الفنون والإسلام ورؤى فهم الحضارات

الفنون والإسلام ورؤى فهم الحضارات

رضوان السيد(*

حدَّد هيغل الفيلسوف الألماني الكبير، الفنون الرئيسية في زمانه بإنها هي: العمارة والنحت والتصوير والموسيقى والشعر. وقد أعتبرها المصدر الثالث لقيام الحضارات وفهمها في الوقت نفسه بعد الدين والفلسفة، والفنون لدى هيغل أو في وعيه كانت دائماً كذلك، أي أنها كانت عنصراً أساسياً في المنظومات الحضارية وما اعتبرها تحدياً للدين والفلسفة؛ بل هي في نظره أحد مقومات الحضارة الأوروبية على الأقل. وهكذا يغيب في وعيه (أو في كتابه: فلسفة الجمال على الأقل) صراع المسيحية مع الدين ومع الفلسفة على حدٍ سواء. فلدى آباء الكنيسة الأولى، اقترن كلٌّ من الفنون والفلسفة بالوثنية اليونانية والرومانية، أو أنهما كانا من مقوماتها. وفي هذا الصدد تبرز مقولة أوغسطينوس في القرن الرابع الميلادي، والتي تركزت في النحت والرسم على الخصوص تحدياً للدين؛ ذلك أنّ هذين الفنين ينحوان إلى الإبداع، أي إيجاد صورة أو قوام أو منظور على غير مثال سابق. وهذه خصيصة لله الخالق؛لأن معنى كونه خالقاً إيجاد الموجودات من العدم أو على غير مثالٍ سابق.

والطريف أن بعض العلماء المسلمين أخذوا على الفنون -وعلى رأسها النحتُ والرسم- ما أخذهُ عليها أوغسطينوس، أي أنها تحدٍّ لله -عز وجل-، وادِّعاء المشاركة له في الخلق، ويستغرب مؤرّخ الفن الإسلامي كينل هذا الاعتقاد من جانب أوغسطينوس وبعض لاهوتيي بيزنطية (من محترمي الصور في الكنائس في القرنين الثامن والتاسع للميلاد) وعلماء الإسلام، فالفنان الذي يرسم أو ينحت إنما يقلد الطبيعة الساكنة أو المتحركة، فلا ينتج شيئاً على غير مثال وبذلك لا يشكل عمله تحدياً؛ لأنَّ التقليد لا يمكن أن يطابق الأصل فضلاً على أن يتفوَّق عليه.

على أن في القرآن الكريم وخارجه ما يدلُّ على أنّه كانت هناك تحفظات على الفنون الهيغلية جميعاً؛ لكن إذا كانت علة التحفظ على النحت والتصوير إمكان إثارة شبهة الخلق والإبداع، فإن ذلك غير واردٍ في حالات العمارة والموسيقى والشعر، ولذلك ينبغي أن نلتمس علَّة للتحفظ أكثر ملاءمةً من مسألة الإبداع. والذي أراه أن الأمر يعود إلى الاستهواء (إذا صح التعبير، فالاستهواءُ إحساس غريب يستثير الحبور أو الرضا الزائد عن النفس أو الاكتفاء والامتلاء والانجذاب، وهذا الذي تُشعرُ الآيات القرآنية باستنكاره)، من مثل: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ ومن مثل: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ﴾.

وقد تضاءلت المشكلة في المسيحية بعد القرن التاسع الميلادي بإيجاد فنّ مسيحيّ حفلت به الكنائس واتخذ من تجربة السيد المسيح وأمِّه منطلقاً له. لكننا نشهد فيما بين القرنين السابع والتاسع -كما سبق القول- وفي بيزنطة بالذات حملة على الصور والإيقونات في الكنائس، وقد اختلف علماء ومؤرخو الفنون في من أثَّر في الآخر: البيزنطيون أم المسلمون، على أن هناك من رأى مؤخراً أن الفريقين إنما تأثرا بالتحفظ اليهودي على الصور والمنحوتات في المعابد الدينية فقط، وبالفعل فإن المسلمين -ومنذ أول الإسلام- ما استعملوا التصوير ولا النحت في المساجد؛ في الوقت الذي كان فيه الأمويون والعباسيون يستخدمون الأمرين في قصورهم دونما استنكار من أحد.

وفي حين انحلَّ الإشكالُ لدى المسيحين بخَلْق الفن المسيحي أو تمسيح الفنّ بعد القرن التاسع؛ فإن النحت للأشكال البشرية تضاءل لدى المسلمين إلى حدود التلاشي؛ في حين قلَّ التصوير والرسم أو تهمَّشا خارج المعابد أيضاً وبعد القرن العاشر الميلادي بالذات، في حين برزت التزيينات الفنية ذات الطبيعة التجريدية ومنها الخطوط والنقوش والأشكال الهندسية التجريدية في المباني والمساجد على حدٍ سواء. وهكذا فإن لدينا في المجال الإسلامي إنصرافاً عن الفنون البَصَرية (وإن يكن غير كامل)، وإقبالاً منقطع النظير على الفنون التجريدية بإستثناء العمارة الدينية والدنيوية ذات المظاهر التجسيمية على أننا نستطيع القول إن العمارة أيضاً صارت (الفنون الذهنية) فيها -إذا صح التعبير- هي السائد بداخلها وأحياناً في مظهرها الخارجي. ونشهد ذلك بوضوح في عمارة المساجد والسُبُل والخانات، وسائر المباني الفخمة. ويريد مؤرخو الفن الإسلامي تعليل ذلك بأن العرب في القرنين السابع والثامن للميلاد اتجهوا في فتوحاتهم للسيطرة على أقاليم وبلدان في إيران وآسيا الوسطى والهند، اعتنق سكانها الإسلام بالتدريج؛ وكانوا منذ القدم يميلون إلى التجريد في أعمالهم الفنية.

وهكذا فإن التجريد ليس خصيصةً لما تُعرف بالعقلية الساميّة؛ وإنما هي رؤىً وتصورات سادت لدى الأمم في مراحل من تاريخها.

وهذا ليس قصراً على بعض الأمم والحضارات الشرقية؛ بل نجد أن الفنون الغربية بعد أن تجاوزت مقولة الفن المسيحي، ثم تجاوزت الحِرَفية والرومانسية؛ فإنها اتجهت للتجديد أيضاً، إذ كل التيارات الفنية المعاصرة إنما تُشكّل تجاوزاًُ للمنظور البشري لصالح (البصيرة) أو الذهن، وهو الأمر الذي ساد في أجزاء رئيسية -كما سبق القول- من المجال الفني في الحضارة الإسلامية.

ما قيمة هذا المنظور التصوُّري أو التطوٌّري، فيما نحن بسبيله من تحديد لعلائق الفنّ بالحضارة، وإمكان الوصول لتحديد أمرين اثنين آخرين: إمكان المقارنة بين الحضارتين بشأن موقع الفنون فيهما وإمكان اتخاذ مدخلاً لفهم الحضارة أو الحضارات.

في المسألة الأولى نرى أن سائر الحضارات، ومنها الحضارتين الإسلامية والغربية، فإن الفنون -على اختلاف المفهوم- كانت حاضرةً وقويةً فيها. وما أقصده باختلاف المفهوم أن بعض المؤرخين يعتبرون أن الفنون الإسلامية غلبَ عليها طابع الحرفة والصناعة اليدوية، والدليل على ذلك أن الفنانين ظلوا مجهولين، كما أن أحداً ما أعتبر ما يقومون به إبداعاً، والواقع أن الفنانين بدأوا يذكرون أسماءهم على أعمالهم منذ القرن الثامن الهجري، كما أن الأمراء والملوك صاروا يكلفون الفنانين المعروفين بالأعمال المعمارية والفنية الأُخرى. وهكذا فقد صار الفن في الإسلام أيضاً ذا قيمة تجارية، لتميُّز عملٍ عن آخر، وتميّز فنان على آخر، سواء في المعمار أو في الخط أو في النقش والتزيين والرسم.

إنما الذي ينبغي الاعتراف به -رغم اختلاف المفهوم أو بسببه- أنّ الوعي بأهمية الفن في الحضارة الغربية، حدث قبل هيغل بأزمنة، ثم إن أهميته فاقت ما اعتقده هيغل، بحيث تقدم على الفلسفة، ونافس الدين؛ ليس في اعتباره إبداعاً ذهنياً وحسب؛ بل وفي انطوائه على قيمٍ جماليةٍ وأخلاقية كبرى، وهذا الموقع أو الوعي في الحضارة الغربية لا يمكن القول بمثيله في المجال الإسلامي.

في المجال الغربي ما استطاعت المسيحية تجاهل الفنون، واضطرت لاستخدامها، ثم عادت فاستقلت عنها، ومضت قُدُماً مكتسبةً وظائف جديدة، ومتخذةً تجلّياتٍ جديدة بحيث صارت قيمة الحضارة نفسها، وجزءاً أساسياً من تعريف نفسها بها، أو تماهيها معها. وهذا مرةً أخرى لا يمكن قولُه عن الفنون في الإسلام حتى في مجال عمارة المساجد والخط، وحتى في تاج محلّ في الهند أو الروائع الفنية الإسلامية الأخرى.

إن الفن الإسلامي ما مَرَّ بالمرحلتين المديدتين للفنون الغربية: مرحلة التقليد، ومرحلة البصري الرائع؛ لكنه سُمّي إسلامياً لأنه أسهم بالفعل في عمارة المساجد الرائعة، وفي الخطوط الرائعة وتجاربها مع نصّ القرآن، وتطور تنويعات الخطوط وأجناسها وأنواعها وأشكالها، وكذلك تطورات التزيين والترقيش، ودمج البَصري بالذهني والشعوري. وكما سبق القول فإن الفن الإسلامي ما احتال -كما في الغرب- وتحيّل من أجل الاعتراف. لقد اكتفى بعدم التصوير بداخل المساجد، وانصرف للشعوري والذهني والتجريدي، وظهرت بتلك المزائج والاندماجات الروائع الخالدة التي نشهدُها حتى اليوم، ومع ذلك ثانياً وثالثاً ورابعاً؛ فإن المسائل الفنية ما صارت قرينة الحضارة الإسلامية؛ بل ظلت شواهد ناصعة في أحضانها، وباللون والتجريد كما بالمنظور والافتراض والسوانح الرائعة.

والطريف أن المؤرخ والمنظّر الألماني أوزوالد شبنغلر في كتابة (انهيار الحضارة الغربية) يعتبر أن المرحلتين الرومانسية فالتجريدية في الفن الغربي، شاهدتان على الانحطاط الحضاري، بينما يبلغ الفن الإسلامي ذروته في التجريد الذي يسيطر فيه ويهبُهُ روحه وبقاءه، وهكذا فإن الفنون على اختلاف أنواعها تغص بالحياة في عوالم المسلمين، وفي فهمهم لحضارتهم ودينهم بما في ذلك تجويد القرآن، بيد أن الوعي بذلك ما كان قوياً أو أنه لا يمكن مقارنته بمثيلة في الحضارة الغربية من حيث الوعي، ولا يمكن القولُ طبعاً إنّه يحمل قيمةً أخلاقيةً استبداليةً في مجال الافتراق عن الدين أو الحلول محله، وبعبارة أخرى إن الوعي بأهمية الفنون في الإسلام ما كان موجوداً بوضوح، وإنما حدث في المائة عام الأخيرة، ونتيجة دراسات الغربيين عن الحضارة الإسلامية والفنون الإسلامية.

ونصل إلى مسألة المقارنة، هناك اعتراف لا شكَّ فيه باعتبار الفنون مكوِّناً رئيسياً في الحضارة الغربية، فهي تمُثِّل إنسانية الإنسان في مجال إحساسه بالجمال بوصفه قيمةً جماليةً وأخلاقية أو تسامياً أخلاقياً، فهل يمكن اعتبار الفنون الإسلامية مكوِّناً من مكوِّنات حضارتنا رغم اختلاف الوظائف والأدوار لموقع الفن في الحضارتين؟ إلى أمد قريب ما كان ذلك ممكناً؛ لأن سائر المختصين كانوا يعتبرون الفنون الإسلامية التجريدية مهارات حِرفية باعتبار خُلُوّها من النحت للأشكال الإنسانية، وضآلة التصوير والرسم فيها، وما أنكر أحد الجانب الجمالي في فنون الإسلام؛ لكن في السنوات الثلاثين الأخيرة (منذ معرض لندن للفن الإسلامي عام 1976م) صِرْنا نعرف أنّ الحضارة الإسلامية لا يمكنُ فَهم جوانب مهمة فيها يتعلق بعضُها بروحها ذاته؛ إلا باستيعاب موقع الفنون البصرية والتجريدية فيها.

أن هذا كلَّه يفضي بنا إلى أسئلة تتعلق بالصلة بيننا وبين الحضارة الغربية فقد حاولنا فهمها من حيث موقع الدين فيها، وموقع الدين في حضارتنا، وحاولنا فهمها من حيث موقع التنظيم السياسي فيها وموقع الدولة في حضارتنا، وحاولنا فهمها من خلال الروح الفردية فيها، والروح الجماعية في حضارتنا.

وحاولْنا الفهم أخيراً من حيث موقع (القوة) فيها، وموقع (القوة) والغَلَبة في ترتيباتنا الاجتماعية. فهل يمكن أن نقارن رؤيتنا للعالم، ورؤيتهم للعالم من خلال فنوننا وفنونهم؟ هناك منذ أكثر من قرن دراسات لشخصيات الأمم والثقافات من خلال العناصر البارزة فيها، وهناك شبه إجماع على أن الفنون الغربية مدخل صالح بل ضروري لمقاربة شخصية أوروبا على مختلف عصورها، من خلال الفنون (في علائقها بالدين والإنسان) ولذا، فلا حرج في اختيار إمكانية أن نتأمل أنفسنا، ويتأملنا الآخرون (وقد فعلوا) من خلال الفنون عندنا. وهكذا فإن هذا المدخل الجديد قد يبعث على حركيةٍ متجددة افتقرنا إليها بالتجمد عند حدود (حوار الحضارات) وينبغي أن نخرج من ذلك.

*************************

*) مفكر وأكاديمي من لبنان، ومستشار تحرير مجلة التسامح.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=614

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك