نظريّة الدّين المدني عند روسو

محمد بنحماني

 

1ـــ مقدمة

تشكل نظرية الدين المدني عند روسو مدخلا ضروريا لفهم  فلسفته السياسية والتي من خلالها  يكشف عن ضرورة الدين بالنسبة للدولة. حقيقة أن هناك مؤشرات، كما يقول ناصيف نصار، تثبت العكس، أي أن هذه النظرية حدث طارئ على روسو، مادامت أنها لم تطرح إلا في الفصل الأخير من كتابه في العقد الاجتماعي، بحيث تبدو وكأنها قد أقحمت إقحاما في نظريته السياسية الموسومة ب ”العقد الاجتماعي”، والتي أقام فيها الشأن السياسي بشكل كامل على العقد الاجتماعي[1]. ومادام روسو أيضا، كما يقول عبد الله العروي، في مقدمة ترجمته لكتاب روسو: دين الفطرة، قد أخر النقاش حول الدين  في سيرة إيميل التربوية، بحيث إن أستاذ هذا الأخير لم يحدثه في  قضايا الدين إلا بعد أن تجاوز سن الخامسة عشرة . لكن رغم كل هذا فنحن، كما يقول ناصيف نصار، ” إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مجمل كتابات روسو ومنها: رسالته إلى فولتير … وكتاب إيميل، وكتاب رسائل من الجبل، فإنه يتبين أن نظرية الدين المدني ليست شيئا طارئا على فلسفة روسو، كما أنها ليست في محل (يقصد كتاب في العقد الاجتماعي) غير متناسب مع أهميتها. ”[2] فهي إذن مدخل ضروري لفلسفته السياسية؛ من حيث هي فلسفة أنوارية محكومة بهاجس إصلاح اجتماعي سياسي وديني كان روسو يعتبره ملحا في عصره بالرغم من وجود عوائق لتحققه. إنه إصلاح ارتبط لديه بالتبشير بنمط بسيط من التعبد ضمنه كتابه دين الفطرة والذي لاقى معارضة شديدة من أبناء عصره.  إنه، يقول روسو،” كتاب انتهك حرمته ودنسه ظلما أبناء الجيل الحاضر ولكنه قد يحدث في يوم من الأيام ثورة بين الناس لو بعث فيهم الإدراك السليم وحسن النية. ”[3] فدين الفطرة في هذا الكتاب هو دين اعتبره روسو نافعا للدولة، لأنه دين يوفق بين العقل والوجدان، وبين عبادة الله وعبادة الوطن، ويضمن للفرد الاطمئنان والحرية والاستقلال، في ظل مجتمع  مستقر وموحد. [4]

كما أن نظرية الدين المدني عند روسو، وما تحيل عليه من تبشير بدين الفطرة، بحكم اقترابها، كما يقول عبد الله العروي، من تمثل الفكر الإسلامي  لضرورة الدين بالنسبة للدولة، فإنها نظرية تفيدنا: ” في القيام بتجربة ذهنية معينة تساعدنا في آن على فهم كتاب روسو(دين الفطرة) وكتابات إسلامية شبيهة به”[5] ممثلة في كتابات: الغزالي، وابن رشد، ومحمد عبده، ومحمد إقبال.

وهكذا، وفي أفق تحقيق هذا الفهم المزدوج، سنقف عند ما نعتبره كمرتكزات نظرية الدين المدني،  كنظرية تحيلنا على تصنيف معين للأديان عبر التاريخ، وعلى مميزات دين الفطرة  وموقعه من نظرية العقد الاجتماعي . كما تحيلنا على فهم معين للإسلام في علاقته بالسياسة.

2ـــ الدين في التاريخ

في إطار تنظيره للدين المدني، رصد جون جاك روسو ظاهرة التدين في بعدها التاريخي بحيث استخلص من هذا البعد خلاصتين اثنتينالأولى هي ” أنه ما من دولة قامت أبدا إلا وكان الدين أساسا لها، ” بما في ذلك الإسلام. أما الخلاصة الثانية فهي ” أن الشريعة المسيحية مضرة في الأساس أكثر مما هي مفيدة بالتكوين القوي للدولة ”[6] وبموجب هاتين الخلاصتين سيصنف الدين عبر التاريخ، وفق علاقته بالمجتمع، إلى ثلاثة أصناف: دين الإنسان أو دين الإنجيل، وهو لا يتطلب طقوسا وهياكل ولا يقتضي سوى عبادة داخلية محضة وخضوعا لله وللواجبات الأخلاقية الصالحة في كل زمان ومكان. ثم دين المواطن أو دين الشعوب ويتعلق الأمر بتلك الديانات التي كانت سائدة قبل مجيء المسيحية، وكان لكل واحد منها آلهته وطقوسه الخاصة. وأخيرا ديانة الكاهن، وهي ديانة روحانية محضة من بين أنماطها، المسيحية الرومانية. وهي ديانة تفصل بين الإيمان والمواطنة. [7]

وإذا ما نظرنا لهذه الديانات من منطلق سياسي، أي من وجهة نظر دورها في حياة الدولة ومساهمتها في تقوية وصيانة وحدة المجتمع، نجد أنها، حسب روسو، لا تخلو من إيجابيات ومن أخطاء. فإيجابيات دين الإنسان، أي مسيحية الإنجيل، فتتجلى في كونه دين سامي ومقدس، إذ بموجبه ” يعترف البشر، وهم أبناء الإله نفسه، أنهم جميعا إخوة، والمجتمع الذي يضمهم موحدين، لا ينحل حتى الموت.”[8] لكن الخطأ الأكبر لهذا الدين هو أنه ”لا تربطه أية علاقة خاصة بالهيئة السياسية”، فهو يقدم نفسه كـ”دين روحاني تماما لا تشغله سوى أمور السماء وحدها. ” إنه دين لا يهتم بتوحيد قوى الدولة وصيانتها من مخاطر اغتصاب الحكم وإساءة استعماله، ويترك القوانين تتدبر أمرها بقوتها فقط. وإضافة إلى ذلك فهو لا يدفع قلوب المواطنين إلى التعلق بالدولة والتفاني في خدمتها، بل يوجههم نحو الابتعاد عنها والخضوع لها بدون حماسة وتأدية مالها من حقوق بدون تعبد لها.[9]

وفيما يخص دين المواطن فإن إيجابيته تكمن في” توحيده للعبادة الإلهية وحب القوانين. وهو إذ يجعل من الوطن موضوع عبادة المواطنين، يعلمهم بأن خدمة الدولة هي خدمة الإله الحافظ لها. ”[10] وبهذا ” يكون الموت في سبيل البلاد استشهادا، وخرق القوانين إلحادا.”[11] لكن أخطاء هذا الدين، في نظر روسو، كثيرة . فهو دين يقوم على الكذب، ما دام يقر بتعدد الآلهة بتعدد الشعوب. هذا مع العلم أن الإنجيل يعتبر بأن الله واحد. إضافة إلى أن هذا الدين يغرق تعبد الناس في الطقوس والشكليات والخرافات.  كما أنه دين يحمل الشعب على عدم التسامح وحب القتل وسفك الدماء.[12]

أما بالنسبة لديانة الكاهن، أي المسيحية الرومانية، فإن روسو يجزم بفسادها. ” فهي لا تبشر إلا بالعبودية والتبعية. وروحها ملائمة إلى أبعد حد للطغيان”، كما أنها دين لا يحافظ على وحدة المجتمع. فهو ” بتقديمه للبشر تشريعين، ورئيسين، ووطنين، يخضعهم لواجبات متناقضة ويمنعهم من أن يكونوا في آن واحد مؤمنين ومواطنين.” [13]

وهكذا إذن وبحكم كون هذه الديانات لا تخلو من عيوب، فإن لا أحد منها صالح لأن يكون دينا مدنيا. كيف ذلك؟

3ــــ دين الفطرة وما يتميز به عن سائر الأديان

   للكشف عن مميزات دين الفطرة يقف بنا روسو في الجزء الرابع من كتابه إيميل ليعرض لنا فيه نموذجا لأحد المعتقدين بهذا الدين والمبشرين به، وهو قس جبال السافوا. وهذا الدين تفرضه، حسب روسو، الفطرة على الفرد. إنه عبارة عن مشاعر تتولد طبيعيا لدى هذا الفرد. وبذلك فهو لا يحتاج لمن يهديه إلى هذا الدين[14]، كما هو الحال في الديانات السماوية؛ والتي تقتضي وجود رسول أو نبي يقوم بدور الهداية.  ومن هنا يتأسس دين الفطرة على حرية الفرد وإرادته، لكن دون إسراف في هذه الحرية.  فالإنسان ” أوجده الرب لا ليفعل الشر بل ليقبل على الخير مختارا. ولكي يختار وفر له القوى الضرورية لذلك، مع وضع حد لها حتى لا يخل الإفراط في الحرية بتوازن الكون. ”[15] ومعنى هذا أن دين الفطرة  يقوم على الأخلاق والفضيلة. إنه دين يقوم على مجموعة من القواعد الأخلاقية التي ترسم سلوك الفرد وتوجهه نحو الفضيلة. وهي قواعد يكتشفها في سر قلبه كما كتبتها الطبيعة فيه. وما هذا السر سوى الضمير الذي يولد مع الإنسان، وعلى ضوئه يحكم الفرد، فيميز بين الخير والشر.” وإن كان الإنسان طيبا بطبعه، فلا يكون سليما عقلا وجسدا إلا إذا تحلى بتلك الفضيلة. ”[16] والضمير ليس وهما من الأوهام التي نتوارثها من دون فحص، فقد أثبتت تجربة قس السافوا ” أن ضميرنا لا ينفك يطيع أوامر الطبيعة، ويعاكس كل قوانين البشر. يلح المجتمع على حظر هذا الفعل أو ذاك، لكن إذا كان المحظور مما تتيحه حقا الطبيعة، فلا يوبخنا الضمير إلا توبيخا خفيفا.”[17]ومن هنا كان هذا الضمير هو منبع الواجبات الأخلاقية التي يقوم عليها هذا الدين. وتتجلى هذه الواجبات في الحفاظ على الأمن العام في أي بلد نقطنه والخضوع لقوانينه واحترامها، لأن مخالفة القانون والإخلال به شر محض. ثم عدم التشويش على الشعائر الدينية المقررة في هذا البلد، لأن المعتقد بدين الفطرة ليس من شيمه الأخلاقية دعوة المؤمنين بعقيدة أخرى للتنكر لها وهجرها.[18]  كما أن دين الفطرة واجباته مستقلة عن المؤسسات البشرية لأن مصدرها القلب. والقلب الصادق هو معبد الرب الحقيقي.  وجوهر هذا الدين هو الحب، فواجب المؤمن هنا هو حبه للخالق فوق كل مخلوق، وحبه للآخر كما يحب نفسه.[19]

بالنظر إلى هذه القواعد والواجبات التي يتأسس عليها دين الفطرة، فإنه بذلك يرتقي، في نظر روسو، إلى مستوى الدين المدني كدين ينسجم مع المبادئ التي تقوم عليها نظريته في العقد الاجتماعي ممثلة في:

المبدأ الأول: هو أن العقد الاجتماعي لا يمنح لصاحب السلطة السياسية حق السيادة على رعاياه إلا في حدود المنفعة العامة . ومعنى ذلك أن المواطن يكون حرا في كل ما لا يضر بالآخرين. فهو ليس ملزما للخضوع في آرائه لصاحب السلطة إلا بمقدار ما تهم هذه الآراء المجتمع.

المبدأ الثاني: إن الدولة لا تتدخل في اختيار المواطن لدينه فهي تدافع عن حرية العقيدة، لكن شريطة أن يعمل هذا الدين على تحبيب معتنقه لواجباته ولطاعة القوانين التي تسهر الدولة على حمايتها.

المبدأ الثالث: إن الدولة لا تتعامل مع الدين كعقيدة دينية وإنما كدين مدني، أي كمشاعر اجتماعية قوامها حب الواجب، وطاعة القوانين، وصيانة وحدة المجتمع، والدفاع عن الوطن والتضحية في سبيله. فالدولة عندما تحارب دينا ما فهي لا تحاربه كعقيدة وإنما من حيث إخلاله بهذه المشاعر.[20]

المبدأ الرابع: إن عقائد الدين المدني يجب أن تكون بسيطة وقليلة العدد ومحددة بدقة ولا تقبل تفسيرات وتأويلات مختلفة وتتمثل هذه العقائد في: ”الإيمان بوجود إله قادر، ذكي، محسن، بصير، مدبر، وبحياة ثانية، وبسعادة الصالحين، وعقاب السيئين، وبقدسية العقد الاجتماعي، وبالقوانين”[21]

كانت هذه إذن هي المبادئ التي يقوم عليها الدين المدني كدين للمواطن الحديث، والتي تجعل منه دينا ضروريا للدولة وليس زائدا عليها كما كان يدعي بايل، كما تجعل منه بديلا عن المسيحية التي كان يعتبرها وابورتن أقوى دعامة للدولة، هذا مع العلم، حسب روسو، ”أن الشريعة المسيحية مضرة في الأساس أكثر مما هي مفيدة بالتكوين القوي للدولة ”[22].  لكن ماذا عن الإسلام؟

 3ـــ موقع الإسلام من نظرية الدين المدني  

إن ما جعلنا نقف عند موقع الإسلام من نظرية الدين المدني هو أن روسو في إطار نظريته هاته التي قام فيها باستعراض للدين في التاريخ ولضرورته  السياسية، لم يغفل الإشارة  للإسلام.  وفي إشارته هاته توجد مؤشرات كبيرة كما يقول عبد الله العروي على أنه ”لم يكن يحمل أي عداء مبدئي للديانة الإسلامية، بل أكبر الظن أنه ربما أدرك أن مفهوم دين الفطرة أقرب إلى عقيدة الإسلام منه إلى اليهودية أو المسيحية ”[23]. لكن السؤال المطروح هنا هو: ماهي درجة هذا التقارب؟

    3ــ 1ــ موقف روسو من الإسلام

يتحدد موقف روسو من الإسلام انطلاقا من ذلك الحكم الذي أصدره حول التجربة السياسية التي خاضها الرسول (ص)، والذي كانت له، في نظر روسو، نظرات صائبة جدا فيما يخص توظيفه للدين في نظامه السياسي والذي استمر لدى خلفائه من بعده. هذا التوظيف الذي مكن من تحقيق الوحدة بين السلطتين الدينية والسياسية. ولم تدب الفرقة والانقسام في هذه الدولة، حسب روسو، إلا فيما بعد، أي حين تدخلت عناصر خارجية تمثلت في البرابرة. لكن ومع ذلك فإن هذا الانقسام لدى المسلمين هو أقل ظهورا منه لدى المسيحيين.[24]

هذا كل ما نملكه من معلومات روسو حول الإسلام. وهي معلومات جد محدودة كما لاحظنا، بحيث إنها لا تسعفنا في الجزم بعدم تعارض الإسلام مع دين الفطرة كدين مدني، خصوصا وأنها معلومات لم يستقيها روسو من المسلمين كمطلعين على أصول الإسلام، بل استقاها من غرباء عن الإسلام مثل مونتسكيو الذي اعتمد هو بدوره على كتابات الرحالة الأوروبيين الذين تجولوا في أراضي الإمبراطورية العثمانية وإيران.[25]

وبالنظر إذن إلى محدودية معلومات روسو حول الإسلام وعلاقته بالسياسة فإننا سنختبرها على ضوء ذلك التصور الذي يقدمه محمد عبده في نظريته الإصلاحية عن الإسلام كدين ضروري بالنسبة للدولة، مثله مثل دين الفطرة لدى روسو.

  3ـــــ 2  ضرورة الإسلام للدولة لدى محمد عبده

في كتابه الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية يعرض محمد عبده نظريته في الإصلاح السياسي/ الديني، كنظرية يعتبر فيها بأن تحقيق هذا الإصلاح في القرن التسع عشر، يتخذ كمدخل له الرجوع إلى تجربة السلف الصالح، وخاصة تجربة الصدر الأول والتي كان ينظر فيها للإسلام باعتباره ضروريا للدولة لأنه دين لا تنفصل فيه أمور الدين عن أمور الدنيا أو السياسة. فهو دين وشرع، لأنه قد وضع حدودا وقوانين ورسم حقوقا. هاجسه في ذلك تحقيق النظام والعدل في صفوف المجتمع، وتجنب الغلبة والظلم وهضم الحقوق بفعل تحكم الأهواء والشهوات في العلاقات بين الناس.[26]   ومسؤولية تطبيق هذه القوانين ورعاية هذه الحقوق يتحملها شخص واحد هو السلطان أو الخليفة. لكن من دون أن يعني هذا أن هذا الخليفة أو السلطان يحتكر تفسير الكتاب والسنة كنصين دينيين، وأنه معصوم من الخطأ. فالشرط الأساسي الذي يجب أن يتوفر فيه هو أن يكون مجتهدا وعالما باللغة العربية وما يرتبط بها من علوم، بحيث يكون مؤهلا لفهم الكتاب والسنة واستنباطه منهما ما يحتاج إليه من الأحكام حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والمجتمع الإسلامي.  وينبهنا محمد عبده هنا عدم الخلط بين الخليفة عند المسلمين والتيوقراطي، أي السلطان الإلهي، عند المسيحيين، والذي ينفرد عندهم بتلقي الشريعة عن الله مما يوجب على رعيته حق الطاعة، لا بحكم البيعة التي في أعناقهم وما تقتضيه من العدل  وحماية الحوزة، بل بمقتضى الإيمان .[27]

وهذا التلازم بين أمور الدين وأمور الدنيا في الدين الإسلامي وما يحيل عليه من غياب للسلطة الدينية على النمط المسيحي، يكشف لنا أن مسألة الفصل بين الدين والسياسة غير واردة بالنسبة لمحمد عبده، وذلك لاعتبارين أساسيين: الأول: لقد كان في إمكان هذا الفصل أن يتحقق لو كانت الأبدان التي يحكمها صاحب السلطة السياسية يمكنها أن تمارس وظائفها بشكل مستقل عن الأرواح التي تحيا بها وتعيش. وأن في إمكان هذه الأرواح هي نفسها أن تمارس هذه الوظائف بدون الأبدان التي تحمل قواها. الاعتبار الثاني: إن الفصل بين أمور الدين وأمور السياسة   قد كشف عن استحالته تاريخيا. كيف لا وقد يترتب عنه معاداة دين الحاكم السياسي للعلم والعقل كما تشهد بذلك محاكم التفتيش المسيحية، وكذا تنازع السلطتين الدينية والسياسية، وطلب كل واحدة منهما التغلب على الأخرى.  بينما الإسلام فهو دين تسامح بموجبه تميز بسعة الصدر، وما تقتضيه من تحمل ورحابة الخلق، واتساع الحلم، وحرية، سواء في مجال العقيدة أو في مجال الفكر والمعرفة. كيف لا وهو دين يستند على النظر العقلي لتحصيل الإيمان الصحيح[28]. وهذا ما يدل على تسامحه مع استناد الإنسان في معرفته واعتقاده على غير الوحي. فهو يعمل على تنبيه العقل البشري وتوجيهه للنظر في الكون بحرية والرجوع إلى ما تضمنه من نظام وترتيب وارتباط الأسباب بالمسببات، وذلك بغاية إثبات وجود صانع لهذا الكون.[29]

من هنا إذن ينتهي محمد عبده إلى أن إسلام السلف الصالح الذي نوه به روسو، إن كان ضروريا للدولة، فذلك لأنه دين ودولة يحمل من إمكانات للتحضر والتقدم على أكثر من مستوى، ما يجعله هو أقوى حجة تاريخية على أن فصل الدين عن الدولة ليس شرطا لتحقيق المدنية والتقدم، كما يزعم بعض مفكري النهضة والأنوار، أمثال لوك وفولتير. كما أنه أقوى حجة على تعارض الإسلام مع نظرية الدين المدني، والتي فيها يتبنى روسو موقفا توسطيا، يتأرجح بين أنصار الدولة الدينية المدافعين عن خضوع الدولة كليا للدين، وبين أنصار الدولة العلمانية المتنكرين لأي دور للدين في الدولة.وبهذا يصدق قول العروي بأن ”ما يقوله روسو عن الإسلام هامشي، بقدر ما هو هامشي ما يطابق من كلامه خطاب المصلحين المسلمين ”[30] .

5ــ خاتمة

هكذا إذن نخلص إلى أن نظرية الدين المدني عند روسو لا تخرج عن إطار الفلسفة السياسية الأنوارية  التي سعى أصحابها  إلى تحرير الدولة من سلطة الدين. لكنه قد سلك في هذا مسلكا خاصا تميز به عن بعض فلاسفة الأنوار. وقد كان منطلقه في هذا المسلك، كما يقول عبد الله العروي، هو البحث عن شكل من التعبد يشكل بديلا عن أشكال التعبد التقليدية والتي كرست استعباد الإنسان وزجت به في صراعات وحروب، تعبد يقوم على ”وجدان الفرد الحر المستقل”، والذي  كان هو عماد الفكر الحديث آنذاك.[31] وهكذا سيوفق روسو بين نزعته السياسية العقلانية القائمة على العقد الاجتماعي، وبين نزعته الدينية والوجدانية؛ بحيث سيمنح للدين دورا في حياة الدولة يمكنه أن يساهم إلى جانب القوانين في صيانة الدولة من أخطار الانقسام والطغيان والاستبداد.[32]

لكن هذه الصيانة كانت مع ذلك لها محدوديتها، حسب ناصيف نصار، بموجبها لم يتمكن روسو في نظريته حول الدين المدني، كنظرية تعتبر أن الدولة لا تستمد شرعيتها من الدين، من القطع جذريا مع  نمط الدولة الموروث عن القرون الوسطى، أي الدولة الدينية  والتي رأينا كيف أن محمد عبده قد ظل وريثا لها. وهذا ما يتجلى أساسا، كما يقول ناصيف نصار، في ذلك اللبس الذي اكتنف تصور روسو  لمفهوم الضرورة،  كضرورة  قد يقصد بها أن الدين أساس الدولة، أو أنه أداة لها. حقيقة أن روسو كما رأينا كان معارضا شرسا للدولة الدينية، لكنه لم يدرك بوضوح تام الفرق بين الدين كأساس للدولة والدين كأداة للدولة. ومن هنا وبموجب هذا اللبس جاءت نظريته حول الدين المدني مليئة بمجموعة من المفارقات سنكتفي هنا بعرض بعضها لأن المجال لا يسمح بعرضها كاملة. [33]

ومن هذه المفارقات أن روسو حتى وإن طالب في نظريته هاته الدولة بضرورة ”التسامح مع جميع الأديان التي تتسامح مع غيرها ” بما يضمن تعددية الدين في هذه الدولة، إلا أن هذه الضرورة ظلت مشروطة لديه  بكون هذه الأديان يجب أن ” لا تنطوي عقائدها على شيء مضاد لواجبات المواطن ”[34]  وفي هذا دعوة إلى عدم التسامح مع  الأديان  التي تختلف مع الدين المدني  وجعل الدولة في النهاية قائمة على أساس دين محدد تربطها به علاقة تطابق كما هو الحال في الدولة الدينية [35]. كما أن روسو مهما جعل الدولة ضامنة لحرية التفكير والاعتقاد، فإنه عندما خصها وحدها بتفسير وتأويل الدين فإنه بهذا قد  قضى في النهاية على هذه الحرية وكذلك على القيم الأخلاقية  التي طالما نادى بها وعلى رأسها التسامح . فما لم يأخذه روسو بعين الاعتبار هنا، كما يقول ناصيف نصار، هو أن سلطة الدولة سلطة سياسية  وليست سلطة فكرية عقلية واعتقادية، لذلك فمن الخطإ فلسفيا إعطاؤها حق الحكم  والتقرير في قضايا الفكر والمعرفة، وخاصة قضايا الاعتقاد الديني كما هو الحال في الدولة الدينية.[36]

و حتى إذا ما رجحنا إدراك روسو للضرورة هنا باعتبارها تدل على استعمال الدين كأداة في يد الدولة، ممثلا بالخصوص في دين الفطرة، فهذا من شأنه أن يفتح المجال لإمكانية توظيف هذا الدين سياسيا في اتجاهات مختلفة قد تتناقض مع الوظائف التنويرية التي أرادها روسو للدين المدني.  وهذا ما تشير إليه  الممارسات السياسية اليوم، في المجتمعات التي ما يزال فيها الدين حاضرا بقوة، كالمجتمع العربي الإسلامي، بحيث تكشف كيف أنها ممارسات لاعقلانية  انتهت  إلى تسخير الدين في تبرير طغيان واستبداد الحكام.[37] من هنا كان المفترض في روسو، كأحد داعمي الفلسفة السياسية الديموقراطية، أن لا يكتفي بنقد الدين كأساس للدولة، بل كان عليه أيضا أن يهتم بنقده كأداة للدولة، وذلك بالكشف عنه كسلاح ذو حدين  ف ”تبريراته، إذا صحت في ظروف تاريخية معينة، فإنها لا تخلو من البطلان والفساد والضرر بالنسبة إلى العلاقة  السليمة بين الدولة والدين.”[38]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ناصيف  نصار، مطارحات للعقل الملتزم، دار الطليعة،  بيروت، الطبعة الأولى،  1986،  ص 139.

[2] نفس المرجع والصفحة أعلاه.

 [3] روسو أحلام يقظة متجول منفرد،  ترجمة ثريا توفيق،  مراجعة صالح جودت،  المركز القومي للترجمة،  2009،  ص 121.

[4]رسو: دين الفطرة،  ترجمة عبد الله العروي،  المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،  الطبعة الأولى، 2012،  مقدمة  المترجم،  ص6.

 [5] عبد الله العروي،   مقدمة دين الفطرة  ص6.

[6] ج ج روسو،  في العقد الاجتماعي،  ترجمة ذوقان قرقوط،  دار القلم ن بيروت، الطبعة الأولى،  1973 ،  ص206.

[7] نفس المرجع والصفحة أعلاه.

[8] نفسه، ص 207.

 [9]نفسه،  ص 208.

 [10]نفسه،  ص207.

 [11]نفس المرجع والصفحة أعلاه.

  [12]نفسه، ص 207.

 [13]نفسه،  ص206.

 [14]دين الفطرة،  ص20.

  [15]نفسه،  ص57.

 [16]نفسه،  ص 70.

[17] نفسه،  ص24.

[18] نفسه،  124.

 [19]نفسه،  ص 128.

[20] في العقد الاجتماعي،  ص 211.

[21] نفسه،   ص: 211/212.

 [22] نفسه،  ص 205/206.

 [23] دين الفطرة، ص 18.

 [24] في العقد الاجتماعي،  ص 204.

[25] دين الفطرة،  المقدمة  ص 19.

 [26] محمد عبده،  الإسلام والنصرانية  مع العلم والمدنية،  دار الحداثة،  الطبعة الثالثة،  1988، ص77.

 [27] الإسلام والنصرانية   ص79.

 [28]نفسه، ص69.

 [29]نفسه،   ص 64.

 [30]دين الفطرة ص 19.

  [31]نفسه،  ص 18.

 [32] نفسه،  ص 140.

 [33] للاطلاع على هذه المفارقات  والتوسع فيها يمكن الرجوع إلى المطارحة السابعة في كتاب ناصيف نصار:مطارحات للعقل الملتزم.

[34] في العقد الاجتماعي، ص 213.

 [35]مطارحات للعقل الملتزم،   ص154.

 [36]نفسه، ص 146.

 [37] نفسه،  ص 156/157.

[38] نفسه، ص 156.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/08/25/%d9%86%d8%b8%d8%b1%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%91%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%86%d9%8a-%d8%b9%d9%86%d8%af-%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%88/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك