في نقد الشّعبويّة السّوريّة

أحمد علي محمد

 

هل يمكن أن نتخيّل وجود علاقة بين الشّعب والثّور مثلا؟

ما جعلني أفكّر بهذا الموضوع هو قصيدة كنت قرأتها منذ زمن للشّاعر محمود عبد الكريم بعنوان “الثّور”، ويستطيع القارئ أن يستشفّ منها أنّ هناك علاقة رمزيّة بين الثّور والشّعب، وليست هذه هي المرّة الأولى الّتي يرمز فيها للشّعب بحيوان مّا، إذ أنّ القاصّ السّوري عبد الله عبد رمز للشّعب الكادح المنتج بـ(البغل) في قصّته الّتي تحمل العنوان نفسه، كما أنّ القاصّ زكريا تامر رمز إليه بالنّمر في قصته الشّهيرة “النّمور في اليوم العاشر”.

إلّا أنّني أجد أنّ رمز الثّور أكثر مطابقة، فالثّور حيوان معروف بطيبته وقوّته وصبره، كما أنّه معروف باندفاعه الشّديد وثورانه كبركان إذا أحسّ بأي استفزاز أو إهانة، عندها يندفع بجنون غير مكترث بالعواقب، وفي المثل الشّعبيّ: “إذا كانْ حبيبكْ ثورْ البسْ له أحمرْ” أي افعل ما يرضيه ولو كنت غير مقتنع بذلك، وهو تعبير عن السّخرية منه باعتباره ساذجاً أو طفلا ينبغي ملاطفته، فكأنّ المثل يقول: (اضحك عليه والبس له ما يريد). هكذا تتعامل بعض النّخب السّياسيّة في سوريا مع الشّعب، إذ تنظر إليه باعتباره ساذجا عاجزا عن امتلاك وعي بظروفه، لذلك تقوم بخداعه ببعض الشّعارات الطنّانة، أو تتقنّع بالقناع الّذي يحبّه ويجذبه، لكي تقوده لتقديم تضحيات جسام من أجل تحقيق مصالحها الضيّقة في النّهاية على حساب مصالحه هو، وهو ما سأطلق عليه مصطلح (الشّعبويّة السّورية)، أو (التّيار الشّعبوي في سوريّة).

وفي ظنّي أنّ مصطلح (الشّعبويّة) يثير الكثير من اللّغط والتّشويش في الغرب حاليا، إذ يرى قاموس “بوتي روبير ط 2013” بأنّه (خطاب سياسي موجّه إلى الطّبقات الشّعبيّة، وقائم على انتقاد النّظام ومسؤوليه والنّخب)، أمّا الباحث الأمريكي مارك فلوباري من جامعة بريستون فيعرفه بقوله: (الشّعبويّة هي البحث من قبل سياسيين يحظون بكاريزما عن دعم شعبي في خطاب يتحدّى المؤسّسات التّقليديّة الديموقراطيّة)، ومن الواضح أنّ التّعريفين السّابقين يوصفان الحركات الشّعبويّة في الغرب، كما أنّ بعضهم يطلقه على تيّارات يمينيّة شوفينيّة كأحزاب اليمين الأوروبيّ، فيما يطلقه بعضهم الآخر على حركات يسارية ذوات مطالب اجتماعيّة كالبيرونيّة في الأرجنتين، والبوليفاريّة في فنزويلا، وللخروج من هذه الفوضى في استخدام المفهوم فإنّني أرى أن يتمّ التّمييز بين مفهومي الشّعبيّة والشّعبويّة، وذلك بإطلاق مصطلح (الشّعبيّة) على الحركات الّتي توظّف الحالة الشّعبيّة أو الحماس الشّعبي من أجل تحقيق إصلاحات أو إجراءات تخدم الطّبقات الشّعبيّة، كالضمان الصحيّ، ورفع مستوى الأجور، والتّوزيع العادل للثّروة وغيرها، وفي هذا الإطار يمكن تصنيف (البيرونيّة) في الأرجنتين و(البوليفاريّة) في فنزويلا و(النّاصريّة) في مصر، بينما سأطلق مصطلح (الشّعبويّة) على الحركات الّتي تستغلّ المزاج الشّعبي في لحظة معيّنة، وتوظّفه لتحقيق أهداف ومصالح خاصّة، أو تتعارض مع مصالح الشّعب في النّهاية، وهذا ما يمكن تسميته بالخداع والتّضليل، كظاهرة “ترامب “في أمريكا.

أمّا في مجتمعاتنا العربيّة فقد شكّل الاستثمار في الدّين الشّكل الأكثر شعبويّة على الصّعيد السّياسيّ، نظرا لكون الأغلبيّة السّاحقة من شعوبنا تدين بالإسلام، واتّخذ هذا الاستثمار طابع الثّبات والدّيمومة من خلال ظهور تيّارات سياسيّة تتّخذ من الإسلام كفكر وإيديولوجيا منهاجا لها، وهو ما عرف بـ(تيّارات الإسلام السّياسيّ) على تنوّعها وتفاوت درجة تشدّدها، إلاّ أنّها تتّفق جميعا في مرجعيتها الإسلاميّة، وفي ضرورة إعادة إحياء دولة الخلافة، وفي الواقع لم تخلُ الممارسة السّياسيّة للأنظمة الحاكمة أيضا من استثمار العامل الدينيّ بنسب متفاوتة، وذلك حسب حاجتها إلى توكيد شرعيتها المنقوصة أساسا كونها لم تأت عبر صناديق الاقتراع.

ليست غاية هذا المقال تحليل خطاب تيّارات الإسلام السّياسيّ، وكشف أخطارها على الشّعب السّوريّ وقضيّته، الّتي باتت معروفة للجميع تقريبا، لكنّه سيسلّط الضّوء على تيّار شعبوي آخر هو (التّيار اللّيبرالي) الّذي تتجلّى شعبويته في محاباة التيّار الإسلاميّ، والتّحالف معه وفق شروط هذا الأخير، نظرا لخطورة دوره في تسويق الإسلام السّياسيّ جماهيريا، والتّغطية على عيوبه وأخطائه وجرائمه بحقّ الشّعب السّوريّ.

أقول ذلك بعد أن أصبح هذا التّيار كاسحا، له منظروه وقادته، وبعد أن تخلّى طيف واسع من النّخب الّتي كانت تحسب نفسها على اليسار عن مبادئها، والتحقت بركب هذا التّيار الشّعبويّ علّه يكون الطّريق الأقصر للوصول إلى السّلطة، بعد أن أخفقت هذه النّخب في موضعة مبادئها على أرض الواقع، ويئست بالتّالي من إمكانيّة جني أيّة مكاسب بالاستناد إلى هذه المبادئ، هكذا تنظر الشّعبويّة إلى الشّعب من زاوية الدّين، فبما أنّ دين الأغلبيّة  من الشّعب السّوري هو الإسلام؛ إذن فلا بدّ لكي نقترب منه، ونكسب تأييده من أن نتمسّح بهذا الدّين؛ وذلك لا يتمّ إلّا بالتّحالف مع تيّار الإسلام السّياسيّ (المعتدل) حسب رؤية هذا التّيار، عبر عمليّة مطابقة تعسفيّة بين الدّين كعلاقة روحيّة بين الإنسان وربّه من جهة وبين تيّار الإسلام السّياسيّ كتيّار يعمل على توظيف الدّين في عمليّة الصّراع السّياسيّ من جهة ثانية.

وفي ظنّي أنّ هذا التّيار لم يأت بجديد، إذ أنّ هذه الممارسة في الواقع تضرب بجذورها في السّياسة السّوريّة ابتداء بشيخ الشّعبويين السّوريين ميشيل عفلق، الّذي أعلن إسلامه تقرُّباً ومحاباة من الشّعب السّوري، فأثبت مرّة واحدة عدم إيمانه بالسّيد المسيح عليه السّلام، وإيمانه الدّيماغوجي برسالة النّبيّ محمّد (ص) من جهة ثانية، والأهمّ من ذلك عدم إيمانه بالمبادئ العلمانيّة الّتي أنشأ حزبا سياسيا وفقا لها من جهة ثالثة، وقد كانت هذه الشّعبويّة السّياسيّة جزءا أصيلا من ممارسة كلّ الحكومات العربيّة بشكل عامّ، ومن الممارسة السّياسيّة للسّلطة الاستبداديّة في سورية بشكل خاصّ، ويزداد هذا الجزء أو ينقص تبعا لحاجة هذه السّلطات للتّضليل والتّغطيّة على نهبها واستغلالها لشعوبها، ولحاجتها إلى توكيد شرعيتها المنقوصة، فلم تتوانَ السّلطة الاستبدادية يوماً عن المتاجرة بالدّين سواء من خلال رعايتها للمناسبات الدينيّة، أو من خلال تشييد العديد من المساجد بشكل غير مسبوق، فضلا عن تكريمها لرجال الدّين وإغداق الهبات عليهم، وأخيرا وليس آخرا إنشائها لمعاهد تحفيظ القرآن وغيرها من الجمعيات والتّجمعات الدينيّة.

وهكذا حين تلجأ قوى المعارضة (اليساريّة) إلى هذه الممارسة فإنّها تضفي الشّرعيّة على ممارسة النّظام لها من جهة، وتلغي التّمايز بينها وبين نظام الاستبداد على صعيد الممارسة السّياسيّة من جهة ثانية، في حين كان الأولى بها أن تعمل على سحب ورقة الدّين من التّوظيف السّياسيّ، بشكل يؤكّد افتراق ممارستها السّياسيّة عن ممارسة النّظام من جهة، وعن الممارسة السّياسيّة للتيّارات السّياسيّة الدينيّة من جهة أخرى.

وفي ظنيّ أنّ الشّعبويّة لا ترى الشّعب كما هو، بل كما تريده أن يكون، وهي لا ترى أنّ الشّعب الّذي يدين بالإسلام كان منبعا وخزانا للحرّكات السّياسيّة والأيديولوجيات العلمانيّة والقوميّة واليساريّة الكبرى في تاريخ سوريّة الحديث وتاريخ المنطقة عموما، لقد قرّرت هذه الشّعبويّة أنّ الشّعب السّوري مسلم، وأنّ هذه الصّفة تختزل كامل هويّته ووجوده ومصيره كلّه، وبناء على ذلك يكون التّعبير السّياسي عن هذا الشّعب هو الإسلام السّياسي بتيّاراته المختلفة، أمّا هو (أي التّيارالشّعبوي) فلكي يكون معبّرا عن هذا الشّعب ما عليه سوى أن يتحالف مع هذا الإسلام السّياسي، ولا مانع في أن يكون ذيلا له إذا اقتضت الضّرورة ذلك. كما أنّ هذه الشّعبويّة لا تحترم الشّعب، فهي لا تنظر إليه باعتباره كائنا عاقلا راشدا أو يمكن أن يصبح كذلك، بل تنظر إليه بوصفه ثوراً، أي كائنا غير عاقل، أو طفلا لما يبلغ الرّشد بعد في أحسن الأحوال، علينا أن نداريه بالتّلون باللّون الّذي يحبّه، ولا مانع في أن نرتدي الأسود إذا كان يحبّ اللّون الأسود، وهي بهذه الممارسة تدفع الشّعب دفعا لأن يكون وقودا لطاحون الرّحى الّتي يشكّل الاستبداد السّياسي إحدى حجريها، فيما يشكّل الاستبداد الدّيني الحجر الأخرى.

ليس صعبا أن يكتشف المرء الخلفيّة الّتي ينطلق منها هذا التّيار، وهي (الهوس بالسّلطة) وبالتّالي الاستعجال وسلوك أقصر الطّرق المؤدّية إليها كما يعتقد، ضاربا عرض الحائط بكون هذا الوصول إلى السّلطة سيكون في خدمة أهداف هذا الشّعب وقضاياه أم سيكون بالضّد منها، لذلك رأينا كيف كان يهلّل بعضُه لاحتمال التّدخل الأمريكي اعتقادا منه بأن ّالأمريكان سيسلّمونه السّلطة على طبق من فضّة، وبالتّالي سيكون هذا أقصر الطّرق لتحقيق أهدافه، مع العلم أنّه صار واضحا لكلّ ذي عين بصيرة أنّ التّدخل الأمريكي في العراق لم يكن لصالح الشّعب العراقي، وأنّ النّخب السّياسيّة الّتي أتى بها كانت أكثر كارثيّة عليه من استبداد صدام حسين. ولا يتورّع هذا التّيار عن وصم نفسه بـ(الديموقراطي)، إذ ماذا يتبقّى من الديموقراطيّة حين يتمّ تصنيف الشّعب وفق دلالات مذهبيّة وطائفيّة، خاصّة في بلد فسيفسائي كـ(سوريّة)، وماذا يتبقّى من الدّيموقراطيّة حين يتمّ التّحالف مع تيّارات تريد إقامة شرع الله على الأرض السّوريّة؟

لقد أثبتت السّنوات التّسع الّتي مرّت بها سوريّة عقم تيّارات الإسلام السّياسيّ السّوري بكلّ تلاوينه، وما أدّى إليه من كوارث وويلات على الشّعب السّوري حين شكّل سنداناً لمطرقة الاستبداد، كما كشفت حجم ارتباطاته الخارجيّة وعمالته لجهات تتعارض مصالحها مع مصالح الشّعب السّوريّ بشكل جذري، كما كشفت الأحداث عن كون هذا التّيار مرفوضاً عالميّاً وغير مقبول  بوصفه بديلا سياسيّاً عن أنظمة الاستبداد الحاكمة في المنطقة بشكل عامّ، وبدل أن يرى هذا التّيار في الأسباب الآنفة الذّكر فرصة ليس للمراجعة وفكّ التّحالف مع هذا الإسلام السّياسيّ فحسب، وإنّما فرصة لفضح هذا التّيار وكلّ المتاجرين بالدّين الحنيف، ومناسبة لتوضيح مخاطر هذا التّيار على الشّعب وقضاياه، وبالتّالي لعزله وتجنيب الشّعب السّوري كوارث جديدة، بدل ذلك كلّه، نرى هذا التّيار يوطّد تحالفه مع هذا الإسلام السّياسيّ ليغسل كلّ خطاياه، ويعطيه صكّ براءة عن مسؤوليته في ما حدث للشّعب السّوريّ من كوارث وويلات في عمليّة تزوير وتضليل فاضحة هدفها منع الشّعب السّوريّ من تلمّس طريقه رغم التّضحيات الهائلة الّتي قدّمها، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على افتقار هذا التيّار إلى الحدّ الأدنى من المبدئيّة في السّياسة، ليغدو شكلا من أشكال البراغماتيّة الفجّة، والّذي أعمته أوهام السّلطة عن رؤية الواقع بتشابكه وتعقيده، وبلّدتْ مشاعره عن الإحساس بالشّعب وقضاياه وتضحياته، فاندفع وراء رغباته ومطامحه الّتي لا تمت إلى قضايا الشّعب ومصالحه بأدنى صلة.

وهكذا، يتبيّن لنا ممّا سبق أنّ الشّعبويّة تتجلّى بأشكال مختلفة وذلك تبعا لخصوصيّة كلّ بلد من جهة، ولخصوصيّة المرحلة التّاريخيّة الّتي يمرّ بها هذا البلد من جهة ثانية، وأنّه كلّما تسارعت الأحداث انكشف زيف خطابها، وعداؤها السّافر للشّعب وقضاياه، وممّا لا شكّ فيه أنّ ظروف الاستبداد المديد في بلادنا قد خلقت الشّروط الموضوعيّة لنمو التيّارات الشّعبويّة وانتشارها بشكليها الدينيّ واللّيبرالي، وذلك من خلال قمع كلّ أشكال العمل السّياسيّ، وتصحير الحياة السّياسيّة، الّذي أفضى إلى تسطيح الوعي السّياسيّ لدى فئات واسعة من المجتمع، لتصبح هذه الفئات تربة خصبة لقبول كلّ أنواع الخطاب الشّعبويّ، دون أن تدرك ما سيؤدّي إليه هذا الخطاب من نتائج كارثية على المجتمع بشكل عامّ.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/06/09/%d9%81%d9%8a-%d9%86%d9%82%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%91%d8%b9%d8%a8%d9%88%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%91%d9%88%d8%b1%d9%8a%d9%91%d8%a9/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك