أصل الحياة وتطوّرها

معاذ قنبر وإقبال مرشان

دراسة في دراما نشأة التّركيبات البيولوجيّة وتطورّها

 

(1)

لم تكن للخلايا الأولى في الواقع نواة ولا عضيات (وهي أجزاء خلويّة خاصّة ذات وظيفة نوعيّة شبه عضويّة)، فهي لم تكن على الأرجح إلّا عبارة عن كيس مجهري صغير مملوء بخليط من البروتين والحموض النّوويّة، وكلّ هذا كان محاطاً بغشاء يؤمن الحماية ضدّ مؤثّرات العالم الخارجيّ غير المرغوبة، كما كان يسمح بدخول جزيئات صغيرة معينة تمدّ الخليّة بالمواد الأوليّة والطّاقة اللاّزمة لعمل الرّوابط البروتينيّة – الحمض أمينيّة الّتي لا تتوقّف. إنّ غشاءً بسيطاً بدائياً كهذا الغشاء اللّيبيدي الجزيئيّ، يمكن تحضيره في أي وقت تجريبياً في المخابر. وإذا ما درسنا خواصه نجد أنّه يسمح لجزيئات معيّنة بالنّفاذ إلى داخل الخليّة، بينما يشكل حاجزاً منيعاً ضدّ جزيئات أخرى، لذلك يمكن الاستنتاج أنّ الخطوة الهامّة الّتي مهّدت في ذلك العمر المبكر للحياة الطّريق لاستقلال الخليّة المفردة، كان قد انطلق من تلك الخواص البسيطة نسبياً. خواص مهّدت الطّريق لجميع الخطوات اللاّحقة الّتي كانت نتيجة مبدأ الاصطفاء الطّبيعي، الّذي كان لديه حتّى اليوم أكثر من 3 مليارات من السّنين، كي يؤثّر في اتّجاه التّحسين المتواصل لغلاف الخليّة ومكوّناتها. ذلك أنّ الاصطفاء بدأ منذ أن بدأت الحياة نفسها، وعدم معرفتنا لخلايا أخرى اليوم غير الخليّة المؤلّفة من  DNA وبروتينات، لا يعبّر عن شيء في هذا الصّدد، فمن المرجّح أن تكون قد وجدت خلايا ذات تركيبات مختلفة أخرى، كان لا بدّ لها من أن تخلي السّاحة منهزمة أمام منافستها الأقوى الّتي هي الخليّة المكوّنة لكلّ أشكال الحياة الّتي نعرفها اليوم. وقد اعتقد الباحث جيرالد جويس** أنّ أساس التّشكل الأولي للخليّة الحيّة كان مع الحمض النّووي الرسول، RNA حيث تستطيع قطعة من RNA  أن تستنسخ نفسها، وبالتّالي فإنّه قبل نشوء أبسط أنواع البكتريات، ربّما كانت الحياة تتألّف من جزيئات الـ RNA الموجودة في المياه الأولى، ومن ثمّ حصل اصطفاء طبيعي ذاتي أدّى لتكون جزيئات DNA  والبروتينات، الّتي أخذت أغلب المهام من الحمض الرسولي   RNA  كونها أكثر تخصصاً منه.

وإذا ما تابعنا مشوارنا التّطوري للحياة مطبقين المبدأ المذكور، نجد أنّ الخلايا البدائيّة الأولى قد عانت من أزمة خطيرة هدّدت وجودها، هي أزمة الغذاء، فقد كانت الخلايا تستمدّ غذاءها من موادها نفسها، بمعنى أنّها كانت تستمدّ الأساس الطّاقي لها ممّا هو متوفّر في محيطها من الجزيئات الكبيرة المشكلة بطريقة لاعضويّة، وقد واجه ذلك التّركيب نهم الخلايا المتشكلة بكثافة وهنا بدأت مشكلة الغذاء والصّراع التّكيفي الأوّل، أمّا الحلّ الّذي تمّ في هذه المرحلة فيمكن إيجازه وفق ما يلي: كانت هناك مع مجموعة الخلايا المتشكلة، خلايا احتوت بالصّدفة على جزيئات البورفيرين الموجودة بكثرة في المحيطات الأولى، هذا الجزيء يحتوي على خاصيّة راتعة هي امتصاص الضّوء الشّمسي وتحويله إلى طاقة، من هنا نفهم أنّ الخلايا الحاويّة على هذا الجزيء بدأت أوّل عمليّة تكيفيّة بحيث أنّها بدأت تحضر غذاءها وفق مبدأ الاكتفاء الذّاتي، أي مكتفيّة بما يرد إليها من ضوء الشّمس، أمّا الخلايا الّتي لم تكن تحتوي على مثل هذه الجزيئة، فقد وجدت نفسها في صراع مصيري من أجل البقاء، وبالتّالي فقد بدأ بعضها الّذي لم يموت بالتهام بعض خلايا البورفيرين الّتي يبدو بأنّ بعضها لم يمت في الخليّة البالعة، بل ظلّ يقوم بعمليّة التّركيب الضّوئي ليحدث تكامل بين الخليتين (ولعلّ هذا كان أوّل انفصال بيولوجي كبير بين مملكتي النّبات والحيوان).

أمّا الواقع البيولوجي التّكيفي الهامّ الثّاني الّذي ساهم في دفع عمليّة التّطور، فهو ظهور الخلايا المتحرّكة. لقد كان الكثير من وحيدات الخليّة النّباتيّة ذات طابع حركي، وهذا بدوره فرض على الخلايا المفترسة أن تكون متحرّكة لتأمين غذائها وإلّا انقرضت، وفي هذه المرحلة مات عدد لا حصر له من الخلايا التّي لا تسمح لها مؤهلاتها التّكيف مع هذه الخصائص المتبدلة، بينما تمكنت بعض الخلايا القليلة الأخرى من الاستمرار حين تحولت بالوقت المناسب عبر أداة مكنتها من الحركة السّريعة والمطاردة، هذه الأداة هي الهديبيات الحركيّة، وهذه العضيّة أيضاً لم تحصل عليها الخليّة شيئاً فشيئاً، وإنّما أخذتها كقوّة جاهزة وفقاً لمبدأ التّعاون المتبادل، حيث وجدت الخليّة الجائعة الّتي علقت على سطحها الخارجيّ حلزيّة شعريّة لأوّل مرّة، وجدت نفسها فجأة تتحرّك بسرعة كافيّة لمنحها فرص أكبر في الغذاء.

وهنا أيضاً لا بدّ أنّ الوجود البيولوجي تعرّض إلى خطر جديد محدق هدّد وجوده، تمثّل بتغير الوسط النّاتج عن زيادة نسبة الأوكسجين في الجوّ نتيجة عمليات التّركيب الضّوئي الّتي قامت بها الخلايا النّباتيّة المخضرّة، إذ تقول عالمة الأحياء الأميركيّة (لين مارجوليس):” إنّ الغاز الّذي أنتجته البكتريا الزّرقاء (والمقصود هنا الخلايا البورفيرينيّة) قد غيّر العالم”. وعند تلك المرحلة، ظهرت أهميّة جسيمات جديدة هي الجسيمات الكوندريّة الّتي مثّلت الرّد المناسب على خطر قاتل هدد الوجود البيولوجي على الكوكب، فكان ردّ الخلايا الحيّة على هذا التّحدي الأكسجيني الجديد مشابهاً بالخطوط العريضة لما حصل في حالات سابقة، حيث ظهر طراز جديد من الخلايا، وكان الطّراز هذه المرّة هو البكتريات الّتي تمكّنت بواسطة أنزيمات لم تكن معروفة من حماية نفسها من هذا الغاز الجويّ الجديد، وعبر الصّراع التّكيفي وانهيار الخلايا غير المتكيّفة، استطاعت الخلايا المتكيّفة من أن تستغل النّشاط الكيميائي الكبير للأوكسجين بما يخدم مصالحها، وهذا ما كان ليحدث لولا وجود الجسيمات التّعاونيّة الّتي رافقت الخلايا المتكيّفة أي (الجسيمات الكوندريّة أو الميتوكندريا) الّتي اعتبرت الأساس الأوّلي لنشوء كافة الأحياء الّتي تعتمد مبدأ التّنفس، وقد وصلنا إلى تلك المرحلة منذ حوالي المليار سنة، حيث نرى وجود خلايا محتويّة على نواة و تجهيزات داخليّة (عضيات) عاليّة التّخصص.

الآن نستطيع تلخيص الأمر كالتّالي: منذ حوالي أربعة مليارات عام، فور أن قلّت درجة حرارة الأرض بما سمح للمياه السّائلة أن تتكثّف، كانت المحيطات تعدّ بالبراكين، وتوالت عليها النّيازك، وتعرّضت لعواصف وحالات مد أعتى ممّا هي عليه اليوم (كان القمر أقرب إلى الأرض)، وكانت أيضاً عبارة عن مواد كيميائيّة فائقة النّشاط، بها العديد من أنواع الجزيئات الّتي تتشكّل على نحو مستمر ثمّ تتحوّل، بعضها تلقائياً، وبعضها بمساعدة محفّزات. وتصادف أنّ أحد تلك المحفّزات قد خفّز تكوين بعض أنواع الجزيئات الّتي يتكوّن هو منها، لم يكن ذلك المحفز حيّاً، لكنّه كان أوّل مبادرة للحياة. ولم يكن المحفّز وقتها قد تطوّر بعد ليصبح محفّزاً ذا هدف محدّد، لذا سرّع أيضاً من إنتاج أنواع أخرى من المواد الكيميائيّة، بما فيها أشكال مختلفة من نفسه، وباتت المحفزات هي الأقدر على تعزيز إتاج نفسها (ومنع تدميرها) أكثر عدداً مقارنة بالأشكال الأخرى، ثمّ عزّزت بدورها بناء أشكال أخرى من نفسها، واستمرّ التّطور على هذا المنوال. تدريجياً أصبحت قدرة تلك المحفّزات على تعزيز إنتاج نفسها من القوّة والدّقة ممّا يسمح بتسميتها (النّاسخات)، ثمّ نتجت بفعل العمليّة التّطوريّة ناسخات استطاعت أن تنسخ نفسها على نحو أسرع وأكفأ من ذي قبل. ففي مرحلة من تلك المراحل، تكون جزيء مميّز مصادفة، هذا الجزيء مميّز لأنّه “متضاعف” يمتلك القدرة على مضاعفة نفسه، ولعلّ هذا المتضاعف لم يكن بالضّرورة الجزيء الأكبر حجماً أو الأشدّ تعقيداً، لكنّه تحلّى بالمقدرة الاستثنائيّة على استحداث نسخ منه، وقد يبدو حدوث مثل هذه المصادفة مستبعداً جدّاً. لكنّ هذا ما كان عليه الحال، فوجود مثل هذا المتضاعف كان مستبعداً إلى أبعد الحدود، وفي عمر الإنسان، يمكن التّعامل مع الأشياء المستبعدة باعتبارها مستحيلة، وذلك لأسباب عمليّة. لهذا السّبب تحديداً لن تربح يوماُ جائزة كبرى في المراهنات على مباريات كرة القدم. لكن في إطار تقديراتنا البشريّة لما هو محتمل وغير محتمل، لم نعتد التّعامل مع فترات تقدّر بمئات ملايين السّنين. فإذا ملأت قسائم المراهنات كلّ أسبوع على مرّ مائة مليون سنة، فمن المرجح جدّاً أن تفوز بعدد كبير من الجوائز الكبرى المتراكمة.

بدأت النّاسخات المختلفة بالاتّحاد في مجموعات، وتخصّص كلّ عضو في كلّ مجموعة في إيجاد جزء من شبكة معقّدة من التّفاعلات الكيميائيّة، تمثّل تأثيرها الإجمالي في بناء المزيد من النّسخ من المجموعة ككلّ. مثل هذه المجموعة كانت عبارة عن كائن أولي، وكانت الحياة في تلك المرحلة في مرحلة مماثلة لما حدث في الطّباعة غير العموميّة، إذ لم تعد حالة خاصّة بكلّ ناسخ على حدة، لكن حينئذ لم يوجد أيضاً نظام عمومي بعد ليتم تخصيصه أو برمجته بغيّة إنتاج مواد معينة، وربّما كانت أكثر النّاسخات نجاحاً هي جزيئات (الرنا RNA ) لأنّ لديها خصائص محفّزة خاصّة بها، تعتمد على التّسلسل الدّقيق للجزيئات المكوّنة لها (القواعد)، من هنا باتت عمليّة النّسخ أبعد عن عمليّة التّحفيز المباشرة، وأقرب إلى البرمجة بلغة أو شفرة جينيّة، الّتي كانت تستخدم القواعد باعتبارها أبجديتها، وبالتّالي يمكن النّظر للجينات باعتبارها أوامر من شفرة جينيّة.

في البداية كانت كلّ من الشّفرة الجينيّة والآليّة الّتي فسرتها قيد التّطور، شأنهما شأن كلّ شيء آخر في الكائنات الحيّة، حتّى جاءت لحظة توقفت فيها الشّفرة عن التّطور بينما استمر تطوّر الكائنات الحيّة، لم يُمارس النّظام التّشفير حينها إلا لمخلوقات أوليّة وحيدة الخليّة، لكن كلّ الكائنات تقريباً الّتي وجدت على كوكب الأرض من وقتها إلى يومنا هذا، بُنيت على ناسخات DNA ، وباستخدام نفس أبجديّة القواعد. لقد بدأت آلات البقاء (النّماذج الأوليّة للحياة) كأوعيّة غير فاعلة للجنينات بالكاد تتجاوز مهمتها في توفير جدران تحمي الجينات من حرب خصومها، ومن الخراب النّاجم عن التّصادم العرضي للجزيئات. وفي الأيّام الأولى، كانت هذه الآلات تتعذى من الجزيئات العضويّة الطّليقة في الحساء العضوي الأوّل (المياه)، لكنّ هذه الحياة السّهلة نسبياً انتهت عندما أستنفذ كامل الغذاء العضوي الّذي تمّ بناؤه في الحساء ببطء في ظلّ التّأثير الحيوي لأشعة الشّمس على مرّ قرون عدّة. وعندها بدأ فرع أساسي من آلات البقاء، يتشكّل اليوم مما يُعرف بالنّباتات، باستخدام أشعة الشّمس مباشرة لبناء جزيئات معقّدة من جزيئات بسيطة وإعادة تمثيل العمليات التّوليفيّة للحساء البدائي بسرعة أعلى. في المقابل، اكتشف فرع آخر، يُعرف اليوم بالحيوانات، كيفيّة استغلال الجهد الكيميائي للنّباتات، إمّا عبر التهامها، وإمّا عبر التّهام حيوانات أخرى. والواقع أنّ كلا الفرعين الأساسيين من آلات البقاء طور جيلاً أشد ذكاء لتعزيز فاعليته في أساليب حياته المختلفة، فبدأت أساليب حياتيّة جديدة تتظهر على نحو مستمر. وعندئذ، تطوّرت فروع ثانويّة وفروع من هذه الفروع، وبرع كلّ منها بطريقة متخصّصة في كسب عيشه، في البحر، وعلى اليابسة، وفي الجوّ، وتحت الأرض، وعلى أغصان الأشجار، وداخل الأجساد الحيّة الأخرى. وقد أدى هذا التّفرع الثّانوي إلى التّنوع الهائل في الحيوانات والنّباتات الّتي تثير إعجابنا اليوم إلى حدّ كبير.

وهذا يقودنا بدوره إلى سؤال آخر: لماذا نشأ الانفجار الحيوي الكبير من وحيدات الخلايا البدائيّة إلى متعددي الخلايا في العصر الكمبري تحديداً منذ نحو 540 – 520 مليون عام. ما الّذي حصل في هذه الحقبة لهذا التّحول المذهل من وحيدات الخليّة إلى متعددات الخليّة؟ في الواقع كلّ الدلائل المستمدة من الصّخور في تلك الفترة تفيد أن خواص درجة الحرارة، والتّغير من محيط مائي حمضي إلى محيط قلوي، وظهور قارّات مرّت بظروف تجويّة، وأنتجت مياهاً ضحلة وازدهاراً بيولوجياً بعد أكثر من 100 مليون عام عن عصر جليدي قاسي سابق. كلّ ذلك يشكل مظاهر أساسيّة للإنفجار الكمبري للحياة متعدّدة الخلايا. لقد كان الظّهور الحقيقي لمئة شعبة نباتيّة وحيوانيّة هو الّذي استغلّ البيئة لتكوين أجزاء صلدة من أجسامها بشكل أصداف من كربونات الكالسّيوم، وأنتج ذلك استهلاكاً كبيراً لل CO2 الجوي. لقد استمرّ الانفجار الكمبري 20 – 30 مليون عام، ومنذ ذلك الوقت لم تظهر حيوانات جديدة على الأرض، وحتّى بعد حدوث الانقراض الجماعي، ومنذ الانفجار الكمبري كان هناك تنوّع هائل للأحياء. ولكن ما الّذي حرّك هذا الانفجار الكمبري؟ قد يكون هناك محفز بيئي مع فوسفور، وكالسّيوم، وحديد، وثاني أوكسيد الكربون منصهرة في مياه المحيط بعد تجويّة وتآكل ما بعد جليدي مكثّف. ولعلّ هذا الحديد قد حفّز ازدهار الطّحالب، وهي كائنات قادرة على التّمثيل الضّوئي، ما زاد من مستوى تمثيل الأوكسجين الجوّي، والأوكسجين والفوسفور ضروريان للعضلات، وأنّ ثاني أوكسيد الكربون و الكالسّيوم العاليين أساسيان للأصداف الّتي تحمي من التّجفيف والأشعة فوق البنفسجيّة. كما غيّر تفكك قارة كبيرة في تلك الفترة (تدعى رودينيا) التّيارات البحريّة في المحيطات، وغيّر شكل قيعانها وجلب الفوسفور إلى سطح المحيط، وكانت المحيطات هي العامل الّذي ساعد هذه العمليّة، فقد كانت دافئة فترة طويلة بعد التّغير السّريع لتجمد المحيطات وتسخينها خلال العصر الجليدي السّابق، ولربّما لعبت حركة الصّفائح التّكتونيّة دوراً آخر حيث كان هناك إندفاع قاري سريع في العصر الكمبري، وقد كان لوضع القارّات أثرّ في تيّارات المحيطات، ساعد في رفع مياه المحيط العميقة والمليئة بالمواد الغذائيّة. وهذا ما سنوضحه في الفقرة التّاليّة.

متعدّدات الخلايا ونشوء الأنواع

ذكرنا أنّه عند تاريخ التّأقلم مع الأكسجين تكاثرت في البحار أعداد كبيرة من وحيدات الخلايا المتخصّصة، غير أنّ الشّروط الكيميائيّة والفيزيائيّة حالت دون حصول الانقسام الخليوي (أي تشكّل كثيرات الخلايا)، وبالتّالي تضاعف جزيئات   DNAبلا أخطاء كما أنّ الأشعة المتحرّرة من التّفكك الإشعاعي في الطّبيعة الأرضيّة والأشعة الكونيّة أدّت إلى حصول تشوّهات صبغيّة طفيفة وقليلة في DNA  الخليّة، بذلك تغير معنى الرّسالة الواجب على هذه الجزيئات نقلها بمقادير قليلة ولكنّها اعتباطيّة، هكذا نشأت الطّفرات، الّتي ومن خلال لعبة متبادلة مع المحيط قامت بعمليّة التّطور البيولوجي. إنّ فكرة التّطور نفسها، تعني أنّ نوعاً يخضع لتغييرات جينيّة عبر الزّمن، ما يعني، أنّه عبر أجيال كثيرة يمكن لنوع أن يتطوّر إلى شيء مختلف تماماً. وهذه الاختلافات تقوم على التّغيرات في الحمض النّووي منزوع الأكسجين (D N A) الّتي تنشأ كطفرات. إنّ أنواع الحيوانات و النّباتات الّتي تحيا اليوم لم تكن منتشرة هنا وهناك في الماضي، بل تحَدّرت من تلك الّتي عاشت في زمن أقدم. فالإنسان كمثال، تطوّر من كائن شبيه بالقردة العليا. لكنّه ليس ذات القردة العليا الموجودة حالياً. والواقع أنّ فكرة الانتخاب الطّبيعي لم تأتي وفق التّصور المغلوط السّائد الّذي ينطلق من فكرة القفزة الكاملة من نوع لآخر، وهي الحجة الّتي يبنى عليها عادة النقاد نظريّة التّطور.

(2)

مقدمة :

تشكّل الحياة في نشوءها وتطوّرها نموذج رائع ومحكم نستطيع من خلاله التماس روعة عالم مادي أنتجت قوانينه أروع مأثرة، هي الحياة. فكيف يمكننا تقصّي تلك المأثرة؟ الجواب هو (من خلال العلم) الّذي يضعنا وجهاً لوجه أمام الكون لاكتشاف عظمة ما يحمل من قوانين مهّدت لتحوّل الحياة ليست إلى احتمال كبير وحسب، بل إلى ضرورة حتميّة.

نشوء الحياة والخليّة الأولى

إنّ الحياة، بالمعنى البيولوجي، كانت في نشأتها وتطوّرها مرتبطة ومتشابكة بصورة واسعة مع تطوّر الوسط المحيط الّذي بدأت تنتشر فيه، وقد أصبحت حقيقة بديهيّة بالنّسبة للعلماء أنّ التّطور في انتشار الحياة يتطابق مع تكيف الكائنات الحيّة في كلّ لحظة، وبصورة متتابعة ودقيقة، مع الإمكانيات والضّرورات المتعدّدة للوسط الّذي تعيش فيه. لكنّ النّظرة المقلوبة لهذه المقولة، على الأقلّ في المراحل الأولى من تطوّر الحياة، صحيحة أيضاً، ذلك أنّه وفي الحقبة الأولى من التّطور، تكيّف المحيط أيضاً وبصورة مذهلة مع متطلبات الكائنات الحيّة النّاشئة، أي أنّ مجموعة الشّروط البدئيّة الّتي أحاطت الكوكب الأرضي في بداياته، ساهمت في نقل الحياة من إمكانيّة إلى ضرورة لا مناص منها، ذلك أنّ تطوّراً معيناً على سطح الكوكب الأرضي قد بدأ ولعدّة مئات الملايين من السّنين قبل ظهور البنى العضويّة الأولى، وسار في منحى لم يجعل نشوء الحياة ممكناً وحسب، بل جعله أمراً حتمياً لا مناص منه.

وهنا لا بدّ لنا من عرض موجز بسيط عن تكون الكوكب الأرضي والمراحل الّتي مرّ بها قبل تكون المفهوم البيولوجي للحياة.

لقد تكوّنت الأرض من عناصر جاءت من أعماق الكون، هذه العناصر هي عبارة عن خليط من المواد اللاّعضويّة البسيطة المحتوية على جميع العناصر الّتي نراها اليوم على كوكبنا، إنّها العناصر الّتي كانت بدورها منبثقة عن العنصر الأولي البدئي الّذي نشأ مع بدايّة تكون المادّة المعروفة بعد حوالي 300 ألف عام عن نشأة الكون، وهو عنصر ” الهدروجين ” أوّل وأخفّ العناصر، ويشكّل (مع الهيليوم)  العنصر الأساسي المنبثق عن الانفجار الكوني الكبير. وبالتّالي يبدو أنّ كلّ شيء كان قد بدأ من غيمه هائلة من الهدرجين، وقد مرّ بعد الانفجار الكوني فترة  9-10 مليار سنة (أحدث تصوّر مفترض لعلم لعمر الكون هو 13،7 مليار عام) حتّى كوّن الغبار الكوني شمسنا وكواكب مجموعتنا الشّمسيّة بما فيهم كوكبنا الأرضي.

وبعد نشوء الأرض من التحام الغبار وانضغاطه بتأثير جاذبيته الخاصّة، أصبح لدينا جرم سماوي ذي كتلة محدّدة وحاصل على جاذبيّة ضغطت الغلاف الغازي المحيط بالأرض، كما أنّ البعد الثّابت عن الشّمس وحقلها الكهرطيسي، أدّى إلى توفّر شروط شعاعيّة وحراريّة شديدة الخصوصيّة على الكوكب، فقد بزغت الشّمس في تلك الفترة بقوة تقدر بـ 70 بالمائة فقط من قوّتها الحاليّة، وكان عندها الغلاف الجويّ الأرضي لا يحتوي على أوكسجين، وبإمكاننا تصوّر بضعة أصوات خلف الرّياح الخاليّة من الأوكسجين مثل هسيس الحمم المصطدمة بالمياه أو دوي النّيازك حيث لم يكن هناك أي نباتات أو حيوانات أو بكتريا أو فيروسات.

وقد بدأ الغلاف الجوي الأرضي بالتّشكل والتّبلور نتيجة الأبخرة المتصاعدة عن البراكين العديدة المتفجرة على سطح الكوكب النّاتجة عن الحرارة العاليّة في تلك الفترة، تلك الأبخرة كانت مكوّنة بشكل أساسي من بخار الماء، ومقادير من غازات الفحم، والميثان، والأمونيا، ومع تساقط بخار الماء الّذي كون مجموعة غيميّة هائلة، تكوّنت البحار الأولى.

هناك نظريّة أخرى حديثة تقول بأنّ مجموعة هائلة من المذنبات المائيّة قد انهمرت على الأرض في الفترات الأولى من تشكّلها قد أتاحت وجود أكثر الماء الموجودة على سطحها، وهو نفس الأمر الّذي حصل على الكواكب الداخليّة (المريخ والزّهرة وعطارد) لكنّ عطارد، كان أصغر وأحرّ من بقاء مياه أو غلاف جوي على سطحه بسبب قربه من الشّمس، أمّا الزّهرة، الّذي يمتلك كتلة قريبة من الأرض، فأنّه كان أيضاً أقرب إلى الشّمس، ما جعل كميّة التّبخر على سطحه عاليّة جداً الأمر الّذي جعله يمتلك غلاف جوي هائل زاد درجة الحرارة لدرجة أصبحت البيئة عليه غير صالحة لتطوّر الحياة، أمّا المريخ، فقد كان صغيراً وبالتّالي لم يمتلك الجاذبيّة المناسبة لدرجة أفتقد غلافه الجوي الّذي كان من الممكن أن يدعم بقوّة تطوّر الحياة على سطحه.

ولعدم وجود الأوكسجين في تلك الفترة، كانت الأشعة فوق البنفسجيّة تخترق الجوّ الأرضي بشكل مستمرّ، ومن المؤكّد أنّ تلك الأشعة استطاعت النّفاذ إلى عدّة أمتار في الماء الغنيّ بالجزيئات الكيميائيّة المتعدّدة فيها، وذلك أدّى لتحريض الجزيئات المعنيّة في ذلك العمق لتتجمّع مشكلة قطع بناء أكبر، ونفس الأشعة الّتي سبّبت نشوء تلك القطع، عملت على تفكيكها أيضاً، وبذلك نتجت دورة متواصلة من البناء والتّفكيك.

وبما أنّ الشّعاع الشّمسي لا يمكنه النّفاذ إلى الطّبقات الدنيا من قاع المحيط (لا يتفذ أكثر من 10 م من مياه البحار) فإنّ قسم من الجزيئات الأكبر استطاع أن يحتمي في الأعماق غير مبال بطبيعة الدورة العمليّة في الأعالي، وقد تسبّبت الأشعة فوق البنفسجيّة بطاقتها القويّة، في تفكيك المياه نفسها إلى موادها المؤلّفة من أوكسجين وهدرجين، وبالتّالي حدث على سطح البحار ما يسمّى بالتّفكك بالضّوء. أمّا الهدرجين فقد تصاعد خارج نطاق الجاذبيّة الأرضيّة الّتي لم تستطع أن تبقيه في مجالها لخفتّه، وبقي الأوكسجين في الغلاف الجويّ الأرضي مشكّلاً حاجزاً منيعاً في وجه استمرار تدفّق الأشعّة فوق البنفسجيّة، وعندما تكثف بدرجة معينة في الجوّ، منع تفكك الجزيئات الموجودة في الماء بتوقف بمنعه الكامل للأشعة فوق البنفسجيّة من النّفاذ، وهو ما سمّي بقانون “الكبح العكسي”. وعند ذلك، توقّفت آليّة نشوء الخلايا العضويّة المنقسمة، لننتقل إلى آليّة أخرى هي تطوّر هذه الخلايا العضويّة، وبالتّالي فإنّ نشوء الحياة على الكوكب لم يحدث هكذا فجأة ومن دون أي مقدّمات، إنّ نشوء الحياة على الأرض قد حصل خلال عمليّة تطوريّة شديدة التّعقيد والبطء ذات تسلسل دقيق ومنسجم وخالي من القفزات وصحيح بصورة مذهلة.

أمّا عن مصدر تكون تلك المكوّنات الأولى للخلايا الحيّة ومكان ذلك فقد قدمت ثلاثة احتمالات وفق الآتي :

  • النّظريّة الأولى: تقول أنّ الحياة بدأت في كرة من الثّلج وقد طرح هذه النّظريّة العالم (جيفري بادا) ** إذ أكّد على أنّه كلما كانت درجات الحرارة أكثر برودة، كلّما كانت المرّكبات أكثر ثباتاً. وقد أمّدتنا الأنقاض البين كوكبيّة، والمنافذ المائيّة الحراريّة، والتّفاعلات في الغلاف الجويّ، بمركبات مثل الفورمالديهايد والسّيانيد والأمونيا الّتي اتّحدت فيما بعد في الماء داخل شبكة من الثّلج، ونتج عن هذه العمليّة الحمض الأميني المعروف “بالجليسين” وفي النّهاية ربّما تسبّب تصادم حجر نيزكي ضخم بذوبان هذه الثّلوج.
  • النّظريّة الثّانية: تقول أنّ الحياة نشأت في بركة، وهي فكرة العالم (جوستاف آرينوس) * الّذي أكّد على فكرة أنّ التّجمعات الصّغيرة من مياه الأمطار الجاريّة فوق سطح الأرض، هي الوسيلة الأكثر احتمالاً للحصول على التّركيز الضّروري من المكوّنات. فضلاً عن ذلك ربّما تحوي البركة مركّبات مركّزة على الأسطح الداخليّة للأملاح المتواجدة في صورة ألواح، وهي الألواح الّتي تجتذب جزيئات معينة وتعمل كمحفز في التّفاعلات الكيميائيّة اللاّحقة. هكذا تمّ اتّحاد اثنين من جزيئات فوسفات الألديهايد لتكوين فوسفات السّكر وهو مركب تمهيدي محتمل لجزيء (RNA  ).
  • النّظريّة الثّالثة: تقول أنّ الحياة قد نشأت في مرجل حارّ، وقد طرحها العالم الكيميائي (جونتر فاشتر شاوزر)* *إ1 يرى أنّ الأرض كانت بركانيّة في كلّ مكان، وكانت الغازات المنبعثة من الصّخور المنصهرة تتسرّب بصورة دائمة من السّطح مرشحة لمركبات حيويّة.

والواقع أنّه بغضّ النّظر عن ما يمكن أن يقال عن كلّ نظريّة فإنّه قد يتبادر على أذهاننا سؤال مفاده، كيف أمكن لهذا الخليط البدئي المكوّن من كربون وأمونيا وميثان أن يشكّل خليّة حيّة بالمعنى البيولوجي للكلمة؟

في الواقع إنّ مسألة النّشوء العضوي من المرّكبات اللاّعضويّة كانت مشكلة في وجه العلماء بدت وكأنّها غير قابلة للحلّ، فقد كانوا يعرفون أنّ المركبات تنتجها كائنات حيّة، ولكنّهم كانوا يحتاجون إلى تفسير وجودها كمقدمة لنشوء الكائنات الحيّة الّتي لم تكن لتوجد بعد، في هذا الظّرف الحرج قام بالخطوة الحاسمة طالب من جامعة شيكاغو يدرس الكيمياء اسمه (ستانلي ميلر)، ففي العام 1953 قام باختبار الحالة الّتي كانت فيها الأرض في بدايات نشوءها وفق نموذج مصغّر، حيث قام بتفريغ شحنات كهربائيّة شبيهة بنموذج البرق والصّعق الّتي كانت موجودة في ظروف الأرض الأولى، في وعاء مائي يحوي محلول من غازات الميثان والأمونيا، وقد ترك التّفريغ مستمراً لمدة 24 ساعة فقط، أمّا النّتيجة فقد كانت أجرأ من كلّ التّوقعات. لقد أدّت الطّاقة النّاتجة عن التّفريغ الكهربائي السّتمر إلى إنتاج ثلاثة من أهمّ الأحماض الأمينيّة دفعة واحدة هم (الغليزين، والألانين، والآسبارجين) هذه الأحماض هي ثلاثة من أصل ما مجموعه 20 حمض أميني يكوّن جميع أنواع البروتينات البيولوجيّة الموجودة على الأرض، الّتي تشكّل قاعدة التّنوع الحيوي المذهل الّذي نراه. وقد تمكّن بعد ذلك العالم الروسي (تيريغين) من الحصول على نفس الأحماض الأمينيّة التّي حصل عليها ميلر، ولكن باستعمال الأشعة فوق البنفسجيّة.

كذلك قام البروفسور (ج . شرام) بمزج نكليوتيدات بمشتق من حمض الفوسفوريك، ورفع درجة حرارة المزيج إلى 60 مئويّة، فحصل على سلاسل جزيئيّة تتكون من 30 إلى 200 نكليوتيد تتّحد مع بعضها البعض. ومع أنّنا ما زلنا بعيدين عن الـ 5 ملايين زوج من النّكليوتيدات، التّي تكون RNA)) البكتريا، فإنّ هذه التّجارب بيّنت على أنّ اللّبنات الأساسيّة للمادّة الحيّة قد تكوّنت بوفرة تحت تأثير الطّاقة الحراريّة الشّعاعيّة خلال الحقبة الأولى من عمر الأرض.

ماذا نستنتج من ذلك؟ إنّه لمن المعروف – حتّى لغير الكيميائيين – أنّ بعض العناصر تتحدمع بعضها بطريقة سهلة، وبالتّالي فإنّ نشوء الرّوابط الكيميائيّة ما بين هذه العناصر يكون أكثر احتمالاً من نشوء البعض الآخر، وهذا له علاقة ببنيّة القشور الإلكترونيّة المحيطة بنواة الذّرة، وبالتّالي فإنّ التّطابق في بنيّة هذه القشور يتيح الاتّحاد السّريع، وفي حالات أخرى لا يحصل التّفاعل إلاّ ببطء كبير، أو بعد تزويد العمليّة بكميات طاقيّة كبيرة. كما أنّ هناك بعض العناصر الّتي تكون قشرتها الإلكترونيّة محكمة الإغلاق إلى درجة تصبح معها غير قادرة على التّفاعل مع عناصر أخرى، وهي تسمّى بالغازات الخاملة، هنا يسهل علينا التّحدث عمّا يسمى “الاستعداد للتّفاعل”، فلأسباب مشابهة من حيث المبدأ حصلت عمليّة تشكّل الحموض الأمينيّة الثّلاثة في التّجربة المذكورة وفق مرحلتين:

ففي المرحلة الأولى: تحطمت مواد التّجربة الأساسيّة (الميثان والأمونيا والماء) بواسطة التّفريغ الشّحني.

وفي المرحلة الثّانية: اتّحدت تلك النّتاتيف مجدداً مع بعضها البعض، لكن عند اتّحادها لا تشكّل المواد الأساسيّة مجدّداً في صيغتها السّابقة وحسب، وإنّما يشكل جزء من تلك النّتاتيف روابط جديدة من بينها عدد غير قليل من الرّوابط الكيميائيّة الأكبر والأكثر تعقيداً.

نستنتج من ذلك أنّه قبل تشكّل الحياة على الأرض كانت هناك عمليّة طويلة من التّعقّد غير الحيّ المتزايد، الّذي يطلق عليه عادة “التّطور الكيميائي”. فتحت تأثير تدفّقات المادّة والطّاقة، كضوء الشّمس، والنّشاط البركاني، والبرق، وربّما التّحلل الشّعاعي في باطن الأرض. تشكّلت جزيئات معقّدة بشكل متزايد، ولعلّ هذه الجزيئات وصلت من الفضاء الخارجي وتلائمت مع المزيج الكيميائي للجوّ الأرضي. وعند نقطة محدّدة في الزّمن، لعلّ عمليّة ذاتيّة من التّنظيم الذّاتي قد شاركت في ذلك، ما أدّى لنشوء الحياة.

وقد قام العلماء باستخدام مسابر فضائيّة تعمل بالرّاديو للبحث عن مختلف الرّوابط الكيميائيّة الموجودة في الفضاء، حيث أشارت المعلومات إلى مقدار وشموليّة العناصر الموجودة في الكون للاتّحاد مع الجزيئات الّتي يدور حولها الحديث هنا. لقد اكتشفت تلك المسابر أولاً وجود الرابطة O   H وأيضاً الأمونيا، والميثان، كذلك روابط الفحم- الكبريت. بالإضافة إلى ذلك فقد كشفت الأبحاث الّتي قامت على مذنب هال – بوب (الّذي ظهر في سماءنا سنة 1997) عن وجود عناصر من الماء والأمونيا وسيانيد الهدرجين، وهي كما ذكرنا وحدات يمكنها التّفاعل فيما بينها لتكوين الأحماض الأمينيّة المكوّنة للبروتينات. إنّ اكتشاف هذه الرّوابط في الفضاء، ليس وثيقة قاطعة على ميل جميع العناصر إلى الالتحام وحسب، بل تشير إلى الاحتمال الكبير لنشوء الجزيئات الّتي نتحدّث عنها، كما أنّها تدفعنا لإمكانيّة التّفكير في وصول بعض الجزيئات المتواجدة في الغلاف الجوي الأرضي الأولي قادمة من أعماق الفضاء، وعليه فقد تكون بعض الرّوابط الهامّة في التّطور اللّاحق نحو الحياة، قد تشكّلت أولاً في الفضاء، ثمّ انتقلت فيما بعد إلى الأرض. لكنّنا حتّى لو نظرنا من هذا المنظار، فلن تكون الحياة هي من هبط من الفضاء، ولكنّ جزءاً من الرّوابط الكيميائيّة المهيئة مع ظروف أرضيّة مناسبة هي من مهد لنشوء بدايات الحياة.

وبصورة عامّة، تقودنا تجربة ميلر إلى عدة اعتبارات: فهي تشير أوّلاً، وبطريقة مدهشة، كم هي بسيطة الطّريقة الّتي تكونت بها المركّبات العضويّة اللاّزمة للحياة بطريق لا عضوي. كذلك فهي تشير إلى أنّ الاستعداد النّوعي، أي النّزعة للاتّحاد الكيميائي الموجودة لدى المواد المتوفّرة عند الانطلاق لتشكيل الرّوابط الّتي نعرفها كمكوّنات للحياة، كانت كبيرة بصورة مذهلة ومتميزة. بتعبير آخر: إنّ هذه المركّبات البيولوجيّة قد أصبحت وحدها قطع بناء الحياة اللاّحقة، لأنّ العناصر الّتي تشكّلت لخلافة الهدروجين كانت مركّبة بشكل أنّها فضلت ودعّمت نشوءها. بذلك يزول الغموض على نشوء مكوّنات الحياة الأولى، ويصبح قابلاً للتّفسير بسهولة ويسر، فعندما نفترض وجود الهدرجين بخصائصه المتميزة، ونضيف إليه قوانين الطّبيعة كحقيقة قائمة، ليس لدينا أي خيار آخر تصبح نشوء مكوّنات الحياة أمر لا مناص منه.

وهنا تحديداً تبدأ دراما تكون الحياة البيولوجيّة، فبعد التّوزع اللاّعضوي للجزيئات والعناصر في المياه الأرضيّة، أصبحت الأرض في نهاية تلك الحقبة ممتلئة بالرّوابط الكيميائيّة المعقّدة، ومن بينها ما نعتبره اليوم من المكوّنات الأساسيّة للحياة، وما حصل بعد ذلك هو أن بدأت مع تلك الرّوابط الكيميائيّة عمليّة أطلق عليها مرحلة (التّطور الكيميائيّة قبل الحيويّة). ويطلق على السّيناريو المرجّح أكثر من غيره في الوقت الحالي لبداية الحياة ( عالم الرنا ” R  N A ” ) وهو يتكوّن من تشكل ذاتي لجزيئات الرنا، التّي كان في استطاعتها أن تحمل المعلومات وتحفّز تفاعلات مهمّة، بما في ذلك تكاثرها الخاصّ. ولعلّ هذا التّجميع لجزيئات الرنا قد أنتج أوّل خليّة حيّة قادرة على العيش، ومن بين الأدلّة الّتي تدعم هذه الفرضيّة أن جزيئات الرنا الآن موجودة في كلّ أشكال الحياة، وبالكثير من الأحجام المختلفة.

إنّ ما حصل في هذه المرحلة من التّاريخ، كان عمليّة انتقائيّة من قبل الوسط المحيط لدفع التّطور باتّجاه الحياة، وقد مضى وقت طويل في مرحلة الاصطفاء تلك، فكان عمر الأرض حوالي مليارين من السّنين، وبعد هذه المدّة الطّويلة، بدأت المركبات الّتي غربلها واصطفاها التّطور الكيميائي وهي حموض أمينيّة، وبورينات، وسكريات، وبورفيرين، بالتّفاعل مع بعضها لتكون الخليّة المنقسمة الأولى. إنّ هذه الحموض الأمينيّة هي من كون الأساس الأولي لتكون البروتينات والحموض النّوويّة DNA  الّتي تعتبر مخزن بناء الخليّة باحتوائها على الشّيفرة الوراثيّة، حيث تقوم بتخزين سلاسل محدّدة تماماً من الحموض الأمينيّة على هيئة شيفرات ثلاثيّة أسسيه. ووفقاً لهذا النّموذج، تستطيع الخليّة تشكيل جميع الأجسام البروتينيّة الّتي تحتاجها لتجديد بنيتها، وبالدّرجة الأولى لتشكيل الأنزيمات، الّتي تلعب الدّور الأساسي في عمليات الهدم والبناء الخليوي. وعليه يبدو من الواضح أنّ الحموض الأمينيّة تملك خصائص مثلى للتّخزين، كما أنّ البروتينات تصلح وضمن شروط بيولوجيّة معيّنة، لأن تكون قطع بناء مناسبة بصورة خاصّة. هكذا يمكن القول أنّ البروتين قد كوّن مادّة الحياة الأولى، فالمادة البروتينيّة تحمل على الدّوام شحنة كهربائيّة تجعلها في تفاعل مع الأجسام المكهربة المحيطة بها، فهي تتذبذب كما يتذبذب الحديد بالقوّة المغنطيسيّة، هذا التّذبذب هو في النّهاية أقرب الأشياء إلى الإحساس والتّحرك اللّذين هما من خواص الأحياء.

وإذا عدنا إلى تسلسلنا التّاريخي نرى أنّه وبعد مرحلة الاصطفاء الكيميائي، في الفترة الواقعة ما بين 3،4 – 4  مليار سنة، كانت هاتين الجريئتين (وهما البروتينات والمحمض النّووي  DNA) قد التقيتا ضمن ظروف مكّنت قدرتهما الفائقة على التّكامل والعمل لأوّل مرّة، وليس من شكّ أنّ هذا اللّقاء قد أطلق الشّرارة الأولى الّتي منها بدأت عمليّة الانتقال من التّطور الكيميائي إلى التّطور البيولوجي. وهنا ولإزالة سوء الفهم الّذي تقع فيه معظم أدبيات تنتقد نظريّة التّطور البيولوجي، يجب أن نميّز بين الانتخاب التّراكمي (حيث يُستخدم كل تحسين مهما كان صغيراً، كأساس للبناء في المستقبل)، والانتخاب بخطوة واحدة (حيث كلّ محاولة جديدة هي محاولة أولى)، فلو كان على التّقدم بالتّطور أن يعتمد على الانتخاب بالخطوة الواحدة، لما وصل إلى شيء. أمّا إذا كان ثمّة طريقة حيث يمكن أن تُقام الظّروف الضّروريّة للانتخاب التّراكميّ بقوى الطّبيعة” العمياء حقيقة” فإنّ النّتائج قد تصبح غريبة ومدهشة. وواقع الأمر أنّ هذا هو ما حدث بالضّبط فوق كوكب الأرض، ونحن أنفسنا نعد من أحدث هذه النّتائج إن لم نكن أغربها وأكثرها إدهاشاً.

إنّ المصادفة والعشوائيّة عنصر ضئيل في الوصفة الداروينيّة، أمّا أهمّ عنصر فيها فهو الانتخاب التّراكمي (الّذي يشمل من ضمن ما يشمله الطّفرات الّتي هي فقط عشوائيّة ) الّذي هو في جوهرة لاعشوائي”. إنّ التّطور يتكوّن أساساً من تكرار لانهائي للتّكاثر، وفي كلّ جيل يأخذ التّكاثر الجينات الّتي يمّده بها الجيل السّابق، ويناولها للجيل التّالي ولكن مع تغيرات عشوائيّة طفيفة أي “طفرات”. والطّفرة تكون + 1 أو – 1 مضافاً إلى قيمة جين تمّ اختياره عشوائياً، وهذا يعني أنّه بتواصل الأجيال، فإنّ الكمّ الكلي للاختلاف الوراثي عن الجدّ الأصلي قد أصبح كثيراً جداً بالتّراكم، وإنّما بخطو صغير في كلّ مرّة. ورغم أن الطّفرات عشوائيّة، فإنّ التّغير التّراكمي عبر الأجيال ليس عشوائياً، والذريّة في أي جيل واحد تختلف عن والدها في اتّجاهات عشوائيّة. لكنّ انتخاب من يذهب قدماً من تلك الذريّة إلى الجيل التّالي لا يكون عشوائياً، وهذه هي النّقطة الّتي يدخل عندها الانتخاب الدارويني. فمعيار الانتخاب ليس الجينات ذاتها، وإنّما هو الأجساد الّتي تؤثّر الجينات في شكلها من خلال النّمو.

وقد ساعدت الاكتشافات الجديدة العلماء على إماطة اللّثام عن كيفيّة نشوء واستقرار الحياة الأولى على الكوكب الأرضيّ، كاكتشاف الكائنات الدّقيقة المحبّة للحرارة المسمّاة (الثّرموفيلات) إذ تعتبر هذه الكائنات من الإحفوريات الحيّة الّتي يعود تاريخها إلى الأيّام المبكّرة من عمر الأرض، فهي من أكثر الكائنات بدائيّة، الأمر الّذي دفع العلماء للقول أّن الحياة الأولى ربّما بدأت حول الينابيع البركانيّة الحارّة في قاع المحيطات، حيث المواد العضويّة الأكبر الهابطة إلى القاع، وبالتّالي غير المتأثّرة بعمليات التّفكك الحاصلة فوق السّطح المائي، ويبدو أنّ هذه الينابيع الحارّة أنتجت سوائل فائقة السّخونة محمّلة بالمعادن والمركّبات الغنيّة بالطّاقة الّتي زودت التّفاعلات الكيميائيّة اللاّزمة لنشوء الحياة بما يلزمها من الطّاقة، وقد طوّرت هذه الثّرموفيلات جزيئات ال  DNAوالبروتينات، كما أنّها ابتكرت وسائل لتسخين الضّوء الشّمسي لإنتاج الغذاء والأوكسجين، لكنّ ذلك لم يحدث هكذا دون مشاكل، فالخلايا البدائيّة قد تعرّضت لمشاكل بيئيّة كبرى هدّدت وجودها، وبالتّالي اقتضى الأمر تكيّفاً واصطفاءً لاستمراريّة مكتسبات الحياة الأولى وتطوّرها، فكيف حدث ذلك؟

(3)

لقد كانت أوّل كائنات نشأة، بسيطة وأشبه بالبكتريا، وعلى مدى قدر هائل من تاريخ الحياة على الأرض، كانت هذه الكائنات هي كلّ شيء حيّ، إذ ترجع أوّل آثار للحياة المسجّلة في الحفريات إلى نحو 3،5 مليار سنة، ومنذ ذلك الوقت، كانت هذه الميكروبات فقط هي سكّان الأرض طوال 2،7 مليار سنة، كانت مجرّد خلايا مفردة، أو في أقصى صورها تعقيداً، عبارة عن سلاسل أو ألواح من الخالايا المتطابقة. أمّا كلّ ما نفكّر فيه اليوم باعتباره حياة ترى بالعين المجرّدة، نشأت خلال ال 800 مليون سنة الأخيرة.

وعمليّة الانتقال من مرحلة وحيدات الخليّة إلى مرحلة كثيرات الخلايا الّتي تعتبر حاسمة في تاريخ الحياة البيولوجيّة على الأرض، تصبح أكثر وضوحاً عندما نعرف أنّ ذلك لم يتمّ من خلال مفهوم الاتّحاد الخليويّ بالمعنى المعروف الحرفيّ للكلمة، ففي الواقع تنشأ الكائنات الأعلى عن طريق انقسام خليّة تدعى بويضة بشكل أنّ الخلايا النّاتجة عن الانقسام المتتالي لهذه الخليّة لم تعد كما كان يحصل لدى وحيدات الخلايا منذ المليارات من السّنين تنفصل عن بعضها البعض. وتشير جميع الدّلائل على أنّ نشوء متعدّدات الخلايا نشأ منذ حوالي المليار سنة وقد نشأ بنفس الطّريقة المذكورة. وأحد البراهين على ذلك هو أنّ بعض المتعضيات لم تزل حتّى يومنا هذا تحتفظ بهذه الطّريقة الانتقاليّة كالبكتريات، وبعض الأشنيات الخضراء البدائيّة الّتي لا تزال تشبه الخليّة القديمة عديمة النّواة.

إنّ الانتقال إلى مرحلة الكائنات متعدّدة الخلايا يمثّل خطوة هامّة من خطوات التّطور البيولوجيّ حيث نتج مبدأ تقسيم العمل بين الخلايا الّتي يتألّف منها الكائن المركّب، وزيادة التّخصص تعني زيادة في التّعقيد والارتقاء. وعند هذه المرحلة يبدو أنّ التّنوع بدأ يظهر مع ظهور الخلايا الجنسيّة المختّصة والانتقال من مرحلة التّكاثر اللاّجنسيّ إلى مرحلة التّكاثر الجنسيّ، يقول العالم (نول) *:”مع نشوء الجنس حصلنا على الكثير من الاتّحادات الجينيّة وبالتّالي على الكثير من احتمالات التّغير”. حيث تعلّمت الخلايا حقيقيّة النّواة كيف تسهم في مواردها الوراثيّة أثناء التّكاثر، وكانت هذه البداية للتّكاثر الجنسيّ كما نعرفه، وإنّها لميزة أساسيّة لآليّة التّكاثر هذه أنّها تسمح بتبادل وراثي أسرع، بما في ذلك مبادلة التّنافس حول الموارد مع الأنواع الحيّة الأخرى، ولا يعرف أحد متى ظهرت أوّل الأنواع للتّكاثر الجنسيّ. لعلّ هذا الحادث المذهل في التّاريخ البيولوجي قد حدث منذ أكثر من 600 مليون سنة، وساهم بالإسراع نحو تطوّر أكثر تعقيداً.

والواقع أنّ هناك طفرتان رئيسيتان في التّطور البيولوجيّ نتج عنهما تعقّد متعدّد الخلايا أكبر. الطّفرة الأولى: تعرف بأنّها “إدياكاريّة” وهي منطقة في جنوب أستراليا حيث تمّ العثور على هذه الأحفوريات الأقدم. فكانت أجسام هذه الكائنات ليّنة، بينما ينقصها بشكل كامل العظام أو القواقع، استمرّت هذه الفترة بين 575 – 542 مليون سنة. والطّفرة الثّانية: حدثت منذ نحو 540 مليون سنة واشتملت على ظهور نطاق من الكائنات الحيّة المعقّدة الّتي لديها عظام وقواقع صلبة، وتعرف حقبتها بالانفجار “الكمبري” بسبب سرعة ظهورها في حقب الحياة القديمة “العصر الكمبري”، وهو اسم مشتقّ من مقاطعة ويلز في بريطانيا الّتي اكتشف فيها أوّل حفريات هذا العصر. تمثّل الحفريات الكمبريّة كلّ النّظم البنيويّة العامّة والتّصميمات الهيكليّة الموجودة في الكائنات الحيّة المعقّدة المعاصرة. ولعلّ السّبب في هذا الانفجار البيولوجي المفاجيء بين عصرين يرجع – كما ذكرنا- بشكل كبير إلى إنتقال مفاجيء من عصر جليدي واسع النّطاق، إلى حالة دافئة كما بيّنت طبقات الصّخور الّتي تعود إلى تلك الفترة، وقد يكون ذلك سببه عمليات تكتونيّة الصّفائح الّتي حرّكت طبقات القشريّة الأرضيّة وخلفت ظواهر هائلة من البراكين ساعدت على زيادة حرارة الأرض، ولعلّ نهاية كرة الثّلج في الأرض قد أدّت إلى الارتفاع المفاجيء في الأوكسجين في المحيطات نتيجة زياد النّشاط البيولوجي، ومن ثمّ أتاح ذلك الأمر وقوداً وفيراً لابتكارات متعدّدات الخلايا.

أمّا المرحلة التّالية من مراحل التّطور البيولوجي العظمى، فقد تمثّلت بصعود بعض الكائنات الحيّة من المياه إلى اليابسة. لقد كانت الأشكال الحياتيّة الأولى الّتي تكيّفت مع الخواصّ الفيزيائيّة لمحيطها المائيّ السّائل متعدّدة، وبما أنّه وعلى بعد قريب من الشّاطئ يصبح الوصول إلى القاع أمر غير ممكن فقد كانت أفضل طريقة لحلّ هذه المشكلة هي اليوم بمطابقة الوزن النّوعي للماء مع الوزن النّوعي للجسم، ولتحقيق هذا الهدف، طورّت الحياة حويصلات هوائيّة تملأ بالغازات الخفيفة في مقدّمتها الأوكسجين نستطيع نفخها وتنفيسها كيفما نشاء، فأخترعت أداة مدهشة للعوم والغطس. ومن البديهي أيضاً أنّه كان يوجد منذ البداية متخصّصات قاعيّة أي أشكال تكيّفت مع العيش في القاع على الأرض الصّلبة، وكان يوجد أيضاً عدد من العائدين، أي حيوانات عادت للعيش عائمة في الماء بعد أن ملّت العيش المتواصل في القاع عدّة ملايين من السّنين، ولم يزل بعض هذه الأنواع قائم حتّى اليوم، كالرّوخا، وهو أحد أنواع القرش، الّذي يعود بنا إلى ذلك التّاريخ ليس فقط بشكله المسطّح النّاتج عن التماس مع الأرض القاعيّة، وإنّما بوزنه النّوعي الأثقل من الماء الأمر الّذي يعتبر غير عادي بالنّسبة للأسماك، وقد اضطرّت هذه الأسماك لكي تبقى عائمة أن تستخدم الأطراف الخارجيّة لجسمها كأجنحة طيران حيث تقوم بتحريك تلك الأجزاء باستمرار بطريقة اهتزازيّة وذلك تعويضاً عن فقدانها لحوصلاتها الهوائيّة خلال فترات حياتها القاعيّة، وبما أنّ هناك قانون عام في النّظريّة التّطوريّة ينصّ على أنّ العضو الّذي يضمر لا يعود مرّة أخرى حتّى وإن عادت الظّروف القديمة الّتي كان يعمل بها، نجد ذلك النّوع من السّمك اضطرّ بعض ضياع حويصلاته لاستخدام وسيلة تكيفيّة أخرى تمثّلت بالطّيران، فبمجرّد توقّف حركتها الاهتزازيّة تهبط للأسفل فوراً.

في الواقع لم يعرف السّبب المباشر في صعود بعض الكائنات الحيّة من بيئتها المائيّة المستقرّة إلى بيئة اليابسة الأشدّ صعوبة واضطراباً، لعلّ السّبب كان غذائياً أو استكشافياً أو غير ذلك، غير أنّ هذا الخضوع غير المشروط للظّروف السّائدة أدّى على اليابسة إلى نتائج شديدة الغرابة، فهنا وجدت الحياة نفسها لأوّل مرّة في محيط تعتبر التّأرجحات الحراريّة من خصائصه الأساسيّة. إنّ خصائص هذه البيئة الجديدة كانت متذبذبة حيث تبدل حراري متواصل يحدث وفق إيقاع منتظم بين اللّيل والنّهار، وينتقل من الحارّ إلى البارد تبع الفصول دون توقف، ومن البديهي أنّ هذه التّأرجحات قد شملت كلّ الكائنات على سطح اليابسة، وهذا يعني أنّ نشاط تلك الكائنات بدأ ينخفض ليلاً حيث يبرد الطّقس، وبعد ذلك في صباح اليوم التّالي يعود النّشاط من جديد مع بزوغ الشّمس والدّفء، كما نجد الآن عند الضبّ و السّمندل، وعندها نشأتا ما نسمّيه الحيوانات باردة الدّم أو متبدلة الحرارة، فخلال الحقبة الزّمنيّة الطّويلة الّتي امتدّت من خروج البرمائيات الأولى من الماء حتّى نهاية عصر العظائيات، أرغمت الأرض بسبب دورانها جميع الكائنات على هذا الإيقاع المنتظم في اللّيل، إذ نرى أنّ جميع سرعات التّفاعلات الكيميائيّة تتناقص لانخفاض درجة الحرارة، لقد ظلّت الأمور على هذا المنوال فوق اليابسة حوالي 300 مليون سنة،  فهل نحن كأغلب حيوانات اليابسة ننام ليلاً لهذا السّبب؟. نحن نعرف أنّ الكائنات البحريّة لا تنام إلّا قليلاً لعدم وجود التّفاوت الكبير في بيئتها، فهل نحن ورثنا تلك التّركة الّتي خلّفها لنا أجدادنا الصّاعدون إلى اليابسة؟ لعلّ للأمر صلة بذلك.

لكنّ هذا الوضع السّلبي تجاه الطّبيعة قد تغيّر فجأة عندما ظهرت في نهاية تلك الحقبة كائنات جديدة فقاريّة كان التّطفّر قد منحها خاصيّة انقلابيّة جديدة ترتبت عليها تبعات حاسمة، حيث قامت إنزيمات جديدة بحرق الغذاء الّذي يلتهمه الحيوان، وبالتّالي فقد ولد مولّد جديد للطّاقة، حيث تحولّت الطّاقة الفائضة الّتي لم يستهلكها نشاط الحيوان بالضّرورة إلى حرارة بدأت تمدّ الجسم بالحرارة. والنّقطة الحاسمة هنا تتجلّى بالقدرة على المحافظة على حرارة ذاتيّة ثابتة للجسم، صحيح أنّ هذا الوضع يكلّف المزيد من الطّاقة، لكنّ الأوكسجين المتوفّر بغزارة كان يؤمّن الطّاقة بشكل كاف، وعليه، نجد أنّه ولأوّل مرّة منذ 300 مليون سنة أضحت الحياة بصدد التّحرر من نير الخضوع للتّقلّبات الحراريّة في محيطها، وبالتّالي تحقّقت قفزة أخرى من قفزات التّطور الكبرى بأن نشأت الذّات المستقلّة عن تقلّبات الظّرف المحيط. هذا ما حصل مع أصحاب الدّم الدّافئ أو ثابتات الحرارة، وعلى هذا الأساس وقفت الحياة منفصلة عن الخضوع التّام للمحيط، غير أنّ هذا الانفصال المبدئي الضّروري يجعل من الضّروريّ أيضاً إقامة قنوات اتّصال ثانويّة خاضعة للتّحكم تتيح التّصرف الحرّ والاختيار دون تحدّ بأشكال جديدة من التّبعيّة، هنا نشأت الحواس الموجودة حتّى عند أبسط الكائنات الحيّة لكي تقيم نوعاً من الاتّصال المقنّن اللاّزم مع المحيط، ويبدو أنّ الثّبات الحراري كان بدوره مقدّمة لا غنى عنها لتحقيق مبدأ الاستقلال على مستوى أعلى، إنّ ثبات الحرارة الذاتيّة للجسم هو مقدّمة أساسيّة لتطوير القدرة على التّجريد الّذي يمثّل الشّكل الأقصى للاستقلال عن المحيط، أي أنّ ثبات الحرارة هي واحدة من الشّروط الجوهريّة القادرة على التّعامل الموضوعيّ مع الوسط الخارجيّ، ومن هذا المنظور يتّضح لنا أنّها ليست مصادفة أن يتواجد المركز الّذي ينظّم حرارة جسمنا في أقدم جزء من دماغنا.

نوجز الأمر الآن كالتّالي: لقد اقتصرت الحياة لمليارات السّنين على العيش في الماء، ثمّ، قبل حوالي 365 مليون سنة، سكنت الكائنات الحيّة اليايسة أيضاً، وهذا لا بدّ أن يؤدّي إلى تكوّن أنواع جديدة مختلفة تماماً عن الأسماك من حيث التّنفس والإخراج والغذاء والتّنقل، فماذا تخبرنا المستحاثات بهذا الشّأن؟ إذا وضعنا أمامنا ما نعرفه عن الصّخور، سينتج لدينا دليل قوي أنّ الفترة الممتدّة بين 380 – 365 مليون عام كانت فترة حرجة، إنّ الصّخور الأقلّ عمراً من ذلك تتضمّن أشكالاً متنوّعة من الحيوانات مثل البرمائيات والزّواحف الّتي لا تشبه الأسماك، لكن في طبقات الصّخور الّتي يبلغ عمرها حوالي 385 مليون عام، نجد أسماكا تشبه كثيراً السّمك الّذي نعرفه الآن وباختلافات بسيطة، فما حدث بين الفترتين، سنة 2004 وخلال رحلة استكشافيّة للمستحثات الانتقاليّة بين الأسماك وجيوانات اليابسة، استطاعت بعثة يقودها العالم الأحفوري “نيل شوبين” من اكتشاف كائن مستحاثي في صخور تلك الحقبة كان وسطاً بين الأسماك، والحيوانات البريّة، إنّ هذا الكائن قد حطّم التّمييز المتعارف عليه بين الهيكل الجسديّ لكلّ من الأسماك وحيوانات اليابسة، فكان له حراشف على ظهره وزعانف مع شبكات زعنفيه كالأسماك، وبالمقابل كان يملك رأس مسطح (وليس مخروطي كالأسماك) ورقبة كحيوانات اليابسة، كما لوحظ وجود عظام داخل الزّعنفة تمثّل ذراعاً علويّة وأماميّة، وحتّى لوحظ وجود مفاصل، ما وجد هو سمكة لها كتف، ومرفق ومفاصل رسغيّة في شبكة زعانفها. لم تكن هذه السّمكة – البرمائيّة حلقة وصل بين نوعين من الحيوانات وحسب، بل وجدت أيضاً في الصّخور الّتي توقّع وجودها فيها (حوالي 375 مليون عام). وقد سمّي هذا الكائن بـ( التّكتاليك). وما لبث أن أكتشف الكثير منها في صخور العصر الديفوني، تماماً كما تنبأ داروين، في الوقت المناسب، والمكان المناسب، وجدت مخلوقات وسيطة بين نوعين مختلفين ظاهرياً من الحيوانات. وبالانتقال من التّكتاليك إلى البرمائيات، وصولاً إلى الثّديات، يتّضح لنا شيء واحد: أقدم كائن له عظام كعظام يدنا العليا، والذّراع الأماميّة، ورسغنا وكفنا، وله حراشف وزعانف وتشبيكات أيضاً، كان هذا المخلوق. لقد حدد مؤخراً التّاريخ الّذي من الممكن أن نرى فيه الكائن الانتقالي بين الأسماك والبرمائيات المائيّة، بحوالي 390 – 360 مليون سنة مضت، وهذا ما تمّ اكتشافه على يد البعثة المذكورة تماماً في جزيرة معزولة في المحيط القطبيّ الشّماليّ شمال كندا، حيث وجدت مجموعة من الهياكل العظميّة المتحجّرة المتكدّسة أحدها فوق الآخر في صخر رسوبي من نهر قديم، للتيكتاليك صفات تجعل منه رابطاً مباشراً بين الأسماك فصيّة الزّعانف والبرمائيات اللاّحقة، بخياشيم، وحراشف، وزعانف، إذ يبدو بوضوح أنّه سمكة، إلّا أنّ له كذلك صفات شبه برمائيّة، فكان رأسه مسطّحاً كالّذي للسلامندر، مع عينين ومنخرين في قمّة الجمجمة بدلاً من جانبها، ممّا يوحي بالمعيشة على المياه الضّحلة مع النّظر، وربّما التّنفس فوق السّطح، فصارت الزّعانف أكثر قوّة، ممكنة الحيوان من ثني نفسه إلى الأعلى لمساعدته على استكشاف بيئته. ومثل البرمائيات المبكّرة، كان للتيكتاليك رقبة. على عكس الأسماك الّتي ليس لها رقاب، فجماجمها تتّصل مباشرة بكواهلها. وما هو أكثر أهميّة، أنّ التّيكتاليك كان له مجموعة من الضّلوع القويّة الّتي ساعدت الحيوان على ضّخ الهواء إلى رئتيه وتحريك الأوكسجين من خياشيمه (حيث يمكنه التّنفس بالطّريقتين)، وعوضاً عن العظام الصّغيرة الكثيرة في زعانف السّمك فصّي الزّعانف، امتلك التّيكتاليك عظاماً أقلّ وأقوى في الأطراف، عظاماً مشابهة في العدد والموقع لما لدى كلّ كائن بري سيظهر لاحقاً بما فيهم البشر. إنّه يشكّل المرحلة الانتقاليّة الّتي يمكن من خلالها أن نتحّدث عن الزّواحف الّتي تفرّعت عنها أيضاً الثّعابين، وكان قد أفترض منذ زمن طويل أنّ الثّعابين قد تطوّرت عن زواحف شبيهة بالسّحالي فقدت أرجلها، حيث أنّ الزّواحف ذوات الأرجل تظهر في السّجل الأحفوريّ قبل الثّعابين تماماً، وفي عام 2006 عثر العلماء على متحجّرة لأقدم ثعبان معروف، يعود إلى 90 مليون سنة، تماماً كما قد تُنبأ به، كان لديه حزام حوضي ضئيل ورجلين خلفيتين ضامرتين.

ولا بدّ من التّأكيد هنا على أنّ مرحلة التّطور والانتقال من الماء إلى اليابس أعقبها مرحلة ردّة لدى بعض الأنواع من اليابسة إلى الماء، كالقيطس الّذي عاد إلى الماء بعد أن كان يعيش فوق اليابسة حيث انقلبت يداه إلى زعانف ولا تزال أصابعه الخمسة كامنة في كلّ زعنفة من زعانفه، وبعض الحيوانات الأخرى نزلت إلى الماء ولكنّها لم تصل بعد إلى مرحلة الحياة المائيّة الكاملة، كفرس النّهر الّذي يعيش في الماء وعلى اليابسة، والفقمة الّتي تعيش طيلة حياتها في الماء، ولكنّها وقت اللّقاح والولادة تخرج إلى البرّ فهي لم تبلغ مبلغ القيطس الّذي يعيش ويلد في الماء.

بإمكاننا الآن تلخيص المرحلة الثّانية من الدراما الحيويّة على الأرض وفق التّالي: لقد بدأت الحياة من نشوء الخليّة المنفردة الحيّة النّاتجة عن عمليّة الاصطفاء الكيميائيّ الّذي يعتبر حجر الأساس في بداية الشّرارة البيولوجيّة، بعد ذلك تمّ الانتقال إلى مرحلة التّمايز الخليويّ الأوّل بين مملكتي النّبات والحيوان وهو يعتبر الانفصال البيولوجي الأوّل بين مملكتين، بعد ذلك تمّ الانتقال من مرحلة وحيدات الخلايا إلى مرحلة متعدّدات الخلايا، حيث بدأ التّخصص في العمل الخليويّ، أعقب ذلك نشوء الحيوان الدوديّ الصّورة، الّذي منه الرّخويات كالمحار والحلازين والحبّارات، ثمّ ظهرت الشّوكيات كنجوم البحر وقنافذ البحر وخيار البحر، وبعدها ظهرت القشريات كالسّراطين والأربيات (الجمبري)، وهذا مهّد بدوره لحدوث القفزة التّطوريّة الكبرى بظهور الجنسين. ثمّ باتّخاذ الحيوان شكلاً ذا جانبين، فالإسفنج مثلاً لم يكن له شكل منتظم وبالتّالي يعتبر ظهور الحيوان ذا الجانبين كالدّيدان خطوة كبيرة في اتّجاه التّطور حيث أدّى ذلك إلى تسهيل الحركة،  فجعل التّنازع وبقاء الأصلح أكثر حدّة وسرعة، وبالتّالي التّمايز النّوعي بين الكائنات أكثر تنوعاً.

بعد ذلك ظهرت مجموعة جديدة من الحيوانات تمثّل عشائر ذات صفات مستحدثة يدلّ وجودها على وقوع انقلاب كبير في سير الحياة، فكلّ الحيوانات الّتي ذكرناها كانت رخوة القوام لّينة الأجسام معدومة العظام، ولو أنّ بعضاً منها كالسّراطين والمحّار، قد اختصّت بأصداف تقي ذواتها من العطب، أمّا الصّورة الجديدة فكان لها حبل متين ممتدّ على طول الجسم يسمّى (الرّتمّة)، وكان ظهور هذا الحبل أوّل مدرج من مدارج التّطور نحو تكوين الفقار المؤلّف من أجزاء عظميّة كلّ منها تسمّى فقارة، أمّا أولى الحيوانات ذوات الرّتمّة والّتي تسمّى (الرّتمّيات) فكانت سهميّة الشّكل ومائيّة، ومن أشهرها الإطريف المسمّى أيضاً (السّهيم)، ومنه نشأت الأسماك ذات الهياكل العظميّة الصّلبة كالصّمون والقدّ والفرخ، كما تفرّع من الحريب صورة أخرى كالجلكيات، وهي من الأحياء الّتي ليس لها حبل ظهري إلّا عندما تكون صغيرة، والأحياء الّتي ظهرت بعد تلك المرحلة فكانت جميعها من الفقاريات. بذلك انقسمت المملكة الحيوانيّة إلى قسمين عظيمين هما:(الفقاريات، واللاّفقاريات) وما تتميّز به الفقاريات أنّها تستند على اختلاف درجاتها إلى الغريزة، ولكن مع شئ من الوجدان المكتسب نتيجة تشكّل بدايات الجهاز العصبيّ، وقد أعقب ذلك ظهور الأسماك المتطوّرة الّتي تستطيع أن تعيش في الطّين اللاّزب إذا ما غاص في الماء في فصول الجفاف، وبدلاً من أن تتنفّس من خياشيمها كبقيّة الأسماك نشأ لها مع هذا التّغير في الوسط جهازاً آخر هو عبارة عن رئات أوّليّة تحوّلت عن عوامات السّبح، بذلك تمتّعت تلك الأحياء بجهازين للتّنفس، ومنها نشأت البرمائيات كالضّفادع، الّتي تعتبر من أوائل الفقاريات الصّاعدة إلى اليابسة، ومن البرمائيات نشأت الزّواحف كالعظايا والتّماسيح والثّعابين، الّتي تكيّفت مع الحياة الأرضيّة بشكل أفضل إذ أنّها، وبعكس البرمائيات، ليست بحاجة إلى وسط مائي للتّكاثر، وقد هيمنت تلك الزّواحف على اليابسة لفترة طويلة، ومن فرعها نشأت الطّيور الّتي تعتبر حتّى الآن من الزّواحف الطّيّارة، وغاية ما حدث هو أنّ ساقيها الأماميتين تحوّلتا إلى جناحين، وأكثر الطّيور تعيش مدّة طفولتها وفي طرف أجنحتها مخلب أو ظلف قد يبقى معها بقيّة حياتها ما يدلّ على أنّ ساقا كانت موجودة لديها يوماً مّا، كما نجد أنّ صغار الدّجاج تستعمل أجنحتها للاعتماد عليها في المشيّ كما تستعمل الزّواحف ساقيها الأماميتين، لذلك فإنّ الطّيور ما تزال تتعلّم الطّيران تعلّماً لا طبعاً أو غريزة، كالأسماك مثلاً، ما يدلّ على قرب عهدها بالطّيران، كما أنّ أجنّة الطّيور والزّواحف تتشابه وتتماثل حتّى تفقّس البيض تقريباً، بالإضافة لكون حياة الزّواحف والطّيور الفسيولوجيّة متشابهة لحدّ يمكن أن يقال أنّها حياة واحدة فيما بينهما. وعن الزّواحف، نشأ بالإضافة لفرع الطّيور، فرع آخر هو ذوات الثّدي الّتي تغذّي صغارها بسائل اللّبن، وبالتّالي تسمّى اللّبونات. لقد كانت اللّبونات البدائيّة تضع البيوض كالزّواحف، وعندما يفقس البيض تقوم يإرضاع صغارها، ولا يزال بعض تلك اللّبونات موجود حتّى يومنا هذا، كالصّلول والنّفطير، وكلاهما يعيشان في أستراليا فقط، وهنا يمكننا التّحدث عن الثّديات. ومن الثّدييات نشأت “الكيسيات” أو ذوات الكيس كالكنغر، وقد تفرع عنها شعب متفرقة من الأنواع البيولوجيّة أهمّها من وجهة النّظر البشريّة ما يسمى (الليامير) الّتي منها نشأت السّعادين، ثمّ القردة العليا، فالبشريات الّتي أثبتت شيئاً فشيئاً تفوّقها بسلسلة من الاكتمالات، أبرزها تجميع الخبرة المكتسبة بواسطة الأفراد والمشاركة في المعرفة الّتي مهدت لبزوغ الثّقافة فالحضارة، كما سنرى لاحقاً.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/03/25/%d8%a3%d8%b5%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d8%a9-%d9%88%d8%aa%d8%b7%d9%88%d9%91%d8%b1%d9%87%d8%a7-%d8%ac3/

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك