الفرقة النَّاجِيّة مِنَ الوَباء

العقلُ الجَدَلِيُّ بين سقراط وابنِ رُشدٍ

مزار بن حسن
 

كُلَّمَا ألَمَّ بالإنسانِيّة خَطْبٌ مِنَ الخُطُوبِ الثّقيلةِ أوْ رُزْءٌ مِنَ الأرْزاءِ العظيمةِ الّتي تُصِيبُ مِنْهَا باهِضَ الأموالِ وعَزِيزَ الأنفُسِ كالزّلازِلِ والأعاصيرِ والجَوائِحِ والأمراضِ والأوبِئةِ وغيرِهَا… نَطَقَ الإنسانُ بِكُلِّ ما أوتِيَ مِنْ السّنَةٍ وجَوارِحَ، وبِكُلِّ ما حُمِّلَ مِنْ حِكمةٍ ودينٍ وعقلٍ وثقافةٍ مُتَسائِلا في حيرةٍ: ماذا فَعَلْتُ حتّى أُرْزَأَ بكلِّ هذا؟

يَبْدُو أنَّ قُدْرَةَ الإنسانِ على الرَّبْطِ بين حالةِ الطّبيعةِ وبينَ أفعالِهِ لا حُدُودَ لها. فهي قديمةٌ قِدَمَ الإنسانِ والثّقافةِ في كُلِّ مكانٍ وزَمَانٍ. يقولُ النّبيُّ أيُّوبُ، وهو مَضرِبُ الأمثالِ في الصّبرِ والتّجَلُّدِ، مُتَسائِلا بعد أنْ اُبتُلِيَ بِما أُصِيبَ به، وبعدَ أنْ أَخَذَ منه المَرَضُ كُلَّ مَأخَذٍ: “أَلَمْ أَبْكِ لِمَنْ عَسَرَ يَوْمُهُ؟ أَلَمْ تَكْتَئِبْ نَفْسِي على المِسكينِ؟ حينَمَا تَرَجَّيْتُ الخَيْرَ جاءَ الشَّرُّ، واِنتَظَرْتُ النُّورَ فَجَاءَ الدّجَى (…) ومَا هيَ قِسْمَةُ اللهِ مِنْ فَوْقُ ونَصِيبُ القَدِيرِ مِنَ الأَعالِي؟ أَلَيْسَ البَوَارُ لِعَامِلِ الشَّرِّ والنُّكْرُ لِفَاعِلِي الإِثْمِ؟ أَلَيْسَ هو يَنظُرُ طُرُقِي ويُحْصِي جَمِيعَ خُطُوَاتِي؟ إِنْ كُنتُ قَدْ سَلَكْتُ مع الكَذِبِ أَوْ أَسْرَعَتْ رِجْلِي إلى الغِشِّ، لِيَزِنِّي في مِيزَانِ الحَقِّ فَيَعْرِفَ اللهُ كَمَالِي” .

كذلك فعلَ الشّاعرُ المصريُّ “أحمد شوقي” في قصيدةٍ من قصائِدِه، إذْ شَكَا من الحربِ وأهوالِهَا، ودَعَا اللهَ أنْ يُفرِّجَ عنهم ويُنَجِّيَهُمْ منها قائِلا:

حَرْبٌ على حَرْبٍ حَنَانَكَ رَبَّنَا  ****  لَمْ يَبْقَ مِنَّا ما يَنَالُ  المِدْفَعُ

لا  تَأْخُذَنَّ  بَرِيئَنَا  بِـــمُسِيئِــنَا  ****  فالعَدْلُ كُلٌّ حاصِدٌ ما يَزْرَعُ

لقد أقامَ الشّاعِرُ علاقةً جَدَليّة بين ما يفعلُهُ المُذنِبُ وما يَحصُلُ للنّاسِ مِنْ مُصيبةِ الحربِ، رغم أنَّها مِنْ فِعلِ الإنسانِ. وهو يتساءلُ كيفَ يُعَمَّمُ العِقابُ على جَميعِ النّاسِ ويدفعُ البريءُ بذلك ثمَنَ إساءةِ غيرِهِ؟ فهل وَضعَ أحمد شوقي قيمةَ العَدْلِ الإلهيِّ موضِعَ شَكٍّ؟

لا أعتقد ذلك. فاِستِخدَامُهُ لأسلوب النَّهي في قولهِ: “لا تَأخُذَنَّ” لا يُرِيدُ به المَعنَى الظَّاهِرَ للنَّهيِ، وهو طلبُ الكَفِّ عن القيامِ بالفعلِ على وَجْهِ الاِستِعلاءِ كما يقولُ النُّحاةُ والبلاغِيُّونَ، بل يريد به المعنَى الباطِنَ الّذي يدُلُّ عليه المَقامُ والسّياقُ هنا، وهو معنى الدّعاء والاستعطاف. أمّا حَيْرَتُهُ إزاءَ تعميمِ العقاب وتَعارُضِهِ ظاهِرِيًّا مع قيمة العَدْلِ، فمَرَدُّهُ حسب رأيي إلى صِرَاعٍ دائِمٍ داخِلَ العقلِ الإنسانيّ بين رُؤيتَيْنِ مُختلِفَتَيْنِ للعالم وللظّواهرِ الّتي تُكوِّنُه، وهما: الرُّؤيّة الجَدَليّة التّي تُقيمُ جَدَلا بين الفعل الإنسانيّ وبين ظواهر الطّبيعة على أساسٍ جَزَائِيٍّ. والرّؤيّة البُرهانيّة المنطقيّة التّي لا تهُمُّها إلا العلاقةُ المباشرةُ بين السّبب والنّتيجة.

تلك هي الحيرةُ، وذلك هو الصّرَاعُ الّذي اِحتَدَمَ في ذِهنِ “عمرَ الخيّامِ” قبل أحمد شوقي بقرونٍ، فجعلَهُ يتساءلُ أيضًا في رُباعِيّاتِهِ مُخاطِبًا اللهَ (بترجمة أحمد رامي):

إلَهِيَ قُلْ لِي مَنْ خَلا مِنْ خَطِيئةٍ  **** وكيفَ تُرَى عاشَ الخَلِيُّ مِنَ الذّنْبِ؟

إذَا كُنْتَ تَجْزِي الذّنْبَ مِنِّي بِمِثْلِهِ  ****  فمَا الفَرْقُ مَا بَيْنِي وبَيْنَكَ يَا رَبِّي؟

سقراط والعقل الجَدَلِيّ:

في مَشْهَدٍ من مشاهد مسرحيّة “السّحب” الكُومِيدِيّة اليونانيّة، يتَخيَّلُ المُؤلِّفُ “أرستوفانيسAristophane ” حِوَارًا دار بين الفيلسوف “سقراط” وبين “ستربسيادس Strepsiades” المواطن الأثينيّ البسيط الذّي أرادَ أنْ يَتَعلَّمَ فُنونَ الخطابة والبلاغة، مُعتقدًا أنَّ مدرسةَ سقراط هي المكانُ العلميُّ الوحيدُ الّذي سيُحقِّقُ له، رغمَ كِبَرِ سِنِّهِ، رغبتَهُ في اِمتِلاكِ ناصيّة الكلامِ والدّرْبَةِ على طرائِقِ البَيَانِ ووُجوهِهِ، ومُتوَهِّمًا أنَّ ما سيتعلَّمُهُ فيها من ضُرُوبِ الأقاويلِ وشُجُونِ الأحاديثِ كَفِيلٌ بِتَحْصِينِهِ لِسَانِيًّا وتَمْكِينِهِ مِنَ الدّفاعِ عن نفسِهِ بِمُفرَدِه أمامَ المَحاكِمِ الأثينيّة، بعدَ أنْ تراكمتْ على عاتِقِهِ الدّيُونُ ويَئسَ منهُ دائِنُوهُ وشَكَوْهُ عندَ القَضاء.

ورغم المظهر الكوميديّ الّذي قدَّمَ به “أرستوفانيس” شخصيّة سقراط، حيثُ أخرجَهُ لنا في صورةِ السّفسُطائِيِّ المُتحيِّلِ والمُتلاعِبِ بالعقولِ والكلام، إلّا أنّنا نستطيع أن نخرُجَ من خلال الحوار الطّريف الّذي دار بينه وبين “ستربسيادس” داخل المدرسة حول مَنْشَإ الأمطار والسّحب والصّواعق والرُّعود، بنموذجٍ من أقدمِ النَّماذِجِ الّتي يُمكِنُ الاستدلالُ بها على كيفيّة التّمفصُلِ الثّنائِيّ للعقل الإنسانِيّ، وعلى اِنشِطارِه نِصْفَيْنِ ونَمَطَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، ورُبَّما مُتناقِضَيْنِ، إزاء تفسيرِ الظّواهِرِ الطّبيعيّة وما ينشأ عنها من عَوارِضَ وحوادِثَ وكوارِثَ وجَوائِحَ.

يقول “ستربسيادس” مُجيبًا عن أسئلةِ سقراطَ: إنّ الأمطارَ هي نتيجةٌ طبيعيّة لمشيئة “زيوس Zeus” كبيرِ آلهةِ اليونان، فهو الّذي يتحكَّمُ فيها ويُرْسِلُهَا حيثُ يَشَاء ومَتَى يَشَاء. أمّا الرُّعُودُ فهي تعبيرٌ عن غَضَبِهِ، لذلك فهو يُرْسِلُ الصّواعِقَ القاتِلَةَ والحارِقَةَ لِيُعاقِبَ بها الحانِثِينَ بأيْمَانِهِمْ.

فيُجيبُه سقراط مُنكِرًا مسؤوليّة “زيوس” في إحداثِ الأمطار، ومُثبِتًا أنّ السّحُبَ دُون غيرِهَا هي المسؤولةُ عنها، فيقول: “هل رأيتَ ولو مرّةً واحدةً مطَرًا ينزل بغير السّحب؟” وهل يُمكن لزيوس أن يَأتِيَ بالمطرِ من غير سحابٍ؟ أو أن ينقُلَ السّحابَ من غيرِ ريحٍ؟ أمّا الرّعدُ فهو “عندما تكون هذه السّحبُ مَملوءَةً بالمياه، وتنساق في الفضاء بحُكمِ الضّرورةِ، فإنّها تسبَحُ بأمطارِها الغزيرةِ، وعندئِذٍ تتصادَمُ الواحدةُ منها بالأخرى فتتكسّر وتنفجر منها أصواتٌ رهيبةٌ هي الرّعدُ” .

وفي إجابتِه عن مسألةِ الصّواعقِ الّتي يَرجُمُ بها زيوس الحانِثِينَ بأيمانِهِمْ، يرُدُّ سقراط على الرَّجُل الأثينيِّ البسيط بكثيرٍ من الانفعالِ والعِتاب والتّحقير قائلا: “وكيفَ يكون الأمرُ كما تقولُ أيّها العجوزُ الخَرِفُ؟ يا مَنْ تعيشُ بعقليّة الماضِي العَفِنِ؟ إذا كان زيوس يَرجُمُ بالصّاعقة كُلَّ مَنْ حَنثَ بأيمانِه كما تَقُولُ، فكيف لم يَحرقْ ويَصْعَقْ “سيمون” و”كليونيموس” أو “ثيوروس” وهُم أكثرُ النّاسِ حنثًا بالأيمان؟ بل رَاحَ يَرجُم بالصّاعقةِ مَعبَدَهُ في “سونيون” (…) وراحَ يحرقُ أشجارَ البلُّوط التّي يُقدِّسُها النّاسُ تكريمًا له هو. وإنّي لَأعجَبُ أشدَّ العجبِ من أمرِ هذا “الزّيوس” الّذي تزعُمُ ! لماذا يحرِقُ شجرَ البلّوطِ الّذي لم يحنثْ قَطُّ بأيمانِهِ؟”

تَلَطُّفُ ابنِ رُشد: العقل البُرهانِيّ:

وإذا بدَا لنا سُقراطُ في كوميديا “السّحب” قاسِيًا نوعا ما في مُعامَلَتِهِ لِصاحِبِ التّفسيرِ الغَيْبِيِّ والأسطورِيِّ لظواهر الطّبيعة، بل في اِجتِرَائِهِ على الآلهة أصلا، وذلك بتجريدِهَا من سلطتِها وإنكارِ تَدخُّلِهَا في مسارِ الطّبيعةِ ونواميسِها، فإنّه في الحقيقة لا يسعى إلى الإنكارِ الكُلّيِّ لدور الآلهة، إنّما يريدُ، ولا شكّ، أنْ يَنسِفَ “الرّؤيّة الشّعبيّة” ويُقوِّضَ “القراءةَ الجَدَلِيّة والخطابيّة والشّعريّة” لقُوى الطّبيعة وسائِرِ مَوجوداتِها، باِعتبارِها قراءةً تبسيطيّة وسطحيّة لعلاقة الخالِقِ بالمخلوق و”الصّانِعِ بالمصنوع”. فسقراط في هذا النّصّ لا يُنكر دورَ الآلهةِ، بل يعتبرها المُسبِّبَ الأوّلَ، أيْ هي الّتي أنشأت العالمَ وسائِرَ الموجوداتِ، ووضعتْ لها آليّاتٍ وقوانينَ ونواميسَ لا يمكن أن تَحيدَ أو تنحرفَ. ومهمّةُ الإنسانِ هي أن يتدبَّرَ هذه القوانينَ وينظُرَ فيها، ويقرأها “قراءةً بُرهانيّة” لكي يهتدِيَ إلى معرفة الآلهة وحكمتِها المُقدَّسة في خلقِها للكون، باِعتبارِ أنَّ عظمةَ الكون دليلٌ على عظمةِ الخالِقِ، وهو ما لم يفعله ستربسيادس الّذي قصُرَ عقلُهُ العامِّيُّ وتفكيرُه السّطحيُّ عن تفكيكِ هذه المُعادلة، فربط بشكلٍ ساذجٍ الظّواهرَ الطّبيعيّة بأفعالِ الإنسان.

هذه الآليّة الطّبيعيّة الّتي أُنشِئَ بِمُقتَضَاها الكونُ وما يحويهِ من موجُوداتٍ، ودافع عنها سقراطُ بكلِّ ما أُوتيَ من حكمةٍ وعبقريّة، هي ذاتُها “الآلاتُ” أو “الصّنْعَةُ” التّي تحدّث عنها ابنُ رُشدٍ في حضارتنا العربيّة والإسلاميّة، فقد دعا في كتابِه “فصل المقال في ما بين الحكمة والشّريعة من الاتّصال” إلى “الاعتِبَارِ في الموجوداتِ ودلالةِ الصّنعةِ فيها، فإنّ مَن لا يعرِفُ الصّنعةَ لا يعرِفُ المصنُوعَ، ومَنْ لا يَعْرِفُ المَصْنُوعَ لا يَعرِفُ الصّانِعَ” . فهي شرطٌ أساسِيٌّ لتحقيقِ المعرفةِ باللهِ وبمخلوقاتِه، أو ما سمّاه ابنُ رُشدٍ بـ”التّصديق”.

غيرَ أنّ خطابَهُ الّذي يرُومُ تحقيقَ الوساطةِ والاتّصال ما بين العلوم الشّرعيّة والعلوم البرهانيّة، يبدو لنا أكثرَ تَفَهُّمًا واعتدالا وأقلَّ انفعالا وحماسًا من خطابِ سقراط للرّجلِ الأثينيّ، لأنّ سقراطَ لم يتحمَّلْ التّفسيرَ الجدلِيَّ والخِطابِيَّ لعلاقة المُسبِّبِ بالأسبابِ أو الصّانِعِ بالمصنوعِ أو الآلهة بالطّبيعة، بل سارعَ إلى اِتّهامِ صاحِبِهِ بالخَرَفِ والبلاهةِ والحُمق. أمّا ابنُ رُشدٍ فلمْ يَرَ مَانِعًا من اِعتِمادِ الطّريقةِ الجَدَلِيّة والشِّعرِيّة إذا كانتْ تقُودُ مُستَخدِمَها إلى “السّعادةِ” الّتي هي “المعرفةُ بالله عزّ وجلّ وبمخلوقاتِه”، لأنَّ للنّاسِ مراتِبَ في تحصيلِ المعرفةِ وتحقيقِ الوُصولِ إليها، وكُلٌّ حسب ما “اِقتَضَتْهُ جِبِلَّتُهُ وطبيعتُهُ مِن التّصديقِ: فمنهم مَنْ يُصدِّقُ بالبُرهانِ، ومنهم مَن يُصَدِّقُ بالأقاويلِ الجَدليّة تَصْديقَ صاحبِ البُرهانِ بالبرهان، إذْ ليس في طباعِهِ أكثَرُ من ذلك”.

ويُوضّحُ حسن حنفي الفرقَ بين المصطلحات الرُّشْدِيّة المختلِفة: فـ “الجدليّ” هو الّذي يدخل في اختصاص المُتكلّم، و”الخطابيّ” من اختصاص الصّوفيّ، أمّا “البرهانيّ” فهو من اختصاص الفيلسوف . ثمّ يُوضِّحُ الفروقَ بين شخصيّة “المُتكلِّمِ” صاحِبِ العقلِ الجدليِّ، وبين شخصيّة “الفيلسوف” صاحبِ العقل البُرهانِيِّ، مُعتبِرًا أنَّ الفيلسوفَ هو ذلك “الّذي يعتمد على الحجج العقليّة أكثرَ من اِعتِمادِهِ على الحججِ النَّقلِيّة… ولا يُحاوِلُ إقناعَ الخُصُومِ وإثْبَاتَ خَطَإِ آرَائِهِمْ، ولا يُدافعُ عن آرائِه لإثباتِ صِحَّتِهَا… هو الّذي يبني الفِكرَ ويَضَعُ التّصَوُّرَ بصرفِ النَّظرِ عن المُحاجاةِ مع الآخرينَ… أمّا المُتكلِّمُ، فهو الذّي يعرف الحقَّ مسبقًا كاِعتِقادٍ خاصٍّ لا شكَّ فيه، ثمّ يُحاول نقدَ الخُصُومِ والتّشكيكَ في اِعتِقاداتِهِمْ… فهو لا يهدف إلى معرفة الحقّ، بل إلى الدّفاعِ عن اِعتِقادِهِ وإثباتِ خطإِ اِعتقاداتِ الخُصُوم”.

ويَمضِي ابنُ رشدٍ أكثَرَ في التّفهُّمِ والاعتدال مُعتبِرًا أنَّ النَّصَّ الدّينيَّ الإسلاميَّ أقرَّ هذا التّرَاتُبَ في التّصديقِ ورَاعَى اختِلافَ درجاتِ النّاسِ في الفهمِ والمعرفةِ، فكانَ خِطَابًا جَدَلِيًّا في ظاهِرِهِ وبُرهانِيًّا في باطِنِهِ، أيْ نَصًّا “ثُنائِيَّ التّمفصُلِ” في دلالتّهِ، قائِمًا على مُراعاةِ رُكنٍ هامٍّ مِنْ أركانِ التّخاطُبِ ألا وهو المُخاطَبُ الذّي تختلف حالاتُهُ النّفسيّة والمعرفيّة من جِهتَيْ الاستعدادِ والتّلَقِّي. يقولُ ابنُ رشد مُوضِّحًا ذلك: “والسّبَبُ في وُرُودِ الشَّرعِ فيه الظّاهرُ والباطنُ هو اِختلافُ فِطَرِ النّاسِ وتبايُنُ قَرائِحِهِم في التّصدِيقِ” . وهو بذلك قد أدركَ خطورةَ هذا التّمفصلِ وحساسيَّتَهُ مُعتبِرًا أنّه يُوشِكُ أن يُوقِعَ المُتلَقِّيَ في ما سَمَّاهُ بِـ “الظّواهِرِ المُتعارِضَةِ” أو “التّشابُهِ” الدّلاليّ بين المعنَى الظّاهر الجَدَلِيِّ وبين المعنَى الباطِنِ البُرهانِيِّ، لولا الإشارةُ والتّنبيهُ إلى ذلك في النّصّ القرآنِيّ ذاتِه.

وتتمثَّلُ الإشارةُ القرآنيّة في الآيّة السّابعة من سورة آل عمران: (هو الّذي أنزَلَ عليْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فأَمَّا الذّينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ اِبْتِغاءَ الفِتْنَةِ واِبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ) هذه الآيّة الّتي استدَلَّ بها اِبنُ رُشْدٍ كيْ يُشَرِّعَ فتحَ النّصِّ الدّينِيِّ نحو مزيدٍ من الاِتِّساعِ الدّلالِيِّ والعُمْقِ الفِكرِيِّ والمَعرِفِيِّ (البُرهانِيّ)، وذلك عبر اِعتِمادِ آلِيّة التّأويل الّذي عَرَّفَهُ بِقَوْلِه: “هو إخراجُ دلالةِ اللّفظِ مِن الدّلالةِ الحقيقيّة إلى الدّلالةِ المجازة”. لكنّه أقرَّ كما أسلفنا بخُطورةِ هذه الآليّة، لِما يُمكِنُ أن تُحدِثَهُ مِن صِدامٍ حَادٍّ بين أهلِ الظّاهرِ وهم عَامَّةُ النّاسِ، وبين أهلِ الباطِنِ وهم خاصَّةُ الخاصَّةِ من الفلاسفةِ والحُكماء. فالمعاني الباطِنةُ أو “المُتَأَوَّلَةُ” من النَّصِّ الدّينِيِّ تكمُنُ خُطُورَتُهَا في أنَّهَا تكسِرُ “الإجماعَ” وتُخالِفُ المعانيَ الظَّاهِرَةَ الرَّاسِخَةَ في ذِهنِ المُؤمِنِ العامِّيِّ البسيطِ الّذي رأيْنَاهُ مُتَشَكِّلا في شخصيّة “ستربسيادس” اليونانيّة.

إنّ “العامَّة” الّتي وصفَهَا سقراط في “السّحب” بالخَرَفِ والحُمْقِ، والّتي دعا الغزالِيّ إلى إسْكاتِهَا أو “إلْجَامِهَا” (إلجَامُ العَوامّ عن مَسائِلِ الكلام)، لَمْ يَدْعُ ابنُ رُشْدٍ إلى إلغائِهَا أو تجاوُزِهَا نِهائِيًّا، بل جارَاهَا بكثيرٍ من المُسالمة والمُسامحةِ، فآثَرَ عدَمَ جَرِّهَا إلى مزالِقِ القراءاتِ البُرهانيّة الباطنيّة لِقُصُورِ أفهامِهَا عن ذلك، إذْ “ليسَ يَجبُ أنْ يَعلَمَ بالباطِنِ مَنْ ليسَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ به ولا يَقدِرُ على فَهمِهِ”. ويستدِلُّ على ذلك بكلامٍ لعليٍّ بنِ أبي طالِبٍ يقولُ فيه: “حَدِّثُوا النَّاسَ بِما يَعْرِفُونَ، أتُرِيدُونَ أنْ يُكَذَّبَ اللهُ ورَسُولُهُ؟… فالتّأويلات يجبُ أن لا يُفصَحَ بها إلّا لِمَنْ هو مِنْ أهلِ التّأويل، وهم الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ” ، فإنْ أُفصِحَ عنها لِغيرِ أهلِهَا وفي غيرِ مَقَامِهَا فإنَّ ذلك بمثابةِ خيانةٍ “للأمانةِ الّتي حُمِّلَهَا الإنسانُ فأبَى أنْ يَحْمِلَهَا وأشفقَ منها جَميعُ المَوجُودات” ، وهي بمثابةِ بابٍ قد فُتِحَ على “الفتنة” كما ذُكِرَ في آيّة التّأويل. وبسببِ هذا التّصريحِ المُصَرَّحِ به في غيرِ مَحَلِّهِ “نَشَأتْ فِرَقُ الإسْلامِ حتّى كَفَّرَ بعضُهُمْ بَعْضًا، وبدّعَ بعضُهُم بعضًا، وبخاصّةٍ الفاسدةَ منها. فأوَّلَتْ المعتزلةُ آياتٍ كَثِيرَةً وأَحاديثَ كثيرَةً، وصَرَّحُوا بتأويلِهِمْ للجُمهُورِ. وكذلك فعلت الأشعريّة، وإن كانت أقلَّ تَأويلا، فأوْقَعُوا النّاسَ مِن قِبَلِ ذلك في شَنَآنٍ وتَبَاغُضٍ وحُرُوبٍ، ومَزَّقُوا الشَّرْعَ، وفَرَّقُوا النّاسَ كُلَّ التّفريقِ” .

لقد اِختارَ ابنُ رُشدٍ الطّريقةَ المَرِنَةَ في مُواجَهةِ الصّراعِ المَحتُومِ بين العقل الجدليّ والعقلِ البُرهانِيّ، ودَعا أهلَ البُرهانِ إلى “التّلَطُّفِ” من أجل تخفيفِ الصّدماتِ الّتي تنجرُّ عن هذا الصّرَاعِ. وهو في ذلك إنّما يَسْلُكُ سَبِيلا إلهيًّا حسب رأيِه، لأنّ “الأشياءَ الّتي لِخَفَائٍهَا لا تُعْلَمُ إلّا بالبُرهانِ، فقد تَلَطَّفَ اللهُ فيها لِعِبادِه الذّينَ لا سَبِيلَ لهم إلى البُرهانِ… بِأنْ ضَرَبَ لهم أمثالَهَا وأشْبَاهَهَا، ودَعاهُمْ إلى التّصديقِ بتلك الأمثالِ… وهذا هوالسّببُ في أنْ اِنقسَمَ الشَّرْعُ إلى ظَاهِرٍ وباطِنٍ”.

بعد اِنتشارِ وباء الكورونا في كافّة أنحاء العالم، ومنها تونس، كتبَ أحدُ الظُّرفاءِ في الفيسبوك قائلا: إنّ أمَّهُ أصبحتْ تحرقُ البَخُورَ في المنزلِ يوميّا وتُبخِّرُ أرجاءَ البيوتِ وجُدرانَها. فقالَ لها: “أمّي، إنّه فيروس وليسَ جِنًّا”. إنّه مظهرٌ آخرُ من مظاهر الالتّحام والاحتِكاكِ بين العقليْنِ الجَدَلِيّ الّذي يعتبر الوباء رُوحا من الأرواح الشّرّيرة الّتي بُعِثَ بها إلينا عِقابًا لنا عمّا اِقترَفناهُ مِنْ آثامٍ، وبين العقل البُرهانِيّ الّذي يسعَى إلى فهم الظّاهرة وإيجادِ حلٍّ لها بالعلم والقياس. لكنّه في نهاية الأمرِ اِحتِكاكٌ لَطيفٌ لَطافةَ ابنِ رُشدٍ، إذْ فيه كثيرٌ من السّلامِ والرّغبة في التّعايُشِ رغم الاختلافِ الجِذْرِيّ في منطلقاتِ التّفكير، وليسَ فيه شَيْءٌ من قسوةِ سُقراطَ وجَفَائِهِ.

بَقِيَ في الأخيرِ أنْ نُذكِّرَ أنفُسَنَا بأنَّ “الفِرقَةَ النَّاجِيّة” مِنَ الوَباءِ  دائِمًا على مَرِّ التّاريخِ هم أهلُ البُرهانِ الّذين يبحثونَ فيَجِدُونَ الحلولَ والعلاجاتِ والتّلاقيحَ. أمّا أهلُ الجَدَلِ فليسَ لهُمْ إلّا الدّعاءُ وحرقُ البخور.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/04/17/%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d9%82%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%91%d9%8e%d8%a7%d8%ac%d9%90%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d9%85%d9%90%d9%86%d9%8e-%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%8e%d8%a8%d8%a7%d8%a1/

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك