التعدّدية والبُنيات المعرفية للحـوار العـقـلانـي

حيدر حب الله

 

تمهيد

الحوار ظاهرة سلوكية وثقافية واجتماعية، تبدأ من الذات نفسها في تحاور الإنسان وذاته، وتمرّ بحواره وأخيه الإنسان إلى حوارات الجماعات بعضها مع بعضها الآخر، والاتجاهات والمذاهب الفكرية والثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية والفنية و.. وصولاً حتى حوار الأمم والأديان والشعوب والحضارات و.. فالحوار ـــ في واقعه ـــ ظاهرة إنسانية بشريّة تمتدّ من أقصى فردانيّة الذات إلى أبعد جَماعية في الوجود الإنساني العام.

ولعل المتبادر الأوّلي من هذا المصطلح أحياناً كثيرة هو تحاور شخصين أو مجموعة أشخاص حول نقطة محدّدة يبدؤ فيها وحولها الأخذ والرد.. إلا أن المدلول الحالي لـهذه المفردة اليوم صار أكثر سعةً وشموليةً من هذه الصيغة المحدودة نسبياً، فهي ــ أي هذه المفردة ــ تعبير حقيقي غير مبالغٍ فيه عن عمليات تفاعل وتثاقف وتبادل وتلاقح على أكثر ــ وربما كافّة ــ الصعد، فلم يعد مفهوم الحوار مقتصراً على تلك المواجهات المباشرة بين أطرافه، كما لم يعُد يعني فقط عمليات التفاوض الدبلوماسي بين الجماعات والدول والقوى، والتي يراها بعضهم صيغةً متخلّفة من صيغ الحوار([1])، وإنما اتسع ليشمل تبادل المعلومات والخبرات والتجارب و.. بطريقة جمعية ذات مجال أكبر من القنوات التحاورية الكلاسيكية، وأيضاً بأسلوب غير مباشر في طريقة الأخذ والرد والإشكال والجواب، فالتعريف الصامت بالفنّ الشرقي أو الإسلامي في عمق أوروبا، والتعريف المقابل بالفنّ الغربي في الشرق الأوسط وأقاصي آسيا هما نحو من المحاورة، أي تبادلٌ وإبداء لوجهات نظر حول مرتسمات منظومة حياة، ونمط عيش، وآليات تفكير وتعقل.

إن العمق الأساس لتوسّع ظاهرة الحوار من الحوار الفردي إلى حوار الحضارات هو التبلورات الحديثة للمنظومة العالمية ووسائل الاتصال وأنظمة المعلوماتية وأجهزة الإعلام العملاقة والشركات المتعددة الجنسية.. والتي تتجه نحو عولمة قهرية تفرض القرية الكونية المنبثقة عن الواقعين: العلمي والسياسي، وصار من غير الممكن ــ سيما لأولئك الذين يعيشون على هامش العولمة ويمثلون الأطراف فيها لا المركز ــ التقوقع والانطواء واختيار العزلة؛ لأنه ليس ثمة طريق حتى لتحقيق هذه العزلة المفضلة والمؤمّلة.

هذا هو الواقع الذي صار يفرض على الأطراف الضعيفة دخول الحوار أو بالأحرى تحويل الواقع العالمي من واقع إلقاء وتلقين ومن واقع إنتاج واستهلاك إلى واقع تحاورٍ وتفاعل وتبادل وثنائيّة وجدليّة، مما لا إمكانية لـه إذا لم يسع الأضعف ــ قبل الأقوى ــ إلى إعادة بلورة منطقية وعلمية لظاهرة الحوار المرجوّة.

ولا نركّز هنا على شيءٍ مختصٍّ بحوار الحضارات أو الثقافات بقدر ما نُعنى بـظاهرة الحوار بشكلٍ عام، مما نراه ضرورةً ثقافية ودينية اليوم قبل أن تكون سياسية؛ ففي الحوار تتجلّى المناهج وتظهر أزمات العقل، لهذا كان لابدّ من وقفة جادة على هذا الصعيد.

 

علم الحوار والتفاوض

وعلى أية حال، فالشيء الملفت هو التجربة السياسية والاقتصادية ـــ تحاوريّاً ـــ في القرنين الأخيرين، والتي أخذت فيها الدبلوماسية حيزاً كبيراً، فلقد أدّى تنامي النشاط الدبلوماسي ــــ عالمياً ودولياً ــــ إلى تشكّل تجارب كبيرة من المفاوضات والحوارات التي أثمر الكثير منها مذكرات تفاهم ومعاهدات موثوقة، وقد لاحظ خبراء الدبلوماسية أنه ــ وعلى مرور الأيّام ــ صار هناك نوع من المراكمة لتلك الخبرات التي اكتسبتها تجربة الدبلوماسيّة، فتولّد هناك شعور بضرورة جمع هذه الخبرات، الأمر الذي أدى إلى تولّد علم جديد أطلق عليه اسم: علم التفاوض، الذي اتسع نطاقه ليتحوّل من مجرّد برنامج عمل للفن الدبلوماسي إلى منظومة علمية متكاملة للتفاوض الاجتماعي والسياسي ككل.

لقد أخذ علم التفاوض دوره مكان الحوار، فصارت التسمية الأكاديمية للحوار والجدل هي: التفاوض الذي أصبح اليوم على صعيد بعض الجامعات في العالم علماً مدروساً ومعتمداً، بل كان لبعض هذه الجامعات دور بارز في بناء مشاريع على هذا الصعيد، أبرزها جامعة هارفارد([2]).

لقد صارت دراسة الحوار والتفاوض بحاجة إلى علم مختص، ففي جنيف وحدها تجري سنوياً حوالي عشرة آلاف عملية تفاوض حول مختلف موضوعات العالم، ونحو ذلك في نيويورك أيضاً، فضلاً عن مئات الآلاف من عمليات الحوار الجارية داخل كل قطر ودولة، مضافاً إلى ملايين أو مليارات عمليات الحوار العامة. وهذا ما صار يستدعي دراسة هذه الظاهرة على أكثر من صعيد دراسة علمية مستوعبة، والخروج من الحديث عنها في اطار الكلام العام والضبابي أحياناً، سيما وأن علم التفاوض المعاصر هو ــ على حد قول الدكتور حسن وجيه أحد المختصّين العرب بهذا العلم ــ كيان متمازج من دراسات علم النفس والاجتماع واللغويات والعلوم السياسية وعلم الأجناس([3])..

وبقطع النظر عمّا يسجلـه بعضهم حول العجز العربي (وربما الإسلامي) إزاء التفاوض، والضعف الأكاديمي إزاء هذه المادّة، فإن الموروث الحضاري والديني الإسلامي يمكنه أن يكون مَعيناً جيداً لاستمداد الدعم والتأييد والمساندة لبلورة علمٍ من هذا القبيل.

 

القراءات المتنوّعة للظاهرة الحواريّة

ولكن هذا العجز العربي أو الإسلامي لا يعني أنه لم تجر عمليات قراءة لظاهرة الحوار ــ وعلى أكثر من صعيد ــ من قبل المسلمين، بل على العكس من ذلك تماماً، فإن مفردات الحوار والجدال بالتي هي أحسن، والتبادل الثقافي، وحقّ الاختلاف والنقد، وحق إبداء الرأي وحرية التعبير، وفنّ الإصغاء والاستماع، وأدب الخلاف والاختلاف، والحوار الإسلامي المسيحي، والحوار السنّي الشيعي، وحوار الثقافات والحضارات و.. وغيرها من المفردات هي اليوم حاضرة بقوّة في الواقع الفكري والثقافي، بقطع النظر عن مدى نجاح تجربتها، كما أن هناك ـــ في المقابل ـــ حالةً من النقد، بل والرفض لمقولات الاستبداد الفكري، والاحتكار الثقافي، والنرجسية، والدوغمائية، والأجوبة الجاهزة، والصيغ الناجزة، والأفكار المعلّبة، والحقائق المملوكة وغيرها.. فموضوعة الحوار موضوعة حاضرة ومقروءة ومبحوثة إسلامياً.

وقد دوّنت الكثير من المؤلفات والدراسات والمقالات، سيّما في الفترة الأخيرة، التي تعالج هذا الموضوع وتدرسه من جوانب عدّة، وقد شملت هذه النتاجات المختصّة بالحوار قراءتَه على عدّة محاور، نجد أنفسنا مضطرّين للإشارة إليها؛ بهدف تمييز المحور الذي تتركّز عليه دراستنا هنا، كوننا معنيين بقضايا المنهج:

المحور الأوّل:محور المنطلقات النصّية التي كشفت عن موقف ديني من هذه الظواهر والوقائع، وقد عمد الباحثون هنا إلى المصادر الدينية ــ كالقرآن والسنّة ــ واستنطقوها لمحاولة معرفة التعاليم والإرشادات الدينية في هذا المضمار.. فمثلت أمامهم مجموعة نصوص قرآنية تحكي تجارب الأنبياء التحاورية، كما برزت الآيات الشريفة التي ترشد إلى الأساليب القرآنية في خطاب الآخر([4])، ومن مجموع الأخلاقيات الدينية للحوار يتبلور التصوّر الديني حول هذا الموضوع، وقد أحصى بعض الكتّاب كلمة «قال»في القرآن الكريم، فوجدها قد تكرّرت 1713 مرّة، وأما كلمة «جادل»فـ 29 مرّة، وكلمة «حاجّ»13 مرّة، وكلمة «حوار»3 مرّات.. وهكذا([5])، وهذه مادةٌ جيدة لدراسةٍ نصّية لـهذا الموضوع، كما أن قراءة التجربة الإسلامية التاريخية في هذا المجال وتوثيقها وتنظيمها يمكنه أن يقدّم مزيداً من المعلومات المفيدة، كما حاولـه الدكتور طه جابر في كتابه «أدب الاختلاف في الإسلام».

المحور الثاني:المحور الأخلاقي، وهو الجانب الذي يجري مركزة البحث فيه حول أخلاقيات الحوار ـــ وقد يتداخل هذا المحور مع المحور الأوّل أحياناً ـــ وتبرز هنا التوصيات الأخلاقية من قبيل: آداب الإصغاء والاستماع، مستوى الصوت وطريقة الإشارة، احترام الطرف الآخر، تجنب الكلمات النابية أو الجارحة للمشاعر، الابتعاد عن أساليب التدمير والاحتقار والازدراء، تجنّب تقزيم جهود ورؤى الآخر، الابتعاد عن اللعن والسبّ والشتم والبذاء، فسح المجال للآخر لكي يقول ما يريد، الابتسامة، الصبر على الآراء الأخرى، تحمّل النقد وكشف النواقص، الاعتراف بالآخر، التواضع، وغيرها من خصال الحوار الأخلاقي والمنتج.

وهناك نتاجات متنوّعة في هذا الإطار، اهمّها ــ ظاهراً ــ النتاج الأخلاقي الديني، الذي يستمدّ من مفردتي: الموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن ــ وهما مصطلحان قرآنيان ــ أسسه ومعطياته.

المحور الثالث:المحور التوظيفي الشعاري، وهو محور يستهدف عملية الترويج لثقافة الحوار والتفاوض، وطرحها بوصفها شعار عمل على المستوى السياسي وغيره، وتأتي هنا مقولتا: حوار الأديان وحوار الحضارات، فهذا المنحى يحوّل الحوار إلى منطلق شعاري ــ بالمدلول الإيجابي للكلمة ــ تعمل على أساسه الحركات والمنظمات والأديان والدول لخلق فضاء جديد للإنسانية قادرٍ على الحدّ من التوترات والتشنّجات المتتالية.

وكأنموذجٍ حاصل لذلك، الحوار الإسلامي المسيحي، الذي أثير طرحه أخيراً سيّما في النصف الثاني من القرن العشرين، وخصوصاً في مصر ولبنان، فقد غلب على هذا الحوار الطابع الشعاري التوظيفي، وإلا فإن قراءةً سريعة لـهذه التجربة تكشف لنا عن مدى ضآلة الحوار الحقيقي على هذا الصعيد، إذا استثنينا بعض مظاهر الحوار الاجتماعي، وهناك من يرى في الحوار الإسلامي الإسلامي، وكذا في مقولة حوار الحضارات، شيئاً من هذا القبيل.

المحور الرابع:المحور الميداني، وهو المحور الذي يأخذ الحوار بوصفه عينةً خارجية وواقعاً إنسانياً موضوعياً، ويبدأ بدراسته على أسس اجتماعية نفسية وغيرها، ويعتمد الإحصاء والمتابعة أساساً لـه، فمثلاً يجري أخذ الواقع العربي بوصفه عينةً لدراسة ظاهرة الحوار فيه في الربع الأخير من القرن العشرين، مراحل هذا الحوار، تطوّراته، نكساته، معوقاته، عوامل نجاحه وإخفاقه وهكذا.. ذلك كلّه اعتماداً على عينات حوارية موثّقة.

وفي الحقيقة، فهذا الجانب على رغم من أنه كتب حولـه بعض الشيء([6])، إلاّ أنه ما يزال بحاجةٍ إلى سعي ميدانيّ أكبر وأشمل سيما على المستوى الإسلامي، وسوف تكون لنا وقفة مع موضوع العقل الاستقرائي والإحصائي لاحقاً إن شاء الله تعالى.

المحور الخامس:المحور المعرفي المنهجي، وهو هدفنا هنا، وهو محورٌ يتراجع إلى الوراء ولا ينظر إلى توظيفات الحوار في المجتمع، ولا إلى منابعه الدينية المشرعنة لـه أو الرافضة أحياناً.. وإنما يهمّه دراسة البنى التحتية المعرفية للحوار بما هو فعلٌ ثقافي وعلمي بما يمكنه إفراغ المحتوى الشعاري للحوار ــ بالمعنى السلبي للكلمة ــ وتهيئة مبرّرات واقعية لـه.

ومرجع هذا النوع من الدراسة إلى توظيف مقولات فلسفية ومعرفية وكلامية تمّ التنظير لـها في علومها المختصّة بها، وهذا معناه أن الدراسة المعرفية والمنهجية للحوار هي إخراجٌ للمقولات الفلسفية من مداراتها الخاصة بها واستخدامٌ لـها في دائرة ميدانية بالنسبة إليها، فهي بالنسبة للحوار العماد النظري أو الملاذ المعرفي الذي يلجأ اليه مشروعه العقلاني، وهو ما يشكّل الأساس لبلورة علم منطق الحوار، كما يعبّر عنه بعض الباحثين([7]).

 

أزمة الحوار المعاصر

يعاني الحوار في الوسط الفكري والثقافي العربي والإسلامي من أزمتين حقيقيّتين هما:

1 ـ أزمة الأخلاقية،أي أن أخلاقيات الحوار لم تتحوّل بعد إلى واقعٍ معاش وطبع ثان، ومن ثم بقي الحوار الأخلاقي شعاراً كبيراً لم يترجم بصورةٍ حيةٍ في المجاميع والمحافل الفكرية والدينية غالباً، والذي يشهد لذلك إحصاء المفردات غير المناسبة غالباً، والتي تحكم ثقافة المتحاورين بمن فيهم أولئك الذين يدّعون وينظّرون لأخلاقيات الحوار، فنحن نجد حضوراً كثيفاً ـــ وطبعاً الكلام هنا ليس عاماً وشاملاً بالتأكيد ـــ لمفردات يمكن أن تسمى هجوميّة ككلمات: المعاداة للدين، المؤامرة، العمالة، الكفر، الزندقة، الليبرالية، الارتماء في أحضان الغرب، الانحلالية.. من جهة، تقابلـها مفرداتٌ من الطرف الآخر بالقسوة نفسها تقريباً كالظلامية، الرجعية، التخلّف، السطحية، العدوانية، النرجسيّة، الدوغمائية، التحجّر، التخشب، الاستبداد و.. من جهةٍ أخرى، وهي مفردات تكشف عن حالةٍ مأزومة وجوّ غير سليم، كما ترشد إلى أن موضوعة الحوار وإن دخلت أو تولّدت في أدبياتنا اليومية سياسياً وثقافياً ودينياً و.. إلا أنها ما تـزال تعاني من عقبات حسّاسة يبدو أنه ليس من السهولة تجاوزها، وهكذا عندما نحاول الاطلال على مقدّمات الكتب والبحوث، فإننا نجد حالةً واسعة الانتشار من تقزيم الآخر واتهامه، بحيث يصعب أن تلاحظ مقدمة كتاب لا تشنّ حرباً عنيفةً على الآخر أو تحاول تمجيد الذات.

ولا نقصد هنا رفض مداولة هذه المفردات الآنفة الذكر وأمثالـها من المصطلحات بل والتراكيب والسياقات، وإنما نقصد التحفّظ في استخدامها بلـهجات إتهامية واضحة في أجواء مدافَعَة متشنّجة لا بطريق النظرية أو التعميم.

وكما يطالب المتحاور بتمثّل عقلٍ بارد في نقده، كذلك يطالب الآخر بإعادة موزانةٍ لمعيار أحاسيسه حتى لا يكون أي تعبير مثيراً للاحساس المتوتّر أحياناً، فالذي يحصل كثيراً على هذا الصعيد هو أنّ بعض الأطراف المحافظة ــ بالمعنى العام للكلمة ــ على مستوى الساحة الدينية عموماً، تعيش درجةً

عالية من الحساسية بحيث تتفاعل بسرعةٍ كبيرة مع أبسط أنواع النقد

أحياناً، وتعجز أحياناً أخرى عن التمييز بين مفهومي النقد والمناهضة أو مفهومي الرفض والمناقشة.. وفي مثل هذه الحالات لا يتسنّى بناء حوارٍ سليم وهادئ مهما سعى الطرف الآخر لإعادة إنتاج أو صياغة متوازنة وهادئة لمفاهيمه.

وهذا ما يعبّر عن حالة حساسيّة عالية، تبلغ درجةً غير صحّية، يصعب معها الانطلاق بأيّ عمل أو إنجاز أي مشروع.

2 ـ أزمة المعرفة والمنهج،وهي محلّ اهتمامنا هنا، أي أنّ الحوار يتواجه وصدمة مع أكثر من واقع معرفي لا يتناغم معه في امتداداته وتوظيفاته.

إن الشيء الملاحظ ــ الذي نريد أن ننطلق منه هنا ــ في الأروقة الثقافية والدينية في مجتمعاتنا هو أن حركة الحوار عندما تأخذ مسارها الطبيعي، وتمرّ بمراحلـها المتعاقبة تصطدم ـــ في كثير من الأحيان ــــ بواقع معرفي صلب لا تقدر على الاستمرار في ظلّـه؛ أي أن هذا الواقع المعرفي يضغط بثقلـه على منهاجية الحوار الفكري فيحرف مسارها نحو اتجاه غير اتجاهها الطبيعي المتكامل.

هذا الأمر يحول دون تشكّل ديمومة للظاهرة الحوارية؛ لأنه يخفض من السقف المحدد لـها، نعم الظاهرة الحوارية ليست قيمة مقدّسة متعالية على كل القيم، بل إنها ــ كأكثر القيم الأخلاقية ــ مؤطّرة ومحدّدة بقيود وخصوصيات وحالات معينة، إلا أن الأمر الذي يحصل هو تـزايد وتضاعف تلك القيود المعرفية الموضوعة على هذه الظاهرة، الأمر الذي يضيّق من دائرة الاستخدام كلّما زادت أعداد القيود والاعتبارات، فالمشكلة ـــ منهجياً ــــ ليست في فرض قيودٍ على الحوار ــــ شكلاً وآليةً ومضموناً ــــ وإنما في المدى الكمّي والكيفي لـهذه القيود المفروضة، من هنا فإن ملاحظة النسب الواقعية التي تفرض ــ فرضاً منطقياً ــ حدّاً معيناً من هذه القيود قد يؤدي إلى القناعة بأن مضاعفة هذه القيود عن هذا الحدّ المعتدل قد يكون فيها إفراغاً أو شيئاً من إفراغ الحوار بوصفه ضرورة اجتماعية فكرية تربوية..

إن هذا الاضطراب والتوتّر الذي يصيب حركة الحوار عند الاصطدام بواقعٍ معرفيّ ما يضرّ ــــ قبل كل شيء ــــ بالعملية التحاوريّة نفسها؛ مما ينجم عنه ضعفٌ في الإنتاج الثقافي أو تولّد إنتاجٍ محتو على ميكروبات منهجية ومعرفية.

فالشيء المهم لتفعيل ثقافة الحوار المنتج معرفياً يكمن في دراسة هذه القيود الفكرية التي تشنج ــ وكأنها شحنةٌ كهربائية حادة ــ كل المسار التكاملي بمجرّد الاصطدام بها، وهو ــ أي هذه الدراسة ــ أمر لم يجرِ الاهتمام به بدقة وبالحجم المناسب من قبل الباحثين والداعين إلى حوار عقلاني هادف، وانما جرى التركيز بصورة أكبر ــ سيما على مستوى الساحة الإسلامية ــ على الجوانب الأخلاقية والدينية للحوار كما لاحظنا إجمالاً، فنحن نواجه قيم الحلم وسعة الصدر لدى مطالعة موضوعة الحوار، كما نواجه قيم التحمّل والصبر على آراء الآخرين بوصفها أساساً أخلاقياً لتنشيط الحوار الـهادف، إلا أن الحديث عن بلورة وضعيات فكرية معرفية تمثل المحيط الطبيعي لحوارٍ عقلاني إنما كان يأتي عن طريق العَرَض ولم يكن منظوراً في الأهداف الأولى للدراسة غالباً، والمفارقة التي تحصل هنا تختـزل في التناقض الحاصل بين المنحى القيمي والواقع الفكري؛ لأن مركزة الجهود على الخط الأخلاقي دون تأمين مهيئات موضوعية معرفية تفضي ــ أي هذه المركزة ــ إلى نوع من الحركة المتعاكسة، فالتوجيه الأخلاقي يدفع ـــ من جهةٍ ـــ ناحية إنجاح الخطوة فيما الواقع المعرفي يصدّ عن إكمالـها، ومن الطبيعي أن يتغلّب البعد المعرفي على البعد الأخلاقي؛ لأنه القادر على إيجاد تبريرات أخلاقية جديدة.

من هنا، تتأكد الفكرة القائلة بأن أي حديث أخلاقي تقريباً سيبقى في عالم الضبابية وبعيداً عن التطبيق والعملانية مادام النظام القيمي فيه غير منسجم مع الواقع الموضوعي أو غير متدرّجٍ معه.

وهذه هي بالضبط المقولة التي ركّز عليها كثيراً بصورتها العامّة العلامة السيّد محمد حسين الطباطبائي؛ فقد رأى العلامة أن النظام القانوني والأخلاقي الإسلامي ليس أمراً إضافياً على المسار الطبيعي للتكوين، وبالتالي فهذا النظام إنما يعبّر عن إعادة الحركة الاجتماعية والنفسية و.. الإنسانية إلى الحالة التي تتطلبها الطبيعة والتكوين تماماً، كما هو تناول الأغذية ليس أمراً قانونياً أو أخلاقياً يضاف إلى الوضع الطبيعي للحياة البشرية التكوينية، وإنما هو بالضبط محاولة للدخول في هذا المسار التكويني بالكشف عن استدعاءاته حتى لا يحدث المرض أو غيره([8]).

وكمثالٍ على هذا المبدأ ــ أي مبدأ التطابق بين الواقع والقيمة بعيداً عن انطباقه على رؤى العلامة الطباطبائي ــ على المستوى الديني ما يحصل عندما تُطرح النصوص الدينية لتثبيت مقولةٍ أخلاقية معينة، ثم وفي المقابل تطرح مجموعة واقعيّات في النص الديني نفسه لا تكاد تنسجم مع ذاك الطرح الأخلاقي، فإن ذلك يولّد نوعاً من التعارض في النصوص نفسها ربما لا يكون تعارضاً حرفياً مرتسماً بدقّةٍ وعناية للوهلة الأولى إلا أنه تعارض حقيقي على أرض الواقع المستوعب لا الاستثنائي، فعندما يستخدم بعض العلماء الآيات الذامّة للعرب الجاهليين على تقليدهم لآبائهم لتأكيد فكرة إعادة النظر بأصول المعتقدات الدينية وأن الإسلام قد ذمّ هذا التقليد ــ بقطع النظر عن متعلّقه ومحتواه ــ وهو ما نراه شاملاً لتقليد العشيرة كما أنه شامل لتقليد النسيج الثقافي العام السائد في المجتمع.. عندما يستفيد بعضهم ذلك ويؤصّل لدعوة إسلامية لإنتاج بناء اعتقادي مصدره عقل الفرد نفسه لا عقول رسمية، يواجه في المقابل ثقافة تدعم نفسها بنصوص أخرى تمنع الفرد المسلم من الدخول في تقويم ذاتي لمعتقده، وتنتقد بشدّة التبريرات المعطاة للأفراد في تكوين بُناهم العقدية والفكرية، معتمدين أيضاً على صورة معرفية لعقل عامّة الأفراد، عندما تتم هذه المفارقة نعرف أن خطأ ما قد حدث في هذا الطرف أو ذاك، بالرغم من أنه قد لا تكون هناك أية معطيات تؤكّد ــ من ناحية الترسيم الأصولي لنظرية التعارض ــ وجود شيء من المعارضة والتنافي، لكن التساؤل يفرض نفسه، فكيف يمكن أن تكون هناك قيمةٌ للبحث الفردي في الموضوعات العقدية والحال أن هذا البحث تجري مصادرته على مستوى النتائج ليُختـزل بنتيجةٍ معينة على هذا البحث الخروج بها؟ إذا كانت النتيجة هي المطلوبة فهذا يعني أنّه لا قيمة لنفس البحث والتحقيق والتأمّل العقلي الفردي، والعبرة حينئذٍ إنما هي بالنتيجة نفسها ولو ــ لا أقل ــ عن طريق البحث إذا صادفها، أما عندما تكون القيمة منصبةً على رفض التقليد والأخذ بالمنحى التحقيقي الفردي في التعاطي مع الأمور العقدية، فإن النتيجة لا يمكنها حينئذٍ أن تفرض نفسها على القيمة الأخلاقية الموجودة في التحقيق وعدم التقليد، وهذا معناه أن ادعاء القيمة الأخلاقية المختـزنة في نـزعة التحقيق العقدي ومن ثم رفض النتائج المنبثقة عنها رفضاً قيمياً وسحب الشرعية منها يمثل تناقضاً واضحاً([9]).

من هنا، وعلى الصعيدين الأخلاقي والديني، من الضروي إيجاد نوع من المصالحة ــــ وربما المزاوجة ــــ بين هذين المنحيين: منحى مرتبط بالقيمة والحق والحكم ومنحى متصل بالعلم والمعرفة والواقع، وما لم تتم هذه المصالحة فإن الكثير من الجهود الساعية نحو بناء حوار أصيل وراسخ لن تصمد كثيراً أمام ضغط الواقع والمعرفة، هذا ما نحتاجه ونقصده، ألاّ ننظّر لأخلاقيات تحاورية في حين أننا نضع ونحمل وننظّر لبنى معرفية وطرائق تفكير وأساليب منهجية لا يمكن للحوار أن يحيا في ظلّـها أو أن يدوم، فالحوار لا يمكن توجيه دعوة أخلاقية أو قانونية للالتـزام به ما لم يكن هناك سعيٌ حثيث لإزالة العقبات الميدانية التي تقع في طريقه، وأهمّها العقبة المعرفية، وإلا فإن التوجية الأخلاقي لن يقدر على الصمود سيما عند اشتداد الأمور وعند أكثر الناس، بل سيتحوّل إلى قانون غير قابل للتنفيذ، ومن الطبيعي أننا عندما نتحدّث عن منظومةٍ فكرية متكاملة كالمنظومة الدينية فإن علينا أن نعرف أنّ تكامل هذه المنظومة يفرض انسجاماً بين الأطراف كافة، وإلا فإن قوانين هذه المنظومة ستكون متعاليةً عن الواقع، كيف يمكن الدعوة إلى الحوار بوصفه قيمة أخلاقية وفي الوقت عينه يفرض في المنظومة المعرفيّة للمتحاورين أنه لا احتمال للخطأ إطلاقاً في فكرتهما؟ هل سينتج عن هذا الحوار غير تراشق الكلمات دون أية نتيجة كما سنلاحظ؟

 

الأسس المعرفيةوالمنهجية

من اللازم هنا التذكير بأن هذه الأسس الآتية الذكر كما أنها لا تمثل كامل المباني المعرفية للحوار العقلاني، كذلك ليست أموراً متفقاً عليها، بل إنها بدورها خاضعة للحوار أيضاً وقابلة لإعادة النظر، فإن مقولة الحوار العقلاني الـهادف ليست مقولةً ذات تعريف مسلّم به ومتفق عليه، فهي ــ إن صحّ التعبير ــ مقولة نسبية يحدّدها كل طرف وفق القبليات التي يحملـها، فربما يكون حوارٌ ما عقلانياً بل في غاية العقلانية عند طرف فيما يراه الآخر بحاجة إلى مزيد من العقلنة والبلورة المنطقية السليمة أو الأسلم، من هنا فعندما يقال: البنيات المعرفية للحوار العقلاني، فلا يعني ذلك المصادرة أمام أي عمليات تفاوض أو تحاور أخرى لا تتخذ من هذه البنيات أساساً لـها، وهذا معناه أن عقلانية الحوار هنا إنما هي الأنموذج الأفضل ـــ نسبياً ـــ للحوار العقلاني العلمي من وجهة نظر الكاتب قياساً بالنماذج الأخرى التي لا ننفي عنها العقلانية.

كما أن البرهنة على صحّة المقولات الآتية موكولٌ إلى محلـّه الخاص في العلوم الأخرى، مضافاً إلى ما درسناه وندرسه في هذا الكتاب، ونحن هنا نفترض أننا مؤمنون بها، وإنما نحاول وصلـها بظاهرة الحوار وتأثيراتها بها، وإبراز المظهر الإيجابي لـها على هذا الصعيد.

وعلى أية حال، فأبرز ما يمكن ذكره من أسس هنا أمور ــ قد يكون فيها بعض التداخل الذي يفرض التغاضي عنه لضرورات الإيضاح والتمييز ــ أهمّها:

1 ــ التعدّدية المعرفية

يترافق مصطلح التعددية المعرفية في بعض الأوساط مع مفهوم نسبية الحقيقة أو نسبية المعرفة، وبالتالي فهو يحمل مضموناً سلبياً نتيجة ذلك([10])، لكنّنا نقصد به هنا معنى لا يختـزن ــ لا أقلّ بحسب تصورنا ــ هذين المفهومين للنسبية، بل يرتكّز ــ في جملة ما يرتكز عليه ــ على تعديلٍ في مفهوم اليقين نفسه وفق تصوّرات خاصّة يفترض أن تكون قد جرت دراستها في مرحلةٍ أسبق.

تسود الاتجاهات العلمية القديمة وبعض المذاهب المعاصرة المعادلةُ القائلة بأن نتيجة البحث في أي موضوع تساوي صحة قولي وبطلان قول الآخر ضرورةً، فالباحث أو العالم عندما يدخل في بحث علمي فإنه يسعى فيه للوصول إلى الحقيقة، وهو في نهاية المطاف عادةً ونتيجة العمليات الذهنية المتتالية يرى أنه قد وصل إليها فعلاً، وكنتيجةٍ تلقائية لذلك فهو ينظر إلى الأفكار الأخرى على أنها باطلة وليست إلا كذلك، وهذا ما يمكنه عادةً بلورة نوعٍ من الطبقية الفكرية المرتكزة على مفهوم الصواب والحقّانية.

القضية الأساس هنا تكمن في تصوّر التوزيع الحاصل للحقائق على العقول والأذهان البشرية، فالرؤية التي يحملـها المنطق الكلاسيكي إزاء هذا التوزيع هي ــ غالباً ــ رؤيةٌ تعتمد على منطق المفاضلة المتمايزة على درجة عالية، أي أنّ المؤشر وفق هذا التصوّر يدلّل على تمايل الحقيقة لطرف دون البقية، وهذه المفاضلة يركّزها المنطق المدرسي على أساس معادلتين تمثلان تصوّره الخاص لليقين؛ إحداهما المعادلة الإيجابية القائلة بأنه حيث كانت المقدّمات صحيحة ـــ كماً وكيفاً، مادةً وصورةً ـــ باليقين فما توصّلت إليه صحيح بالضرورة، وثانيتهما المعادلة السلبية المقابلة والتي تقول بأن كل ما هو خلاف رأيي فهو باطل وخطأ بالضرورة، ويستحيل كونه صائباً؛ لأن ذلك يستلزم المحال، حيث كان رأيي صحيحاً بالضرورة، وهاتان المعادلتان تفرضان على الباحث مواصلة العمل حتى يحوز عليهما معاً، أي اليقين البرهاني الحاسم بصحّة قولـه ويقينٌ مشابه ببطلان الآخر.

هذا هو الذي سمّيناه الطبقية الفكرية ــــ دون أن نوظف هذا المصطلح في مدلولاته القبيحة ــــ أي هي الشعور بأن هناك طبقتين في عالم الفكر، طبقة المحقين وطبقة المبطلين أو الخاطئين، وكل الشرعية ــــ معرفياً ـــ إنما هي للطبقة الأولى، ولا شرعية إطلاقاً للطبقة الثانية.

هذه البنية الفلسفية المعرفية هي بنية متصادمة ـــ في نقطةٍ ما وإلى حد معين ــــ ومقولات الحوار والتفاوض؛ لأن المفكّر الذي ينطلق من هذه القاعدة المعرفية يجد نفسه متورّطاً في شيءٍ من الازدواجية بين بنيته المعرفية وبين المقولة القاضية بأن «رأيي صحيح يحتمل خطؤه ورأي غيري خطأ يحتمل صحته»؛ لأن هذه المقولة التي تمثّل ــ كما يقولون ــ أساس أي تفاهم حواري، لن يتمكن المحاور الذي يتخذ من تلك البنية المنطقية المعرفية قاعدةً لـه أن يستمر معها طويلاً؛ لأنه عندما يصل إلى ذروة الجدل والمحاورة سوف تبرز أمامه تلك البنية المعرفية إلى السطح نتيجة ضغط اللاشعور، وبالتالي سوف يعيد إظهار كلمات الدوغمة من أمثال: قطعاً، يقيناً، جزماً، بداهةً، لا خلاف فيه.. إلى غيرها من سلسلة المفردات المعيقة لديمومة العملية التحاورية.

هذه هي الصدمة التي تكلّمنا عنها آنفاً، وهي أنه عندما يصل الحوار إلى ذروته تبرز البنيات المعرفية ــ كما البنى الأخلاقية ــــ إلى السطح بقوّة، وتصدم هذا الحوار بشدّة؛ لتعيده حيث بدأ وتفقده من ثمّ الإنتاجية والتوليد.

كيف يمكن الجمع بلا إزدواجية (والازدواجية وأمثالـها هنا تمثل مظاهر عابرة، أي أنها عند اشتداد الموقف تخرج عن صورتها، وينعكس الواقع بدقة كما هي الحال في الكثير من الأخلاقيات المماثلة) بين استحالة صحّة القول الآخر واحتمال خطأ قولي أو العكس؟ وكيف يمكن أن يكون الحوار هادفاً ــــ بالمعنى الذي سيأتي لـهادفيّته ـــ ما دام المحاور قد دخلـه واصلاً إلى الحقيقة لا طالباً إياها؟

أما لو استبدلنا تلك البنية المعرفية بعقل تعددي معرفي ــــ لا فقط تعددي اجتماعي ــــ أي ذاك العقل الذي يرى أن الحقيقة منبسطة لا متمركزة، وأنه لا يمكن لمنظومة متراكمة من الحقائق والمولدة لثقافة معينة أن تكون كلـها صحيحة أو لا أقل لا دليل ينفي احتمال الخطأ فيها.. فإن الوضع سيختلف.

إن هذا العقل ينظر إلى التجربة الفكرية للبشر ككل بنظرة مشرفة، ويتفهم الكمّ الـهائل من أخطاء التفكير اليومية هنا وهناك، ويتعامل مع العقل البشري تعاملاً واقعياً نتيجة خبرة طويلة معه ميدانياً، من هنا فهو يجد انتشار الأخطاء على العقول كافة لا يسلم منها عقل، وهذه الموقعية المشرفة للعقل التعدّدي تجعلـه معترفاً ومقراً دائماً باحتمالٍ حقيقيٍّ للخطأ في أية فكرة حتى لو لم يمكنه تحديدها تفصيلاً.

إن الاستبدال بهذا العقل يجعل المتحاور منسجماً مع ذاته في حواره؛ لأن الحوار سيبقى قائماً على قاعدة حقيقية ــ لا شكلية ــ اسمها احتمال الخطأ في رأيي واحتمال الصواب لدى الآخر، وليس قائماً على قاعدة تنازلية تسالمية مرحلية غير متجذرة في العقل والوعي، وإنما هي مجرّد صيغة تفاوضية مصلحية ليس لـها خارج الحوار وجود فاعل.

إنّ من أهم نتائج هذا العقل التعددي هو تقليص المفاهيم الإطلاقية وانتشار ما نسميه ثقافة الاستثناء المعاكسة؛ لأن هذا العقل لم يعد يؤمن بنتائج ــ ضرورية ــ شاملة وإنما صار مستعدّاً لاحتمال انخرام القاعدة، وبالتالي فتح نافذة الاستثناء للتلاقي مع الآخر فيها، وهو بذلك يبقي هامشاً ملحوظاً للحركة التصاعدية لفعل الحوار.

2 ــ تمثّل الآخر وبلورة المشترك الفكري

أ ــ يصعب جريان عملية حوار منتج دون وجود مشترك فكري ثقافي بين الأطراف المساهمة؛ لأن انعدام هذا المشترك يمكنه أن يحدث أزمة تخاطب تجعل كلّ طرف كأنه يتكلّم مع نفسه فقط دون ملاحظة الآخرين، من هنا تتقارب الأطراف وتتفاهم كلّما كان هذا المشترك أكبر، ويصبح بمقدورها استخدام حجم كمّي أكبر من المشتركات لتوظيفه في عملية التحاور، وبعبارةٍ أخرى كلّما كان المشترك الفكري قليلاً بالنسبة لموضوع الحوار كلّما شعرت الأطراف المتحاورة بصعوبة التوصّل إلى نتائج فوقية، وكلّما كان كثيراً كلّما أصبحت في فسحةٍ من أمرها يمنحها هامشاً ملحوظاً للاستعانة والحركة، كما يمكّنها من وضع عدد أكبر من اللبنات التي يتكامل على أساسها البناء الناتج عن الحوار.

هذه المعادلة ذات الطرفين تفرض واقعاً معرفياً وتنبئ ـــ من ثمّ ـــ من ناحيةٍ علمية عن حاجة الحوار إلى هذه القواسم المشتركة التي تشكل منطلقات البحث والدراسة.

ويتلو تكشّف القواسم المشتركة أو يصاحبه نوعٌ من تمثّل الآخر لفهمه حتى تبدو القواسم المذكورة من خلال فهم عناصر الافتراق والالتقاء معاً، وهذا ما يستدعي قراءة الآخر من موقعه ــ لا من موقع نقده ــ بهدف فهمه، بوصف ذلك انطلاقةً لبدء الحوار لا لممارسته أثناء التعرّف عليه.

إن هذا ما يكشف لنا الواقع التحاوري الحاصل أحياناً.. إن الحوار الإسلامي المسيحي أو الحوار الشيعي السنّي هما بالدرجة الأولى مفتقران إلى خلفية علمية مرتهنة لتكشف المتحاورين بعضهما البعض، وبالتالي لقواسم الاشتراك بينهما، لأن عناصر الاختلاف ما تـزال هي المتحكمّة، ليس على المستوى الأخلاقي مما تمليه أحياناً مفاهيم العصبية والتطرّف فحسب، بل على المستوى المعرفي نتيجة جهل واقعي بالآخر؛ لأن الاطلاع عليه هو غالباً من موقع الذات الناقدة لا من موقع الآخر نفسه في تمثّلـه ومماهاته ومحاكاته.

إن ما تتسبّبه خسارة تنظيم القواسم المشتركة هو تضاعف النـزاعات الاصطلاحية واللفظية؛ لأن أساس هذه النـزاعات معرفياً قائم ــ غالباً ــ على عدم معرفة القواسم المشتركة المعنائية وعدم فهم الآخر، فعندما لا يعرف أطراف الحوار هذا القاسم المعنائي فإنهم يبتلون بتصادم مفاهيمي ناجم عن اختلاف المصطلحات الثقافية والعلمية.. وهذا معناه أن تكشّف هذا العنصر المشترك ــــ بحقيقته ومعناه ــــ يمكنه أن يحدّ من فوضويّة التحاور الحاصل أحياناً ويدفعنا نحو حوار منتج لا نحو حوار تكون حصيلته في نهاية المطاف أننا متفقون، في حين أنه كان لابد أن تكون أسسه هي هذا الاتفاق.

وكأنموذجٍ قديم على أزمة المصطلح في الفكر الإسلامي يمكن الاستعانة بما ذكره ابن رشد الفيلسوف في «فصل المقال»حول الخلاف التاريخي بين المتكلمين والحكماء فيما يتعلّق بمسألة قِِدَم العالَم، فإن ابن رشد يرى أن هذا الخلاف الذي دام قروناً من الزمن يرجع في تصوّره إلى مجرد مشكلةٍ اصطلاحية، وإذا صحّت وجهة نظر ابن رشد هذه فإن هذا أنموذج بارز، سيما وأننا نعرف أن هذه المقولة قد سبّبت الحكم بتكفير الفلاسفة عند الإمام الغزالي، وهو ما ترك آثاراً كبيرة على المناخ الثقافي الإسلامي العام آنذاك([11])، وهكذا الخلاف الإخباري الأصولي الشيعي حول مقولة الاجتهاد، وهو خلاف ترك أثره في حركة الفقه والفقاهة، فإن السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1413هـ)، يرى أن هذا الخلاف مجرّد نـزاعٍ لفظيٍّ لا يعبّر عن خلافٍ

حقيقيٍّ في العمق وإنما في مجرّد التسمية، وهو أمرٌ ــ على تقدير صحّة مقولة السيد الخوئي ــ ينمّ عن أن الفهم المعنائي كان لازماً لتجنّب خلاف من هذا القبيل(
[12]).

إن هذا ما يمكننا تسميته بالتنوع التفسيري للظاهرات الفكرية، فربّ ظاهرة واحدة لـها تفاسير متعددة كما تحكيه قواعد الـهرمنوطيقا المعاصرة، أي ربّ فكرة واحدة يحكيها كل شخص بطريقته أحياناً، والاعتراف بهذا التنوّع التفسيري معرفياً ومن ثَم الانطلاق على أساسه يمكنه أن يحلّ كثيراً من دوّامات التحاور اللامتناهية؛ لأنه يفرض علينا تمثل الآخر لفهم مقصوده، وما دمنا نفهم مقصوده من طرفنا المفترض أنه طرف مختلف من الناحية التفسيرية، فلن يمكننا بسهولةٍ التوصّل إلى وعي الآخر بغية دخول الحوار معه، فإذا اعترفنا بالتنوّع التفسيري فسنصبح قادرين أكثر على تفهّم إمكانية انبثاق مصطلحات وتعابير متنوعة ومختلفة الظاهر لحقيقةٍ ومفهوم وقضية واحدة، مما يفسح المجال لتجاوز الاختلاف التعبيري نحو عنصرٍ أعمق في المعنى نفسه، يمكن أن يشكّل اتفاقاً بدل أن يكون نقطة الخلاف.

إن هذا ما يدفع ــ خدمةً لمشروع الحوار ــ إلى تبنّي لغةٍ علمية شفّافة من جهة، وإلى السعي لتشكيل شبكة مصطلحات تكون مشتركة المدلول للأطراف كافّة، ومن ثم إيجاد موازنة بين المصطلحات التي تحتاجها أصالة الفكر في نسبيةٍ ثقافية وبين المصطلحات التي تحتاجها عملية الحوار في التقاء ثقافي.

القضية هي أننا أحياناً نستخدم مفردتين لمعنى واحد، ولا ندري أنّ بيننا اتفاقاً، وأحياناً نثقل الحوار بضبابية مخلّة بفهم عناصر الالتقاء أو الافتراق، وهو ما نلاحظه في أكثر من تيار تغييري في الساحة الإسلامية المعاصرة من حيث عدم الشفافية في الخطاب الثقافي، فإن هذا الغموض الذي يلفّ أكثر من حركة تغييرٍ ثقافي في المجتمعات الإسلإمية اليوم يتحمّل جزءاً من مسؤوليته أصحاب المشروع أنفسهم؛ لأنهم بالغموض والضبابية التي أثاروها قد حالوا دون وضوح الذات لدى الطرف الآخر، وهو ما ترك ويترك آثاراً كبيرة على الوضع العام.

وعلى خطٍّ موازٍ في إطار ثقافة التعبير واللفظ، نجد مشكلةً أخرى في واقعنا الثقافي المعاصر وهي مشكلة الإعلاء ــ بحسب التعبير النفسي ــ الذي تعيشه بعض الأوساط الثقافية في إطار عرض آرائها، وما نقصده بالإعلاء هنا هو محاولة إضفاء لباس جميل على بدن قد يكون أقلّ منه جمالاً، وهو ما يتمثّل أحياناً بتجنب التصريح ببعض الأفكار نتيجة نوعٍ من الخجل منها في اللاوعي أمام الآخرين، ولـهذا يعمد إلى القيام بنوع من الإلباس لـها حتى تبدو أقل قبحاً، وهو ما يؤدي ــ كما نلاحظ ــ إلى إضفاء عناوين جديدة على مفهوم تحتاج صراحة التعبير عنه إلى عناوين أخرى، وهذه المشكلة ناجمة أحياناً على الصعيد الثقافي عن نوع من العزلة أو العقدة أو ضعف الخطاب عامة، وأمور أخرى أيضاً.

وهذا الإعلاء نجده فيما يسمّيه بعضهم بثقافة الألفاظ([13]) التي تجتاح الأوساط الثقافية والفكرية العربية المعاصرة، فالنقد الذي كان يوجّه إلى الكتب الدينية الكلاسيكية تمثّل في التعقيد اللفظي الذي يلفّ تلك الكتب أحياناً ومن بينها كتبٌ دراسية يفترض فيها بالدرجة الأولى أن تتجنب هذا النوع من الصياغات، لكن المشكلة هي أن بقية الاتجاهات بدأت تشعر بنوع من التفوّق المعرفي عندما تتفوّق لفظياً وصياغياً، فتغرق القارئ بسيولٍ كلامية صياغية ثقيلة نوعاً ما قد يحتاج أحياناً إلى وقت لفهم المقصود الحقيقي منها، وهو ما يسبّب مشكلةً حقيقية على صعيد فهم الأطراف لبعضها البعض، الأمر الذي يلاحظ بوضوح لدى قراءة النقاشات التي يؤول الكثير منها إلى عدم فهم كلّ طرف لصاحبه.

والمشكلة الأبرز على هذا الصعيد تكمن في ممارسة البعض نوعاً من اللامراعاة في تعابيره إزاء الطرف الآخر الذي يحاوره الأمر الذي يشنّج من الحوار وحركيته، وعلى سبيل المثال التعابير التي خلطت بشكلٍ موهم ما بين الدين والأسطورة في الكتابات الأخيرة في العالم العربي، أو تلك التعابير التي تصادمت مع بعض المصطلحات الدينية المألوفة كتعبير «الطرق المستقيمة»قبال التعبير القرآني المألوف «الصراط المستقيم»، وهو ما يشنج الحوار ويجرّه إلى نوعٍ من المدافعة، دون أن ندعو إلى إعلاء أو ضبابية على هذا الصعيد.

وفي الإطار نفسه تقريباً تبدو أمامنا إشكالية العلاقة بين اللفظ والفكرة التي يراد استخدام اللفظ لبيانها أمام الطرف الآخر، وكمثالٍ تقليديٍّ معروف علم أصول الفقه، سيما على الصعيد الشيعي في الفترة المتأخرة، والذي جرى استخدام صياغات وتراكيب وبيانات لفظية فلسفية ومنطقية ودرجة تماسكٍ تعبيري فيه لا تتناسب مع مباحث الألفاظ في هذا العلم، وفقاً للقاعدة المناهجية القائلة بأن مادّة الموضوع تلعب دوراً في تحديد منهج الخطاب، وهذا ما نلاحظه على صعيد بعض أوساطنا الثقافية التي تخلط في عالم الألفاظ بين المضمون والتعبير، فهناك مضامين في غاية الدقّة والفلسفية يجري التعبير عنها بأسلوب أدبي إحساسي، وهو ما أثار ويثير خلطاً وتشوّشاً بيّنين.

ب ــ الشكل الآخر لتمثل أطراف الحوار لبعضهم البعض هو حضور روح الثقة والاحترام المعرفي، إنّ غياب هذه الروح شكّل ــ ويشكّل ــ واحدةً من أهم أزمات الفكر الديني عموماً والعقدي خصوصاً، ويرجع سبب هذا الغياب إلى أمور، أبرزها بنظر الكاتب إثنان:

الأوّل:الإرث التاريخي فيما يخصّ الجانب المذهبي من علم الكلام الديني، وهو إرثٌ في غاية الثقل والتعقيد، ومن الصعب جداً التجرّد عنه بهذه البساطة مهما أطلق الإنسان شعارات الموضوعية والإنصاف، وعلى رأي الدكتور علي الوردي في «مهزلة العقل البشري»([14]) فإن العلماء في هذا المجال يبدؤن مقدّمات كتبهم بادعاء التجرّد والموضوعية والإنصاف العلمي بيد أنهم مع ذلك ــ من وجهة نظره ــ يصلون إلى نفس ما توصّلوا لـه سلفاً ومنذ البداية، وهو ــ أي الوردي ــ يعتبر ذلك مجرّد كلماتٍ لا معنى لـها، من هنا فهو يرتئي استبدال مفهوم الموضوعية بمفهوم الشك، وهذا كلام دقيق إلى حدٍّ معينٍ، لأن مفهوم الموضوعية لن يتسنّى لـه لعب دور في الحياة العلمية ما لم يكن الإنسان في مرحلة شك حقيقي أثناء البحث، وإلا فمن الصعب لـه تجاوز الذات ومساواة النظر إليها وإلى الآخر، وهذا معناه أن المفكّر الديني ـــ سيّما المتكلّم ـــ لا يمكنه تجاوز أثقال الموروث ما لم يدخل نفسه في إطار شك علمي حقيقي وليس شكلياً، وإذا وافقنا الدكتور الوردي على مقولته فنحن نوافقه في أن موضوعة «الموضوعية»أصبحت في كثير من الأحيان موضوعة مفرّغة، والسبب في ذلك الازدواجية التي يمارسها الباحث إزاء الموضوع الذي يقرأه أو يتحاور فيه، فعندما يكون الباحث ملتـزماً بفكرةٍٍ معينة فهذا معناه أن يقينه بهذه الفكرة سيكون حاضراً في عمق حواره الفكري حول الموضوع الذي كان لـه يقين به، وهذا يعني أن الحياد حال الحوار الذاتي الأحادي الطرف أو الخارجي المتعدّد الأطراف إنما هو حياد شكلي ما يلبث أن يتبدّد حينما تصل المسألة إلى النقطة الحرجة، وهذا ما نشاهده بوضوح في الحوار الكلامي عموماً مهما اتسم أطراف الحوار بالموضوعية الشكلانية، وبالتالي فالمنفذ الوحيد للموضوعية الجوهرية الحقيقية هو إعادة إنتاج مفهوم الشك العلمي لا حال الحوار مع الآخر ــ أي آخر وأي حوار ــ فقط بل في كل الحالات، وهو ما يعني تبدّلات خطيرة جداً في مفاهيم اليقين والإيمان والقطع و.. ولا سبيل للحل إلا من خلال جماع مبدأين معرفيين هما:

1 ـــ مبدأ اليقين الموضوعي الذي نظّر له الشهيد الصدر على الصعيد الإسلامي([15])، وهو مبدأ يقوم على انسجام المعطيات مع اليقين لا اليقين مع الواقع، فنحن يمكننا الاستعانة بهذا المقدار من المفهوم لاستبعاد الواقع في الإطار العلمي، سيما حينما نتكلّم عن معارف نظرية بطبعها الأولي، فبدل أن أنطلق من تطابق المعطى الذهني مع الخارج، أنطلق من معطيات اليقين نفسه إلى نفس اليقين، وأترك مطابقة الخارج في احتمال الخطأ، بمعنى الاحتمال الضئيل كما شرحه الصدر نفسه، وهذا معناه أنّ الحوار الديني والكلامي سوف يعزل عن الواقع بمعنى من المعاني، وسيبقى في إطار النظم العلمي بهذا المعنى، وهو ما يشكل عنصراً أساسياً لاستبعاد الدوغمة وأمثالـها، فاليقين الموضوعي يجعل المتحاورين يقفان أمام معطيات كل واحدٍ منهما، مستبعدين الواقع الذي يحضر في ذهنهما عن طريق اليقين المسبق لـهما به، وهذا ما يجعل الحوار محتكماً إلى فنّ تنظيم الأفكار والمعطيات لا إلى مطابقة الواقع وعدمه، لكن لا بمعنى أننا نتكلّم في الفراغ والـهواء بل بمعنى أن المركز الأساسي الذي يجري صبّ النقاش فيه ومحاكمة الأفكار على أساسه إنما هو ما يتعلّق بنمط المعطيات وتنظيمها

2 ـــ مبدأ العلم الاجمالي الفوقاني، وهو مبدأ يتجاوز دائماً مفردات البحث العلمي ليقرأ المجموع قراءةً كلية، وحينما أقرأ تجربتي العلمية على مرّ سنوات فسوف أتأكد ــــ يقيناً ــــ من أنني قد وقعت في عدد كبير من الأخطاء في حياتي، وهذا العدد الكبير سوف أقدمه كمعطى رياضي لما هو ناجز عندي الآن مما لدي قناعة به؛ ليتشكّل عندي علم إجمالي بالخطأ في بعض أفكاري بحساب الاحتمال، فإذا كانت مجموع أفكاري الألف مثلاً، وعلمت تفصيلاً بخطأ مائة منها على مدى تجربة خمس سنوات تقريباً، فإن هذا سوف يشكل عندي علماً إجمالياً ــ ما دامت الظروف واحدة أو متشابهة ــ بوقوع أخطاء جديدة عندي بنسبة 10%خلال السنوات الخمس القادمة أو أقل كما هو الغالب، وعندما أفعّل هذا العلم الإجمالي ستتغيّر نظرتي لكل مفردةٍ من مفردات اليقين عندي، وسأقدر على الجمع بين يقيني بالمفردة واحتمال الخطأ، مستعيناً ـــ إلى حدّ معين ـــ بمبدأ اليقين الموضوعي المتقدم.

إذن، الموضوعية في حالة مواجهة الموروث تكمن في تعديلات جوهرية معرفية لا في توجيهات أخلاقية، مهما بلغت من القوّة فلن تقدر على مواجهة اليقين الذي يحكم عليها من خلال تمثيلـه الواقع.

فما أشار لـه الوردي وغيره في محلـّه ضمن هذه الصيغة، لا يمكن خوض حوارٍ منتج ــ لا جدال ومساجلات ــ إلا بهذه الطريقة فيما يظنّ، وإن كان من سلبيات هذا الوضع ما لا بد من التفكير في حلـه، لا سيما قضية الإيمان الديني.

الثاني:إحساس الخطر الحاضر الممزوج لدى البعض بشيء من عقدة النقص والحقارة، وهو ما يتمثّل في العلاقة مع الغرب، هناك أزمة ثقة بالغربي ليست ناشئة من موروث تاريخي بهذا الحجم الموجود في الصراعات المذهبية بل من خطر معاصر يمثلـه الاستعمار والامبريالية، وأخيراً العولمة والكوننة والأمركة، وقد أدت سلسلة التجارب إلى القلق من أي شيء يرد من الغربي؛ لأن طبيعة الصراع لـها دخالة أساسية في هذا الموضوع، هذا القلق الإسلامي العام من الغرب وهذا الخوف على الـهوية والأصالة والذات والخصوصية و.. يحولان دون القدرة على تبديد أزمة الثقة في العلاقة مع الآخر، سيما بعد تجارب فاشلة وقاسية في الاستفادة من النتاج الغربي جسّدته تيارات علمانية وليبرالية متطرّفة، جعلت المفكر الديني حذراً جداً إزاء عملية الاستيراد العلمي والثقافي.

فالباحث الديني اليوم مهزوم هزيمةً حضارية، وبالتالي فمن الصعب أن نقنعه بتوازن ثقافي ما مع الآخر في ظلّ لا توازن حضاري وسياسي وعسكري و.. فإذا أردنا أن نكون واقعيين يجب أن نقول: إن المسألة في غاية الحساسية، ومن الخطأ التعامل معها بسطحية وسذاجة وعفوية وتسرّع واستعجال و.. كون المفكر الإسلامي عموماً في وضع مأساوي كالوضع المعاصر سيما ما قبل تجارب النصف الثاني من القرن العشرين تجعلنا نتعامل مع إفرازاته في مستوى الثقة والعلاقة على درجة عالية من الحذر والتحفّظ والتدقيق، أما العمل المبتسر فهو لا يعطي أية نتائج مستقرّة على المدى البعيد.

إذن، أزمة الثقة ــ بشقّيها المتقدمين ــ تفرض النظر إلى الآخر بنوع من السلبية، وهو ما يصعّب من تمثلـه والتكيّف معه، إن القدرة على تمثل الآخر واحترامه تبعاً لذلك، وممارسة أمانة وموضوعية وإنصاف بدرجة عالية معه، أمر لا يمكن اختباره في أي باحث إلا عندما تبتعد المسافة جداً بينه وبين الآخر، أما عندما تكون المسافة قريبةً فإن درجة كشف الاختبار سوف تكون أضعف، إذ حتى أكثر التيارات دوغمائيةً ونرجسية وتعصباً وانغلاقاً وتحجّراً على أي ساحة وصعيد علمي ومعرفي تمارس الاعتدال والوسطية مع الاتجاهات القريبة منها، فالمحكّ والمختبر الحقيقي لقياس درجة فهم الآخر وتفهّمه إنما يكمنان في حالة ممارسة الاعتدال والوسطية مع أبعد التيارات عنّا.

3 ــ جمعيّة الظاهرة المعرفية

يعتمد التصوّر الكلاسيكي للمعرفة الاشخاصَ عنواناً لـه، أي أن المعرفة هو ما أنتجه هذا المفكّر الفلاني أو ذاك، ونموّ هذه المعرفة وعنصر وملاك تقدّمها إنما هو مرتهن بهذا الفرد وذاك، أما عامة العقول فهي أطراف لا مركز، ولا تلعب دوراً جاداً في تنامي العلم.

وقد تتسع القضيّة أحياناً إلى تصّور تيّارٍ ما عنواناً للمعرفة والعلم والحقيقة، فتقدّمه تقدمٌ لـها وتأخّره في ساحة الصراع الفكري تأخّرٌ لـها، فهو الشعار العريض الذي تسير خلفه الحقيقة، ويبنى هذا التصوّر للمعرفة على شيء من الشخصانية أو الفئوية، أي أنه تصوّر يرى أن الأفراد هم المحرّكون لمسار التطوّر المعرفي، وأنّ هذا التطوّر مستمد من هذه العقول الفردية ذات النبوغ والتميز، أو أن الفئات المعينة هي المفعّلة الوحيدة للمعرفة والمكتشفة الفريدة للحقيقة.

وهذا الأمر لا مجال ــ بحسب الظاهر ــ لإنكاره؛ فالأفراد المتميزون كانوا ــ وما يزالون ــ اصحاب دورٍ رئيس جداً في دفع عجلة التطور البشري عامة، وكذلك الفئات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية.. إلا أن المسألة تكمن في التطوّر المذهل للعلوم والكثرة الـهائلة من الباحثين والمتخصّصين والانحسار الملحوظ للأميّة، فقد أدى ذلك إلى تحوّل مسار ووضعيّة العلوم تحوّلاً ملحوظاً؛ فقلّص من دور الأفراد والجهات المعينة، وصيّر العلوم معتمدةً على منطق المراكمة المتناثرة التي تولّد كينونة جمعية لـها وتدفعها إلى مزيد من التقدّم.

فالمعرفة ومستواها ومداها وقيمتها أمور مرهونة لمستوى العقل الجمعي، لا العقل النخبوي الفئوي فحسب، وهذا يعني أن هذه المعرفة التي تنتجها مختلف التيارات والاتجاهات ــــ بل والمستويات ــــ شريكة في تكوين الحصيلة النهائية للتطور المعرفي ومستوى الوعي، وليست القضية بحيث إن نتاجات جهة معينة أو فرد معين هي المصوّبة لوحدها لمسار التفكير، بل إن تناقضات الجهات كافة وتدافعاتها هو ما يصحّح هذا الجسم العام وهو الأكثر ضماناً فيما يتعلّق بعدم حرف المعرفة عن طريقها السليم.

إن هذه الفكرة ــ أي فكرة جمعيّة الثقافة وجمعية الفكر والمعرفة ــ هي أحد المولّدات ــ معرفياً ــ للقناعة بضرورة الاختلاف والنقد والاعتراض والملاحظة وإعادة النظر الدوري و.. من أي مستوى أو جهة صدرت هذه الأمور، وهي التي تحول دون ممارسة أي دور احتكاري لعالم المعرفة والفكر أو تولّد مرجعيات رسميّة أرثوذوكسية في ساحات الدين والأخلاق.

إن هذه الأفكار المتناثرة الصغيرة والكبيرة المهمة وغير المهمة الصادرة عن جهات رسمية في هذا الحقل المعرفي أو غيره هي التي تولّد بتفاعلاتها المكوّن العام للمعرفة والوعي، ولا يجوز الاستهزاء بها مهما كانت ضعيفة من الناحية الإجمالية علمياً، لأن إلغاء وإقصاء مساحات كبيرة ووجود كبير من هذه الأفكار المتكاثرة بطبعها تحت عناوين التخصّصية أو الرسمية أو.. سوف يحدّ من حجم التفاعل ويخفض من سقف الإنتاج ومستوى الناتج ويحوّل المعرفة إلى ظاهرة ليس فقط نخبوية بل ونخبوية محصورة جداً.

وهذا لا يعني تساوي القيمة العلمية لكل النتاجات، ولا الحدّ من المستوى المعرفي للجهد التخصّصي أو الرسمي، بل يعني أن لا تشعر بعض النخب بأنه لا قيمة إطلاقاً لمعارف ونتاجات النخب والجماعات الأخرى.

إن هذا هو ما يعيد إنتاج الحوار؛ لأن المحاورة حينئذٍ سوف تقوم على مبدأ الاعتراف بالآخر ــــ سيما اعتماداً على ما قدمناه في المبنى الأول آنفاً ـــ مهما كان الفارق العلمي بين المتحاورين، خصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار المفهوم الشامل للحوار الذي صدّرنا به هذا البحث، وسوف يدعم هذا التصوّر المعرفي مبدأ حقّ النقد دون النظر إلى الشخص أو الجهة الناقدة، وسيعزز أيضاً مبدأ المشاركة في إنتاج المعرفة، وسيصبح الجميع منتجاً لمستقبل الجميع على حدّ تعبير غارودي في حوار الحضارات([16])، وسيبدّد ثقافة الحكرة والإقصاء والإلغاء والحذف في أي عملية تحاور مما يسمى بالمباراة الصفرية.. لأن المتحاورين في ظروف انطلاقهما من منظارهما الخاص صارا يملكان تصوّراً فوقياً يقضي بأن نفس الحوار هو وسيلة الإنتاج، ربح هذا أو ذاك، لا تعريفاً لـه أو استهلاكاً فحسب.

4 ــ الـهادفية المعرفية للحوار

يبنى الجدل وفق تصوّرات المنطق الكلاسيكي على القضايا المسلّمة والمشهورة([17])، ويهدف هذا الجدل إلى تبكيت الخصم وإبطال حججه ومدعياته، ومن ثم إسكاته وصرعه، ولا يتّجه الفن الجدلي هذا إلى أي اكتشاف للحقيقة أثناء الجدل، وإنما يعتبر كل طرف أنه قد وصل إلى الحقيقة قبل وروده المحاورة، وبالتالي فالحوار بهذا المفهوم وسيلة إبراز وكشف وإقناع وإسكات لا اكتشاف واتضاح واقتناع وتصحيح.

هذه هي التركيبة الحاكمة على الـهادفية التي يطلبها الجدل في واقعه، وهي تركيبة معرفية بالدرجة الأولى، أي ورود الحوار بعد حمل القناعات والـهدف إيصال الفكرة للآخر، وهذه واحدة من مشكلات عمليات التحاور الكثيرة بالرغم من الحسنات الكثيرة التي أمدّت بها الفكر الإسلامي تاريخياً؛ لأن الحوار سيتحوّل بذلك عن أن يكون وسيلة تعاون بين الطرفين لتصحيح أخطائهما، وسيفقد بشكل متواصل طابعه التواصلي، ليتحول ــــ تدريجياً ــــ إلى طابع تصادمي فرضي، يريد كل طرف فيه صرع الآخر، كما يريد إلزامه بفكرته.

ليس الحديث هنا عن إلغاء ذلك النمط من التحاور إلغاءً كاملاً، فله مبرراته الموضوعية بحسب اختلاف الزمان والمكان والظرف، إلا أن ما نريد التأكيد عليه هو ضرورة القيام بإعادة صياغة لظاهرة الحوار إجمالاً، بحيث يتحوّل طابعها العام الغالبي من امتلاكٍ للحقيقة وإبطال للآخر إلى سعي حثيث لاكتشافها بالتعاون معه.

إن العجز الذي يحصل كثيراً من قبل كلّ طرفٍ عن إقناع الآخر يتسبّب ــ إذا ما بُني الحوار على عقلية صرع الآخر وإسكاته كيفما كان ولو بالمغالطة أحياناً ــ في إحداث صدمة في العملية التحاورية ناتجة عن الإحساس بالفشل والعجز عن التغلّب ومشاهدة صمود الآخر، مما يولّد ـــ في كثير من الأحيان ــــ نوعاً من التشنج وأحياناً التفجّر، وفي نهاية المطاف إلى حَسم الحوار بنمط تصارعي وتحوّل المحاورة إلى مجموعة عناصر موتورة.

أما لو اعتُمد منطق التعاون العلمي المنبعث من تعدّدية معرفية وقناعة علمية بقيمة الفكر الآخر، فإن التحاور سوف يأخذ طابع التكامل بين جهود كل طرف ليتولّد على أساس ذلك تصوّر نهائي متناغم.

ولعلّ واحداً من ضحايا النـزعة التصارعية هذه هو علم الكلام الإسلامي في أكثر فروعه، وهذا ما عابه عليه الفلاسفة دائماً، فإن علم الكلام قد غلب عليه هذا النوع من الجدل، وتحوّلت غايته إلى تفنيد الشبهات وإثبات المعتقد للخصم أثناء الجدل، بحيث لم يكن الدليل المقدّم على إثبات هذا المعتقد دليلاً علمياً بما للكلمة من معنى على طريقة البرهان، وإنما دليلاً جدلياً غالباً يستهدف إسكات الآخر، وقد أدت هذه الحالة إلى إثراء علم الكلام بالنتاج وأمدّته بجوًّ عارمٍ من الحيوية، إلا أنها ـــ في المقابل ــــ كرّست فيه منطق التغاضي عن الخطأ رعايةً للمصالح العليا التي تتطلبها المجادلة، أي حتّى لا يكون للخصم مأخذ، فأدى ذلك إلى تجمّد عمليات النقد الداخلي وإعادة النظر، كما أدّى ذلك إلى شيء من تسييس علم الكلام وتشابك مصالحه والمصالح الأخرى الطارئة، فصار الحذر من الفشل أمام الآخر مقولةً مقدّمة على نقد الذات أو إعادة القراءة أو تعديل الموقف، حتى لو نجح المتكلّم في التوصّل إلى موقفٍ يرى في بيانه هزيمةً سياسية للجماعة بالمعنى الواسع للكلمة.

إن ما يحتاجه علم الكلام اليوم هو تمثّل المنهج الفلسفي في التفكير، أي السعي لبلورة تصوّرات لا تلعب ضغوطات التصارع فيها دوراً، وإنما تتكوّن على أسس علمية لا قبليات فيها غير مبرهنٍ عليها، وبذلك يمكن للحوار الكلامي أن يأخذ دوره في الإنتاج، وهذا يعني برهانية الحوار بالمفهوم الفلسفي للكلمة، لا جدليته أو خطابيته أو ما شابه ذلك، وإن تمت الموافقة على فراغية البرهانية المطلقة حتى في علم الفلسفة.

5 ــ تخفيض معدّل الخطوط الحمراء معرفيّاً

امتازت الحقبة القروسطية ــ بل وما سبقها ــ بمحدّدات وأطر فكرية كبيرة وكثيرة، فكانت الحوارات داخل كلّ حلقة تجري ضمن تلك الأطر والضوابط التي لا يتمكّن الحوار من تجاوزها، لأنها صارت تمثل خطوطاً حمراء تعبّر عن نفسها ـــ معرفياً ــــ بالقاطعية والبداهة والوضوح واليقينية المفرطة و..

لقد أخرج هذا الوضع مجموعة كبيرة من المسائل والقضايا عن حيّز الجدل والحوار والتفاوض، وأقصاها عن أي مسؤولية علمية لخطىءٍ ما أو اشتباهٍٍ ما، فالخطأ والاشتباه، مهما قبلناه، فإنه لا يمكننا قبولـه على مستوى تلك المسلمات واليقينيات.

ولعلّ السبب في تشكّل هذا الجو هو اعتماد الفكر على المنطق الجدلي المتقدّم ذكره، فقد أدّى هذا المنطق إلى شيوع ثقافة الجدل واعتمادها المنفذ الأساس لتنامي المعرفة، وهو منطق يفترض سلفاً وجود مسلمات غير متجادل عليها، وبالتالي فإذا ما حاول أحد الأطراف نقد هذه المسلّمة اللامفكّر فيها فإنه سرعان ما سيكون خارجاً عن قواعد اللعبة؛ لأن المفروض قيامها على الاعتراف بتلك القطعيات، من هنا اصطبغ الحوار الفكري داخل دائرة كل اتجاه بطابع التسليم أمام قطعيات ذلك المذهب الفكري، وبالتالي لم يعد ممكناً ــــ من الداخل ــــ نقد أو إعادة النظر بتلك القطعيات؛ لأن ذلك سوف يحوّل المعركة من معركةٍ داخل البيت الواحد إلى معركة بين هذا البيت والبيت الآخر، مما سيفرض عنوان الخروج عن الذات على ذاك الذي حاول التساؤل عن تلك القطعيات التي أصبحت أشبه بمواضعاتٍ شاملة ومتحكّمة، وأما على المستوى الديني فسوف تطفو على السطح مقولات الارتداد والتكفير وغيرها..

إن المشكلة الأولى التي تفرزها هذه الوضعية هي سدّ الباب أمام أي عملية إعادة نظر أو تصحيح أو نقد داخلي بنّاء؛ لأن المجال المفسوح للمتحاورين هو مجالٌ لا إمكانية فيه لمثل ذلك بشكل جيدٍ، أمّا لو خفّضنا من معدّل هذه الخطوط والمحرّمات المعرفية أو ما يسمّى عند البعض: المحرم الفكري أو اللامفكّر فيه، فإن أطراف الحوار سوف يكونون أكثر قدرةً على إبداء افتراضاتٍ أكثر لتفسير أو تحليل أو نقد أو تأييد المسألة مادّة البحث؛ لأن تنحية خطٍّ أحمر يولّد بطبعه مجالاً أكبر وفسحةً أوسع للتفسير من خلال فتحه الباب أمام عدد أكبر من الاحتمالات، فإذا أخذنا على سبيل المثال فكرة عدالة الصحابة بوصفها خطّاً أحمر في الفكر السنّي ثم أردنا أن نفسّر موقفاً ما لصحابيٍّ من هؤلاء الصحابة، يبدو للوهلة الأولى أنه موقفٌ غير مستساغ، فإن الاحتمالات التي ستطرح للتفسير سوف تكون أضيق مما إذا حاول أحد الطرفين المعترفين بهذه المصادرة إبرازَ تفسيرٍ جديد يعتمد على إلغاء فكرة العدالة هذه، لأنه بإحالته البحث إلى هذا الجذر سوف يفسح المجال لإبراز تفسيرات أخرى، ربما يكون أحدها هو الصحيح والأنسب منطقياً، أما لو أقفل الباب على الرجوع إلى الوراء في الحوار المفتوح ــ حسب الفرض ــ فإنه على تقدير بطلان نظرية العدالة أو اختلالـها منطقياً ــ ولو افتراضاً ــ سوف تصعب عملية التفسير أحياناً، وقد تتجه في المثال هنا إلى شيء من التبرير والتكلّف والذرائعية و..

نعم، هناك طريقةٌ مرعية الإجراء في العلوم، وأيضاً في العلوم الدينية، وهي إقامة البحث والحوار بالمعنى المنشود هنا على أرضية معيّنة، وإحالة الجدل في أصل الأرضية إلى مكان آخر مناسب حتى لا تحدث اختلاطات وتشابكات موضوعية في العلوم، فمثلاً عندما يستشكل على فكرةٍ ما قد يقال أحياناً بأن هناك إشكالاً مبنائياً عليها، وبالتالي فالموقف منها تابع للموقف من ذاك المبنى بصورةٍ مسبقة والمبحوث عنه حقيقةً في مكانه الخاص، وهذه طريقة فنية جيدة ومطلوبة.

غير أن المشكلة التي تواجه الحوار أحياناً تُختـزن في أن أطرافه لم يكونوا قد خاضوا مسبقاً الحوار الجادّ حول هذا المبنى نفسه داخل البيت الواحد، أي نقدوه وحلّلوه بطريقة بنّاءة، وإنما تلقّوه بصورة قبلية، وربما تلقياً غير مدروس بصورة جادة، إلا في نطاق جدل قائم ـــ هو الآخر ـــ على إيمانٍ مسبق بهذا المبنى، فالمتكلم المعتـزلي أو غيره مثلاً عندما يفترض بطلان مبنى عدالة الصحابة فإنه لا يكون قد أجرى حولـه حواراً بالمعنى الذي ذكرناه للحوار، وإنما خاض فيه جدالاً تبكيتيّاً إفحامياً يفترض فيه دخول كل طرفٍ المحاورةَ مؤمناً بمعتقده سلفاً غير مريدٍ للتعرّف على الحقيقة، بل طالب للكشف عنها أمام الآخر.

ففي الحقيقة، نلاحظ أن هذه الخطوط الحمراء كثيراً ما لا تكون مدروسةً دراسةً برهانية غائياً، أي دراسة هادفة للكشف، وانما متلقاة بشكلٍ أو بآخر بوصفها حقائق، وكل ما يدور حولـها إنما هو عمل جاد للتدليل على مؤكّدات لـها أمام الطرف الآخر، حتى وإن جُمعت حصيلة هذه الجدالات في شكل أنساق مجرّدة وغير حاكية عن مولّداتها..

فالقضية إذاً ــ إذا أردنا أن نبيّنها كمثال ــ ليست نقاشاً في فكرة العلاقة بين النص القرآني والنص الديني غير القرآني من قبيل السنّة النبوية، حتى يقال بأن هذا مبنيّ على مبدأ الاعتبار والقيمة للسنّة النبوية، لأننا كنّا قد بحثنا هذا المبنى ــ ألا وهو حجية خبر الثقة ونحوه ــ في باب الحجج والأمارات من علم أصول الفقه، دون أن ندخل هذا البحث محمّلين بافتراضٍ مسبق لا أقلّ من بين الافتراضات المطروحة هناك، ولا أقلّ في بعض الحقبات الزمنية في تاريخ الفكر الإسلامي، فالقضية مختلفة أحياناً عن هذا الوضع، وليست شبيهةً به دائماً.

إن رفع الحواجز أمام الخطوط الحمراء ــ والكلام هنا ضمن ساحة العلم والتحقيق، وضمن المجال النخبوي ــ على المستوى التحاوري، وتحويلـها من أسس بحثية إلى مادة للبحث قبل أن تصبح أسساً، حينما يتطلّب الحوار ذلك، يمكنه أن يوسّع من أفق الحوار وإنتاجياته، وأن يجعل الجسم الثقافي العام أكثر حيويةً وقدرة على تمثل وضعيات متنوعة تناسب تطوّر المعرفة نفسه.

هذا، وإذا كان لابد من تحسّسٍ للمسؤولية إزاء موضوعة الحوار، فإن ما يدفعنا إلى تحويلـه إلى علم ومادة، ومن ثم إلى ثقافة علمية أخلاقية هو الحاجة إلى الابتعاد في عالم اليوم عن التناحر والتصادم المسبّبين لأجواء من غيبوبة الماضي من جهة، أو عدم عيش الحاضر من جهةٍ أخرى، دون أن نولي الضرورة الاجتماعية والقيمية تفوّقاً على الواقع المعرفي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(*)نشر هذا البحث في العدد 11، من مجلة الحياة الطيبة في بيروت، عام 2001م.

 

([1]) صدام الحضارات، إصدار شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، الدكتور حسن عبدالله الترابي، مقال: «أطروحات الحركة الإسلامية في مجال الحوار مع الغرب»: 130 ـ 131.

 

([2]) حسن محمد وجيه، مقدّمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي: 34.

 

([3]) المصدر نفسه: 23.

 

([4]) يراجع بهذا الصدد ــ كمثال ــ كتاب «الحوار في القرآن»للعلاّمة السيد محمّد حسين فضل الله.

 

([5]) محمد السماك، مقدّمة إلى الحوار الإسلامي المسيحي: 77؛ وانظر: طه عبدالرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 21.

 

([6]) كما فعله الدكتور حسن وجيه، حيث خصص قسماً كبيراً من كتابه المذكور آنفاً لهذا الموضوع، من ص153 إلى آخر الكتاب تقريباً.

 

([7]) راجع: الدكتور طه عبدالرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 61، وموارد أخرى.

 

([8]) راجع ــ كأنموذج ــ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في كتاب «مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي»، مقال: «الإسلام واحتياجات الإنسان المعاصر، طريق الفطرة»: 80 ــ 86، كما يلاحظ تأثر الشهيد مرتضى مطهري بفكرة التطابق في دراسته حول المرأة في كتابه حقوق المرأة في الإسلام.

 

([9]) مقصودنا بالرفض هنا عدم منح الشرعية لهذا النمط من التفكير المفضي إلى مثل هذه النتائج لا الاعتراف العلمي بالنتيجة، فإننا قد نتوصل إلى نتيجة تخالف مثل هذه النتيجة، وهذا معناه أن الاعتراف بشرعية النتيجة الخاطئة ــ من وجهة نظرنا ــ نتيجة منحنا القيمة للتحقيق العقدي لا يعني نوعاً من نسبية المعرفة أو التعددية المعرفية بالمعنى السلبي للكلمة.

 

([10]) يلاحظ بهذا الصدد ـــ كنماذج ـــ ما كتبه الشيخ أحمد واعظي في كتاب «حكومت ديني»: 248 ــ 255؛ والأستاذ محسن غرويان في كتابه «بلوراليزم ديني واستبداد روحانيت»، وغيرهما.

 

([11]) يراجع حول فكرة ابن رشد كتابه «فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال».

 

([12]) يراجع حول فكرة السيد أبي القاسم الخوئي كتاب: التنقيح في شرح العروة الوثقى، مباحث الاجتهاد والتقليد: 22 ــ 24.

 

([13]) علي حبّ الله، قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر: 27 ــ 29؛ وانظر للمؤلف نفسه أيضاً كتاب: المقدّمة في نقد النثر العربي، سيّما المقدّمة والفصل الثالث من الكتاب.

 

([14]) علي الوردي، مهزلة العقل البشري: 36.

 

([15]) راجعفيما يخصّ مفهوم الصدر لليقين كتاب: الأسس المنطقية للاستقراء: 322 ــ 329.

 

([16]) غارودي، حوار الحضارات: 10.

 

([17]) راجع: المظفر، المنطق: 279؛ ويراجع أيضاً: منطق الشفاء لأبي علي ابن سينا، ج3، قسم الجدل حيث يصرّح ص24 بأن الغرض الأول من الجدال هو الإلزام، كما يصرح ص 34 بأن مقدمات الجدل متسلّمة ومشهورة، مشيراً إلى أنه كثيراً ما يشتهر ما هو كذب، ومن ثم لا يقبل بأن صناعة الجدل تنتج الحقّ في أكثر الأمر، أو أن مقدماتها أكثرية الصدق.

المصدر: http://hobbollah.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D9%91%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8F%D9%86%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AD%D9%80%D9%88%D8%A7/

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك