المفكرون الأحرار في الإسلام

المفكرون الأحرار في الإسلام
دومينيك أورڤوا* (قراءة: رضوان السيد)

ظهرت أطروحةُ الأحرار والليبراليين من جهة، والمحافظين والرجعيين من جهةٍ ثانيةٍ في تاريخ الإسلام الثقافي، لدى المستشرقين الأوروبيين في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وربما كان أصل ذلك ما هو موجودٌ في تاريخ التفكير المسيحي وتاريخ التفكير اليهودي منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر. أمّا في المجال الإسلامي فإنّ الليبراليين من وجهة نظر المستشرقين كانوا بالدرجة الأولى الفلاسفة الإسلاميين، الذين ساروا على خُطى الفلاسفة القُدامى مثل أفلاطون وأرسطو. وقد عنى بهم الأوروبيون أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد. وفي سبعينات وثمانينات القرن التاسع عشر وما بعد أَلحقوا بأولئك الليبراليين والمفكّرين الأحرار في تاريخ الإسلام الثقافي: المعتزلة الذين اعتبروا وقتَها أنهم عقلانيون بخلاف الأشاعرة المحافظين والرجعيين، مثل لاهوتيي الكاثوليك في القرنين الثاني عشر والثالث عشر! وتطورت مناقشاتُ هذا الملفّ في القرن العشرين، وبخاصةٍ في حقبة مابين الحربين العالميتين، حين بدأ كثيرون يناقشون مسائل الزندقة والإلحاد في التاريخ الإسلامي. فإذا كان الفلاسفةُ والمعتزلة ضعيفي الدين في الحقيقة؛ وإنما يحاولون إخفاء ضَعف دينهم بمحاولات التوفيق المستحيلة بين الإسلام والفكر اليوناني؛ فإنّ هناك أفراداً ما جاملوا ولا وفَّقوا بل أظهروا أو أَخْفوا عداوتَهم للدين الإسلامي، إمّا بسبب اعتناقهم لعقائد أُخرى أو بسبب إلحادهم وعدم إيمانهم بأي شيء. ومن هؤلاء الذين جرى الاهتمامُ بهم في هذا السياق كُلٌّ من ابن المقفَّع، وحُنين بن إسحاق (وقد كان مسيحياً وما كان زنديقاً، لكنْ يبدو أنه اختلف مع بعض رجال الدين المسيحيين)، وأبي عيسى الورّاق، وابن الراوندي، وحَيُّويَه البلخي، وأبي بكر الرازي، وأبي العلاء المعرّي، وابن كموّنة، وريمون لول.

وقد نُسي هذا الملفّ أو تراجع الاهتمامُ به منذ السبعينات من القرن الماضي، بسبب تغير الأفكار حول الفلاسفة وحول المعتزلة وحتّى بشأن الملحدين والزنادقة. لكنّ مستعرباً فرنسياً هو دومينيك أورفوا الأستاذ بجامعة تولوز دأب على العودة لذلك الملفّ على سبيل المراجعة والقراءة النقدية ومكافحة الأصولية الإسلامية، كما يقول! وكان من نتاج ذلك أخيراً كتابه: المفكرون الأحرار في الإسلام.

يبدأُ أورفوا كتابه بدايةً طريفةً بالقول إنك لو رجعْتَ إلى القرن الثامن عشر لوجدْتَ أنّ الصورة السائدة هي عن أُناسٍ نقدوا المسيحية أو عادوها مثل ديدرو وفوليتر وروسّو ومونتسكيو. لكنْ لو دقّقْتَ لوجدْتَ أنّ هناك مؤلَّفات أكثر عدداً تعود للقرن نفسِه، وتنشغلُ بالدفاع عن المسيحية. ويمكنُ قولُ الشيء نفسِه عن القرون بين الثامن والعاشر الميلادي في تاريخ الإسلام. فالصورةُ السائدة عن دينٍ مستتبٍ وحضارةٍ مزدهرةٍ تتأسسُ على الدين، الذي تتعددُ مذاهبُهُ، دون أن يكونَ هناك خلافٌ حول أساسياته أو شذوذٌَ عنه. لكنّ هذا الانطباع غير دقيقٍ أيضاً. فقد كان هناك أفرادٌ خرجوا على السائد باتجاهاتٍ مختلفةٍ، وليس السائد الإسلامي فقط؛ بل أيضاً السائد المسيحي واليهودي.

ويمضي المؤلّف في تأملاتٍ بشأن خصوصيات ديانات التوحيد اليهودية والمسيحية فالإسلام. ثم يصرّح بأنه يريد بحث أفكار مصائر أفراد في الديانات الثلاث في العصور الوسطى ينتمون إلى إحدى فئتين: الجاحدين، الذين لا يؤمنون بشيء، والآخرين الذين ينتقدون السائد الدينيَّ من داخله طلباً للمزيد من الحراك والحرية فيصطدمون بالأرثوذكسيات ارتطاماً لا يقلُّ عن ارتطام الملحدين.

وأولُ الذين يتفرغ أورفوا لبحث أفكارهم ومصائرهم الكاتب المعروف، ومنشئ النثر العربي المسمَّى عبد الله بن المقفَّع (والذي عاش من حوالي العام تسعين للهجرة إلى حوالي العام 140هـ). ابن المقفع من أصول فارسية وكان اسمُه قبل اعتناق الإسلام روزبه. وقد شبّ في ظل الثقافة العربية، فأتقنها إلى جانب لغته الأُمّ. وعمل في الديوانين (الإدارتين) الأُموي والعباسي، وكان مولىً لأحد أعمام أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، ويقال إنه هو الذي أمر باغتياله (بين 137 و139هـ). والمعروف أنّ ابن المقفَّع هو مترجم (كليلة ودمنة) الحكاية السياسية المشهورة على ألسنة الحيوانات من الفهلوية (الفارسية الوسيطة) إلى العربية، وكانت قد تُرجمت من قبل في القرن السادس الميلادي إلى الفارسية. ويذكر ابن النديم في (الفهرست) أنَّ ابن المقفَّع ترجم (كتاب مزدك)، وهو إصلاحيٌّ إيرانيٌّ قتله كسرى أنوشروان عام 528م لخروجه على الزرادشتية التقليدية. لكنّ الكتاب ضاع، وبالتالي لا نعرفُ ما كان فيه، وهل ابن المقفع معه أو ضدَّه. ويناقش المؤلّف مسألة الترجمة أو التلخيص لمنطق أرسطو، والتي تُنسَبُ إلى عبدالله بن المقفع وإلى ابنه محمد. ولدينا من المنسوب لابن المقفع رسالة الصحابة، والأدب الكبير (فِقَر بلاغية وحِكَم)، والأدب الصغير (الذي أثبت إحسان عباس أنه مأخوذٌ من الأدب الكبير ومن كليلة ودمنة!). وقد اتهم المؤلّفون اللاحقون ابن المقفَّع بالزندقة (أي المانوية، نسبةً لماني، وهو مصلحٌ فارسيٌّ آخر. والاتهام بالزندقة عنى دائماً آنذاك اعتناق المانوية سراً، أي الارتداد عن الإسلام، وليس الإلحاد). ونسبوا إليه أنه قلَّد القرآن أو نقده (بحسب القاسم بن إبراهيم الرسّيّ -246هـ). ولا يبدو أنّ المنصور قتل ابن المقفع لأسبابٍ دينية، كما أنّ معارضته للقرآن ربما كانت مخترعةً فيما بعد. لكنّ (باب برزويه) في مقدمة (كليلة ودمنة)، وكذلك بعض الفقرات في (الأدب الكبير)، كلّها تدعو إلى عقلانية معتدلة تُعرضُ عليها حتى الأديان أو نصوصُها. ويقارن المؤلّف باب برزويه هذا بكتاب (بلَوهر وبوداسف)، وهو سيرةٌ لبوذا مترجَمة إلى عدة لغاتٍ منها العربية. وهو يذهب إلى أنّ قصة بوذا زُهدية الطابع والروح، بينما الأدب الكبير لابن المقفع عقلاني وليس زُهدياً. ويذهب أورفوا حيناً مذهب الأستاذ جوزف فان أس إلى أنّ ذلك النزوع هو نزوعٌ شكّيٌّ معتدلٌ انتشر لدى الخاصة من الأطباء المثقفين بالثقافة الهيللينية. لكنه يعود فيناقش بإسهابٍ ما نسبه القاسم ابن إبراهيم الرسّي الزيدي لابن المقفع في معارضته للقرآن، ويُلاحظُ تشابُهاً مع باب برزويه ومع الأدب الكبير. ويلاحظُ أنّ هذه الشذرات إذا صحَّتْ فإنها تجعلُ من ابن المقفَّع مانوياً وليس ناقداً للنصّ الإسلامي من الداخل، كما أنه ليس شكّياً متطرفاً لا يؤمنُ بشيء.

وينصرفُ المؤلّفُ بعد ذلك إلى دراسة (حالة) حُنين بن إسحاق، المترجم المشهور. لكنه يقدّم لذلك بالنظر في كتابي عمّار البصري المسيحي النسطوري: البرهان، والمسائل والأجوبة من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي. في البرهان يشير البصري إلى أنّ الأديان ينبغي أن تلبي ثلاث حاجات للإنسان هي: الإيمان بالبعثِ والحساب، والمحبة المتبادلة، والسعْي الجاهد لتحقيق السعادة الدائمة. وهو يلاحظ أنّ سائر الديانات فيما عدا المسيحية إنما انتشرت بالقوة أو بالتواطؤ والمخاتلة واتّباع المصالح بالسير مع السائد. أمّا حُنين بن إسحاق فهو عربيٌّ عاش زمن المأمون والمتوكل (198-248هـ)، وهو ينتمي أيضاً إلى المسيحية النسطورية، وقد وُلد بالحيرة عام 102هـ/808م، وعرف السريانية والعربية والفارسية واليونانية(؟). وقد جاء إلى بغداد وصار قريباً من الخلفاء ليس بسبب الترجمة فقط، بل ولأنه كان طبيباً مشهوراً. وقد مرَّ بمحنةٍ مع كنيسته، وفقد الحظوة لبعض الوقت، لكنه عاد إلى منزلته وكتبه وترجماته، وتوفي عام 260هـ/873م. ويتحدث المؤلّف عن إدخال حنين وابنه إسحاق للمصطلح العلمي إلى الترجمة عن اليونانية وعن السريانية, وإلى نقوله لكتبٍ شديدة الأهمية. ويتبين في النهاية لماذا أورد أورفوا هذا الفصل عن حُنين رغم أنه ما كان شكّاكاً. إذ ترك حنين نصاً بعنوان (كيفية إدراك حقيقة الديانة) من ضمن إجابة على مُراسلة مع صديقه ابن المنجّم، أجاب عليها أيضاً فيما بعد قُسطا بن لوفا، الذي كان من الروم المَلَكيين (-309هـ/912م). ابن المنجم يقول إنّ الدليل على صحة الإسلام: ارتقاؤه بالعرب، وإعجاز القرآن. وحُنين لا يجيبُ مُباشرةً، لكنه يقول أخذاً كما يقول – من مقدمة كتاب البرهان لأرسطو إنه لا يجوز أن تحتجّ على خصمك في المُناظرة بما لم يؤمنْ أو يقتنع به، وهو لا يقول بإعجاز القرآن. وكذلك الأمر في الحجة الأُخرى، أي تخلُّف العرب، ففي مثل حالتهم يسهُلُ إقناعُهُم وليس ذلك حجّة على الصحة أو السواد. والطريف أنَّ حُنيناً يَصيرُ بعد ذلك إلى إثبات صحة المسيحية بحجج معكوسة فهي لم تُفرضْ بالقوة، ولا دعت للإيمان بالمرغوبات بل بأمورٍ شاقّةٍ على النفس، وهي لا تقبلُ الجاه بل التواضع والعُزلة؛ وقد نجحت مع ذلك، ولذا فإنّ صحتَها لا مجال للشكّ فيها! بل إنه ذكر الأسباب اللامعقولة، والتي تدلُّ على تأسُّس الإيمان بالمسيحية على الإعجاز: الوحدانية والتثليث، وحمل العذراء، وصلب المسيح ودفنه. ثم يدرس الكاتب كتاب (نوادر الفلاسفة) لحُنين ويحاولُ عبثاً أن يتبين فيه عناصر (علمانية) غير إسلامية دون جدوى.

في الفصل الثالث يدرس المؤلّف التحدّي الثِنْوي (القائلين بالإثنين، أي مبدأي الخير والشرّ) للإسلام من مثل الزرادشتية والمانوية والمزدكية. وهو يركّز على الزرادشتيين وما كتبوه في الدفاع عن مبدأ الإثنين ومعارضة التوحيد اليهودي والإسلامي. وقد لاحظ المؤلّف أنه رغم اهتمام المتكلمين المسلمين بالردّ على المانوية (الزندقة) خاصةً، لكنهم ردُّوا في كثيرٍ من الأحيان على الزرادشتية أيضاً وعلى الثِنْوية بشكلٍ عام. ويلاحظ المؤلّف – تبعاً لفان أس – أنه في كثيرٍ من الأحيان يردُّ المتكلمون على أقلّ شُبهة تُشعر بالتأثر بالثنوية من مثل ما اتهموا به صالح بن عبد القدوس الشاعر. ويذهب المؤلّف إلى أنه بعد القرن الرابع الهجري لا دليل على بقاء شكوكيين ثنويين. لكنّ المتكلمين كانوا يستمرون في الرد على الفئات المنقرضة، وبذلك عرفْنا شيئاً عن هؤلاء القُدامى الذين ما كنا لنعرفَ شيئاً عنهم لولا تلك الردود. ويقول الكاتب إنّ المتكلمين المسلمين يتهمون أحياناً أسلافاً لهم بالثنوية، لأنهم ردُّوا عليها بهدوءٍ أو أوردوا نصوصَها دونما انتقاد. ومن هؤلاء يذكر رجلين هما أبو عيسى محمد بن هارون الورّاق (-247هـ/862م)، وابن الراوندي أحمد بن يحيى بن إسحاق (حوالي 205-245هـ/-895م). ولا يتفق المؤرّخون على اعتزال الوراق أو تشيُّعه أو مانويته، بل يتفقون على سعة علمه بتاريخ الأديان. وهو لم يكتب ضد المانوية فقط، بل كتب ضد اليهودية والمسيحية وبعض الفرق الإسلامية أيضاً. ولم يبق من مؤلّفاته شيء، لكنّ الرادّين عليه وبخاصةٍ يحيى بن عدي المسيحي اليعقوبي أورد نصوصاً كثيرةً له في سياق الردّ عليه في كتابه: مقالات الناس واختلافهم. وربما كانت تهمةُ الورّاق الرئيسية أنه في كثيرٍ من الأحيان يورد الرأي أو القول دون أن يردً عليه، كأنما هو يسلِّمُ به. ويتهمُهُ صاحب (الانتصار) أبو الحسين الخياط المعتزلي بأنه قال بِقِدَم الإثنين (النور والظلمة). لكنّ فان أس وتوماس يذهبان إلى أنّ الرجل أُسيءَ فهمُهُ، وهو إنما أراد أن يكونَ موضوعياً، ولذلك فقد أورد أحياناً مقالاتٍ مجرَّدة عن المانوية وعن غيرها. وقد أمكن جمعُ أكثر كتابه: (الردّ على الفِرَق الثلاث من النصارى)، من خلال ردود المسيحيين عليه. وينصبُّ نقدُهُ على عقيدتي الثالوث والتجسُّد. لكنْ يُنسَبُ إليه أيضاً أنه نقد شَعيرة الحجّ في الإسلام، وهاجم الحجج أو الأدلة التقليدية على نبوة النبي.

أمّا ابن الراوندي فهو أشهرُ (الملاحدة) في التاريخ الإسلامي. ويقال إنه درس على شيخٍ صوفي هو أبو حفص الحدَّاد (-252هـ)، ثم اعتنق الاعتزال، ثم تركه واعتنق التشيُّع، وكتب (فضيحة المعتزلة) رداً على كتاب الجاحظ: (فضيلة المعتزلة). ويذهب فان أس إلى أنّ الرجل ذهب ضحية تصفية حسابات بين المعتزلة. وأنه خرج بعد 245هـ من بغداد، وعاد إلى الشرق، وما توفي قبل عام 270هـ الذي له كتابٌ اسمه (الدامغ) كتبه وقتها وردَّ عليه الخيَّاط المعتزلي أيضاً في (الانتصار). وربما عاد اتهامُهُ بالزندقة أو الإلحاد إلى أسلوبه الاستفزازي في الردّ على خصومه. لكنه ربما تأثر أيضاً بالورّاق الذي ربما قابله ببغداد أو قرأ كتبه. ويلاحظ المؤلّف أنّ ابن الراوندي كتب كتاب (التاج) في نُصرة المعتزلة على طريقته عندما كان ما يزال معتزلياً، لكنّ أبا علي الجبائي (-303هـ) ردَّ عليه واتهمه بالقول بقدم العالَم. وله أيضاً كتاب نعت الحكمة وكتاب الفريد أو الفرند، والأول في حكمة الله ومقتضياتها، والثاني في النبوات. أما أشهرُ كتبه لدى خصومه فهُما كتاب (الدامغ)، وكتاب: (الزمُرُّد). ثم يستعين المؤلّف بمقالة للكاتبة سترومزا عن كتاب الزمرد وأنه كان حواراً بين الوراق وابن الراوندي، ويتضمن رداً من ابن الراوندي على الورّاق ضد المانوية.

وينتقل الكاتب فجأةً إلى رجلٍ يهودي اسمه حيويه البلخي (من القرن الثالث الهجري) اشتبك مع يهود عصره، لكنّ الباحثين لا يعرفونه إلاّ من خلال ردّ سعديا غاوون عليه. طرح حيويه (مائتي سؤال) على التوراة، واختصر التوراة للفتيان مُزيلاً منها الأساطير الصادمة. وقد اختلف الكتّاب اليهود الذين كتبوا عنه في النصف الأول من القرن العشرين بين اعتباره تاركاً لليهودية لصالح الزرادشتية أو المسيحية أو اليهودية الربية وحسبْ.

في الفصل الرابع بعنوان: (ثلاثة أشكال مستقلة للتطوير) يدرس المؤلّف حالات: أبي بكر الرازي (نهاية القرن الثالث الهجري) (257-313هـ) الذي أراد إقامة دينٍ فلسفي – وابن حزم (-456هـ) الذي كتب فصلاً في كتابه الشهير: (الفصل بين الملل والنحل) عرض فيه آراء يهوديين أندلسيين بطريقة طريفة، والحالة الثالثة حالة أبي العلاء المعرّي (-449هـ) من خلال أشعاره في الديوان المعروف بـ(لزوم ما لا يلزم) أو اللزوميات. ويتبين من قراءة هذا الفصل أنّ الجامع بين الشخصيات التي كتب عنها أورفوا أمران: الإحباط تُجاه السائد من الدين، ومحاولة الخروج بانتقائية تُشعر بالحرية والمنطقية في الوقتِ نفسِه. ويبدو ذلك عند الرازي في السيرة الفلسفية، وفي الطب الروحاني، أمّا عند ابن حزم فيبدو ذلك في عروضه لآراء الآخرين والتي لا تشدُّد فيها أحياناً، كما في مذكراته عن يهوديين عرفهما في شبابه. في حين يُخضع المعري المقولات الدينية الرئيسية لأحكام العقل وبديهياته، مُظهراً تذمُّراً وأسً لا مذهباً جديداً.

وفي الفصلين الأخيرين: الوحدة الصادقة أو الكاذبة – ونحو مقاربة موضوعية للظاهرة الدينية؛ يعود أورفوا إلى تأملية تُشبه ما ذهب إليه آخرون في النصف الأول من القرن العشرين: ازدهار الحضارة الإسلامية حتى القرن الخامس الهجري، ثم السقوط في الأرثوذكسية السنية التقليدية التي استمرت قروناً طويلةً بدون تطور ظاهر. وهو لا يقصُرُ ذلك على المسلمين، بل يجعله مطّرداً لدى اليهود والمسيحيين الذين عاشوا في ديار الإسلام، والذين سيطر فيهم وعليهم التقليد أيضاً. لكنه يعرضُ ومضاتٍ فيها حركيةٌ ونقدٌ في الفصل الأخير: (نحو مقاربة موضوعية للظاهرة الدينية) عندما يدرس أمثلةً للتقابُس والانفتاح حتى في العصور المتأخّرة مثل رامون لول في القرن الثالث عشر، وابن كموُّنة اليهودي في كتابه: (تنقيح الأبحاث للملل الثلاث) المكتوب أيضاً بالعربية في القرن الثالث عشر (679هـ).

هل كتاب أورفوا مفيد؟ إنه يعرض بالأحرى لمجالٍ بحثيٍ شغَل عشرات المستشرقين في القرن العشرين، وبدأ في النصف الأول منه. والنموذج والدوافع للبحث غربية بحتة، وهي تُلقي بالأحرى أضواء على تعددية التفكير الديني، وتشهد لاستمرار هذه التعددية، رغم أنّ هدفها الوصولُ إلى غير ذلك.

******************

) Dominique Urvoy, les Pemeuss libres dam L'Islam clanique, 2007.*

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=554

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك