أزمة الميتافيزيقا الأوروبيّة والأنطولوجيا الهايدغريّة

محمد علي الجندي

 

يقول هايدغر في نص هام في “الكينونة والزمان”: “إنه ينبغي تعيين الكائن في كينونته ثم يراد على أساس ذلك طرح السؤال عن الكينونة لأول مرة، فهل ذلك شىء آخر غير الأخذ في الدوران؟ أليس “مفترضا” بعد “سلفاً” من أجل بلورة السؤال، ما كان ينبغي للإجابة عن هذا السؤال أن تمدنا به قبلا؟ إنما الاعتراضات الصورية، مثل حجاج “الدور في البرهان” الذي يساق في كل وقت دون عناء في نطاق البحث في المبادئ، إنما هي، عند تبصر السبل العينية للبحث، عقيمة على الدوام. فمن حيث فهم الأمر المدروس هي لا تبت في أي شىء وتعيق التوغل قدما في حقل البحث. بيد أنه من حيث الأمر الواقع ليس ههنا علي وجه العموم في طرح السؤال المشار إليه أي دور. فإن الكائن يمكن أن يعين في كينونته، من غير أن يستوجب ذلك أن يكون التصور الصريح لمعني الكينونة متوفراً عليه سلفا. فلو لم يكن ذلك كذلك، لما كان يمكن حتي الآن أن تكون ههنا معرفة أنطولوجية، ليس لأحد أن يجحد قيامها في الواقع. إن الكينونة إنما هي علي الحقيقة “مفترضة سلفا” في كل أنطولوجيا إلي الآن، ولكن ليس بوصفها تصورا متوفراً عليه، – ليس بوصفها الشىء الذي بهذه الصفة هو مبحوث عنه. إن “افتراض” الكينونة إنما له طابع إلماح سابق إلي الكينونة، بحيث إنه في تلك اللمحة يصبح الكائن المعطي مفصلاً في كينونته إلي حين. وإن هذا الإلماح الهادي إلي الكينونة إنما يصدر من الفهم الوسطي للكينونة، الذي نحن فيه بعد دوماً متحركون، والذي هو في النهاية ينتمي لقوام ماهية الدازين ذاته. وإن “افتراضا” كهذا لا صلة له بوضع مبدأ غير مبرهن عليه، منه تستخرج بطريقة الاستنباط سلسلة من القضايا [والواقع ان النظر للأمر كذلك من سمات ثنائية الذات/الموضوع التي يفككها هيدجر]. إنه لا يمكن أن يكون في طرح السؤال عن معني الكينونة بعامة “دور في البرهان”، وذلك من قبل أن الأمر لا يتعلق بالإجابة عن السؤال بتأسيس مستنتج، وإنما بتسريح المدي الذي يستكشف عن الأسس”.

بمقتضي ما يقوله هيدجر، لا بد أن نتصور كلا من الفهم Understanding والوجود Being بوصفهما الأمر المتناهي التصادفي العارض الذي لا تقدر “الميتافيزيقا” في حد ذاتها (بما هي مجلي النزعة المثالية الأولي) علي أن تتمثله. إذ يري هيدجر أن الوجود الإنساني المتعين Dasein والعالم لا ينطويان علي كنه جوهري منفصل عن عوارض وجودهما العيني؛ ومن ثم لا يمكن لعملية فهم الجوهر أو الماهية أن تؤسس وجودهما العيني، أي لا يمكن أن نفهمها عبر النهج الفلسفي المعتاد. إن محاولة تأسيس العالم وتصوراتنا عنه من خلال الفعل العقلي التأملي تجد نفسها مشمولة بآخر (غير عقلي) لم يندمج بعد ضمن الحدود التي تتحرك فيها هذه المحاولة؛ مما يدعو هيدجر لإعادة النظر في البديهية التي تدعم أساس العلم الحديث، ألا وهي مبدأ العقل المكتفي بنفسه، وإنه لمبدأ يري أن العقل بمكنته إصدار حكم علي أية ظاهرة.

إن علاقة التضايف بين الموجود الإنساني المتعين Dasein، وعالمه الذي يكونه، لا يمكن تصورها على مثال الوعي الذاتي الذي يواجه الواقع الخارجي الموضوعي مدركا إياه، فالفهم هو “أنا أستطيع” قبل أن يكون “أنا أفكر”. لذا، لا يمكن تصور الوعي الإنساني أمراً “ذهنياً” غير متجسد، مقطوع الصلة بالعالم الفيزيقي. يتعين الموجود الإنساني العيني Dasein تعينا وجوديا بدئيا؛ إنه “وجود/في/العالم”. ويستغرق “الوجود/في/العالم” استغراقا يقظا في المصادر أو المهمات التي يتشكل منها مجموع الأدوات في متناول اليد.

والحق أنه يوجد تماثل ظاهر ببن هذا التصور التأويلي عن العالم والفكرة العامة التي مفادها أن المصطلح في أي فرع بحثي لا يكتسب معناه إلا من خلال علاقته بغيره من المصطلحات الأخري في السلسلة. ومع ذلك، تظل سياقات المعني العلائقي معضلة معرفية. إن “العالم” عند هيدجر أمر حتمي؛ فليس العالم فرضا قبليا صوريا بل أفقا متعاليا. ولذا، تصعب (مثلاً) الإجابة عن سؤال من قبيل “ما الذي يكونه العالم؟”؛ ما دام ينبغي علينا تصور “العالم” أفقا يمكن من خلاله للسؤال “ما الذي يكونه هذا؟” أن ينطوي علي معني أو أي قصد. إن “العالم” مفترض سلفاً في السؤال بوصفه سياق الأداة الكلي الذي من خلاله ينار أي شىء حين وجوده. لذا:” ليس العالم نفسه موجوداً داخل/ال/عالم؛ بل هو محدد الموجودات التي ما دامت “توجد” يجعلها العالم تلاقي نفسها فتعرض نفسها فيه، حين وجودها، بوصفها موجودات تنكشف وتنجلي”. إن “العالم” نفسه (من حيث هو علاقة ب الموجود الإنساني المتعين Dasein تبادلية) لا جوهر له، ولن يمكن الاستدلال عليه. ويدحض جريانه بلا سبب معروف أية ثقة فلسفية في عقلانية الوجود.

لم يكن تحليل هيدجر ل الموجود الإنساني المتعين سوي جزء رئيس من مشروع أشمل؛ ألا وهو إعادة إثارة السؤال المنسي عن “معني الوجود”. وقد كانت الخطوة الأولى (علي طريق الاستفسار عن الوجود نفسه) تحليل الكيفية التي ينفتح بها العالم من خلال انهمامات الموجود الإنساني المتعين قبل أن ينعكس على نفسه؛ أي السماح للأشياء بالظهور بما هي عليه (في وجودها نفسه) عبر نزوعها إلي الانكشاف والتجلي. وبطبيعة الحال يزيح هذا الاستفسار تفسير الوجود تقليدياً من خلال المقولات (النوع، الكم، العلاقة، إلخ) التي طبقت على الموجودات بأسرها [1]. يسعي هيدجر لمحاولة فهم الوجود بوصفه الأمر الموهوب من خلال البنية الزمانية التي يتأصل بها الموجود الإنساني المتعين في العالم. وبهذه الرجعة أو الانعطافة Kehre التي يقوم بها هيدجر في عمله يخسر الموجود الإنساني المتعين موقعه المركزي.

من هنا أنطلقت تأويلية غادامير إذ تقول أن الافتراض المسبق يشكل البعد الأنطولوجي لعملية الفهم، يعني ذلك أن كل تأويل أو تفسير مقصود يحدث علي أساس من فهم الوجود بطريقة سابقة على التأمل من داخل موقف معين يكون مرتبطاً ارتباطا وثيقا بماضي المؤول ومستقبله، فكل فهم إذن يكون مرتبط بالموقف المعين الذي يوجد فيه المؤول، هذا الأخير يكون محكوم بالشرط الأنطولوجي الذي يوجد فيه، أي محكوم بزمأنيته، وبذلك فأن كل إدراك لمعني يكون إدراكاً لا متناهيا من داخل الموقف المتناهي للإنسان. في حين يؤكد لنا بول ريكور أن الحلقة الدورية للفهم تأخذ معني أكثر شمولية وتأثير، حين اعتبر سؤال الكينونة في “الوجود والزمان” يتضمن علاقة دائرية لا تقل أهمية عن تلك العلاقة الدائرية للفهم الذي ذكرها هايدغر، هذه الدائرة في نظر ريكور ليست شيئا اخر سوي دائرة السائل ودائرة الشئ الذي يقع عليه السؤال، حيث “يمثل فهم الكائن نفسه تحديداً للكائن هنا” وهكذا نجد أنفسنا منقادين لنوع من العلاقة الدائرية التي لا تعد حلقة مفرغة، ولقد حاول هيدجر أن يسيطر على هذا الوضع العجيب فقال “ليست الاستدلالية المستديرة هي التي تتضمن قضية المعني والكائن، ولكنها المرجعية الرائعة التي هي استباقية بمقدار ما هي استعادية بخصوص الموضوع المطلوب (الكائن) للسؤال بوصفه طريقة في الوجود للكينونة، هذه الكينونة التي نتمثل فيها نحن الذين نسأل هي في حد ذاتها طريقة في الوجود وهو في ذاته يحدد الموضوع بشكل جوهري، أي امتلاكها من بين أشياء اخري إمكانية طرح الأسئلة”. وعليه سؤال معني الكينونة الذي مثل الهاجس الفكري الذي يؤرق هيدجر يتضمن بالضرورة اعتراف بوجود حلقة هرمينوطيقية أنطولوجية لا يمكن بأي حال تجاهلها.

ومن هذا المنطلق الأنطولوجي الذي يعيد للحلقة التأويلية دورها الأساسي يري غادامير أن الوصف الهيدجري السابق للحلقة الهرمينوطيقية يحدث تحولا هاما، لأن النظريات السابقة علي هيدجر تكتفي كلها بأطر علاقة صورية بحتة بين الكل وأجزائه للتعبير عن نفس المسألة من وجهة نظر ذاتية (كما عند شلايرماخر ودلتاي)، فإننا نصف حلقة التأويل كعلاقة جدلية بين “تكهن” دلالة الكل وتفسيره اللاحق من قبل الأجزاء، فالحلقة التأويلية حسب الرومانسية ليست نتيجة وإنما هي شكل ناقص ولو أنه ضروري. فبعد اجتياز النص في كل الاتجاهات وكل الألفاظ، فإن الحركة الدورية تختفي نهائيا في ضوء الفهم الكامل. تجد نظرية الفهم التأويلي هذه مع شلايرماخر أوجها في فكرة فعل تكهني خالص يكون هو الذات، الذاتية فعلياً. مثل هذه الفكرة حول الفهم التأويلي لا تؤمن حصانة كل ما هو غريب وسري ومتواري في النصوص.

وما يصفه هيدجر هو “نشاط تجسيد الوعي التاريخي”، فما يقتضيه هذا الأخير هو أننا نحترز من ميولاتنا العشوائية وأحكامنا المسبقة قصد إرفاق كل تشكيل للفهم بالوعي التاريخي، إلي درجة إدراك الغيرية التاريخية وتطبيق المناهج التاريخية الممارسة بهذا المعني لا يكتفيان بعرض ما أدرجته (بنفسها) في موضوعها.

وعليه لا ينبغي ألا يتهافت المؤول علي “نصه” بناءاً على الرأي المسبق المهيأ الذي يتشكل ويحيا في ذهنه، بالعكس، عليه أن يناقش بوضوح هذا الرأي بخصوص مصداقيته وصحته، أي بشأن أصوله ومشروعيته، ومنه يمكننا القول أن مهمة الهرمينوطيقا عند غادامير هي التمييز بين الأحكام المسبقة المشروعة وغير المشروعة، لأن الأحكام المسبقة المشروعة النابعة من داخل “الوضع التاريخي للمؤول”، تمهد الطريق للنشاط الهرمينوطيقي، ولا تحطم الموضوعية، وإنما تجعلها ممكنة، وهذا يعيد تكرار ما كان هيدجر يؤكده من أن المهم هو ألا نخرج من الدور الهرمنطيقي للفهم، وإنما أن ندخل إليه من مدخله الصحيح، والدور الهرمينوطيقي الذي يعني أن ما يراد فهمه أو تفسيره ينبغي أن يكون معروفاً سلفا من خلال وعي مسبق، فأن الوعي المسبق هنا لا يعني أن المؤول يفرض مقولاته الخاصة علي ما يراد تفسيره، وإنما يعني أن نقص الوعي المسبق بما يكون موضوعاً للبحث والتساؤل يعوق منذ البداية إمكانية التساؤل ذاتها، وحيث أنه لا مفر من وجود آراء مسبقة فهناك إذن إمكانية الخطأ، وبالتالي ليس هناك رؤية مطلقة، ومن هنا تأتي مهمة النشاط التأويلي الذي يمكن أن يكفل لنا نوعا من المشروعية لهذه الأحكام من خلال عملية الحوار والانفتاح علي رأي الاخر أو “النص”، معناه أننا نربط هذا الرأي بجملة ارائه المسبقة، وأن تؤسس الاراء نوعا من الإمكانيات المتنوعة المتقبلة، لكن في صلب هذه الاراء (الأمر الذي ينتظره القارئ ويجده معقولاً) لا شىء ممكن.

ففهم النص في نظر غادامير يقتضي الاستعداد للتعبير عن شيء ما عبر هذا النص وانطلاقاً منه، إذن، الوعي الذي يتشكل في فن التأويل عليه أن يبدي نوعاً من قابلية التأثير بالنظر إلي غيرية النص، لكن هذه القابلية لا تفترض “الحياد” أو امحاء الذات (انسحاب رأي المؤول) فهي تستلزم المطابقة مع مقاصد النص والكشف عن اراء القارئ وأحكامه المسبقة، ينبغي أن ينتبه القارئ لتحيزه حتي يتمكن النص من الظهور في غيريته والحصول على إمكانية الكشف عن حقيقته المتوارية في مواجهة رأيه المسبق الخاص. ومنه يمكننا القول أن غادامير استطاع جلب مفهوم الحكم المسبق من حقل الدراسات التأويلية الكلاسيكية لميدان فن التأويل المعاصر مع الاحتفاظ بالمنحي الأنطولوجي لهيدجر. يتعذر، وفق هذه الرؤية، مقاربة نصوص التراث بمقاييس الماضي كما حاولت النزعة الموضوعية إدراجه، ظنا منها بأن فهم الماضي لا يتم إلا بالتخلص من أحكامنا وآرائنا الذاتية المسبقة، وذلك قصد الانفتاح علي القيم والمفاهيم الخاصة بذلك الماضي، بيد أن المتمعن في هذه الدعاوى يجد أنها قاتلة لكل ما هو ذاتي، ولا تعدو أن تكون ضربا من الانغلاق وعدم الاستعداد للمخاطرة بأحكامنا المسبقة ووضعها على المحك، أنه يضع الماضي في مقابلنا كشيء لا صلة لنا به تقريباً، أو كشيء لا يهم إلا أهل الدراسات التطبيقية، فالقول بإسقاط الأحكام المسبقة، إنما أنحدر إلينا من فكر الأنوار، الذي كان يري فيه مجرد حكم خاطئ يتأسس حول الحكم بسرعة، والوقاية (إتباع السلطة والعادة)، لذا فلا معني للفرد المؤول عن أحكامه الخاصة في ممارسة التأويل، فهي أكبر من أن ينظر إليها بوصفها مجرد أحكام خاصة به “أنها الحقيقة التاريخية لوجوده”. وأكثر من ذلك، فأن المطلب العام لعصر التنوير في إسقاط الأحكام المسبقة هو نفسه حكم مسبق، والتخلص من هذا المطلب يمهد الطريق أمام فهم مناسب للتناهي الذي يهيمن على إنسانيتنا وعلي وعينا التاريخي بدلاً من تناسيه وإنكاره والتعامل معه بسذاجة عصر الأنوار التي بفعلتها هذه تقع أكثر في سلطان الأحكام المسبقة.

وفقاً لغادامير فإن بواسطة فلسفة هيدجر يمكن لإشكالية الحكم المسبق أن يتم تجديدها وإثارتها وإعطائها وزنهاً كمشكلة، دلتاي لم يعط لهذه المشكلة وزنها، بالعكس فهو الذي أعطانا الوهم بوجود نوعين من العلمية والمنهجية والابستمولوجيا وهما علمية علوم الطبيعة وعلمية العلوم الإنسانية؛ لذلك قال غادامير أن دلتاي لم يتخلص من النظرية التقليدية للمعرفة وتبقي نقطة انطلاقه من الوعي الذاتي، فبالنسبة له الذاتية تظل النقطة المرجعية المطلقة. وتكون سيادة التجربة المعيشة (Erlebnis) (Lived experience) هي سيادة أسبقية primordiality أن أكون. بهذا المعني، فإن الجوهري Fundamental هو الداخلي والباطني Interior/innesein، أي الوعي الذاتي. ومن هنا يكتب غادامير (ضد فكر الأنوار) معلنا أن أحكام الفرد المسبقة Prejudices، أكثر من مجرد أحكامه Judgements تشكل/تمثل Constitute الحقيقة التاريخية لكينونته، ومن ثم فأن إعادة الإعتبار للحكم المسبق وللسلطة والتقاليد ستكون موجهة ضد سيادة الذاتية والسريرة Interiority، أي ضد مقاييس التأملية Criteria of reflection، والهدف المتوخي هو استعادة البعد التاريخي للإنسان مقابل اللحظة التأملية Reflection، ان لم نقل استعادته أنطولوجيا، “فالتاريخ يسبقني ويتقدم علي تأملي Reflection، وأنا أنتمي للتاريخ قبل أن أنتمي لنفسي، لكن دلتاي لم يفهم هذا لأن ثورته تبقي ابستمولوجية ولأن مقياسه التأملي Reflection يطغي علي وعيه التاريخي”. إن إعادة تكوين البعد التاريخي للإنسان تقتضي أكثر بكثير من مجرد إصلاح منهجي وأكثر من مجرد إضفاء شرعية أبستمولوجية علي فكرة “علوم الإنسان” أمام متطلبات “علوم الطبيعة”، وحدها ثورة جذرية تخضع الابستمولوجيا للأنطولوجيا تستطيع أن تظهر المعني الحقيقي لما قبل بنية الفهم (أو لبنية استباق الفهم) Vorstruktur des Verstehens (The Forestructure) (or structure of anticipation) التي تشرط كل إعادة إعتبار للحكم المسبق. وفي هذا السياق يقول شادي كسحو:”ضدّ التّعالي المتعب للذّات الحديثة إذن، دفعت الهرمنيوطيقا بسؤال الفهم إلى الواجهة، معلنةً بأن الذّات ليست هي المقام الوحيد للسّؤال عن الوجود، وبأن المنهج ليس هو المصدر الوحيد لتعيين كل الحقائق في العالم، فالفهم الهرمنيوطيقي ـ كما يرى غادامر- ليس فهماً أداتياً يحدد المقولات والأطر ثم يبحث عمّا يملؤها بالموضوعات والأشياء، بل هو سؤال أكثر جذريّة من سابقه؛ إنّه يتعلق بالوجود أولاً وبالذّات، لذلك فما تروم الهرمنيوطيقا بحثه هو إقامة هرمنيوطيقا للوجود تتجاوز الوعي الذّاتي المنهجيself-methodical consciousness وتعلو عليه، فمهمّة الهرمنيوطيقا هي انطولوجية أكثر منها منهجية، أي أنّها، “لا تطرح سؤالاً عمّ نفعله أو ما يجب أن نفعله، ولكن عمّ يحدث، فيما وراء إرادتنا وفعلنا. إن التّناول المنهجي الذي تفرضه نظريّة المعرفة الكلاسيكيّة يقوم على اعتبار الأشياء معطاة بشكل نهائي، وعلى أنّ الذّات المتعالية هي مصدر الوعي المباشر بهذه الأشياء. من خلال هذه التّرسيمات السّالبة للذات ــ بما هي بيت كل حقيقة ممكنة “ديكارت” وبما هي المسار الذي يمكن من خلاله استقبال كل صور العالم وظواهره “هوسرل” ــ برزت الهرمنيوطيقا وبرزت مهمة الهرمنيوطيقا، فهذه “الذاتانية” لم تقدم بديلاً فلسفياً مقبولاً لعملية الفهم، ففرغت الذات من محتواها، وبدلاً من أن تتحول هذه الذات إلى موضوع للمعرفة ذاتها، أصبحت في موقع يخولها أن تجعل من العالم كله ميداناً لها، لاسيما أنّها فرضت تفوّقاً زائفاً للذات على الموضوع، وبهذا أنتجت نظريّة المعرفة وهماً باكتمال صورة الموضوع في الوعي المدرك وكذلك وهماً باكتمال الذات، غير أن السؤال المنسي والحال كذلك هو سؤال معنى الكينونة”.

إذ لا وجود عند غادامير لتأويل بمعزل عن الفروض المسبقة، فهي أساس قدرتنا على أن نفهم، وهي أساس تشكيل وعينا التأويلي، وأن أهم “نتائج فن التأويل الفلسفي هي أن الفهم لا يمكنه أن يتحقق إلا إذا استعمل الفرد الذي يريد أن يفهم، افتراضاته المسبقة الخاصة”. وهذه الفروض من التراث الذي نحيا فيه، فهذا التراث أو التقاليد ليست دخيلة علي تفكيرنا ولا تعاكسنا ولا تمثل مجرد موضوع من موضوعات، أنها نسيج علاقات حية أو أفق نسبح فيه، التقاليد إذن لا علاقة لها بمناهج معينة ذات طابع موضوعي علمي ولا يمكن أن تكون كذلك، اننا نحتاج لفكر يعالج ما لا يستقيم له تصور موضوعي معزول، غير أن هذا لا يعني أننا نستمد كل فروضنا من التراث (لعل مكمن التراث بالنسبة لغادامير يتمثل في القضايا التي تطرحها الأنوار، لذلك نجد مقاربته التأويلية تتجه دائماً بالنقد لها، وهذه المقاربة يدعوها غادامير بالتراثوية “Traditionalism” التي تتخذ موقف طرح السؤال الذي يجمع طرفي النقيض بين العقل والتراث، في محاولة جبارة لإحياء الفكر التنويري، بمعني تحديد امكانية الاستعادة الواعية للماضي وخلق تراثات جديدة، إذ أن التراث عند غادامير “يتضمن دائما عنصرا للحرية وللتاريخ نفسه، فحتي التراث النقي والأكثر أصالة لا يدوم بسبب العطالة التي تطال كل شيء، فالتراث في حاجة إلي إثبات والتقبل والرعاية، أن التراث أساسا حفظ، ويكون فاعلاً في التغيير التاريخي، بيد أن الحفظ فعل من أفعال العقل، رغم انه فعل غير واضح، ولهذا السبب يبدو الابتكار والتخطيط نتيجة للعقل فقط، وحتي عندما تتغير الحياة بعنف كما في أوقات الثورات، فان الجزء الكبير من الماضي يحافظ عليه، وينضم للجديد لخلق قيمة جديدة، وهذا هو السبب في أن نقد التنوير للتراث، وإعادة الرومانسية له، يتخلفان عن وجودهما التاريخي الحقيقي”)، فيجب ألا ننسي أن الفهم يقوم علي فاعلية الحوار المتبادل بين أفق الذات في المقام التأويلي الراهن مع الأشياء التي يواجهها، فالأفق الذاتي ليس شيئا خاويا شفافاً يملؤه الموقف الحاضر، ولا هو أفق متصل بجهة بعينها مما يجعله مغلق على نفسه، بل الأمر خلاف ذلك، فالأفق شيء ينتقل معنا ويتحول كل حين، كما أن أفق الماضي، حيث يحيا كل كائن، هو حاضر معنا في شكل تراث مرسل إلينا وهو دوماً في حالة حركة، وهدف إقامة وفتح حوار مع هذا الأفق هو مجاوزة (وليس الهروب من) ذواتنا المتناهية والمتمركزة تاريخياً، أي تجاوز تناهي الفهم الإنساني الذي يعي (أو الذي ينبغي أن يعي) ضرورة التخلي عن التطلع لليقين والكمال في التفسير التاريخي، والذي نجده في الفلسفات التي تريد تقديم تفسير كلي نهائي مطلق يستوعب كل شيء، ومن ثم تأمين الفهم الإنساني ضد التورط في نزعة نسبية ساذجة. بالتالي فإن أية استعادة للتراث، سواءا أكان تراثا تاريخياً أو أدبيا أو فنيا، يجب أن تكون تأويلية، تأخذ بعين الاعتبار ذلك الطابع الشمولي للتجربة الإنسانية عبر الزمن، والتي تأخذ معني موحد، حتي وان اختلفت الرؤي والدلالات بالنظر للمرحلة التاريخية التي نقف فيها، وعليه يمكن نعت المقترب التأويلي الغاداميري بأنه مقترب يسعي لإستعادة مشروع الإنسان (شبيه بإنسان فكر الأنوار) الذي حاولت بعض الفلسفات الرائجة في عصره طمسه أو الإعلان عن موته.

غير أن القائلين بهذا المنطق أغفلوا أهمية الكينونة داخل التاريخ، حيث تكون حياة الكائن ضمن سياق المجتمع الذي ينوجد فيه، أو الثقافة المنحدر منها، فالإنسان كائن تاريخي يكون داخله ويصارع من أجل أن يدركه، ومنه يكمن جانب التفرد في الإنسان، الذي يبقي عليه، تثبيتا لكينونته التاريخية، أن يعي ذاته وعيا تاريخيا، أو ما يسميه غادامير، ب”نشاط التاريخ”، التاريخ يبقي دائماً قابلا لأن يؤول ويفسر وفق الانتماء الزماني الذي نقف فيه ووفق اللغة التي يخاطبنا بها، وعليه تبقي الحقيقة في ترحال دائم عبر العصور دون أن ترتبط بهذا أو ذاك، فالتأويل ارتحال عبر الممكنات التفسيرية بغير التزام مسبق إلا بنزوع الاستطلاع وإرادة الفهم، فالتأويل لا يضع نفسه خارج السؤال الذي يطرحه بنفسه، وهكذا فالهرمينوطيقا أعفت نفسها، بصورة عامة، من أعباء البرهنة، فهي ليست لديها من الحقائق النهائية التي تفسرها علي برهنتها، ذلك أن التأويل جاء يأسا من إستراتيجية مكرسة بكل طقوسها للنطق بالحقيقة أو الإدعاء بها.

وفي نطاق نقاشنا الحالي للهرمينوطيقا ومشكلة الفهم والتفسير وبالعودة لهيدجر، نجد أن أول شرط جوهري للترجمة حسب هيدجر هو “أن كل ترجمة إنما هي في ذاتها ضرب من التفسير (Auslegung)؛ فالتفسير والترجمة هما من حيث نواتهما الجوهرية صنوان”؛ فلا يمكن لأي أثر أن يترجم إلا بقدر ما يفسر، أي بقدر ما يمتلك فهما ضمن تفسير ما في أفق لغة ما. وطبقا للفقرة 32 من الكينونة والزمان، المتعلقة بالعلاقة بين “الفهم والتفسير”، فإن التفسير من شأنه أن يتأسس ضمن ثالوث تأويلي لا مناص من تملكه هو على التوالي “die vorhabe” و “die vorsicht” و “der vorgiff” “المكسب السابق”، “الرؤية السابقة”، “التصور السابق”، وهي بني معني سابقة إلي الفهم في كل مرة. نحن نلتقي بالنص الذي نترجمه ضمن “فهم سابق” علي هذا القدر أو ذاك من الإبهام والاتساع، هو عندنا بمقام “المكسب السابق” الذي هو معطي سلفاً ولا يمكننا تحاشيه. ذلك يعني، كما يشير جان غرايش (صاحب أهم تفسير لكتاب 1927 بالفرنسية)، أنه لا وجود أبدا للدرجة الصفر من الفهم، بل كل تفسير يستند  إلي فهم مكتسب سلفاً. لكن تلقي المكسب السابق لا يتم بشكل اعتباطي، بل تحت هدي “زاوية نظر” هي “ما – علي – جهته (Woraufhin) يجب أن يفسر ما تم فهمه – من – قبل”، وهذا النحو من وجهة النظر هو “الرؤية السابقة” بوصفها ما من شأنه أن يحمل “المكسب السابق” إلي نطاق التفسير، كأن يجعلنا نفهم حدثا ما “من حيث” (als) ما يعنيه بالنسبة إلينا. إن الرؤية السابقة هي ما يعين “الوجهة” التي ينبغي أن يأخذها التفسير. لكن كل تفسير إنما يجد نفسه مضطراً إلي تكلم “لغة استباقية” من خلال اختراع مفاهيم مصاغة بقدر ما، وتلك اللغة المفهومية الاستباقية هي “التصور المسبق” الذي يرتسمه كل تفسير من أجل أن يصاحب الفهم نحو مقصده، حتي ولو أجبر في وقت لاحق علي تعديل مفاهيمه. وحسب عبارة طريفة، فإن “التصور المسبق” هو حسب غرايش ضرب من “تسبقة معني” (une avance de sens) بدونها لا يكون فهم. وبعامة، لا يفسر أي نص إلا في ضوء “الوضعية التأويلية” (المكسب السابق، الرؤية السابقة، التصور السابق) التي يستند إليها. ولكن أين يجدر بنا أن نبحث عن جذور هذا “السابق” (-das vor) إلي الفهم والرؤية والتصور؟ يكمن ذلك “السابق” حسب هيدجر في ماهية الإنسان نفسها من حيث هو “دازين” (Da-sein) أي قدرة أصلية علي “كينونة الهناك” الذي بحوزته من حيث هو الكائن الذي يتعلق الأمر في كينونته بمعني الكينونة نفسها. “الهناك” هو نمط “انفتاح” [2] كينونة ذاتنا من حيث هي كينونة – في – العالم. إن “في” هذه لا تشير إلي ظرف مكان، بل هي نمط من “المقام”. العالم ضرب من المقام ضمن أفق فهم شديد التوقيع.

ولتوضيح أفضل لمعني الفهم عند هايدغر، يجب أنت نتطرق لتحليله للأداة والعالم، ان العالم عند هايدغر لا يعني البيئة التي نعيش فيها بالمعني الموضوعي للبيئة، أي العالم كما يبدو للنظرة العلمية، بل هو أقرب إلي ما يمكن أن نسميه عالمنا الشخصي. فالعالم عند هايدغر ليس جملة جميع الموجودات بل تلك الجملة من الموجودات التي يجد الكائن الإنساني نفسه دائماً مغمورا بها منغمسا فيها من الأصل ومحاطا بظاهرها كما ينكشف خلال فهم مسبق دائماً وشامل ومحيط. تصور العالم كشئ منفصل عن النفس يسلم بذلك الانفصال عينه بين الذات/الموضوع الذي ينشأ هو نفسه داخل السياق العلائقي المسمي بالعالم. العالم سابق بين أي انفصال بين النفس والعالم بالمعني الموضوعي؛ إنه سابق علي كل “موضوعية”، كل تنظير، وهو من ثم سابق أيضاً علي الذاتية مادام كل من الموضوعية والذاتية متصورا داخل مخطط الذات/الموضوع. من المحال وصف العالم بتعداد الكائنات بداخله؛ فمن شأن هذه العملية أن تجعل العالم يفلت منا، ذلك أن العالم هو بالضبط ذلك الذي نفترضه مسبقا في كل فعل من أفعال معرفة الكائنات. فكل كيان (كائن) في العالم إنما يفهم بوصفه كيانا في ضوء “عالم”، عالم هو دائما هناك بالفعل، هناك من الأصل. والكيانات التي تشكل العالم المادي للإنسان ليست عالماً بحد ذاتها بل في عالم. وحده الإنسان من لديه عالم، والعالم شىء شامل محيط وقريب لصيق بالإنسان في الوقت نفسه بحيث يند عن الملاحظة. إنه غير مرئي بحد ذاته غير أن المرء لا يمكن أن يري أي شئ حق رؤيته بدونه، فالعالم حاضر على الدوام؛ إنه محيط خفي يسلم به المرء ويفترضه مسبقاً في كل أمر، غير أنه “شفاف” يفلت من كل محاولة لفهمه كموضوع أو شئ. هكذا يكون مجال، عالم، جديد قد انفتح للاستكشاف. إن مقاربته لن تكون سهلة؛ فلا الوصف الإمبيريقي للكيانات بداخله ولا حتي التفسير الأنطولوجي لوجودها الفردي بحد ذاته سوف يقابل ظاهرة العالم. العالم شئ يحس بجانب الكائنات التي تظهر في العالم، غير أن الفهم يجب أن يكون خلال العالم؛ فالعالم أساس كل فهم، العالم والفهم أجزاء لا انفصام لها من البنية الأنطولوجية لوجود الدازين. ويناظر شفافية العالم شفافية أشياء معينة في العالم يرتبط بها وجود المرء في حياته اليومية، فالأدوات التي يستعملها كل يوم وحركات جسمه التي يؤديها دون تفكير، كل هذه تغدو شفافة لا يلتفت إليها المرء ولا يلحظها إلا إذا حدث تصدع ما أو تعطل. عند نقطة التعطل يمكننا أن نلاحظ حقيقة هامة: هي أن “معني” هذه الأشياء يكمن في علاقتها ببناء كلي من المعاني والمقاصد المتعالقة. إبان التعطل، وللحظة وجيزة فقط، يضاء معني الأشياء ويبزغ من العالم بشكل مباشر. الفرق كبير بين مثل هذا الفهم لشئ من الأشياء وبين الفهم الذهني المجرد، ويضرب هايدغر مثلاً بالمطرقة، فالمطرقة الموجودة لا تتحلي بأكثر من الحضور هي شىء يمكن وزنه وتمكن كتابة بيان بخصائصه وتمكن مقارنته بغيره من المطارق؛ إلا أن المطرقة المكسورة هي التي تكشف للتو واللحظة ماذا تكونه المطرقة. وإن هذه الخبرة لتوميء لمبدأ هرمنيوطيقي: هو أن وجود شىء من الأشياء ينكشف لا للنظرة التحليلية التأملية بل في اللحظة التي يميط فيها اللثام عن نفسه فجأة في السياق الوظيفي الكامل للعالم. وبنفس الطريقة فإن طبيعة الفهم يمكن إدراكها علي أفضل نحو لا من خلال بيان تحليلي بمواصفاته ولا في فورة أدائه الوظيفي الصحيح، بل حين يتعطل ويصطدم بحائط منيع، ربما عند افتقاد الشئ يتعين على الفهم أن يحوزه.  ويضرب مثالا آخر محللا لأداة معينة وهي العلامة (علامات المرور، لافتات الطرق، الأعلام ..إلخ)، وأهم ما يميز العلامة توضيحها للنسق الكلي للأداة تماماً. فعلامة المرور مثلاً توضح النسق الكلي الذي يربط سلوك المارة وراكبي السيارات وعساكر المرور ..إلخ، فإذا كانت الأداة العادية (القلم مثلاً) غير لافتة للأنظار، نتيجة انصراف الكاتب مثلاً إلي الغرض الذي يستخدم القلم من أجله لا لطبيعته كأداة، فإن “أداة العلامة” علي العكس تشد الإنتباه لطابع الإحالة الذي توضحه تماماً. إن العلامات المحددة تحيل إلي “العالم المحيط” الذي تنتمي إليه وتيسر الانفتاح عليه. وأهم خاصية تحدد الأداة هي صلاحيتها أو قابليتها للاستخدام. والعلامة تجسد هذا الاستخدام بتوضيح السياق (أو النسق الكلي المترابط) الذي توجد فيه العلامة، بل إنها لتزيد علي هذا فتوضح العالم المحيط الذي يوجد به النسق أو السياق الأداتي المترابط. حين نحدد الأداة عن طريق الإحالة فإنما نريد بهذا أن نعين الحالة التي استقرت عليها، الغرض الذي جعلت له. ونحن لا ننظر إلي “الموجود في متناول اليد” إلا من جهة هذه الحالة التي جعل لها ودخلت في صميم تركيبه. فليست هناك أداة قائمة بمفردها مستقلة بذاتها [3]؛ إنها موجودة علي الدوام في إطار نسق أو سياق أداتي كلي، ويكفي أن ننظر للأداة في شمولها لنعرف لأي شىء جعلت، وعلي أي وضع استقرت (مثال ذلك: الآلة_الورشة)، وهذا بدوره يحيلنا إلي الآنية، لأن حال الأداة يعبر عما تريده لها الآنية أو تريد بها؛ أي أن الغرض الذي جعلت له الأداة أصلاً هو إرادة الآنية بها. أشرنا آنفا إلي أن افتقاد الشئ يوقعه في الفهم هذه الظاهرة، ظاهرة العطل التي تضيء لحظيا وجود الأداة بما هي أداة، تشير كما شهدنا الآن لغموض “العالم” الذي نعيش فيه وتخفيه. هذا العالم أكثر من مجرد مجال العمليات العقلية الإدراكية قبل الشعورية؛ إنه المجال الذي نصادف فيه المقاومات والممكنات الحقيقية في بنية الوجود فيقوما بتشكيل فهمنا، وهو المجال الذي تتأصل فيه زمانية الوجود وتاريخيته، والمكان الذي يترجم فيه الوجود نفسه إلي معني وفهم وتفسير، إنه باختصار مجال عملية التأويل، العملية التي يتحول فيها الوجود لموضوع لغوي. وكما ذكرنا فالفهم يعمل في نسيج من العلاقات، وقد نحت هايدغر مصطلح “معني” (أو بالأحري التحلي بالمعني) (bedutsamkeit) meaningfulness كاسم للأساس الأنطولوجي اللازم لفهم هذا النسيج من العلاقات. فالمعني، بما هو كذلك، يقدم الإمكان الأنطولوجي بأن تحتمل الكلمات دلالة معينة، وبذلك يقدم الأساس الذي تقوم علي اللغة. النقطة المطروحة هنا هي أن المعني شىٔ أعمق من النسق المنطقي للغة [4]. إنه قائم علي شئ سابق علي اللغة ومطمور في العالم_ذلك هو الكل العلائقي. فمهما تكن كثرة الكلمات التي تشكل المعني أو تصوغه فإن الكلمات تشير لما يتجاوز نسقها الخاص، لمعني كامن أصلاً في الكل العلائقي للعالم. المعني إذن ليس شيئاً يمنحه شخص ما لموضوع ما. بل هو ما يمنحه الموضوع للشخص من خلال إمداده بالإمكان الأنطولوجي للكلمات واللغة. يجب النظر للفهم كشئ مدمج في هذا السياق وإلي التأويل علي أنه، ببساطة، إظهار الفهم والتصريح به. التأويل إذن ليس مسألة إلصاق قيمة بموضوع عارٍ، لأن ما نواجه ينشأ كشئ نراه أصلاً في علاقة معينة. وحتى في عملية الفهم فإن الأشياء في العالم ينظر إليها “على أنها” هذا الشئ أو ذاك، وما التأويل سوي التصريح بتعبيرة “على أنها” هذه. إن أساس الفهم سابق علي كل عبارة تتحدث عن موضوع. يعبر هايدغر عن ذلك بقوله “كل رؤية بسيطة قبل-حملية (سابقة علي أي إسناد) pre predicative للعالم المحجوب لما هو في “متناول اليد” هي بحد ذاتها رؤية فاهمة مؤولة من الأصل”. عندما يصبح الفهم صريحاً كتأويل، كلغة، فإن ثمة عاملاً إضافياً خارجاً عن الذات يعمل عمله ويمارس تأثيره؛ ذلك أن “اللغة تضمر داخلها منذ البداية منحي من الفكر كاملاً مكتملا”، وتنطوي علي “طريقة في النظر للأشياء تامة التكوين مكتملة المعالم”. الفهم والمعني كليهما أساس اللغة والتأويل. وفي أعماله المتأخرة يؤكد هايدغر أكثر تلك الصلة بين اللغة والوجود، حتي ليصبح الوجود ذاته لغوياً، في كتابه “مدخل إلي الميتافيزيقا” يقول “الكلمات واللغة ليست لفائف تعبأ بها الأشياء لكي يتبادلها أولئك الذي يكتبون أو يتحدثون. إنما في الكلمات واللغة تدخل الأشياء للوجود للمرة الأولي وتنوجد وتكون”. هذا هو المعني الذي ينبغي أن نفهم عليه قول هايدغر “اللغة بيت الوجود”. هكذا يتبين أن للفهم “بنية مسبقة” Pre-Structure معينة تفعل فعلها في كل تأويل. ويتجلي هذا بوضوح في تحليل هايدغر للبني المسبقة الثلاث للفهم. محاولة التأويل بلا تحيز أو فرض مسبق محاولة عابثة لأنها تمضي ضد الطريقة التي يتم بها الفهم، إن ما يظهر من “الشئ” أو “الموضوع” Object هو ما يسمح له المرء أن يظهر، وهو أمر يتوقف على فروضه المسبقة ومنظومته اللغوية. ومن السذاجة افتراض أن ما هو “هناك حقا” أمر “واضح بذاته”، بل إن تعريف ما نفترض وضوحه الذاتي شئ يقوم علي حشد غير مرئي من الفروض المسبقة، “التأويل ليس علي الإطلاق فهما بلا فروض مسبقة لشئ ما معطي مقدماً”. في مقاربة نص نكون قد سلمنا مسبقاً بأنه صنفا معيناً من النصوص، صنف غنائي مثلاً؛ ونكون قد هيأنا نفسنا في الوضع الذي نراه ملائماً لمقاربة مثل هذا النص، إن لقائنا بالعمل ليس قائماً في سياق ما خارج الزمان والمكان وخارج أفقنا الخاص من الخبرات والاهتمامات، هناك مثلاً سبب لإلتفاتنا لهذا النص دون غيره، إن مقاربتنا للنص محفوفة بالتساؤلات والريب وليست انفتاحاً محضا قائماً في الفراغ. يجب تذكر أن البنية المسبقة للفهم ليست صفة تخص الوعي في مواجهة عالم معطي من الأصل؛ طريقة النظر هذه تنتمي للنموذج الثنائي في التأويل (الذات/الموضوع)، بل إن البنية المسبقة للفهم تقوم في سياق العالم، ذلك العالم الشامل للذات والموضوع بداءة. وصف هايدغر للفهم والتأويل يضعهما في موضع سابق علي قسمة الذات والموضوع، فهو يشرح كيف تظهر الأشياء ذاتها وتتكشف من خلال المعني والفهم والتأويل؛ وهو يشرح ما يمكن تسميته بالبناء الأنطولوجي للفهم. يترتب علي ذلك أن الهرمنيوطيقا بوصفها نظرية الفهم هي في حقيقة الأمر نظرية في التكشف الأنطولوجي. ومادام الوجود الإنساني هو نفسه عملية تكشف أنطولوجي فهو نفسه فإن هايدغر يأبي علينا أن ننظر لمشكلة التأويل بمعزل عن الوجود الإنساني. الهرمنيوطيقا عنده نظرية أساسية في كيف يبزغ الفهم في الوجود الإنساني. وإن تحليله ليربط بين الهرمنيوطيقا والأنطولوجيا الوجودية، وبين الهرمنيوطيقا والفينومينولوجيا، ويرمي لتأسيس الهرمنيوطيقا لا علي الذاتية بل علي “وقائعية” العالم و”تاريخية” الفهم. ثمة نتيجة اخري لما نحن بصدده تتجلي في تناول هايدغر للعبارات التقريرية المنطقية وبالتالي للمنطق نفسه. العبارة (Aussage) Statement عنده ليست شكلا أساسياً للتفسير، وإنما هي ترتكز علي عمليات فهم وتأويل أكثر اساسية قائمة في “الفهم المسبق” وبدون هذه العمليات فإن العبارات لن يكون لها معني. يقدم هايدغر مثالا “المطرقة (تكون) ثقيلة” ويقول إنه في العبارة نفسها ثمة طريقة مرسومة سلفا تعمل عملها_ تلك هي الطريقة المنطقية. فمن قبل أي تأويل أو تحليل ظاهر فإن الموقف قد تم تشييده في حدود منطقية ليلائم بنية عبارة. لقد تم بالفعل تأويل المطرقة على أنها شىء ذو خصائص (الثقل في حالتنا هذه). إن بناء جملة العبارة، بما فيها من فاعل Subject، ورابطة Copulative، ونعت إسنادي Predicate adjective، قد وضعت المطرقة بالفعل قبالة المرء على أنها موضوع Object، علي أنها شىء معين يمتلك خصائص. غير أن العمليات الأساسية لتأويل العالم لا تقوم في تقريرات منطقية وعبارات نظرية. فالكلمات غالبا تكون غائبة، كما هو الحال عندما يجرب المرء مطرقة ثم يتركها جانباً دون كلام؛ فهذا فعل تأويل ولكنه ليس عبارة. يقول هايدغر إن المطرقة في الأصل أداة “في متناول اليد”، وعندما تصبح موضوعاً لعبارة فإن تشييد العبارة نفسه يحمل معه تحولا في الحالة الأصلية، تحولا من “بالمطرقة” إلي “عن المطرقة”، من الاندماج والاستعمال إلي الإسناد والإشارة، وهكذا يبرز الحضور الشيئي وتختفي الحقيقة والماهية. إبراز المطرقة كشئ هو في نفس الوقت إخفاء لها كأداة، فنحن في السياق الوجودي الأصلي نقارب المطرقة لا بوصفها موضوعاً بل بوصفها أداة، فتختفي “المطرقة-الشئ” في طي وظيفة “المطرقة-الأداة”. ذلك هو المعني الهرمنيوطيقي الوجودي للمطرقة. أما عندما نعزل المطرقة عن وظيفتها، عن السياق العلائقي الكلي المعاش، هنالك نكون قد انتقلنا من موقف الفهم المسبق لموقف الإشارة الموضوعية_نكون قد نفينا المطرقة من عالم المعني ونطاق “تناول اليد” ووضعنا ظاهرة المطرقة أمامنا كمجرد شئ ننظر إليه ونتملاه [5]. يدعونا هايدغر للتمسك باللحظة الوجودية الهرمنيوطيقية وعدم التخلي عنها لمصلحة التنظير الخالص والأحكام المحضة الراكدة عند المستوي الضحل للوقائع الحاضرة الموضوعية، تهيب بنا هذه اللحظة أن ندرك ونميز أن جميع العبارات في حقيقة الأمر مشتقة من، ومتجذرة في، المستوي الأكثر بداءة للتأويل؛ وأن العبارات لا يمكن أن تحمل معني بمعزل عن جذورها في الوجود. ولعلنا ندرك أهمية هذا التمييز إذا نظرنا للطريقة التي تعالج بها اللغة اليوم في “علوم” اللغة. فهناك قصور في جميع تعريفات اللغة التي تبقي عند مستوي العبارات والمنطق ولا تتجاوزه، أو التي تنظر للغة علي أنها مجرد تناول واع للعبارات والأفكار. ذلك أن الأساس الحقيقي للغة ظاهرة الكلام-النطق، حيث يجلب شئ ما للنور. هذه هي الوظيفة الهرمنيوطيقية للغة. وحين يبدأ المرء من الكلام يكون قد عاد للحدث الذي تقوم فيه الكلمة بوظيفة الكلمة، يكون قد عاد للسياق الحي للغة. يقول جيرهارد إيبلنج مرددا كلام هايدغر “إن للكلمة نفسها وظيفة هرمنيوطيقية”. والحق أن الوظيفة الهرمنيوطيقية الأولية للغة تأخذ موقعاً مركزياً في فكر هايدغر المتأخر وفي التأويل الثيولوجي الجديد. تعني هذه النظرة إلي اللغة أن الفهم (علي حد تعبير إيبلنج) ليس فهما للغة، بل فهما من خلال اللغة؛ وهي نظرة ذات أهمية ثيولوجية هائلة لأنها تلفت انتباهنا مرة ثانية للكلام المنطوق وتؤكد على وظيفة النطق. اللغة بوصفها نطقا لا تعود حشدا موضوعيا من الكلمات التي يتناولها المرء على أنها أشياء، بل تأخذ مكانها في عالم ما هو “في متناول اليد”. وبوسع اللغة، بطبيعة الحال، أن تنتقل للنطاق الموضوعي وتصبح مجرد شئ ماثل أمام المرء، إلا أن اللغة من الوجهة الجوهرية شئ يجده الإنسان “في متناول يده”، شفافاً، سياقيا. علي أن اللغة بوصفها كلاماً منطوقا ليست تعبيراً عن “واقع داخلي” ما، ولا ينبغي أخذها هذا المأخذ. بل هي موقف يأتي للعلن في كلمات. حتي الحديث الشعري ليس نقلا لواقع داخلي محض بل مشاركة في عالم. وهو بوصفه كشفا لا للمتحدث بل للوجود في العالم فهو ليس ظاهرة ذاتية ولا موضوعية؛ بل هو الاثنان معاً؛ ذلك أن العالم سابق عليهما ومحيط بهما.

صارت الهرمنيوطيقا عند هايدغر طريقة وجود وتخطت الحدود التي فرضها عليها دلتاي حين تصورها علي أنها الشكل التاريخي للفهم كمقابل للشكل العلمي، لقد أعلن هايدغر أن كل فهم زماني، قصدي، تاريخي، وأن الفهم ليس عملية عقلية بل عملية وجودية، ليس دراسة عمليات شعورية ولا شعورية بل هو انكشاف الحقيقة للإنسان وانبلاجها وتجليها. لقد كان المرء سابقاً يفترض ببساطة تعريفا مسبقاً لما هو حق وواقع ثم يتساءل كيف أتت عمليات الذهن بهذا الواقع إلي النور؛ فجاء هايدغر ليسبر الفهم إلي عمق أبعد ويشير لفعل تأسيس الواقع، كشف الواقع، ذلك الفعل الذي صنع التعريف المسبق وحققه. من هموم هايدغر المتأخرة محاولة العودة لماوراء هذا الحدث (تأسيس الواقع) الذي يقوم عليه اليوم الوجود نفسه ويصاغ ويتجسد. في “الوجود والزمان” ألمح هيدجر إلي اتجاه نقده اللاحق لفكر “الحضور”؛ وذلك في شرحه للطبيعة الاشتقاقية للعبارات إذ تنزع إلي عرض الأشياء بطريقة لا تهدف إلا لجعلها محط الأنظار لا أكثر، ووضح كيف أن تصور الشئ داخل البنية المسبقة للفهم كان يميل علي نحو خفي للخضوع لمتطلبات الفكر المنطقي والتصوري؛ وكيف أن المطرقة مثلاً انتزعت من سياقها الحي ووضعت في العالم التجريدي للتفكير الحضوري، ويبين لاحقاً كيف أنتهي الفكر الغربي إلي أن يعرف التفكير والوجود والحقيقة في حدود “حضورية” صميمية. مفهوم الحقيقة كتطابق Correspondence يطغي على تصورها الدينامي كانكشاف أو لاتحجب، لتصبح الحقيقة هي الرؤية الصحيحة ويصبح التفكير مسألة وضع فكرة أمام عين العقل، أي يصبح التفكير التناول الصحيح للأفكار، بهذه النظرة للحقيقة وللتفكير أعد المسرح لتطور كل الميتافيزيقا الغربية، لمقاربة الحياة مقاربة نظرية-أيديولوجية، في ضوء وحدود الأفكار، وبخضوع كل شئ لتصور الأفكار وبخاصة فكرة “العقل”، فقد أسدل النسيان علي المفهوم المبكر للحقيقة بوصفها تكشفا أو “لاتحجب” أليثيا [6]، ولم يعد الإنسان الغربي يحس بالوجود كشئ متدفق أبدا ما ينفك ينبثق وينسرب من قبضته، بل يحسه علي هيئة حضور سكوني لفكرة ما، وأصبح “الصدق” Truth صحة إدراك أو صحة عبارة، يعني ذلك أن التفكير الهادف للحقيقة قد تأسس لا علي الوجود بل علي إدراك فكرة؛ والوجود تم تصوره لا كخبرة حية بل كفكرة، كحضور دائم لازماني. هنا نمت الميتافيزيقا واللاهوت الغربي، وفي محاضرة هيدجر غير المنشورة عن “أوغسطين والأفلاطونية الجديدة” عام ١٩٢١ تتبع الصراع الواضح في «الاعترافات» الكتاب العاشر، بين المسيحية النابعة من الخبرة المعاشة والتي تتحقق لا في «معرفة» الله بل «الحياة في الله»، وبين المسيحية المغتبطة بالله بوصفه الخير الأسمى (فكرة Fruitio Dei) وهذا التصور الأخير الأكثر سكونية وحضورية للوجود والخبرة بالله يعود بشكل مباشر للأفلاطونية الجديدة، وحين تُخْتَزَل الخبرة بالله إلى غبطة وسعادة به بوصفه «السلام» الذي ينهي حيرة القلب ويُسكن اضطرابه فإنه يخرج بذلك من تدفق الحياة التاريخية الوقائعية وتخمد حيويته كإلهٍ للخبرة المعاشة، يخرج من عالم الحياة والزمان والمتناول، يصبح مجرد حضورٍ للتأمل والغبطة، يصبح وجودًا أزليًّا خارج الزمان والمكان والتاريخ. وفي محاضرته “تأسيس الصورة الحديثة عن العالم من خلال الميتافيزيقا” عام ١٩٣٨ يتعقب تأثير هذا التناول العام للحقيقة والتفكير حين اتحد بالنظرة الديكارتية، ذلك أنه مع ديكارت اتخذ التفكير الغربي منعطفًا فاصلًا آخر [7]، فالحقيقة عند ديكارت هي أكثر من مجرد التوافق بين العارف والمعروف، إنها “اليقين العقلي للذات بهذا التوافق” ترتب على ذلك أن الذات الإنسانية صارت النقطة المرجعية النهائية لتقرير وضع كل شيء يُرى، يعني ذلك أن كل موجود هو ما هو وفقًا لثنائية «الذات/الموضوع» أو الوعي وموضوعات الوعي، لم يعد يُنظر للشيء المعروف ككيانٍ مستقل أنطولوجيًّا يكشف نفسه كما هو، أي «ينكشف» و«يسفر» لنا عن وجهه على حقيقته الخاصة ووجوده الخاص، بل أصبح الشيء المعروف يُرى على أنه «موضوع» object، أي على أنه شيءٌ ما تقدمه الذات الواعية لنفسها، هكذا صار وضع العالم مربوطًا بالذاتية الإنسانية بإحكام. وبانتقالنا من ديكارت لكانط [8]، نجد أنه مع ما وقع من تراجع لصالح الميتافيزيقا أصبح النقد الكانطي منهجاً يستهدف حصر شروط الإمكان القبلي كأساس محدد للوجود-وجود الموجود، من هنا كان سؤاله علي الشكل الآتي: علي أي أساس يتحدد وجود الموجود؟ وهو سؤال يقوم علي مبدأ أساس في الفكر الكانطي مفاده أن أنطولوجية الإنسان هي هذا الأساس الذي ينبغي أن نرد إليه حقيقة كل شئ، وهو أساس شروط إمكان توليد الموضوعات بشكل قبلي لكي يتطابق كل شيء مع العقل سواء في شكله العملي أو النظري، يذهب كانط إلي أن للعقل في شكليه (النظري والعملي) تأثير متحقق علي العالم الحسي من أجل جعله مطابقاً له. النقد الكانطي إذن منهج ترنسندنتالي يبحث في المتعالي ليكشف السبب الكافي الذي يؤسس “الموجودية” أو نقول يريد الوقوف عند بنية المبادئ القبلية الشارطة لوجود الموجود، منهج لم يقم إلا مع كانط، يقول هيدجر: “ينبغي إنتظار مجئ كانط ليصبح المنهج الذي يتابع به الفكر وجود الموجود، ترنسندنتاليا”، غرض النقد الكانطي من حيث هو منهج وفلسفة متعالية البحث في الأساس الأنطولوجي للموجودية، هذا الأساس، الذي يكمن في أنطولوجية الإنسان، وهو أساس قبلي انطلاقاً منه تقوم كل علاقة بالموجود من أجل تحديد حقيقة وجوده. وسع كانط مفهوم الذات بعد أن كان ينظر إليها في بعدها السيكولوجي لتصبح معه في بعد أنطولوجي عام، فيكون بذلك عمق الأنطولوجيا داخل مفهوم الذاتية. وبهذا ينتمي كانط لتاريخ الميتافيزيقا، إذ لم يغادر النظرة إلي الفكر بوصفه لوجيا وإلي الحقيقة باعتبارها يقين التمثل، وبهذا فلم يدرك الاختلاف الأنطولوجي الممكن بين الوجود والموجود معتبراً الأول شرط إمكان وجود الثاني ويتأسس كل ذلك داخل البنية المقولية المنطقية المكونة لأنطولوجية الذات، لقد جاء نقد كانط مجاوزة ميتافيزيقية للميتافيزيقا، تحول معه البحث الفلسفي في عمقه لأنثروبولوجيا فلسفية تهتم بالتعالي بوصفه بنية مكونة لطبيعة الإنسان، وبإمكانيات الكائن الإنساني ومكانته داخل الكون. يعين كانط الشيء الذي في متناول معرفتنا بوصفه الشيء الطبيعي، الجسم، إنه هو موضوع التجربة، أي المعرفة الرياضية-الفيزيائية. الجسم متحرك أو ساكن في المكان، وذلك بحيث إنه يمكن تعيين الحركات، من حيث هي تغيرات في المكان، في علاقاتها تعيينا عدديا. إلا أن هذا التعين الرياضي للجسم الطبيعي ليس بحسب كانط عرضيا، ليس مجرد صورة ملحقة به لحساب الحوادث؛ بل إن هذا الرياضي بمعني المتحرك في المكان ينتمي بالأحري في البداية وقبل كل شئ إلي تعيين شيئة الشيء. لإدراك إمكان الشئ ميتافيزيقيا نحتاج لتلك المبادئ التي يتأسس فيها هذا الطابع الرياضي للجسم الطبيعي. لهذا تسمي المجموعة الأولي من مبادئ الفهم المحض المبادئ الرياضية. لا يعني هذا النعت أن المبادئ هي ذاتها رياضية، أي مبادئ تنتمي للرياضيات، بل إنها مباديء ميتافيزيقية تتعلق بالطابع الرياضي للجسم الطبيعي تضع له الأساس. لكن الشيء بمعني الجسم الطبيعي ليس فقط متحركا في المكان، ليس فقط ما يشغل مكانا، أي ليس فقط ممتدا، بل هو أيضا ما يملأ المكان، يحتله، ينتشر في هذا الاحتلال ويتوزع ويفرض ذاته، إنه مقاومة، أي قوة. لايبنتز هو من كشف لأول مرة هذه السمة المميزة للجسم الطبيعي، كنت تبني هذه التعيينات. إننا لا نعرف ما يملأ المكان ويكون حاضرا مكانيا إلا عن طريق القوي المؤثرة داخل المكان. القوة هي الطابع الذي يحضر به الشئ في المكان. إنه يكون فعليا من خلال فعل تأثيره. الوجود الفعلي (Wirklichkeit) للشيء، حضوره، وجوده (يستعمل هايدغر كلمة Dasein ليس بالمعني الاصطلاحي الذي أعطاه لها كدلالة علي كيفية الوجود الخاصة بالإنسان، بل بالمعني المتداول في عصر كانط، أي بمعني الوجود الفعلي، التحقق. في هذه الحالة تترجم بكلمة الوجود.)، يتعين انطلاقا من القوة (dynamis)، أي ديناميا. لهذا يسمي كانط مبادئ الفهم المحض التي تعين إمكان الشئ بالنظر لوجوده المبادئ الدينامية، أي المبادئ الميتافيزيقية التي تجعل المبادئ الفيزيائية للديناميكا ممكنة. ليس صدفة أن يعطي هيغل لمقطع مهم من “فينومينولوجيا الروح” يحصر فيه ماهية الموضوع كشيء طبيعي عنوان: القوة والفهم.

وبعد عرضنا لمشكلة الذات والموضوع والهرمينوطيقا وتأويل النصوص، بقي ان نتسأل كيف يتجاوز النص الأدبي خاصة -والعمل الفني عامة- إطار الذاتية والموضوعية؟ يرفض هايدغر التعامل مع العمل الفني باعتباره شيئاً لا علاقة له بالعالم، ولكنه من جانب آخر يؤمن بأن العمل الفني يستقل بنفسه، وهذه خاصيته الأساسية. وهو -في هذا الاستقلال- لا ينتمي للعالم، بل العالم ماثل فيه، وهو الذي يفصح عن نفسه. وفي محاولة هايدغر لفهم البنية الوجودية للعمل الفني بعيداً عن مبدعه ومتلقيه، يستخدم مفهوماً مقابلاً لمفهوم العالم وهو “الأرض”. وإذا كان العالم يعني الظهور والانكشاف والوضوح، فإن الأرض تعني الاستتار والاختفاء. والعمل الفني قائم علي التوتر الناشئ عن التعارض بين الظهور والانكشاف من جهة، والاستتار والاختفاء من جهة اخري. إنه -من الوجهة الوجودية- يتضمن الجانبين في حالة توتر مثل الوجود تماماً الذي يفصح عن نفسه للإنسان من خلال تعارضات الوجود والعدم. الانكشاف والافصاح، والاختفاء والغموض جانبان موجودان في العمل الفني. العمل الفني لا يشير لمعني خارجه عند المبدع أو في العصر. إنه يمثل نفسه في وجوده الخاص. ولكن كيف يفصح العالم عن نفسه من خلال العمل الفني؟ العمل الفني يتشكل من خلال أشياء العالم كالأحجار أو الألوان أو الأنغام أو اللغة، ولكن هذه الأشياء -في العمل الفني- تكشف عن وجودها الحقيقي، لا باعتبارها أشياء منفصلة خاضعة للمقولات الذاتية للعقل البشري. إن الأنغام التي تؤسس العمل الموسيقى العظيم حقيقية أكثر من مجرد الأنغام والأصوات الأخري، وكذلك الألوان في الرسم ألوان بمعني أعمق من ألوان الطبيعة الثرية، إن عمود المعبد -كذلك- -يكشف- -بعبقرية- خاصية الحجر في ارتفاعه مدعما سقف المعبد وذلك بشكل أعمق من مجرد وجوده الطبيعي. هذا التجلي للأشياء في العمل الفني يعني دخولها في شكل منتظم، في بناء وجودي، وهو ما يمثل الشكل في العمل الفني. وإذا كان الشكل يمثل تجلي العالم وظهوره وانكشافه في العمل الفني، فالعمل -من خلال التشكيل- يتجاوز الذاتية والموضوعية، لأن العالم نفسه -باعتباره مجموعة من العلاقات- يتجاوز -بالمثل- إطار الذاتية والموضوعية. وإذا كانت اللغة -وسيط العمل الأدبي- هي الأخري تتجاوز إطار الذاتية والموضوعية باعتبارها الوسيط الذي يتجلي الوجود من خلاله، فإن العمل الأدبي -مثل العمل الفني- يعلو على الذاتية والموضوعية. ثنائية الذات والموضوع التي تختفي في الظاهرية الوجودية عند هايدغر، تجعل مفاهيم الشكل والمضمون -والقائمة على نوع من الثنائية- غير كافية -باعتبارها مفاهيم تأملية قائمة علي أولية الذات علي الموضوع- لتحليل البنية الوجودية للعمل الفني. وحين نقول العالم يظهر في الأدب، فإن ظهوره يعد -في نفس الوقت- دخوله في شكل منتظم. وحين يتحقق الشكل فإن العمل يحقق وجوده الأرضي. ومعني ذلك أن للعمل الفني بنائه الخاص، وأن هذا البناء هو وجوده المتميز. إن هذا الوجود لا يعني انتماء العمل الفني إلي “أنا” ذات تجربة تعني شيئاً تريد أن تقدمه من خلال العمل. إن وجود العمل الفني لا يتأسس علي أي تجربة، بل الأحري القول إنه حدث أو دفعة تبدد كل شيء يمكن أن يكون سابقاً عليها. إن وجود العمل الفنى -أو تشكله- دفعة تفتح عالماً لم ينفتح من قبل. هذه الدفعة تحدث بطريقة تجعلها ثابتة. من خلال هذا الوصف للبنية الوجودية للعمل الفني، يحاول هايدغر تجنب أهواء الأستطيقا التقليدية، ومفهوم الذاتية في فلسفة الجمال الغربية. ويحاول من جانب آخر تجنب مفاهيم علم الجمال التأملية التي تري أن العمل الفني تجل حسي للمطلق. وحين يؤسس هايدغر وجودية العمل الفني علي التعارض Conflict بين العالم والأرض (كبديلين للشكل والمضمون) ويؤسس بناءه علي التوتر Tension القائم بينهما، فإنه يكون بذلك قد وضع أساساً لعملية الفهم وهرمنيوطيقية الفن. إن هذا التوتر يمثل التوتر بين الانكشاف والوضوح من جهة والاستتار والغموض من جهة، الأمر الذي يجعل دخولنا لفهم العمل الفني عملية وجودية، يفصح فيها الوجود عن نفسه لنفسه، ما دام المتلقي يبدأ من إدراكه لوجوده الذاتي. العمل الفني دفعة من خلالها تتجلي الحقيقة، وهو تجل مختلف عن الحقيقة التي تتجلي في الفلسفة. هذا التحليل للعمل الفني يدعم اهتمام هايدغر بفهم الوجود. وإذا كان العالم ينفتح من خلال العمل الفني، فإن الانفتاح الوجودي عند المتلقي -من خلال وعيه بوجوده الذاتي- يجعل عملية الفهم ممكنة. الوجود الذاتي للمتلقي لحظة من لحظات الوجود الحقيقي، والعمل الفني -بالمثل- لحظة وجودية. وحين تلتقي اللحظتان يبدأ الحوار، يبدأ السؤال والجواب الذي تنكشف به حقيقة الوجود، وتتطور من ثم تجربتنا الوجودية في العالم. النص الأدبي الذي يتجلي فيه العالم من خلال اللغة يقوم أيضاً علي نفس التوتر، ومهمة الفهم السعي لكشف الغامض والمستتر من خلال الواضح والمكشوف، اكتشاف ما لم يقله النص من خلال ما يقوله بالفعل، وهذا الفهم للغامض والمستتر يتم من خلال الحوار الذي يقيمه المتلقي مع النص.

هناك اعتقاد يري أن الفهم الأدبي حسي وذاتي، وعلي ذلك فنتائجه يتعذر البرهنة عليها علي نحو قاطع، بينما العلم تجريبيا وموضوعيا وله إجراءات للتثبت من الصحة لا سبيل للشك فيها. وهكذا يقال إن التقدم ممكن في العلوم وليس ممكناً في الإنسانيات. لكن العلماء، كما يسود الاعتقاد، يدفعون ثمن هذا الامتياز بإخضاع نفسهم لإجرائية منهجية صارمة تحظر التعبير الفردي، بينما تسمح الإنسانيات بتصارع وجهات النظر والخروج الإبداعي عن القاعدة. وعلي نحو مشابه، يُقال أن النقد الأدبي يشجع الاستخدام الابتكاري والاستعاري للغة بما يماثل موضوعات دراسته، بينما العلوم تستخدم مدونة مرجعية شفافة لا تقبل الغموض. وبرغم أن ديلتاي يقر بأن “العمليات المنطقية الأولية التي تقع في العلوم والدراسات الإنسانية، هي نفسها” (وهو يضع صوب عينيه هنا “الاستقراء والتحليل والتكوين والمقارنة”)، فإنه يدعي أن “مناهج دراسة الحياة العقلية والتاريخ والمجتمع تختلف كثيراً عن تلك المستخدمة للحصول علي معرفة بصدد الطبيعة”، العلوم الطبيعية “تتعامل مع حقائق تطرح نفسها علي الوعي بصفتها ظواهر خارجية ومنفصلة”، يسعي العلماء للكشف عن “علاقات داخل الطبيعية من خلال الاستنتاج” و”الفرضيات”، يسقط العلم نظريات عن حالة الأمور في العالم الخارجي، مستقلة عن العقل، من أجل البت في ترتيبها المنطقي وعلاقاتها السببية. بالمقابل، يترتب على الإنسانيات “إعادة خلق وعيش” حالة عقلية سابقة من خلال “التقمص”، فيري أن “هنا الحياة تفهم الحياة” بوساطة “إلهام خاص وشخصي” يتيح “إعادة اكتشاف الأنا في الأنت”، وهي تجربة حميمية وداخلية للرابطة بين وعي الفرد وعالم شخص آخر. ثم يجادل ديلتاي أن الإنسانيات تتمتع بمعرفة يقينية تفوق ما تملكه العلوم لأن الحدس التقمصي، بحسب رأيه، يستند إلي اتصال داخلي مباشر بين مثيل ومثيل (عقل يستوعب عقلا آخر). يسعي العقل في العلوم لفهم واقع غريب لا يعرفه إلا من خلال المظاهر ولا يستطيع تفسيره إلا بوسائل غير مباشرة كالفرضيات والاستنتاجات. بحسب ديلتاي يقوم التقمص في الفهم الإنساني بخلق تواصل بين روح وروح. لكننا نري النقد الأدبي ليس حدسا فردياً للروح، إنه بالأحرى مشروع عام يتمثل في اختبار فرضيات تعتنقها الجماعة عن الأدب واللغة والوجود الإنساني. وليس العلم مرآة للطبيعة أو انعكاسا للواقعة الخارجية؛ إنه بالأحري عملية اختبار وتعديل اجتماعية وتاريخية للنظريات، وهي قد تزيد ثباتاً إذا ما صمدت أمام تحديات متكررة، لكنها ستبقي دائماً مؤقتة. الفهم في الحقلين اختباري، ليس تقمصيا أو تجريبيا، والفروق بينهما موضعية وخاصة لا عامة ومطلقة، يؤول المشتغلون في الإنسانيات والعلوم أشياء مختلفة ويضعون افتراضات مختلفة، لكنهم يفهمون بالطريقة نفسها، قد ينتمون لمجموعات اعتقاد مختلفة، لكنهم جميعاً مواطنون في عالم تعددي تحكمه القوانين الهرمينيوطيقية نفسها. وصف ديلتاي صحيح جزئيا، فقوله أن العلوم تشتغل بوساطة الاستنتاجات والفرضيات صحيح، لكن موقفه الاعتذاري من افتقارها للمباشرة ينطوي علي بنية معرفية ثنائية مضللة. لكن الفرضيات أدوات ضرورية لإنتاج المعرفة، نظراً لأن العقل ليس بمرآة، إننا نقارب كل شىء في ضوء نظرية نكونها مسبقاً. الملاحظة انتقائية دائما، إنها تحتاج لموضوع منتخب، مهمة محددة، مصلحة، وجهة نظر، مشكلة .. لا يمكن للموضوعات أن تصنف، تتشابه أو تختلف، إلا بهذه الطريقة؛ من خلال ربطها بحاجات ومصالح. صف بوبر النظرية بأنها خطة معطاة سلفاً تقسم العالم علي وفق أنموذج واحد دون سواه وتوجه اهتمام الملاحظ إلي المضي في مسارات معينة وتمنعه عن المناطق التي قد تشير إليها نظرية اخري. لن نري شيئاً دون إدراكه ضمن علاقته بخطة ما ترسم التشابهات والاختلافات المحتملة، وهذه الخطة نتاج تجارب الملاحظ الماضية ومصالحه وافتراضاته. يجادل بوبر، مثل هيدغر، أن ما نفهمه يعتمد علي ما نتوقع اكتشافه. ليست الفرضية التي تعتمد عليها الملاحظة ببساطة تقديما لما هو موجود “هنا” و”معطي” على نحو ثابت. إنها بالأحري رهان؛ افتراض ينتظر التثبيت أو التحوير أو النقض. لا بد للصورة المكانية للعقل بصفته مرآة تعكس العالم الخارجي من أن تخلي المكان لفكرة زمنية الفهم بصفته عملية إسقاط للتوقعات واختبارا لها. ليست الفرضيات ضرورية للملاحظة العلمية فقط، بل للفهم الأدبي أيضاً، والحالة هكذا بالنسبة للتأويل عموماً، لكن لنتأمل الآن شكل الفهم المحدد الذي يعزوه دلتاي للإنسانيات (التقمص)، ولنفعل ذلك باختبار ناقد يصف نفسه بسليل شلايرماخر ودلتاي في التقليد الهرمينوطيقي الألماني، يجادل ليو سبتزر أن “علي القارئ السعي لوضع نفسه في المركز الإبداعي للفنان نفسه؛ يعيد إبداع الوحدة العضوية الفنية”، لكن سبتزر لا يتابع هذا الهدف بوساطة تماهٍ مباشر وحدسي، بل عبر إسقاط فرضيات علي العلاقة بين “تفاصيل خارجية معينة” من نتاج الفنان و”المركز الداخلي” الذي يبدو أنها تشع منه. وسبتزر، كما يوضح، يلجأ للفرضيات لأن الفهم الأدبي “لن يتم بلوغه بالتقدم التدريجي من تفصيل لآخر، لكن باستباق الكل أو التكهن به .. لا يمكن فهم التفصيل إلا بوساطة الكل وكل تفسير للتفصيل يفترض مسبقاً فهما للكل”، كما أنه يمكن للنقاد رؤية تفاصيل الأعمال ضمن علاقتها بضروب عديدة مختلفة من الكليات (لا الحالة العقلية للفنان فحسب، لكن أيضاً، علي سبيل المثال، المحيط الاجتماعي للعمل أو بنيته الداخلية الشكلية). لكن لا يمكن الحصول علي إحساس بالعلاقة بين الجزء والكل إلا من خلال إسقاط الفرضيات. علي ذلك حتي الناقد الراغب في إعادة خلق الحالة العقلية للفنان يجب أن يستخدم فرضيات. وكلحظة في الدائرة الهرمينوطيقية، يتطلب إعادة تكوين الإطار العقلي للكاتب استدلالات تستند لتفاصيل من أعماله؛ افتراضات تبرر بدورها نفسها من خلال قدرتها علي فهم أعمال الكاتب. لذا تبدو تأكيدات دلتاي عن يقينية التقمص مثيرة للشك. ليس الفهم الأدبي أكثر مباشرةً أو قربا من الملاحظة العلمية. إن بنية المعرفة في الحقلين نسيج من الافتراضات والتخمينات والرهانات التي تكون مؤقتة دائما. لكن يُقال أن اختبارات العلماء للحقيقة أكثر صرامة من تلك التي في الإنسانيات، فنجد إنتقادات موجهة للعلوم الإنسانية تنفي طابع الصرامة عنها وعدم التزامها بالمنهج العلمي، وهنا يقول هيدجر أن كثيراً ما يُخلَط بين الصرامة die srenge والدقة die exaktheit؛ فينفي طابع الصرامة عن العلوم غير الدقيقة. أما هايدجر فيميز بينهما اعتمادا علي تصوره للعلم. طابع أي علم بالنسبة له لا يتحدد علي ضوء القضايا الجزئية التي يعالجها أو الأدوات المنهجية التي يستعملها. بل قبل هذا وذاك علي ضوء الكيفية التي يفهم بها كون الكائن الذي يشكل مجال اهتمامه، هذا الفهم يبقي في الغالب ضمنيا، لكنه هو الذي يحدد الكيفية التي تبدو بها الظواهر التي يهتم بها والأدوات المنهجية الملائمة. يكون العلم صارما طالاما بقي متقيدا وملتزما بهذا الفهم المسبق لكون الكائن الذي يهتم به. إذا كانت علوم الطبيعة مثلا تتوفر علي طابع الدقة؛ فهذا يعود لإستنادها مسبقا لفهم لكون الطبيعة يجعل قياسها وصياغتها رياضيا ممكنا بل ضروريا، إن صرامتها تفرض عليها أن تكون دقيقة. وعلي العكس من ذلك فإن غياب الدقة في مجال علوم الروح ليس علامة علي انعدام الصرامة، بل نتيجة لصرامتها؛ لأن هذه العلوم تقوم علي فهم لكون الكائن الذي تهتم به يجعل من غير الممكن قياسه وصياغته رياضيا، إن مطالبة هذه العلوم بتحقيق الدقة خرق لصرامتها، حيث إن النظرية العلمية في علم الطبيعة الحديث، بل في العلم الحديث بأكمله، خاضعة لمتطلبات الروح التقنية، فهذه النظرية لا تقدم الكائن كما يظهر هو ذاته من تلقاء ذاته، بل تفرض عليه بأساليبها المنهجية أن يظهر من زاوية محددة سلفا، أي كرصيد من الطاقة، لم تبق النظرية (كما كان يعتقد “أرسطو”) نظرا يجعلنا نري الكائن كما ينكشف من تلقاء ذاته، بل أصبحت وسيلة للتحكم في الكائن وإخضاعه، فالمعلومات والمعارف التي تقدمها الآن علوم الطبيعة ليست وصفا للطبيعة، بل أدوات لحسابها والتأثير فيها. عندما تبلغ سيطرة ماهية التقنية علي النظرية العلمية أوجها تفقد هاته كل دلالة أنطولوچية لتصبح مجرد وسيلة تضبط الشروط الضرورية للتجريب وإنتاج الظواهر، أو مجرد وصفة تبين لنا طريقة استعمال التجريب، وحتي المعرفة العلمية ذاتها يتم التعامل معها بنفس الأسلوب التقني الذي يتم به التعامل مع الكائن عموما، فالمعارف العلمية تؤخذ هي أيضا كطاقة ويفرض عليها أن تتحول لمعلومات مصوغة حسب النمط نفسه يمكن للعالم أن يجمعها ويخزنها، أن يعالجها ويدبرها، أن يؤمنها ويضعها تحت الطلب حتي تكون رهن إشارة الاستحضار.

هكذا يوضح “هايدجر” العلاقة بين العلم والتقنية الحديثين، إنها علاقة تتأسس في وحدة ماهيتهما، ولهذا يقول “هايدجر” في الصيغة الأصلية لمحاضرته: ليست التقنية الحديثة تطبيقا لعلم الطبيعة، بل إن علم الطبيعة الحديث تطبيق لماهية التقنية. ففي سياق تكون العلم الحديث أكتسب تصور معين عن الشئ أسبقية منفردة. الشئ بحسب هذا التصور هو الكتلة المادية المتحركة في النظام المكاني – الزماني المحض أو هو مركب لكتل من هذا النوع. منذ ذاك أعتبر الشئ في هذا المعني أساسا وأرضية لكل الأشياء ولتعيينها ومساءلتها. الكائن الحي يفهم، حتي عندما لا يعتقد المرء أنه يمكن ذات يوم تفسيره بمساعدة الكيمياء الغرائية (Kolloid-Chemie) انطلاقا من المادة غير الحية، حتي عندما يترك له طابعه الخاص، كبناء فوقي وملحق للكائن غير – الحي؛ وبالمثل تعتبر أداة الاستعمال والعدة شيئا ماديا تمت تهيئته لاحقا بأن ألصقت به قيمة خاصة. إلا أن سيطرة تصور الشئ المادي كبناء تحتي حق لكل الأشياء تمتد خارج مجال الأشياء عموما وتصل للمجال الروحي، كما يمكن أن نسميه علي نحو تقريبي تماما، مثلا إلي مجال تأويل اللغة، التاريخ، الأثر الفني ..إلخ. لماذا تتسم مثلا معالجة وتأويل الشعراء في مدارسنا العليا منذ عقود بهذا البؤس؟ لأن المدرسين لا يعرفون الفرق بين الشئ والقصيدة الشعرية، لأنهم يتعاملون مع الأشعار كما لو كانت أشياء [9]، وهذا لأنهم لم يمروا أبدا عبر السؤال عن ما هو الشئ [10]. قد تكون هناك أسباب تجعل الناس يقرأون اليوم الأناشيد الجرمانية أكثر مما يقرأون هوميروس؛ لكن ذلك لا يغير من الأمر شيئا، إننا دائما أمام نفس البؤس – سابقا باليونانية والآن بالألمانية (يبدو أن هايدغر يلمح هنا لتصاعد الاهتمام بالأناشيد الجرمانية وبكل ما ينتمي للثقافة الجرمانية خلال صعود الحركة النازية). لكن المسؤول عن هذه الحال ليس المدرسون، ولا مدرسو هؤلاء المدرسين، بل عصر بأكمله، أي نحن أنفسنا – إذا لم تنفتح أخيرا عيوننا. من ثم لم تكن النزعة الشمولية والتسلطية في النظم المختلفة وليدة اتجاهات لا عقلية، وإنما نشأت عن “التنوير” الضارب بجذوره في العصر الأسطوري وفي منطق أرسطو وذاتية ديكارت، بحيث لم تكن إلا النتيجة النهائية لأصول شكلية [١١] وأداتية كامنة في عقلانيته التي فتت الطبيعة لموضوعات وذرات منفصلة لتحكم سيطرتها عليها، وتحكمت في عالم الفرد وأخضعته لمقاييسها الكمية ومؤسساتها الإدارية والبيروقراطية وأجهزة دعايتها وتصنيع ثقافتها الجماهيرية؛ ولذلك فإن عمرها أطول من عمر الرأسمالية وسائر النظم التسلطية.

التقنية كما ناقشناها احدي سمات الميتافيزيقا الأوروبية الحديثة بجانب سمات اخري قد ناقشناها خلال المقال، السمة الأخري هي إزاحة مركزية الإله والكون لصالح الإنسان، وسنناقش ذلك خلال ما يسميه تشارلز تايلر “النظام الأخلاقي”. صور النظام الأخلاقي التي تنحدر عبر سلسلة من التحولات مما هو موصوف في نظريات القانون الطبيعي لغروتيوس ولوك، مختلفة عن تلك المنغرسة في المتخيل الاجتماعي للعصر ما قبل الحديث. وثمة نمطان مهمان من النظام الأخلاقي قبل العصور الحديثة يستحقان الذكر هنا لأننا نستطيع رؤيتهما ينزاحان أو يستبدلان أو يهمشان من خلال خط غروتيوس-لوك في مجرى الانتقال للحداثة السياسية. يستند أحدهما إلي فكرة قانون الشعب الذي يحكم هذا الشعب منذ زمن لا يحصره العقل، بل يحدده باعتباره شعبا، بمعني من المعاني. والظاهر أن هذه الفكرة كانت منتشرة لدي القبائل الهندو – أوروبية التي أندفعت لأوروبا في مراحل مختلفة. وكان هذا النمط قوي الحضور في إنكلترا القرن السابع عشر في هيئة “الدستور القديم”، وصار واحداً من الأفكار الرئيسية التي تبرر التمرد ضد الملك. يجب أن تكون هذه الحالة كفاية لبيان أن هذه المفاهيم ليست محافظة علي الدوام من حيث أثرها الحقيقي. لكن علينا أن ندرج في هذه الفئة أيضاً فكرة النظام المعياري التي يبدو أن أجيالاً قد تناقلتها في المجتمعات الفلاحية، وأنشأت منها صورة “الاقتصاد الأخلاقي” التي انتقدت من خلالها الأعباء الملقاة علي كاهلها من جانب مالكي الأراضي أو الجبايات المفروضة عليها من جانب الدولة والكنيسة. وهنا أيضاً، يبدو أن ثمة فكرة متكررة الظهور، ألا وهي أن توزيع الأعباء الذي كان مقبولاً في الأصل قد حل محله اغتصاب لا بد من إزاحته. ينتظم النمط الآخر من النظام الأخلاقي حول مفهوم التراتبية في المجتمع، وهي تراتبية تتصل بالتراتبية الموجودة في الكون وتعبر عنها. وهذا ما جرى تشكيله نظرياً في لغة مستمدة من مفهوم “الهيئة” أو “الشكل” الأفلاطوني – الأرسطي. لكن الفكرة الكامنة خلف هذا تنبثق قوية أيضاً في نظريات التوافق: على سبيل المثال، الملك في مملكته مثل الأسد بين الحيوانات، أو مثل النسر بين الطيور، وهكذا دواليك. وانطلاقاً من هذه النظرة تنبثق فكرة أن الاضطرابات في الحيز البشري سوف يتردد صداها في الطبيعة لأن كل نظام للأشياء قد صار موضع تهديد. لقد اضطربت الليلة التي قُتل فيها دَنكن [ملك اسكتلنده في مسرحية ماكبث لشكسبير] بفعل “صرخات الموت النكراء وعويل تردد في الجو”؛ واستمر الظلام علي الرغم من أن الصبح كان يجب أن ينبلج. وفي يوم الخميس السابق، كانت بومة تعتاش على الفئران قد قتلت عُقابا، وكانت خيول دَنكِن قد انقلبت خيولا برية في الليل، “وشقت عصا الطاعة كما لو أنها تشن حرباً على بني البشر”. في كلتا هاتين الحالتين، وفي الثانية خصوصاً، لدينا نظام ينحو لفرض نفسه بصورة طبيعية؛ وتجري مقابلة انتهاكاته بارتداد يتجاوز الحيز البشري المحض. يبدو هذا ملمحا شائعا جدا في الأفكار قبل الحديثة المتعلقة بالنظام الأخلاقي. ويشبه أناكسيماندريس أي انحراف عن مجري الطبيعة بانعدام العدالة؛ ويقول إن من شأن كل ما يقاوم الطبيعة أن “يتحمل العقوبة ويؤدي الجزاء، كل إلي الآخر، لما أحدثه من جور، وفقاً لأحكام الزمان”. ويتحدث هيراقليطس عن نظام الأشياء بتعابير مماثلة عندما يقول إن الشمس إذا انحرفت عن مسارها المحدد لها، فإن آلهة النقمة سوف تمسك بها وتعيدها لمجراها. وبطبيعة الحال، فإن الهيئات الأفلاطونية فعالة في تشكيل الأشياء والأحداث في عالم التغير. واضح في هذه الحالات أن النظام الأخلاقي شئ يتجاوز كونه مجرد مجموعة من المعايير، إذ يحتوي أيضاً علي ما قد ندعوه مكونا “وجوديا” يحدد ملامح العالم التي من شأنها أن تجعل المعايير قابلة للتحقق. علي أن النظام الحديث الذي ينحدر من غروتيوس ولوك ليس نظاماً ذاتي التحقق بالمعني الذي يطرحه هيزيود أو أفلاطون، أو بالمعني الذي تثيره ردات الفعل الكونية على مقتل دَنكِن. ومن المغري إذا الظن أن أفكارنا الحديثة عن النظام الأخلاقي تفتقر كليا إلي مكون وجودي. لكن هذا الظن خاطئ، لأن ثمة فارقا مهماً كامن في حقيقة أن هذا المكون قد صار الآن سمة تتعلق بنا نحن البشر، بدلاً من كونه سمة تتصل بالإله أو بالكون. وليست المسألة هي الغياب الكلي المفترض للبعد الوجودي.

******

الهوامش:

[1] منذ النشأة الأولي عند سقراط وأفلاطون وأرسطو حاولت الميتافيزيقا إخضاع الكينونة لمقولات المبدأ والعلة والقيمة والمفهوم، فإذا بها تعتمد التمثل الذهني الذي يضع الكائنات والكينونة في قوالب التصور المفهومي الضابط. وفكروا في الوجود بوصفه خاصية أو ماهية حاضرة علي نحو ثابت في الأشياء وسقطوا في ميتافيزيقا الحضور التي تفكر في الوجود بوصفه جوهرا Substance. من هنا فهم الفلاسفة الموجودات والموجود الإنساني على أن ثم ماهية حاضرة فيها بصورة ثابتة هي التي تمنحها تحققها، وهم في هذا متأثرون بأفلاطون الذي أكد أن وجود أي موجود مستمد من الوجود الحقيقي الذي هو وجود المثال.

[2] لا يجب فهم الانفتاح كموضوع محايد تتقدم فيه أمور وأشياء مختلفة، بل إنه هو أيضا يعرف تحولا، ومع التحول التاريخي للانفتاح تتغير الكيفية التي يتقدم بها الكائن ويتبدي في تصرفنا المنفتح، فالكائن كان يتبدي في تجربة الإغريق القدماء بصفته الحاضر الذي يأتي للإنسان ويغمره بحضوره مثيرا دهشته وتساؤله، أما في العصر الوسيط فقد أصبح الكائن يتقدم بصفته مخلوقا للفعل الإلهي، في حين أنه أصبح في العصر الحديث يتجلي كموضوع للحساب العلمي والسيطرة التقنية، إن الإنسان لا يتحكم في هذا التحول، فهو لا يستطيع أن يحدثه ولا أن يفسره، ولكنه مع ذلك يمكن أن يحاول فهمه، أي يمكن أن يسأل بصدد كل كيفية لتجلي الكائن عما هو متضمن فيها، أي عما تفترضه مسبقا دون أن تتم رؤيته وفهمه صراحة.

انفتاح الكائن (أي الحقيقة) له طابع تاريخي، لكن ليس فقط بمعني أنه يتغير خلال مسار التاريخ، بل بالمعني الأساسي الذي مفاده أنه هو أساس كل تاريخ، فالتاريخ يحدث في الكينونة المتخارجة الكاشفة؛ لأن قيام الكينونة في المجال المفتوح هو ما يضمن لبشرية الارتباط بالكائن بما هو كذلك في كليته، ذلك الارتباط الذي يؤسس ويميز كل تاريخ، أما ما يسمي في العادة تاريخا، أي حقب الحكام والحروب وما إلي ذلك، أمر ثانوي بالنسبة للانفتاح الذي تقوم فيه كل بشرية تاريخية وتصونه والذي يسند كل تصرفاتها وروابطها مع الكائن، إن أفق التاريخ عند هايدجر هو أفق التأويلات الممكنة للكائن بما هو كذلك بحيث إن كل تأويل وكل فهم للكائن يحمل كل تصرف الكينونة، لكن لا يجب النظر لمختلف هذه التأويلات علي أنها من وضع أو اختلاق المفكرين، بل إنها كيفيات يجعل بها الكون ذاته الكائن يتجلي، وإذا كانت هذه التأويلات تأتي إلي الكلمة عبر تفكير الفلاسفة، فذلك لأن كل فليسوف يقوم مسبقا في انفتاح يحدد مجال رؤيته وتصوراته دون أن يري هذا الانفتاح كانفتاح. ومن هنا تبدو لنا أهمية السؤال عن ماهية الحقيقة، وليست ماهية الحقيقة مجرد مفهوم يحمله الناس في أذهانهم، بل إنها تحدث، إنها تمثل في كل شكل لحدوثها القوة المحددة للتاريخ، إن ماهية الحقيقة هي حدث أكثر واقعية وتأثيرا من كل المعطيات والوقائع التاريخية؛ لأنها هي أساسها. كل سلوك منفتح يحدث تاركاً الموجود يوجد ومتخذاً موقفاً من هذا الموجود الخاص أو ذاك، لقد جعلت الحرية كل سلوك متوافقاً، من قبل، مع الموجود في كليته من حيث إنها استسلام أمام انكشاف هذا الموجود في كليته وكما هو، وهذا التقبل (التهيؤ) لا يترك نفسه أبداً يدرك “كحالة من حالات النفس”، إذ اننا بذلك نحرفه عن ماهيته ونفهمه انطلاقاً من مدلولات (“كالحياة” و”النفس”) لا يمكنها هي ذاتها أن تطمح لشرف الماهية إلا ظاهرياً وطالما أخطأنا في فهم هذا التقبل وحرفنا دلالته. إن الموافقة التقبلية أي التعرض التخارجي أمام الموجود في كليته لا يمكن أن تكون “معاشة” و”محسوسة” إلا لأن “الإنسان، وهو الكائن المزود بإحساس وشعور” قد أسلم نفسه لموافقة كاشفة للموجود في كليته، دون أن يستشعر ماهية هذا التهيؤ التقبلي، إن كل سلوك للإنسان التاريخي (سواء أحس ذلك بوضوح أم لا، وسواء فهمه أم لا) سلوك متوافق، وبهذا التوافق فهو محمول في الموجود في كليته، إن درجة تجلي الموجود في كليته يختلف عن مجموع الموجودات المعروفة فعلاً، وعلي العكس من ذلك، فإنه عندما يكون الموجود معروفاً معرفة أقل من طرف الإنسان وليس مدركاً إلا بشكل أولي من طرف العلم، فإن تجلي الموجود في كليته يمكن أن يتأكد بصورة أكثر أساسية أكثر مما هو الأمر عندما يصبح ما هو معروف ومعطي باستمرار للمعرفة غير قابل للاستنفاذ بالنسبة للنظر، وعندما لا يكون هناك شيء يقاوم حماس المعرفة، وذلك عندما تنطلق قدرة التقنية للسيطرة على الأشياء في هيجان لا نهاية له، وبالضبط في هذه التسوية التسطيحية العارفة بكل شىء من طرف معرفة، لم تعد سوي مجرد معرفة، يخفت تجلي الموجود، ويغرق في الخواء nullité الظاهر لما ليس فيه اختلاف لما ليس إلا نسياً منسياً.

ومن هنا يمكننا فهم قول هايدجر:” كل كيفية للتفكير ليست سوي إنجاز ونتيجة لنوع معين من الكينونة التاريخية، لتصور أساسي معين للكون عموما ولكيفية تجلي الكائن من حيث هو كذلك، أي للحقيقة.” وفهم أفكار فوكو حول “نظام الحقيقة” ونظرياته في هذا السياق.

[3] يذهب هايدغر فيلسوف الأدوات في المستوي الفلاحي الحرفي الذي يتم تمجيده في وجه الإنتاج الآلي الحديث الذي يحول العمال إلي زوائد ملحقة بالآلة إلي أنه لا توجد معدة مفردة. فكل مفردة تنتمي لكلية. فنحن لا نلتقي بالخشب والمنشار منفصلين بل نلتقي بهما معاً في ورشة علي سبيل المثال، في وحدة تكليفات وظيفية. المنشار يصنع ليقطع الخشب الذي يتجه نحو صنع منضدة لكي يأكل الناس عليها. إنه بفضل مفردات مثل: “لكي” و”نحو” و”من أجل” يكون لمفردات الوجود الماثل هناك هويتها داخل نطاق كلية مرجعية (ربما في مجتمع عضوي سابق للرأسمالية)، فالورشة والبيت الذي توضع فيه المنضدة لا تفهم في انعزالها (أيام سيادة القيمة الاستعمالية) قبل أن تمزق القيمة التبادلية الساعية لنقود الربح كل ذلك. فكل منها كان يشير للأخري وينتمي لكلية علائقية موحدة. وهذا الكل البنيوي الكبير من الصلات الممتلئة بالمعني يسميه هايدغر العالم، عالم هو كلية من الدلالة. كما أن الوجود الإنساني فيه هو إمكاناته بلغة المشروعات الكثيرة المتاحة التي ينخرط فيها. وهو ليس جوهرا بمعني إنه لا يحتاج لكيان آخر لكي يوجد؛ فدون الموضوعات لا يمكن أن يوجد. أي إن الذات والعامل ينتمي كل منهما للآخر وليسا كائنين مثل ذات وموضوع بل وحدة وجودية داخل العالم.

[4] جدير بالذكر هنا أن محاولة هيدجر لفهم ماهية اللغة تنتمي للهرمنيوطيقا الفينومينولوجية؛ لأنها تحاول فهم ماهية اللغة من حيث هي ظاهرة معاشة نعاني خبرتها، بمنأي عن مناهج البحث السائدة التي تدرس اللغة باعتبارها موضوعاً يقع خارجنا كموضوع من بين الموضوعات يمكن أن نجري عليها عمليات التشريح والتحليل والتفتيت، وهذه المحاولة لا يمكن النظر إليها علي أنها مجرد نظرية من النظريات التي ترد في إطار فلسفة اللغة، وإنما هي فلسفة مكتملة أو إتجاه فلسفي قائم بذاته يسعي لتأسيس ماهية اللغة في صلتها بالفكر وبالوجود نفسه؛ ولذلك فهي تقوض رؤيتنا التقليدية للغة ولمهمة الفكر ولطبيعة الخطاب الفلسفي ذاته.

[5] إننا لا نبدأ بالنظر الخالص للشئ “الحاضر” أمامنا ثم نضيف إليه قيما وخصائص معينة تجعل منه ما نسميه “بالموجود في متناول اليد”. ونحن لا نضع هذا الشئ (كما يتصور الرأي الشائع) في موضع الشئ الممتد (كما فعل ديكارت) ثم نلبس امتداده خصائص وصفات مختلفة، وإنما نتعامل معه دائما من خلال ما يسميه هايدغر بالتدبر أو التبصر(Die Umsicht). فالشئ الماثل في متناول أيدينا أقرب الأشياء في المحيط الذي نضطرب فيه. ونحن نرتب حياتنا من خلاله، ونستخدمه لتلبية حاجاتنا، وننشغل به ونهتم بأمره.

[6] كلمة “الأليثين” _ التي نترجمها عادة بالحقيقة ويترجمها هيدجر باللاتحجب _ إحدي الكلمات الأساسية في لغة اليونان وفهمهم للوجود. فكل تعامل أو اتصال بالموجود لا يتم إلا إذا خرج هذا الموجود من تحجبه وتكشف وظهر بنفسه، هذا اللاتحجب لا يضاف للموجود أو لا يحمل عليه عن طريق الحكم، بل الأولي أن كل قول نعبر به عن الموجود لا يكون ممكنا إلا إذا سبقه ظهور هذا الموجود نفسه (أو لا تحجبه) الذي يعد خاصية أساسية فيه. ولهذا سوي أرسطو علي سبيل المثال بين الأليثين وبين الأون (الموجود) وأصبح الموجود في نظره هو الكائن الحاضر، بمعني الموجود الذي يتمتع بنوع من الثبات، ويتصف بشكل معين وحدود ثابتة. ومن ثم كانت (الفيزيس) عنده هي هذا الكائن الحاضر علي الأصالة. أما الإنسان فهو الذي يملك القدرة علي إدراك الموجود علي نحو ما يظهر ويتجلي من ثنايا الاحتجاب، وهو القادر علي أنه يجمعه في وحدته عن طريق “اللوجوس” الذي يكشف عن هذه الوحدة (إذ أن “اللوجوس” من ناحية إشتقاق الفعل المشهور “ليجين” تعني عنده التجميع) وهكذا نجد الإنسان _في تفسير هيدجر للتجربة اليونانية_ ليس هو مركز هذه التجربة ومحورها، لأن الموجود اللامتحجب هو الذي يشغل هذا المركز، ولهذا يستطيع الإنسان عن طريق “اللوجوس” الإتجاه إليه والإنفتاح عليه، ومعني هذا بطبيعة الحال أن نفهم الإنسان من جهة الحقيقة (اللاتحجب) لا أن نفهمها من جهة الإنسان.

[7] إلي حدود ديكارت كان كل شيء قائم بنفسه يعتبر ذاتا؛ أما الآن فقد أصبح ال أنا هو الذات المتميزة، الذات التي تتعين بالنسبة إليها بقية الأشياء بما هي كذلك. نظرا لأن هذه لا تستمد (رياضيا) شيئيتها إلا انطلاقا من المبدأ الأعلي وذاته (الأنا)، فإنها أساسا ما يقوم كآخر بالنسبة للذات، ما يقابلها كموضوع (Obiectum). الأشياء ذاتها أصبحت موضوعات. ستعرف الآن دلالة لفظ الموضوع تحولا موازيا؛ ذلك أنه لحد ذلك الوقت كان لفظ Obiectum يدل علي ما نلقيه أمامنا في التمثل البحت: أتمثل جبلا من ذهب. ما نتمثله بهذه الكيفية (موضوع في لغة العصر الوسيط) هو بحسب الاستعمال اللغوي الحالي شيء ذاتي تماما؛ ذلك أن “جبلا من ذهب” لا يوجد موضوعيا بمعني الاستعمال اللغوي الجديد. هذا القلب لدلالة لفظي Subiectum وObiectum ليس مجرد أمر يتعلق بالاستخدام اللغوي؛ إنه تغير يقلب من الأساس الكينونة، أي انفراج Lichtung كون الكائن (أي الانفتاح الذي يسمح بتجلي الكائن)، علي اساس سيطرة الرياضي. إنه مقطع من تاريخ طريق الكون خفي بالضرورة عن العين المعتادة، هذا التاريخ الحق الذي هو دائما تاريخ تجلي الكون أو لاشيء

[8] تعاظمت السيادة الإنسانية في الفلسفة الحديثة يإعلان كانط أن شروط إمكان الاختبار المعرفي هي أيضاً شروط إمكان أغراض هذا الاختبار، معني ذلك أن الأشياء يرتسم قوامها بحسب بنية الذات العارفة لا بحسب بنيتها الذاتية هي. أما الموضوعية فتفوز بها الذات العارفة علي قدر ما تُخضع الأشياء لمقولات الفاهمة البنيوية. وبما أن الذات هي التي تحكم علي الأشياء، فإن وعي الذات بذاتها هو أعلي درجات المعرفة الموضوعية.

[9] لمناقشة موسعة لهذه النقطة يمكن للقارئ الإطلاع علي كتاب “الخبرة الجمالية: دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية” وبالتحديد الباب الثاني بعنوان “البعد الأنطولوجي للخبرة الجمالية (موقف هيدجر)” وتُذكر هذه النقطة صراحةً -بعد تمهيد لها- في ص٩٠ وما بعدها.

[10] السؤال ما هو الشئ؟ سؤال تاريخي. في تاريخه اكتسب تعيين الشئ كشئ مادي قائم أسبقية راسخة. إذا سألنا السؤال فعليا، أي وضعنا إمكانات تعيين الشئ علي طريق الحسم، فإننا لا يمكن أن نقفز علي الجواب الحديث، كما لا يحق لنا أن ننسي بدء السؤال.

[١١] ظهرت الأصول الشكلية هذه أيضاً في الفن والأدب وأدت لسيادة النزعة الشكلية، راجع مقدمة كتاب “تجلي الجميل” لجادامار، ترجمة سعيد توفيق.

 ******

المصادر:

١_الكينونة والزمان.

٢_المعتمد الأدبي في التفكيك.

٣_السؤال عن الشئ حول نظرية المبادئ الترنسندنتالية عند كنت.

٤_من الكينونة إلي الأثر: هايدغر في مناظرة عصره.

٥_من النص إلي الفعل: أبحاث التأويل.

٦_”حدود المنهج مدخل إلي هرمنيوطيقا غادامر”/شادي كسحو.

٧_التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟

٨_فلسفة التأويل، الأصول، المبادئ، الأهداف.

٩_فهم الفهم: مدخل إلي الهرمنيوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلي جادامر. للاستزادة يمكن للقارئ الإطلاع علي الفصل الثامن بعنوان “هيدجر”، والفصل التاسع بعنوان “جادامر”.

١٠_نداء الحقيقة : مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر.

١١_في ماهية اللغة وفلسفة التأويل/سعيد توفيق.

١٢_هيدجر والميتافيزيقا: مقاربة تربة التأويل التقني للفكر .

١٣_مجلة الاستغراب: العدد 5 – الملف (مارتن هايدغر فيلسوف الحضرة).

١٤_الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر.

١٥_دراسات نقدية في أعلام الغرب: مارتن هايدغر، مقاربات نقدية لنظامه الفلسفي.

١٦_إشكاليات القراءة وآليات التأويل/ نصر حامد أبو زيد. للاستزادة يمكن للقارئ الإطلاع علي الفصل الأول بعنوان “الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص”.

١٧_القراءات المتصارعة التنوع والمصداقية في التأويل.

١٨_المتخيلات الاجتماعية الحديثة.

١٩_النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: تمهيد وتعقيب نقدي.

٢٠_التقنية-الحقيقة-الوجود/ محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/08/23/%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8a%d8%aa%d8%a7%d9%81%d9%8a%d8%b2%d9%8a%d9%82%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%86%d8%b7/

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك