر هذا الجواب منه عن قولها:(لم أعرفك) على أسلوب الحكيم، كأنه قال لها: دعي الاعتذار؛ فإني لا أغضب لغير الله، وانظرى لنفسك“( ).
عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله:((إذا حضرتم المريضَ أو الميتَ فقولوا: خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون))( ). فقول الخير في تلك اللحظات العصيبة تقويةً لعزيمة المريض، وتسلية لأهله.
ومع شدة الحاجة إلى تسلية المصاب، وتخفيف لوعته وحزنه، فإنَّ ذلك ليس بمانع من إسداء التوجيه عند الوقوع في التقصير، عن أم سلمة قالت:((دخل رسول الله على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قُبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون))( ).
 مراعاته في حالة الغضب: الغضب ضد الرضا، وهو شيءٌ يداخل القلب، يُفْقِدُ الإنسان السيطرة على تصرفاته، ومنه ما هو مطبقٌ يذهب بالسمع والبصر، فلا يدري المرء على أفعاله، ومنه ما هو دون ذلك، وكله من الشيطان.
والتعامل مع المغضب يحتاج إلى حكمة وروية، وإلى مجانبة ما يهيج الغضب، وقد كان تعامل النبي مع المغضب أحسن التعامل وأكمله، وإليك هذا المثال:
عن أبي مسعود البدري قال:((كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتا من خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوتَ من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فألقيت السوطَ من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدرُ عليك، منك على هذا الغلام، قال: فقلت: لا أضرب مملوكا بعده أبدا))( ).
فتأمل هذا الخلق الكريم في تعامله مع المغضب، فإنَّه لم يعاتبه حال سورة غضبه، ولم يسأله سبب فعله، بل اكتفى بتذكيره بقدرة الله عليه، وقد أثر هذا الأسلوب في نفسه، وعاهد نفسه على عدم العود على فعله.
 مراعاته في حال المشقة والنصب:
إن اللحظات التي تتلو تعب النفس ونصبها، لحظاتٌ يحتاج فيها العامل إلى عبارات تخفف عنه آلامه وهمومه، مثال ذلك المسافر الذي قطع المفاوز للقاء أهله وأصحابه، متشوفٌ إلى كلمةٍ حسنة يخاطب بها، تزيح عنه وعثاء السفر، وتنسيه نصبه ومشقته، عن ابن عباس قال:((إن وفد عبد القيس لما أتوا رسول الله قال: من الوفد؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامى))( ).

الفصل الرابع: الآداب التي ينبغي مراعاتها أثناء المحاورة.
الحوار لمن أخذ بآدابه سبيل من سبل تحصيل العلم، وإظهار الحق ودحض الباطل، وترغيب الناس في الخير، وما تقدَّم من الآداب ينبغي استحضاره في هذا المبحث، ويضاف إلى ذلك بعض الآداب التي هي ألصق بهيئة المحاورة وصفتها:
المبحث الأول: الإخلاص، ووضوح الهدف.
فإن الأعمال لا تقبل عند الله، ولا يكتب القبول عند الخلق إلا إذا اقترنت بالإخلاص، وإذا تعرى العمل عن الإخلاص فقد روحه التي تنشر الحياة فيه فينتفع بذلك العمل.
وأما وضوح الغاية فإنَّه من أقوى الأسباب لجعل الحوار مثمراً، فإذا كان المحاور لا يدري ما يريد من حواره، تفرقت به سبل الحديث.
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في قصة بعث معاذٍ إلى اليمن، فقد حدد له الغاية من محاورته لهم، وزاد أن بيَّن له طريقة الحوار( ).
المبحث الثاني: العناية بالمقدمات المتفق عليه بين المتحاورين:
فإن المحاور الموفق هو الذي يسعى إلى تضييق مساحة الخلاف بينه وبين من يحاوره، ويمد جسور الاتفاق بينهما، مما يجعل الطرف المقابل مهيأ لقبول الحق والإذعان له، ومن تلك الوسائل النافعة: ذكر المقدمات المتفق عليها بين الطرفين. ومن تطبيقات هذا الأدب في سنة النبي:
 تقرير المحاور بصحة المعلومة:
من المسالك الحكيمة التي ينبغي أن يسلكها المحاور، أن يُقرر المحاور صاحبَه بصحة ما يقوله له، بأنواع الأقيسة التي لا يستطيع إنكارها، وإليك هذا المثال التطبيقي:
عن أبي أمامة أنَّ فتى من قريش أتى النبي فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فأقبل القوم عليه وزجروه، فقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريباً، فقال: أتحبه لأمك؟! قال: لا والله جعلني اللهُ فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟! قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال أفتحبه لأختك؟! قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أتحبه لعمتك؟! قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أتحبه لخالتك؟! قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يدَه عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء))( ).
فتأمل كيف أنَّ ذكر هذه المقارنات، التي أقرَّ بها هذا الشاب كان سبباً مقنعاً لطهارة قلبه، وترك هذه الفاحشة، مع بركة دعاء النبي له.
 تقرير المحَاور بصدق المتحدث:
ومن المقدمات المهمة التي ينبغي أن يسلكها المحاورُ، تقرير الطرف المقابل بصدقه وأمانته التي يعرفها عنه سلفاً؛ لأنَّ ذلك يعد خطوةً مهمةً في طريق الإقناع، حتى إذا أورد عليه قولاً أو نقل له خبراً لم يكن له سبيل في رده، أو الاعتراض عليه بعدم صدقه، ومن أوضح الأمثلة على ذلك وأشهرها، حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت هذه الآية { ﭿ ﮀ ﮁ}( )، صعد النبي على الصفا، فجعل يُنادي يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال:((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت { ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ}( )))( ).
المبحث الثالث: مراعاة حال المحيطين بالمخاطب:
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول:((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه))( ).
فقد تضمن هذا الحديث توجيهاً نبوياً كريماً للمتخاطبين أن يحترموا مشاعر المحيطين بهم، فقد علل النبي النهي عن التناجي بين اثنين دون الثالث، بأنَّ ذلك يُحزنه، وفي رواية أخرى:(فإن ذلك يؤذي المؤمن والله يكره أذية المؤمن). فيقاس عليه ما يماثله مما يجلب الحزن والأذى.
المبحث الرابع: حسن إدارة الحوار:
حسن إدارة الحوار هي يراد بها: أن يعرف المحاور متى يبدأ؟، ومتى ينتهي؟، وكيف تساق الحجج؟
وأنت راءٍ في حوارات النبي إجابةً لهذه الأسئلة كلها وأكثرها منها:
 متى يبدأ الحوار؟
هذه مهارة غاية في الأهمية، فليس كل حوار يحسن بك أن تشارك فيه، بل من الحوارات ما ينبغي مجانبتها، لعدم نفعها، أو لأنها تحقق مصلحة للخصم، أو غير ذلك من الموانع، وإليك هذا المثال:
عن البراء بن عازب قال:((لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي جيشاً من الرماة… وأشرف أبو سفيان فقال أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قُتلوا؛ فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك…))( ).
فإنَّ أبا سفيان كان خطابه إذ ذاك خطاب تشفٍ واستعلاء، فكان ترك إجابته خير ردٍ عليه، فأمر بعدم إجابته.
 متى ينتهي؟
وهذه مهارة لا تقل أهمية عن سابقتها، فالمحاور الجيد يعرف الوقت المناسب للخروج من الحوار، فإنَّ كل حوار لابد له من نهاية يقف عندها، وإذا لم يتقن المحاور هذه المهارة، فربما انتهى الحوار على هيئة تضرُ بالحق الذي ينافح من أجله.
وإذا تأملت الحوارات النبوية وجدت أنَّ الكلمة الأخيرة تكون للنبي حيث ينتهي الحوار عندها. وهذا هو الغالب، كما في الأمثلة السابقة.
وربما كانت الكلمة الأخيرة للطرف المقابل، ولكنها دالةٌ على الرضا والتسليم، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: حديث أنس بن مالك في قصة الأعرابي الذي جاء يسأل رسول الله فبدأ حديثه بقوله: يا محمد أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أنَّ الله أرسلك، فزعم لنا أنك تزعم، ثم مضى يورد أسئلته مصدرة بقوله:”وزعم“، وكان النبي يجيبه عن أسئلته كلها، وفي ختام المحاورة قال الأعرابي:”والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن“( ).
 كيف تُساق الأدلة وتعرض الأفكار؟
تتباين أحوال المتحاورين تبايناً كبيراً، وهذا يقتضي أن تتباين طريقة الحوار، وكيفية سياق الأدلة، وفي الجملة فإن النبي كان يسلك غالباً مسلك التدرج في الإقناع.
فعند محاورة الكافر يسلك معه مسلك التدلي من الأهم إلى المهم، ففي حديث بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أمره أن يبدأ فالأهم وهو شأن التوحيد، ثم الصلاة، فالزكاة( ).
وأما مخاطبة المسلم فهي تتنوع بحسب حاله، فتارة يسلك مسلك الوعظ، وتارة مسلك الترغيب.
المبحث الخامس: الصفات التي ينبغي أن يكون عليها المحاور:
أولاً: العلم.
فكل حوار لا يُبنى على أساس من العلم، فهو عبثٌ وإضاعة وقت، والمراد بالعلم هنا: علم المحاور بما عنده من الحق، ويتبع ذلك علمه بما عند خصمه من الشبه، وعلمه بطرائق الحوار وأساليبه.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن-:((إنك ستأتي قوماً أهلَ كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسولُ الله، فإن هم أطاعوا لك؛ بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فإياك وكرائمَ أموالِهم، واتق دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب))( ).
فقد اشتمل الحديثُ الوصايا التي يحتاجها المحاور، فقد أخبر النبيُ معاذاً بالعلم الذي يحتاجه في محاورته، مع ما كان عليه معاذ بن جبل من العلم الوافر.
ثم أخبره بحال القوم الذين سيحاورهم، وأنهم أهل كتاب، ليأخذ أهبته في محاروتهم، ثم بين له صفة التحاور، وأنها قائمة على التدرج.
ثانياً: الإنصاف وعدم البغي.
فالمحاور الصادق الناصح لنفسه، يجاهد نفسه للزوم العدل، ومجانبة البغي، وهو من أشد الأخلاق على النفوس.
وقد جاء التحذير النبوي من البغي على المخالف وأن ذلك من سمات المنافق، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله:((أربعُ خلالٍ من كُن فيه كان منافقاً خالصاً:… وإذا خاصم فجر…))( ).
وأصل الفجور هو الميل عن القصد( )، قال الإمام النووي:”أي مال عن الحق، وقال الباطل والكذب“( )، قال العظيم آبادي:”أي شتم ورمى بالأشياء القبيحة“( ).
فمعنى الفجور في الخصومة: البغي والجور على المخالف، ورميه بما ليس فيه تشنيعاً وتبشيعاً لقوله.
ويتأكد الأمر بلزوم الإنصاف؛ لأن كثيراً من المتحاورين لا يكاد يفرق بين الفكرة وقائلها، بل تراه لا يرى الفكرة إلا من خلال قائلها، فيكون رفضها لها، ومكابرته في دفعها؛ لأنها تجسدت في شخص الذي أمامه.
ومن دلائل الإنصاف: الثناء على ما يسمعه من الحق من محاوره، ففي حديث أبي أيوب الأنصاري أنَّ أعرابياً عرض لرسول الله وهو في سفرٍ فأخذ بخطام ناقته، ثم قال: يا رسول الله أخبرني بما يقربني من الجنة ما يباعدني من النار، فنظر رسول الله في أصحابه ثم قال:((لقد وفق أو لقد هدي))( ).
ثالثاً: سماع الحق وقبوله:
وهو ثمرة الإنصاف، وقد قرر النبي أنَّ صاحب الحق أعلى حجة، وأقوى عارضة، عن أبي هريرة قال: كان لرجلٍ على رسول الله حق، فأغلظ له، فهمَّ به أصحاب النبي، فقال النبي:((إنَّ لصاحب الحق مقالاً))( ).
وصاحب الحق في الحديث سواء كان حقاً مادياً -وهو الذي ورد الحديث من أجله-، أو حقاً معنوياً، فإنَّ معه صولة الحق وقوته، وأنَّه ينبغي أن يُسمع قوله.
وإليك مثالٌ تطبيقي في حوارات النبي عن عبد الله بن مسعود قال:((جاء حبرٌ من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماواتِ على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله:{ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ}( )))( ).
رابعاً: الحلم وكظم الغيظ:
لا يسلم المحاور من سماع ما لا يحب من خصمه أثناء المحاورة، والمحاور الموفق قد هيأ نفسه لذلك، فلا تستخف به عبارة نابية، أو كلمة جارحة، بل هو في جميع الأحوال رابط الجأش، قد خزن لسانه عن كل قولٍ يحوج إلى اعتذار، أو يفتح لخصمه باباً يلج من خلاله للطعن أو التشويه، وإذا تملكه الغضب لم يزد عن قول الحق.
وإليك هذين المثالين من حياة النبي:
فقد أعطى النبي أربعة نفر من أهل نجد، ولم يعط أحداً من قريش، فغضبوا لذلك، وقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا؟ فقال النبي:((إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم، فجاء رجل كث اللحية، مُشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتئ الجبين، محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد، فقال رسول الله فمن يطع الله إن عصيته، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟! ثم أدبر الرجل))( ).
فلم يزد النبي في رد هذا المحاور المجترئ على قوله:”فمن يطع الله إن عصيته، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني“.
ومثل آخر: فقد جاء أعرابيٌ إلى النبي فقال: ألا تنجز لي يا محمد ما وعدتني؟ فقال له رسول الله: أبشر. فقال له الأعرابي: أكثرت عليَّ من أبشر، فأقبل النبي على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: إن هذا قد ردَّ البشرى، فاقبلا أنتما، فقالا: قبلنا يا رسول الله( ).
فقد كظم غيظه رغم غضبه من مقالة الأعرابي، ولم يعنفه على مقالته، بل أخبر بلالاً وأبا موسى أنَّ الأعرابي قد ردَّ البشرى، وحثَّهما على قبولها.
خامساً: ترك المراء والخصومة.
اتباع الحق ولزومه من أجل صفات المؤمنين التي استحقوا بها ثناء الله عليهم { ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ}( ) وعلى قدر حظ المؤمن من هذه الصفة، يكون نصيبه من هذا الثناء.
والمراء مرقاةٌ إلى وقوع الشحناء والعداوة، وحاملةٌ على البغي والمكابرة في دفع الحق وعدم قبوله، والمخاصم الشديد الخصومة مُبْغضٌ إلى الله، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله:((أنَّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِم))( ) ، وهذا الحديث شاهدٌ لحديث أبي أمامة أن النبي قال:((كفى بك إثماً أن لا تزال مخاصماً))( ).
وهذا النوع من الجدل لمن ابتدأ صاحبه المجادلة وهو يغلب على ظنه أنه محق في ذلك، لكنه غير مصغٍ لخصمه، وغير قابلٍ منه قولاً، أما من كان يعلم أنَّه مبطل في خصومته، فإنَّه أعظم إثماً وأشد جرماً، عن أم سلمة -رضي الله عنها- ((أنَّ رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها))( ).
ولا يمدح من الجدل إلا ما كان في سبيل إظهار الحق، ودرء الباطل، وما عداه فإن مستهلك للوقت، ومقعد على العمل، وداعية إلى الضلال، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله:((ما ضل قومٌ بعد هدى إلا أوتوا الجدل))( ).
وقد جاء الثناء من الرسول على من تركه وإن كان الحق له، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله:((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراءَ وإن كان مُحقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه))( ).
سادساً: سعة الصدر بسماع قول المحاور:
من أهم الآداب التي يحتاجها المحاور أن يكون واسع الصدر، بسماع جميع ما يورده المحاور، وألاَّ يتبرم بكثرة سؤاله أو اعتراضه، والأمثلة على هذا الأدب كثيرةٌ في سنة النبي، وإليك أحدها:
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال أُخبِر رسولُ الله أنه يقول: لأقومنَّ الليلَ، ولأصومنَّ النهار ما عشت، فقال رسول الله:((أنت الذي تقول ذلك؟ فقلت له: قد قلته يا رسول الله، فقال رسول الله فإنك لا تستطيع ذلك، فصُم وأفطر، ونم وقم، وصُم من الشهر ثلاثةَ أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قال: قلت: فإني أُطيق أفضل من ذلك، قال: صُم يوما وأفطر يومين، قال: قلت: فإني أُطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال صم يوماً وأفطر يوماً وذلك صيام داود -عليه السلام- وهو أعدل الصيام، قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال رسول الله لا أفضل من ذلك))( ).
فـتأمل كثرة إيرادات عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- رغم صغر سنة، واستماع النبي له، وإرشاده إلى الأكمل في إيراداتها كلها.
ومن الأمثلة: حديث أنس بن مالك( ) في كثرة سؤال الأعرابي النبي عن صدق رسالته.
سابعاً: منح المخاطب فرصة التأمل قبل الرد:
غاية الحوار هي إقناع كل من المتحاورين الطرف الآخر بصحة الفكرة التي يتحدث عنها، وتكوّن القناعة في النفس أمرٌ يحتاج إلى تروٍ ومزيد تأمل، وهذا يستدعي أن يمنح المحاورُ الطرفَ المقابل وقتاً للتفكر والنظر.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:((لما أمر رسول الله بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، -قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه- قالت: قال: إن الله عز وجل قال: { ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ}( ) قالت: فقلت: في أي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج رسول الله مثل ما فعلت))( ).
ثامنا: الحرص على الإقناع:
وهذه الصفة هي ثمرة الحوار وغايته، وإقناع المحاور بصحة قولك نجاحٌ لك في حسن عرض الحق الذي عندك، ونهاية حسنة للحوار، ودليل على تحقيق ما تقدَّم من الصفات.
ولا يعني ذلك أن يكون المحاور ثابتاً على رأيه لا يتزحزح عنه، مهما ظهرت دلائل صحة قول خصمه، وذلك أننا نفترض أن المتحاورين كليهما يعتقد صحة قولَه، ولذا يسعى لإقناع صاحبه، لكنه في الوقت ذاته مطالبٌ بقبول الحق الذي يجري على لسان من يحاوره، إذا ظهرت براهين صدقه. وإذا سلم المتحاوران من الهوى والانتصار لحظوظ النفس، أمكنهما تحقيق هاتين الصفتين معاً.
وهذه الصفة -الحرص على الإقناع- تجدها حاضرةً في حوارات النبي كلها، وقد تقدم ذكر قصة الشاب الذي جاء يستأذن النبي في فعل الزنا، وكيف أن النبي كان حريصاً على إقناعه بخطئه( ). وبالمقابل فإنَّه كان يعود إلى رأي من يحاوره إذا ظهر صوابه.
تاسعاً: أن يكون ممتثلاً لما يدعو إليه.
إنَّ من أنجع أسباب الإقناع أن يكون المتحدث ممثلاً لما يدعو إليه في نفسه؛ لأنَّ التعارض بين القول والعمل من أعظم أسباب الصد عن قبول الحق.
وإليك هذا المثال الناطق بجلاء على أنَّ من بدأ بنفسه فيما يدعو إليه، كان ذلك أدعى لقبول قوله، ومثال ذلك ما وقع في غزوة الحديبية: ((فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، قال: فو الله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج لا تُكلِّم أحداً منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يُكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا))( ).
عاشراً: العناية بالمقاصد والغايات:
المحاور الفطن جعل نصب عينيه تحقيق الغاية التي من أجلها يحاور، فلا تأخذه اعتراضات الخصم عن طلب تلك الغاية، ومن أظهر الأمثلة في سيرة النبي ما وقع بين النبي وسهيل بن عمرو عند كتابة الصلح، وفيه:((فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا النبي الكاتب، فقال النبي: بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: أما الرحمن فو الله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمين: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله))( ).
فلم يشتغل النبي بمناقشة سهيل بن عمرو على ما كان يورده من اعتراضات، بل كان حرصه على تحقيق الغاية التي من أجلها اجتمع به.وفي تتمة القصة زيادة تعنت من سهيل بن عمرو، يقابله بالحلم والرفق.
حادي عشر: القوة في عرض الحق.
إن العرض الهزيل للحق، يُفقده ألقه وقوته، ويغري الخصم بتجاوز الحدود. والمحاور الناجح محتاج في بعض حواراته إلى الصدع بالحق، وعدم الاسترسال مع الخصم في أقواله، ولما قدم ضماد إلى مكة -وهو من أزد شنوءة- وكان يرقي من الريح، فسمع سفهاء مكة يقولون: إن محمداً مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، فلما لقيه قال له: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟
فقال رسول الله:((إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد. قال: فقال ضماد: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس( ) البحر قال فقال هات يدك أبايعك على الإسلام قال فبايعه فقال رسول الله وعلى قومك قال وعلى قومي))( ).
فلم يجب النبي ضماد عن قوله، بل عرض عليه الحق الذي عنده عرضاً قوياً، فما كان من ضماد إلا قبل منه قوله.

الخاتمة.
حمداً لك اللهم على آلائك، وشكراً اللهم على نعمائك، وصلاةً وسلاماً على خاتم أنبيائك، وأفضل أولائك محمد بن عبد الله، وعلي آله وصحبه.
أما بعد، فإن هذا البحث مساهمة في إثراء هذه الندوة المباركة، ورغبةً في الكشف عن جانب مهم من جوانب الكمال في هذا الدين.
وقد تضمن البحث(99) حديثاً، جاءت ضمن (15) مبحثاً، وهو تقسيم اجتهادي، أردت من خلاله أن أقرب المعنى الذي تضمنته الأحاديث التي اشتملها البحث.
أهم النتائج:
1. عناية السنة ببناء مجتمع يقوم على التواصل والتراحم، ونبذ أسباب التقاطع والتدابر.
2. سبق السنة إلى تأصيل آداب الحوار وبيان وسائله.
3. حفظ الكرامة للإنسان مقصدٌ من مقاصد هذا الدين، في جميع المجالات، ومنها مجال التخاطب.
4. بيان عظمة هذا الدين، وشموله لجميع جوانب الحياة.
أهم التوصيات:
العناية بإبراز القيم الحضارية لهذا الدين القويم، لا سيما في هذا الوقت الذي كثر فيه المجترئون على مقام النبي والظاعنون في سنته.
السعي إلى إعداد موسوعةٍ متكاملة للقيم الحضارية السامية التي جاءت السنة النبوية لتحقيقها.
التوسع في هذه الندوات التي تكشف جوانب الجمال والكمال لهذا الدين.
العناية باختيار عناوين تفصيلية تتيح للباحث مجالاً للتعمق في البحث للوصول إلى نتائج دقيقة.
شاكراً للأخوة القائمين على هذه الندوة منحي الفرصة للمشاركة في هذه الندوة، راجياً من الله الكريم أن أكون قد وفقت فيما كتبت.
اللهم إني أعوذ بك من جهل القول وخطله، وضلال المسعى وزللـه، وحظ النفس وهواها.
وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سائلا المولى الكريم أن يوفقنا جميعاً لخدمة سنة نبيه، محتسبين الأخر من الله.
فهرس المراجع
الأدب المفرد للإمام البخاري، تخريج محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار البشائر الإسلامية بيروت الطبعة الثانية.
أصول الحوار، نشر الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الثانية سنة1408هـ.
أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، للإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، تحقيق د. محمد بن سعد آل سعود، نشر مركز إحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، الطبعة الأولى سنة1409هـ.
التربية بالحوار مع الشباب، أ.د. سعيد المغامسي، مدار الوطن، الطعبة الأولى.
تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ جمال الدين المزي، تحقيق د. بشار معروف، مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة.
الحوار النبوي مع المسلمين ومع غير المسلمين، تأليف سعيد إسماعيل صيني، نشر مركز الملك عبد العزيز للحوار.
الحوار مع أهل الكتاب أسسه ومناهجه في الكتاب والسنة، د. خالد القاسم، دار المسلم، الطبعة الأولى.
السنن للإمام أبي داود السجستاني، تحقيق عزت عبيد الدعاس، وعادل السيد، نشر دار الحديث، بيروت الطبعة الأولى.
شرح السنة للإمام البغوي، تحقيق زهير الشاويش، وشعيب الأرناؤوط، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية.
شرح صحيح البخاري لأبي الحسن علي بن خلف بن بطال، تحقيق ياسر بن إبراهيم، نشر مكتبة الرشد، الرياض الطبعة الثانية سنة1423هـ.
الصحيح للإمام ابن حبان البُستي، ترتيب ابن بلبان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، نشر دار الرسالة، لبنان، الطعبة الثانية.
الصحيح للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، نشر دار الكتب العلمية، بيروت ظ1 سنة1412هـ.
الصحيح للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار الحديث القاهرة الطبعة الأولى،
قواعد ومبادئ الحوار الفعال، إعداد عبد الله الصقهان، مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني.
الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة للإمام الذهبي، تحقيق محمد عوامة، دار القبلة، جدة، الطبعة الأولى.
الكامل في ضعفاء الرجال للإمام أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، نشر دار الفكر، بيروت الطبعة الثالثة.
لسان العرب لابن منظور، تنسيق علي شيري، نشر دار إحياء التراث، بيروت، الطبعة الثانية عام 1412هـ.
لسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد المرعشلي، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت الطبعة الأولى.
المستدرك على الصحيحين، للحاكم أبي عبد الله النيسابوري، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكب العلمية، بيروت الطبعة الأولى، عام 1411هـ.
المسند للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، طبع دار صادر.

فهرس المحتويات:
المقدمة 1
الفصل الأول: عناية السنة بإبراز القيم الخلقية. 6
المبحث الأول: إعلاء قيمة الجمال في القول 6
المبحث الثاني: المحافظة على الذوق العام. 7
المبحث الثالث: التنوية بخلق الصدق. 10
المبحث الرابع: إبراز خلق الرفق والأناة. 12
المبحث الخامس: إبراز خلق الوسطية والاعتدال. 12
الفصل الثاني: الآداب التي ينبغي للمتحدث أن يتحلى بها. 13
المبحث الأول: الآداب المتعلقة بالكلمة. 13
المبحث الثاني: الآداب المتعلقة بلغة الجسد. 17
المبحث الثالث: اتقان مهارات التخاطب. 18
الفصل الثالث: الآداب المرعية في حق المخاطب: 21
المبحث الأول: حفظ الحق المعنوي للمخاطب. 21
المبحث الثاني: مراعاة الفروق الفردية بين المخاطبين. 26
المبحث الثالث: مراعاة الحال النفسية للمخاطب. 29
الفصل الرابع: الآداب التي ينبغي مراعاتها أثناء المحاورة 32
المبحث الأول: الإخلاص، ووضوح الهدف. 32
المبحث الثاني: العناية بالمقدمات المتفق عليه بين المتحاورين 32
المبحث الثالث: مراعاة حال المحيطين بالمخاطب 33
المبحث الرابع: حسن إدارة الحوار 34
المبحث الخامس: الصفات التي ينبغي أن يكون عليها المحاور 35

بسم الله الرحمن الرحيم
سعادة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
فأتقدم إلى سعادتكم بخطابي مبيناً لكم أني أرغب في الكتابة في موضوع بعنوان:(أدب التخاطب في السنة النبوية).
وه\ذا البحث هو بحث تأصيلي لآداب الحوار التي كان النبي يدعو إليها أو يلتزمها في مخاطبته لأهله، وأصحابه، وسائر الناس.
وسبق لي أن قَّدمت ورقة عمل مختصرة جداً إلى مؤتمر القيم الحضارية في السنة النبوية المنعقد في دولة الإمارات العربية المتحدة بعنوان توجيهات السنة النبوية في أدب التخاطب.
وأثناء جمع المادة العلمية وقفت على قدر وافر من الآداب المتعلقة بأدب الحوار والتخاطب، في السنة المطهرة، مما يُعجب من كثرته، وقلة الاستدلال به.
وكنت أتطلع إلى جمع تلك النصوص، وصياغتها صياغة تبرز ما تضمنته من آداب وقيم، يحتاجها كل مسلم في حواره مع الناس، ولما وصلني خطاب سعادتكم المتضمن الحث والتئشجيع على المئشاركة في الكتابة الموضوعات المتصلة بالحوار
وقد وصلني خطاب من سعادتكم في الحث والتئشجيع على الكتابة في الموضوعات المتعلقة بأدب الحوار.
فآمل من سعادتكم التكرم بتقديم الدعم المخصص له\ذه البحوث.
وتجدون برفقه خطة البحث المقترحة.
ئشاكراً لكم سلفاً جهدكم في دعم البحوث التي تعنى بنئشر ثقافة الحوار، ولاسيما البحوث التأصيلية.

والله يحفظكم ويرعاكم

أخوكم/
د. عبد المحسن بن عبد الله التخيفي
كلية التربية- قسم الثقافة الإسلامية
جامعة الملك سعود

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك