البنك الإسلامي ماله وما عليه

البنك الإسلامي ماله وما عليه
عاطف علبي*

الواقع أنَّ البنوك الإسلامية قد أصبحت حقيقة واقعة ليس فقط في حياة الأمة الإسلامية ولكن في جميع بلاد العالم. لقد غدت واقعا ملموسا فعالا يتخطى إطار التواجد إلى آفاق التفاعل والابتكار، وبالتالي التعامل بشكل إيجابي مع مشكلات العصر التي يواجهها عالم اليوم؛ لذلك لا بد من التعرف عليها.

فالبنك الإسلامي هو مؤسسة نقدية مالية تعمل على جذب الموارد من أفراد المجتمع وتوظيفها توظيفا فعالا يكفل تعظيمها ونموها في إطار القواعد المستقرة للشريعة الإسلامية، وبما يخدم شعوب الأمة ويعمل على تنمية اقتصادياتها. وكذلك (البنك الإسلامي هو منشأة مالية تعمل في إطار إسلامي وتستهدف تحقيق الربح بإدارة المال حالا وفعالا في ظل إدارة اقتصادية سليمة)(1).

ويعرّف كذلك بأن (البنك الإسلامي هو مؤسسة مالية لتجميع الأموال وتوظيفها في نطاق الشريعة الإسلامية بما يخدم مجتمع التكافل الإسلامي، وتحقيق عدالة التوزيع ووضع المال في المسار الإسلامي)(2).وكذلك تعرف بأن (البنوك الإسلامية هي أجهزة مالية تستهدف التنمية وتعمل في إطار الشريعة الإسلامية، وتلتزم بكل القيم الأخلاقية التي جاءت بِها الشرائع السماوية وتسعى إلى تصحيح وظيفة رأس المال في المجتمع..وهي أجهزة تنموية اجتماعية، من حيث إنها تقوم بما تقوم به البنوك من وظائف تيسير المعاملات، وتنموية من حيث إنها تضع نفسها في خدمة المجتمع، وتستهدف تحقيق التنمية فيه، وتقوم بتوظيف أموالها بأرشد السبل بما يحقق النفع للمجتمع أولاً وقبل كل شيء. وهي أجهزة اجتماعية من حيث إنها تقصد في عملها وممارستها إلى تدريب الأفراد على ترشيد الإنفاق وتدريبهم على الادخار ومعاونتهم في تنمية أموالهم بما يعود عليهم وعلى المجتمع بالنفع العام والمصلحة، فضلاً عن الإسهام في تحقيق التكافل بين أفراد المجتمع بالدعوة إلى أداء الزكاة وجمعها وإنفاقها في مصارفها الشرعية)(3).

فكما نرى فإن هذه التعريفات تتكامل لتصبح في التعريف الرابع بمثابة البوصلة النظرية وكذلك العملية لمن يريد أن يعمل بها. وهذا يجعل البنك الإسلامي عبارة عن أداة لتوظيف الأموال في الأسواق المالية، من خلال تأمين الفرص للمودعين لاستثمار أموالهم بأفضل المجالات، نظراً لخبرته وقيامه بتحليل أداء الشركات التي ينبغي الاستثمار بها؛ لاسيما وأن هذه الأسواق المالية تشكل العامود الفقري الذي مكّن الدول المتقدمة من تنمية اقتصادياتها.

ولذا يطرح علينا دائماً ماذا نعنى بالبنك الإسلامي؟

والواقع أنه للإجابة على هذا السوأل لا بد أن ننظر إلى الحقيقة الدائمة المتمثلة في أن الله -سبحانه وتعالى- هو خالق هذا الكون، وأن الإنسان ما هو إلا مستخلف في إدارة موجودات هذا الكون..ولما كان المال أحد هذه الموجودات فلا بد من توظيفه في أحسن المجالات، ومن هنا تأتي أهمية البنوك الإسلامية(4).

فبناء على ما سبق تعريفه، فإن البنوك الإسلامية تصبح أمينة على مراعاة وظيفة المال الحقيقية، وذلك في توظيفه لخير الأمة وخير الشعوب الإسلامية بما يحقق نموها وتقدمها.

هذا كما أن البنوك الإسلامية كفيلة بتصحيح المسار الاقتصادي للأمة الإسلامية بما يمكنها من تسيير نشاطها الاقتصادي بيسر، إضافة إلى تدعيم كيانا تها الإنتاجية وظروفها السوقية وتحقيق تكاملها بالشكل الذي يعظم من أدائها الاقتصادي، وبالتالي يمكنها من رفع الإنتاجية وزيادة الإنتاج بغرض تعميق علاقات التعاون والتكامل الاقتصادي بين دول العالم الإسلامي وبينها وبين سائر بلاد العالم. كما تعتبر البنوك الإسلامية بطبيعتها أعلى البنوك ربحية، على اعتبار أن قدرتها المرتفعة تتجه نحو تموبل النشاط الاقتصادي والتجاري الأكثر مخاطرة؛ الأمر الذي ينسجم والقاعدة الاقتصادية: الربحية=المخاطرة.

لذلك قامت هذه البنوك الإسلامية بتمويل الشركات الإنتاجية في القطاعات السلعية كالزراعة والصناعة والإسكان. كما أنها قدمت خدمات تمويلية للصناعات الصغيرة والحرفية اليدوية، الأمر الذي أدى إلى الإسهام في زيادة الناتج القومي الإجمالي، وبالتالي الزيادة في دخل الفرد وتحسين مستويات المعيشة. وهنا فباستخدام هذه البنوك الإسلامية صيغة المضاربة (عقد بين طرفين على أن يدفع أحدهما ماله إلى الأخر ليتاجربه، وما حصل من الربح يوزع بينهما على حسب ما يشترطان) والمشاركة (في الربح والخسارة) تمكنه من التدخل في النشاط الاقتصادي الممول وتوجيهه ومراقبته، وبالتالي تحقيق ربحية أعلى للنشاط.

كما أن البنوك الإسلامية عملت على تعبئة الفائض غير الموظف من النقود، سواء أكان ذلك مدخرات مكتنزة ومحبوسة عن التعامل أو كانت موظفة في مجالات غير اقتصادية. كما قامت بإعادة وظيف هذه الأموال بالشكل الذي يعظم من إنتاجيتها. وإنتاجها وبذلك أسهمت في تشكيل الموارد المادية والبشرية. ولذا فإنها تحقق التوازن الاقتصادي، وبالتالي تحقق قدراً كبيراً من التناسب بين الربحية ومقتضيات التكافل الإجتماعي البشري.

أما عملية تشغيلها فإن البنوك الإسلامية تلتزم في معاملاتها بالحلال والابتعاد كل البعد عن المعاملات المشكوك فيها، حيث إن البنك الإسلامي يستمد مشروعيته من تجسيد الفكر الإسلامي، وكذلك عدم التعامل بالربا -ربا النسيئة وربا الفضل- ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ الذي هو السمة المميزة للبنك الإسلامي، بغرض تطهير المال من شبه الظلم والاستغلال الذي هو سمة أساسية من سمات القروض الربوية، التي يقوم بِها البنك غير الإسلامي،على اعتبار أن عدم التعامل بالربا يجعل من البنك الإسلامي أداة ترشيد ورشادة تنموية تجعله يتجه بالتوظيف إلى مجالات تدريجية مناسبة، من خلالها يدفع عائداً مناسباً لمجموع المودعين لديه، وبالتالي تنمية المال الذي أئتمن عليه(5)، وأيضاً حسن اختيار من يقومون على إدارة الأموال عبر بذل الجهود اللازمة للتأكد من حسن اختيار الأفراد الذين سيتولون إدارة الأموال، سواء من بين الموظفين في البنك الإسلامي أو من بين عملائه الذين سيتم إتاحة الأموال لهم لإدارتها، فهي تتمتع بمميزات تنم عن كيفية عملها على النحو التالي:

1- تؤدي البنوك الإسلامية دور البنوك التجارية وبنوك الأعمال وبنوك الإستثمار وبنوك التنمية، فهي بالتالي متعددة الوظائف ولا يقتصر عملها على الآجال القصيرة، كالبنوك التجارية، ولا على الأجال الطويلة والمتوسطة، كالبنوك المتخصصة، وبذلك فهي شاملة ومتخصصة في آن واحد.

2- لا تتعامل البنوك الإسلامية بالفوائد والائتمان، بل تعمل على أساس المخاطر والمشاركة في النتائج سواء بالربح أو الخسارة.

3- إن العلاقة بين البنوك الإسلامية والمتعاملين معها سواء أكانوا أصحاب الموارد أو مستخدميها ليست علاقة دائنية ومديونية؛ بل هي علاقة مشاركة ومتاجرة.

4- إن البنوك الإسلامية لا تتاجر بالديون، ولكنها تشارك في عمليات وتتاجر في سلع، بمعنى أنها تقدم تمويلاً عينياً.

5- البنوك الإسلامية هي مؤسسات ذات رسالة اقتصادية اجتماعية تستمد مبادئها من الشريعة الإسلامية.

وبذلك فالبنوك الإسلامية هي جزء لا يتجزأ من النظام المصرفي، سواء أكان ذلك على مستوى الدولة التي تعمل بِها هذه البنوك أم على المستوى العالمي. فهي أعضاء في العائلة المصرفية المحلية والعالمية، وتحكمها علاقات وطيدة ومستمرة في الحدود التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية فيما بينها ومع الغير(6).

ولذا لديها قدرات هائلة في مجال تعبئة المدخرات وفي توظيفها في مجالات الاستثمار المناسبة، التي تعمل على تنمية الدولة وزيادة رفاهية شعبها. وإنه من الممكن لهذه البنوك أن تتحول إلى طاقات ضخمة وغير عادية؛ الأمر الذي يسهم بالإسراع في هذه التنمية وتعميق زيادة عائداتها ومردودها الاقتصادي والاجتماعي(7).

والواقع أن تجربة البنوك الإسلامية بدأت بشكل متزايد وبصورة واضحة في السنوات الأخيرة من القرن المنصرم. فلم يعد الاهتمام بِها مقصوراً على العالم الإسلامي، الذي أخذ يطور النظم المصرفية بشكل كامل، وبالتدرج إلى أسلمة هذه النظم؛ ولكنه أيضاً بدأ يمتد بحيث شهدت بعض الدول الأوروبية ظهور المصارف الإسلامية،التي تعمل داخل الكيان المصرفي التقليدي. إضافة إلى أن ظاهرة الاقتصاد الإسلامي والبنوك الإسلامية في إطارها قد احتلت مساحة واسعة من النقاش حولها داخل الهيئات الاقتصادية الدولية وداخل البنوك الأوروبية ذاتها(8).

وهنا بالإمكان توصيف التجارب التي مرت على نشأة البنوك الإسلامية بثلاث تجارب، حيث بدأت أول الأمر على شكل بنوك ادخارية (البنك الادخاري في ميت غمر بمصر سنة 1963م)؛ ثم كانت نشأة البنك الاجتماعي الإسلامي (بنك ناصر الاجتماعي سنة 1971م)، ثم البنك الإسلامي للتنمية (في جدة في المملكة العربية السعودية سنة 1974م بناء على دراسة معمقة قامت بِها مصر باعتبارها أحد أعضاء المؤتمر الإسلامي). تلا ذلك بنك دبي الإسلامي سنة 1975م فبنك فيصل الإسلامي في السودان سنة 1977م فبنك التمويل الكويتي سنة 1977م ثم البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار سنة 1978م وغيرها.

ومن ثم شهدت الثمانينات من القرن المنصرم عدة تجارب للبنوك الإسلامية أثبتت وجودها رغم العقبات أو الصعوبات التي وقفت قي طريقها.

وتتلخص هذه الصعوبات في:

أولاً: في نقص الكوادر البشرية اللازمة للعمل في البنوك الإسلامية.

وثانياً: في الإعلام المحدود عن البنوك الإسلامية، التي تمثل فكرة جديدة تحتاج إلى التوضيح والشرح.

وثالثاً: في موقف البنوك المركزية من البنوك الإسلامية، التي كانت إلى وقت قريب، غير مستعدة للاعتراف بها.

ورابعاً: في وجود فائض من السيولة كبير لدى البنوك الإسلامية.

وخامساً: في تقهقر نسبة العائد الذي يوزعه البنك الإسلامي على التوظيف الطويل الأمد.

وسادساً: في القدرات الهائلة للأجهزة المالية العالمية على الإعلام المضاد لفكرة وحركة البنوك الإسلامية، تمكنت من إحداث تيار لا يتعاطف مع البنوك الإسلامية.

وسابعاً: في ضعف وغياب التنسيق بين مجموعة البنوك الإسلامية، بالرغم من وجود الاتِّحاد الدولي للبنوك الإسلامية(9).

ومع ذلك أصبح العمل المصرفي الإسلامي حقيقة قائمة وتجربة ناجحة ولو نسبيا، حسب البلدان، تقوم بدورها في تجميع المدخرات وتوجيه الأموال نحو الاستثمار بالوسائل غير التقليدية.

وبعد ذلك يتساءل المرء هل هذا النجاح سوف يستمر ويتصاعد كما يقول أعضاء هذه المؤسسة الإسلامية من الاقتصاديين؟

يستوقفنا التعليق على هذا التفاؤل كون أي نظام جديد للحكم عليه يفترض مرور فترة من الزمن طويلة نسبيا. وهنا عملنا على الاطلاع على الكثير من الأدبيات في الموضوع؛ الأمر الذي مكننا من تسطير ما يلي:

لقد بدأت الحركة المصرفية الإسلامية بصورة متواضعة من أوائل الستينات بمبادرات فردية كان للحكومة دور سلبي فيها تقريبا، ومن ثم تطورت هذه الحركة ونمت بفضل تشجيع حكومات بعض الدول الإسلامية وسن بعض القوانين الخاصة وإدخال تعديلات مناسبة على التشريعات المصرفية.

وتعمل أكثر من 50 مؤسسة مصرفية إسلامية حاليا في مختلف الدول التي تشمل معظم أنحاء العالم الإسلامي، وتشرف شركتان قابضتان دوليتان كبيرتان على عدد من البنوك الإسلامية وهما دار المال الإسلامي ومجموعة البركة، في حين أن معظم المؤسسات الأخرى قد تم تأسيسها من قبل مجموعة من الأفراد، وفي بعض البنوك تشارك الحكومة بنسبة معينة في رأس المال.

وعلى الرغم من المصاعب التي تعاني منها المصارف الإسلامية والتي استعرضناها آنفا، فقد نجحت هذه المصارف في حشد مبالغ كبيرة ونمت الودائع في جميع المصارف الإسلامية تقريبا بخطى سريعة، حيث يتبين أن النمو النسبي للمصارف الإسلامية أفضل في حالات عديدة من النمو في المصارف الأخرى، وحيث أدى هذا النمو النسبي الجيد إلى زيادة حصة المصارف الإسلامية من إجمالي الودائع. ومن المتوقع أن تسهم البنوك الإسلامية بشكل إيجابي في تحقيق نمط من النمو يتناسب بشكل أفضل مع جهود القضاء على الفقر، والتوزيع العادل للدخل والثروة وإيجاد الفرص الكافية من الوظائف ذات الدخل. حيث تشير معظم الدراسات التي اطلعنا عليها إلى أن معظم المصارف الإسلامية لم تستطع أن تولي اهتماما كافيا لنشاط التمويل ذي الطبيعة التنموية، حيث من الملاحظ أن معظم التمويل الذي قدمته هذه المصارف كان من نصيب قطاع التجارة، حيث إنه وصل في كثير من البنوك إلى ما نسبته 90% من إجمالي التمويل. ولقد ركزت معظم البنوك الإسلامية على تقديم التمويل القصير والمتوسط الأجل والذي تتراوح مدته بين ستة أشهر وسنة، ولم يكن الجانب التنموي سائدًا في عملياتها التمويلية. لكن مع مرور الزمن وازدياد خبرة البنك الإسلامي حصل تحول في العمليات التمويلية لصالح التمويل الأطول أجلاً وتوجيه عناية أكبر للمتطلبات التنموية للزراعة والصناعة، إلى جانب توسيع قاعدة العملأ بإيلائه الجانب الاجتماعي عناية أكبر، وذلك عن طريق تقديم مساعدات أكبر للصناعات الصغيرة الحجم والنشاطات التي تساعد في توليد الوظائف الجديدة.

تعتبر البنوك الإسلامية مؤسسات حديثة بالنسبة للتاريخ الطويل للعمل المصرفي المعاصر، ولا تتناسب إنجازاتها مع الآمال الكبيرة التي يعلقها عليها الفكر الاقتصادي الإسلامي، حيث يؤخذ على البنوك الإسلامية العاملة في إطار البنوك التقليدية بأنها تسير في طريق التقليد لما تقوم به البنوك الربوية، حيث تميل العديد من هذه البنوك إلى التركيز على الائتمان المصرفي وإعطاء التسهيلات للمنشآت التجارية الهامة التي تعمل على الاستفادة من تسهيلات النظامين الإسلامي والتقليدي ولا تقوم بتشجيع إنشاء المشروعات الجديدة التي يحتاجها المجتمع والتي من شأنها تشغيل القوى العاملة العاطلة وحل العديد من المشاكل.

كما يؤخذ على هذه البنوك عدم انفتاحها بعضها على بعض لتحقيق التعاون المشترك فيما بينها رغم السعي من بعض البنوك كالبنك الإسلامي لجمع كلمة البنوك الإسلامية وتقريب بعضها من بعض، حيث إن جميع البنوك الإسلامية العاملة ليست أعضاء في الاتِّحاد الدولي للبنوك الإسلامية. كما أن المال الإسلامي لايزال يتسرب لبيوت الاستثمار العاملة في الغرب بدل توجهه للعالم الإسلامي المحتاج لموارد الاستثمار. إضافة إلى ذلك فالتجارة البينية في العالم الإسلامي لاتزال معطلة، حيث يقوم نظام التمويل الإسلامي على تمويل الواردات من الدول الأجنبية دون إعطاء أي أفضلية لمنتجات العالم الإسلامي.

الواقع أن البنوك الإسلامية، بالرغم من الانتشار الذي حظيت به منذ أكثر من ربع قرن من الزمن، على المستوى الوطني والإقليمي وكذلك الدولي، من الصعب الحكم على مدى نجاحها والتأكد من ديمومتها، وذلك لارتباط قيامها في بعض البلدان كإيران والسودان بشكل خاص. ففي الواقع لا يمكن الحكم على نظام سياسي بشكل واقعي وتاريخي، إلا بعد مرور فترة طويلة وطويلة جدا من الزمن لقيامه، وبالتالي على نظامه الاقتصادي فالمصرفي.

نقول هذا سيما وأن النظام الاشتراكي -على سبيل المثال- في روسيا القيصرية والتي غدت آنذك على أثر الثورة، الاتِّحاد السوفياتي، هذا النظام الجديد الذي تمكن من أن يشكل معسكر، ويشارك في تقرير مصير سير التاريخ للبشرية، كقطب مشارك للقطب الآخر الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، هذا النظام تفجر بعد حوالي 70 عاما، خاضعا بالتالي للقانون الجيوبوليتيكي الذي قال به الأميرال بيار سيلريه في كتابه:الجيوبوليتيكا والجيوستراتيجيا(10).

بناء عليه من الصعب الحكم على مدى نجاح البنوك الإسلامية بعد تجربة متقطعة تاريخياً وجغرافياً، وذلك على اعتبار أن هذه البنوك غير موجودة في بعض البلدان الإسلامية، وقليلة في البعض الآخر منها، وقد ظهرت إلى الوجود منذ حوالي نصف قرن ليس إلا. هذا بالإضافة إلى العديد من الثغرات التي تمكن من القول إن هذه البنوك ليست إسلامية مئة بالمئة.

ويمكننا عرض بعض الثغرات استناداً إلى اطلاعنا في بعض أدبيات هذه البنوك الإسلامية.

أولا: رسم الاستخدام عوضا عن الفائدة (وهو نظير الفائدة) وفي نفس المقام لنسية 1% مقابل المصاريف الإدارية التي يتقاضاها بنك ناصر الاجتماعي وخرجها باسم مقابل مصاريف إدارية أو استخدام أو غيره، فهي بالنسبة لبعض الفقهاء ربا وخرجها فقهاء آخرون وأخذوا بها.

ثانيا: أليس في نظام التأمين على الودائع تحت الطلب ضماناً لسلامتها من أية خسارة، تعارضٌ مع مبدأ المشاركة في الربح والخسارة الذي يقوم عليه البنك الإسلامي، وبالتالي يعتبر بمثابة فائدة تتنافى مع الشرع.

ثالثا: جواز أخذ أجرة على خطابات الضمان (فتوى المستشار الشرعي للبنك الإسلامي الأردني/الشيخ عبد الحميد السائح، أخذت بِها بنوك دلة البركة)، تعارض مع الشرع، سيما أن هناك بنوكا إسلامية لا تتقاضى أجرا على الضمان، ولكنها تشترط غطاء جزئيا يتراوح بين 25 و30% وذلك في صورة وديعة دون مقابل، ولها حق التصرف بالعائد من استثمار هذه الوديعة كيفما تراه مناسبا.

رابعا: أن البيع بالتقسيط أو لأجل يتعارض مع الشرع؛ حيث يتم البيع بسعر أعلى من السعر الذي تباع به السلعة نقدا.

خامسا: رأى بعض الفقهاء والقضاة ضرورة التفريق بين الفائدة والربا، واعتبروا أن القرآن قد حرم الربا الذي كان سائدا قبل الإسلام، وليس الفائدة الناتجة عن الأنظمة المالية الحديثة، وهؤلاء هم البرغماتيون أو أصحاب النظرة المرنة، الذين يعتبرون أن العمليات المبنية على الفائدة تعد قانونية، ولكنها تصبح محرمة شرعا إذا شكل المبلغ المضاف على القرض نظير المبلغ الأصلي أو أكثر.

كما يرى هؤلاء البرغماتيون ضرورة استخدام الفائدة لتطوير الاقتصاد في البلاد الإسلامية، فهي برأيهم تساعد في خدمة هذه البلاد، وذلك من خلال تشجيع الادخار وتجميع رؤوس الأموال، لتمويل الاستثمارات الإنتاجية، وبالعكس فإن إلغاءها يعمل على تأخير التطور الاقتصادي للبلدان الإسلامية.

ويعتبر هؤلاء الفقهاء هذه النقطة بمثابة ثغرة كبيرة في النظام المصرفي الإسلامي القائم على إلغاء الفائدة. ونحن نرى هنا أن الإسلام، على غرار ما فعلت اليهودية والمسيحية - قبل بالرق مع الحض على المعاملة الحسنة وحتى العتق. ويبدو لنا أن في ذلك تجلي عبقرية الرسول العربي الكريم محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم-، كون النظام الاقتصادي آنذاك كان يقوم على الرق. أما اليوم فالنظام الاقتصادي يقوم على النظام المصرفي بفائدته المعتدلة العادلة (لنتذكر تأسيس بنك مصر أيام طلعت حرب وفتوى الأزهر لفائدة كانت حوالي 7%)؛ ولا يمكن القيام بأي نشاط إقتصادي من دون هذه الفائدة. ويمكننا -على سبيل القياس أو الموازاة بين نظام الرق والنظام المصرفي- القبول بالفائدة العادلة مع شجبنا الكلي للربا لدى الأفراد أو المؤسسات.

سادسا: يدين الإسلام عموماً بيع البضائع والسلع والأسهم غير الموجودة بحوزة التاجر، إلا أن المصارف الإسلامية لها الحق بذلك لتأمين نشاطاتها، حيث تحصل على دفعات نقدية لتسليم مستقبليّ وفق عقد مجاز ينص على كافة الشروط الموافقة للعقد، من أسعار وكميات ونوعيةً بضائع، ويكون منصوص على ذلك صراحة في العقد.

سابعا: في 1/5/1985م، منعت البنوك الإسلامية من قبول أية ودائع بالعملة المحلية على أساس الفائدة، في حين أن النظام المصرفي الإسلامي الباكستاني الذي تم أسلمته في العام 1978م سمح باستمرار قبول الودائع بالعملات الأجنبية على أساس الفائدة، واستمرار دفع الفوائد على القروض الأجنبية وفي الإطار نفسه فإنه يسمح بشراء أوراق تجارية ومستندات دفع بسعر أقل من قيمتها (الحسم)، وهذه أيضا ثغرة في النظام المصرفي الإسلامي، وذلك في حال الأخذ بالشرع وبمبدأي الحلال والحرام.

ثامنا: عن عملية أسلمة النظام المصرفي الباكستاني تقبل شهادات المشاركة المؤقتة وشهادات المضاربة التي تصدرها الشركات، ضمن إطار تحدده الحكومة، وشروط تبين تاريخ الاستحقاق، ونسبة الربح و الخسارة وطريقة سداد مقبولة.

هذه هي بعض الثغرات التي استخرجناها خلال بحثنا الدؤوب في العديد من المراجع والتقارير المتعلقة بالبنوك الإسلامية. هذا مع العلم بأن هذه الثغرات قد لا توجد في كافة البلدان الإسلامية التي تتبع النظام الصرفي الإسلامي، فهي تختلف بين بلد وآخر، وخلال فترة زمنية وأخرى، وحيث إن هذه البنوك لاتزال في مرحلة مبكرة من مراحل العمل المصرفي الإسلامي.

هذا ولابد من الإشارة أيضاً إلى عدم وجود نموذج موحد للبنوك الإسلامية، وهذا يعود في واقع الحال للظروف الموضوعية، الاقتصادية، الاجتماعية والدينية، وكذلك لمدى تأثيرها في حياة المجتمع والبلاد، وبالتالي الدولة فالحكومة. وهذا ما يفسر الثغرات المتواجدة في البنوك الإسلامية ككل حسب رأينا، وحيث قد تتواجد في بلد ما ولا تتواجد في آخر؛ وذلك يعود إلى مدى درجة التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني (سلبا أو إيجابا).

ومع ذلك فهناك بعض الإيجابيات البارزة ولو على المستوى النظري لابد من تسجيلها، وقد تجلت بشكل واضح في تجربة ميت غمر والقائمة على القطاع التعاوني واهتمامه في تنمية المجتمع الديني. هذا بالإضافة إلى تجربة إيران الأوضح في محاولة أسلمة الاقتصاد والتي تقوم على ثلاثة قطاعات: الحكومي والتعاوني والخاص، هذا بالإضافة إلى كون البنوك الإسلامية هي عامة وخاصة ومختلطة (ودولية). فكل ذلك يؤدي على الأقل على المستوى النظري إلى الاستقرار الاجتماعي من جراء حفظ المصلحتين العامة والخاصة.

هذا مع الإشارة إلى أن ما عرفناه بالنسبة لإيران قد ينفتح على شيء كبير من العدالة الاجتماعية (إذا ما حصل على أرض الواقع)، التي عرفها الإسلام قبل أن تعرفها الاشتراكية.

بناء عليه فإذا كانت العدالة الاجتماعية من الاشتراكية فالإسلام كان أسبق منها بمضمونه عدالة اجتماعية ولو على المستوى النظري. فهناك العديد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة تشكل ما يتخطى العدالة الاجتماعية مناقبية أخلاقية ما وجدت ولا تعرفها اشتراكية اليوم والتي فشلت لانتفاء الديمقراطية بشكل رئيسي فيها وللأخطاء المتعمدة أحيانا في التخطيط الاقتصادي والعضوية أحيانا من جراء عدم وجود الديمقراطية وانتفاء الحافز المادي لدى الناس وللتطرف في عدم حفظ الخاص من العام وبشكل فظ واستبدادي.

نخلص أخيرا إلى القول: إن وجود نظام عمل مصرفي إسلامي متكامل يتطلب أن تكون هناك تغطية لمختلف احتياجات المجتمع، بحيث تلتزم البنوك الإسلامية العاملة في ظل النظام المصرفي الشامل بأن يكون نشاطها موجها لتنمية التعاون مع دول العالم الإسلامي والبنوك الإسلامية العاملة فيها. فبالنسية للواردات يجب أن تعطى الأفضلية في التمويل والتسعير والمشاركة والربح لكل ما هو منتج في بلد إسلامي، وكذلك الأمر بالنسبة للصادرات. كما من الضروري أن تحظى المشاريع المشتركة والمتكاملة مع بلدان إسلامية أخرى بالأولوية في التمويل والتنفيذ.

********************

الحواشي

*) أكاديمي من مصر.

1- شوقي إسماعيل شحاتة، البنوك الإسلامية، دار الشروق، جدة 1977م، ص55.

2- مجلة البنوك الإسلامية، العدد 5، آذار 1979م، نقلا عن التقرير الخاص بالحلقة العلمية لخبراء التنظيم في البنوك.

3- أحمد النجار، عن البنوك الإسلامية: ماذا قالوا؟ الاتِّحاد الدولي للبنوك الإسلامية، القاهرة 1982م، ص9-10.

4- محسن الخضيري، البنوك الإسلامية، دار إيتراك للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، القاهرة 1416هـ-1995م، ص13.

5- محسن الخضيري، البنوك الإسلامية، المرجع السابق (4)، ص19-28.

6- إسماعيل حسن محمود، مستشار الاتِّحاد الدولي للبنوك الإسلامية، المصارف الإسلامية، الصادرة عن اتِّحاد المصارف العربية في البحرين بين 26 و28/9/1987م، وذلك تحت عنوان: مستقبل المصارف العربية والمستجدات.

7- محسن الخضيري، المرجع السابق (4)، ص342.

8- محمد الأنصاري، إسماعيل حسن، سمير مصطفى متولي، كتاب الأهرام الاقتصادي تحت عنوان: البنوك الإسلامية، العدد الثامن، الصدر في تشرين أول 1988م، ص3 من المقدمة.

9- محمد الأنصاري، إسماعيل حسن، سمير مصطفى متولي، ألأهرام الإقتصادي، حول الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلامية-، المرجع السابق (8)، ص106. وما بعدها.

10- الأميرال بيار سيلرية، الجيوبوليتيكا والجيوستراتيجيا، تعريب الدكتور عاطف علبي (عن الفرنسية)، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت 1993م.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=542

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك