فصل المقال فيما بين روح الدّين والإيمان الحرّ من انفصال

لحسن أوزين

 

(1)

تمهيد:

إنّ إمكانيّة التّفكير الّتي نحاول اكتشافها في هذه القراءة النّقديّة المزدوجة، ليست بين كتابين أو مفكّرين، بل بين الحقيقة المطلقة الجاهزة والنّهائيّة في سعيها المثالي والكمالي، وبين “السّؤال باعتباره تقوى الفكر”، هو امتحان مدى قدرتنا على التّفكير المؤلم في الاعتراف باقتدارنا الأخلاقيّ والعلميّ المعرفيّ على خوض تجربة سلخ الجلد، وقبول الصّيرورة الدينيّة كورشة تأويليّة، حيث العالم الغيبي” الله” يحضر كفكرة مهدّدة في سيرورتها بالاهتراء والتّرهل، والفناء الأخلاقي. والعمل على إسقاط أقنعة لم تعد قادرة على حمايتنا من النّهر الجارف لسرديتنا المنهكة والمرهقة بأعباء ثقل إحياء فائدتها وهي رميم، تحت وقع ضربات أسئلة الحداثة كتراكم إنساني في المباينة وتوليد الفروق والاختلاف. ” المباينة هي بالضّبط ما يسمح للكائن بأن يبتعد عن ذاته، أو لنقل بالأولى، بألاّ يحضر إلّا مبتعدا عن ذاته”. إنّه لقاء بين فكر تلبس وجه القداسة والخير والكمال والطّهارة في بعدها التّدميري لشروط حياة إنسانيّة تعيش صراعها وأسئلتها وتناقضاتها وظلال عتمتها، إنّه فكر يسيج الفرد أو الذّات في الوجود الضّيق لكينونتها تحت غطاء ادّعاء انفتاحها المزدوج والمتعدّد على عوالم الحياة الّتي يخفيها ضيق العلمانيّة والتّدبير السّياسي للحياة المجتمعيّة والإيكولوجيّة. روح الدّين دعوة إيديولوجيّة لمعاودة إنتاج وتكريس العبوديّة الدينيّة والاسترقاق السّياسي والضّحالة الفكريّة. دعوة تأخذ على عاتقها بجديّة وضع قوانين، على طريقة الشّافعي في الفقه وابن خلدون في التّاريخ…،” ولا يقف الدّين عند التّقنين لجزء معين من أفعال الإنسان ومن الأحداث المرتبطة بوجوده كما لو كان هو الجزء الّذي يعنيه مآله، تاركا للإنسان المجال للتّصرف، على هواه، في باقي الأفعال والأحداث، وإنّما يتعدّى تقنينه هذا الجزء الخاصّ إلى أن يسع كلّ الأفعال وما يتّصل بها من الأحداث، ذلك لأنّ قيام الإنسان بمقتضيات هذا التّقنين الكلّي هو وحده الكفيل بأن يوصله إلى الغاية الّتي خلق من أجلها، وهي كمال التّعبد لله…إذا كان التّعبد لله وحده هو الغاية من خلق الإنسان، لزم أن تهيمن هذه الغاية العظمى على جملة أفعاله، بحيث لا يحصل منه الفعل إلّا وهو يقصد أن يسير به قدما إلى تحقيق هذه الغاية، ولا يقين في قدرة أي فعل على ذلك إلّا إذا جاء على مقتضى الحكم الالهيّ، وكلّ فعل لا يتبيّن فيه صاحبه هذا المقتضى لا يأمن من أن يفضي به إلى التّعبّد للطّاغوت.”1   قوانين نمطيّة صارمة سياسيّة إستبداديّة بمظاهر إيمانيّة تعبديّة للسّطو على إمكانيّة التّفكير وانبثاق السّؤال النّقديّ أفقا للاختيار الحرّ لشكل الوجود ونوع الحياة والإيمان والانتماء…، كما لو أنّها دعوة لتأسيس فرقة دينيّة جديدة لبعث الرّوح في الجثّة الميتافيزيقية الّتي انتهت صلوحيتها. لذلك هي دعوة عدوانيّة في اعتراضها ورفضها المطلق للإنسان في تدبير صراعاته الماديّة عبر الآليّة السّياسيّة، فهي في عمق استراتيجيّة الكتابة الّتي تنهجها والأهداف الّتي تتوخّاها تمارس تمييزا عنصريا حاقدا ممزوجا بالكراهيّة للذّات والآخر كأنا نفسي، وهي دعوة تعلن صراحة عن نفسها كفكر تكفيري رغم تبجّحها بالاتّساع الكاذب، وتعلن أيضا عن أحاديتها الطّهرانيّة الانغلاقيّة في إقصاء التّنوع والتّعدد والاختلاف في الفكر ونمط الوجود وأساليب الحياة، وفي الدّين والإيمان…، وفق ثنائيات: مؤمن/كافر، تعبد لله/تعبد للطاغوت، تبخيسيّة قدحيّة وتكفيريّة، مشحونة بدلالات الكراهيّة والعنف الرّمزيّ والتّمييز الفاشيّ في اعتقاد امتلاك الحقيقة والحقّ والجواب الصّحيح، والخير والكمال والأفضليّة…

وكلّ ما تطرحه من أفكار وهميّة في الاتساع، هي ليست أكثر من اختيار أحادي صراطي بين الإسلام والطّاغوت، تحت شعار من ليس منا فهو عدونا، أو بتعبير أدقّ من ليس مني كبنيّة فكريّة، فهو من عبدة الطّاغوت، والكفر والإلحاد. فكلّ هذه الأوصاف القدحيّة الملعونة بالفطرة والتّشهيد، وكلّ آليات التّنزيل للعالم الغيبيّ في العالم المرئي على حدّ تعبير طه عبد الرّحمن ، تجمعها وتجسدها في نظره العلمانيّة كشر شيطاني طاغوتي يجب سحقه والتّخلص من أسسه الخصبة الّتي تولدها السّياسيّة كأساس تملكي ينتج نزعة التّملك السّلطوي المؤدّي إلى الاستبداد والطّغيان والتّعبد للطّاغوت. مجرّد مبرّرات إيديولوجيّة لا علاقة لها بالفكر والتّفكير، بل تشتغل في أفق إنتاج آليات إيقاف التّفكير وهي تتوهّم نفسها أنّها وحيا منزلا يكفر بالسّياسة باعتبارها جاهليّة مولدة للطّغيان والتّعبد للطّاغوت. إنّه تهجم عدواني للتّأسيس لشرعيّة الحاكميّة والسّلطة الإلهيّة، وهي تؤسّس لقرية روحيّة لأتباعها يسميها “حيزات بلا دولة”، أي لعبيدها على هامش الإنسانيّة. وتكريس الجماعة والفرقة العبوديّة وفق منطق الملّة الّتي لا يزيغ عنها إلاّ هالك، في زمن ما بعد الملّة. والأخطر من ذلك أنّها تسعى للقضاء على إمكانيّة إنسانيّة الإنسان في أن يكون فردا حرّا مستقلّا قادرا على التّفكير والسّؤال والاختيار لنفسه وهويّته وإيمانه…

أمّا بالنّسبة للإيمان الحرّ فهو تدريب أنفسنا على حُرقة الأسئلة والتّفكير المرعب والمؤلم في كلّ ما يشكلّنا من بقايا خرق سرديتنا البالية في الإيمان والكفر والإلحاد. أي عيش تجربة الشّر والنّقص والفقد في كوننا بشر نرغب بالضّرورة التّاريخيّة في التّخلص من أسر الآدميّة الدينيّة لعيش التّجربة الإنسانيّة وفق الشّرط الإنسانيّ وما وصل إليه من تطور حضاري. ومن ثمّة التّموقع في المنطقة المظلمة لحصة الشّر المحتوم دون ادّعاء الطّهرانيّة المتورطة في البحث عن السّمو والكمال وجنّة الخلد، بل جهدا في الفكر والوعي والإيمان بضرورة الهجرة إلى الإنسانيّة بعيدا عن متخيّل ميثاق العهد المحفور في ذاكرة الفطرة والتّشهيد المزعوم، وضدّ القوالب الجاهزة والانتماءات الموروثة للهويّات والانتماءات والسّرديات الّتي فقدت رشاقتها وإفادتها. والإيمان الحرّ يبتعد  في أدواته ومفاهيم أفق تفكيره عن رواسب متخيّل الفكر الهووي ليتجرأ على اعتبار نفسه اختيارا حرّا لإمكانيّة نشأة مستأنفة في المشاركة في النّقاش العالميّ  من زاوية ما يعذبه ويؤرقه ويقضّ مضجعه كأيّ كان في الفهم والفعل، وفي الانتقال من العبد إلى الفرد، وفي القدرة على اختيار نفسه دون التّنكر لمصادر أنفسنا من خلال الكراهيّة والنّقد التّهجمي للتّنوير العدواني في الرّفض المطلق لمصائبنا ومشاكلنا وحرقة أسئلتنا وما تتطلّبه من ضرورات اكتشاف إمكانيات التّفكير وإعمال العقل والتّجرّؤ على الحسم دون تلفيق ولا توفيق. كورشة تأويليّة تهدف إلى تكوين القدرة على الخروج من صندوق القمامة الباعث على الغثيان لاختيار أنفسنا دون السّقوط في الوجه الآخر للفكر الدينيّ المتغطرس سواء في تسامحه الاعتقادي في إطار ما يعرف بحريّة المعتقد وتشكلّ الضّمير الحرّ، أو في عدوانيته كإلحاد يخاصم نفسه بنوع من التّآكلّ الذّاتي دون أن يدرك أنّه ليس أكثر من شكل آخر للإيمان المسدود. وهذا ما يتناقض كلّيا مع الإيمان الحرّ الّذي لا يتورّط في هذه الانغلاقات القاتلة، بمساحيق التّسامح والإلحاد، لقدرات الإنسان في أن يكون ويصير، وفي القدرة على اختيار ذاته والآخر والعالم، كهم إنساني يؤسّس تدريب وجوده على الحريّة المتحرّرة من أسر القوالب الموروثة أو الرّاهنة الّتي لا تكفّ عن ابتزازنا في إيماننا وموتنا وهويّتنا وانتماءاتنا…

الإيمان الحرّ إذن هو القدرة على عيش الفعل الإنجازيّ الخلّاق، دون خوف من ثقافة الخوف والابتزاز والتّملق، وبجرأة لا حدّ لها في التّحرر من السّرديات المتهالكة للدّين والملّة، كواقع محسوم في جده وجديّة أسئلته الّتي تجد أفقها الرّحب والعميق والواسع في الانفتاح على الإنسانيّة، بالضّد من روح الدّين الّذين يبتزّنا  في حقّ عيش لحظة عبورنا هذا العالم الدنيوي بمسرّاته وأحزانه، بخيره وشرّه، بنهاره وليله، بنوره وظلامه، بصراعاته وتناقضاته، يبتزّنا بتملّق يشي بالمذلة والمهانة في موتنا ملتهما حياتنا.

فما الّذي يجعلنا نعتقد في قدرة الإيمان الحرّ أو ما بعد الملّة على مواجهة الأسئلة الصّعبة الّتي تفرض نفسها ولا تقبل التّأجيل في انتزاع حريّة الاختيار والانتماء والإيمان بعيدا عن ثقافة الكهوف المسكونة بالنّكوص المرضي الّذي يقاتل إيديولوجيا فكر روح الدّين لترميم شبكته لمعاودة إنتاج الوصاية الدينيّة، وتكريس سطوة التّاريخ الدينيّ على الفرد خارج أفقه العقليّ والمعرفيّ للحياة الإنسانيّة، من خلال متخيّل ميثاق العهد بين الإنسان والإله الموشوم بالتّشهيد في ذاكرة العدم للفطرة البشريّة، كما يهلوس روح الدّين؟ وكيف يمكننا صياغة وجهة نظر نقديّة ونحن نفكّر الانفصال كما يطرحه التّفكير الفلسفي؟

أوّلا: روح الدّين لطه عبد الرحمن أو التّستّر على صندوق التّوحش

  • من العداء للسّياسة/الإنسان إلى الانتصار للعبد الآدميّ الدينيّ

إذا كان العمل الديني ينبني على الفطرة الّتي تتحدّد بها الرّوح والّتي هي بمنزلة الذّاكرة الغيبيّة للإنسان، فإنّ العمل السّياسي ينبني على النّسبة الّتي تتحدّد بها النّفس.”2

انطلاقا من عنوان الكتاب وعبر صفحاته الّتي تتجاوز الخمسة مائة صفحة ينصب المؤلّف فخاخه ليصطاد المتعبين الّذين أرهقهم عبء المتخيّل الدينيّ التّاريخي الموروث كالشّفرة الوراثيّة من خلال آليّة القصص الدينيّ الأسطوريّ المسيّج بالقداسة الإلهيّة. يوهم قارئه بأنّه المنقذ من الضّلال والتّعبد للطّاغوت المتجسّد في العلمانيّة كنظام سياسي يمثّل سطوة النّفس واستبدادها إلى حدّ الطّغيان المولّد للطّاغوت الممانع والقاهر للرّوح في قمع بروز انطلاقها الرّحب الواسع في عالم الملكوت الغيبيّ منزّلا في العالم الأرضيّ المرئيّ.” باعث الفاعل السّياسي على العمل هو نقيض الباعث الّذي يدعو الفاعل الديني إلى العمل، فهذا باعثه حبّ التّعبد، وذاك باعثه حبّ التّسيّد، وما هذا الفرق التّقابلي بين الباعثين إلّا أاّن الفاعل الديني يستمدّ حبّه للتّعبد من الذّاكرة الفطريّة الّتي أودعت في روحه وهو في عالم الغيب، ملاحظا تنزّل هذا العالم على عالمه المرئي، أمّا الفاعل السّياسي، فإنّه يستمدّ حبّه للتسيّد من نفسه الّتي تكوّنت في عالم الشّهادة، والّتي قد تخالف نوازعها معاني الفطرة، إن نقضا لها أو حرفا عنها، طامعا في تنزّه عالمه المرئيّ.”3 كتاب روح الدّين لا يتستّر في خطابه على عدوانيّة شرسة في حقّ كينونة وصيرورة الإنسان في نشأته وتكوّنه وتطوّره،  في تحوّلاته وثوراته، في الإنطلاق بما يسمح به الفعل الخلاّق المبدع للعقل الإنسانيّ. يجرّد روح الدّين الأفراد والجماعات والمجتمعات من أرضيتها الماديّة الحيّة في صراعاتها السّياسيّة الاجتماعيّة ليحوّلها إلى قطيع من العبيد، أي مجرّد جثث بأقنعة دينيّة فاقدة لقيمتها وحصانتها الإنسانيّة غارقة في عوالم هلاوس العروج والتّرفع عن كلّ أشكال الفعل السّياسي، باعتباره من تسلّط النّفس النّاسبة والنّزاعة نحو تحقيق سيادة الإنسان كشرك طاغوتي يتماهى مع السّيادة الإلهيّة، وفي ذلك منع وقمع لربط الاتّصال بالذّاكرة الفطريّة لانبعاث الرّوح الدينيّة وصحوتها من  سباتها وغفلتها، ثمّ تحرّرها من أسر العالم الأرضيّ الملوّث بجنون السّياسيّة في حبّ المال والتّملك والملك، وفي حبّ الجاه والسّلطة والاستئثار بالحكم القهريّ الطّغيانيّ، إلى درجة تضييق الخناق على عالم الرّوح. كتاب روح الدّين في كراهيته إلى حدّ العدوانيّة الشّرسة للعلمانيّة يكفّر السّياسيّة ويعتبرها رجسا وشرّا من عمل الطّاغوت،” حتّى لو قدرنا أن الفاعل السّياسي هو من الخاصّة المتفانيّة التّي نذرت نفسها لخدمة الصّالح العامّ والدّفاع عن القضايا العادلة، فلا يقين في أنّه يقدر على الوفاء بنذره على الوجه الّذي ينبغي، وذلك لما ذكرناه، من قيام العمل السّياسي على النّسبة النّفسيّة.”4 وبالتّالي فالفاعل السّياسي لا مكان له، ولا مكانة له في عالم روح الدّين وهو ينزل العالم الغيبي في العالم المرئي. وفي هذا الرّفض المطلق للسّياسة والفاعل السّياسي هو في حقيقته الايديولوجيّة السّياسيّة رفض للتّصور العلمانيّ لتدبير الحياة الاجتماعيّة السّياسيّة الاقتصاديّة والثّقافيّة، إنّه رفض للعصر والتّطور الحضاريّ الانسانيّ وما نعيشه في تحدّياته وإكراهاته، في مخاطره وفرصه العظيمة الّتي يمكن أن تشكّل إمكانيّة الحضور والفعل والانخراط في القيم الانسانيّة الّتي تطرح نفسها بشكلّ ملحاح.” الممارسة السّياسيّة الحديثة اضطرت، بعد انفصالها عن الممارسة الدينيّة، إلى أن تتّخذ لنفسها عبادات خاصّة تسدّ مسدّ العبادات الدينيّة، قد يأتي في مقدمة هذه العبادات السّياسيّة ما يمكن أن نسميه بعبادة المواطن إذ رفع المواطن إلى رتبة مثال أعلى يجمع إلى اتّساع الحقوق اتّساعا الفضائل، أي رفعت المواطنة، في نهاية المطاف، إلى رتبة المعنى الغيبي الّذي يستحق أن يتعبّد به وله.”5 هكذا باسم الدّين يتمّ الهجوم على القيمة الإنسانيّة الّتي يصعب أن يرى فيها الإنسان في كلّيته، رافضا الاعتراف بالانسان، أو تمثّل القيم الاجتماعيّة والثّقافيّة الانسانيّة الحديثة في السّمو بالفرد إلى مستوى الإنسان متحرّرا من آدميّة العبوديّة الدينيّة. لكن للأسف روح الدّين ليس مشروعا سياسيا اجتماعيا اقتصاديا، ولا يعدّ عبيده الأتباع بأي مشروع مجتمعي في أفق التّمكن العلميّ والاقتدار العقليّ المعرفيّ والإيمانيّ في حدود العقل الانسانيّ، بل يحرم ويجرم السّياسة، والتّفكير العقليّ الحرّ لغرض في نفس صاحب كتاب روح الدّين وليس في ذاكرته الفطريّة الروحيّة، هو السّطو على العالم الدنيويّ باسم العالم الغيبيّ. ولا يمكنه تحقيق ذلك إلّا من خلال الهجوم العنيف على شكل الحياة الّذي نعيشه وبالتّالي الهجوم على حقّ الانسان في أن يكون حرّا فاعلا صاحب إرادة مستقلّة في اختياراته وتقرير مساراته ومصيره، وفي جرأته في استعمال عقله وجسده وعيش حياته وموته بعيدا عن أيّة وصاية أبويّة وسياسيّة ودينيّة…، وهو بالتّالي يرمي من وراء هذا الهجوم إلى التّنكر للحياة الحديثة كشكلّ علمانيّ بشكلّ أو بآخر  لانتظام الاجتماع الانسانيّ الحداثيّ، فبإلغاء السّياسة لن يكون هناك أي مبرّر للحديث عن فصل الدّين عن السّياسة. مقرف جدّا هذا التّحايل الإيديولوجي السّطحي في إلغاء وتكفير السّياسة باسم الإيديولوجيّة الدينيّة” أضحى أهل الدّين أنفسهم، على غيرتهم وخوفهم على معتقدهم، يسلّمون بصحّة هذا الفصل، فيرون رأي العلمانيين فيه: فلا دولة دينيّة ولا أحزاب دينيّة ولا نقاشات عامّة دينيّة ولا جمعيات دينيّة، ناهيك عن برلمان ديني، فالدّين لا حقّ له في أن يرى، لأنّ السّياسة تستأثر وحدها بهذا الحقّ.”6 فانطلاقا من هذه الأرضيّة يخوض حربه بخلفيات نكوصيّة لسرديّة منهكة بفعل ضربات حركة التّطور التّاريخي في صيرورتها الّتي لا تهدأ في تكذيب الكثير من الحقائق المطلقة النّاجزة والجاهزة كمتخيّل سردي لحدود ومحدوديّة واقع الملّة البائد. أقول يخوض حربه ضدّ العلمانيّة من خلال تكفير السّياسة وجعلها وثنا وشركا وضلالا وطاغوتا…، لأنّها تؤدّي في نظره إلى نسيان الدّين، دون أن ينتبه إلى أنّ الأمر متعلّق بانفتاح الأفق الإنسانيّ على الانتهاك والاختراق لسقف الحدود. منذ البداية تتّضح عند طه عبد الرّحمن معركة الدّفاع عن روح الدّين كغطاء إيديولوجي للسّيطرة والهيمنة السّياسيّة باسم العالم الغيبيّ والحاكميّة والسّلطة الإلهيّة، حيث تنتفي السّلطة السّياسيّة البشريّة بالاجهاز عل كلّ الادوات السّياسيّة: الدولة، المؤسسات الاجتماعيّة والسّياسيّة، الحريات الفرديّة في اختيار الشكل الذّاتيّ والوجدانيّ والإيمانيّ، والتّفكير في الأنا والآخر كمشاريع وجوديّة مستقبليّة رهينة بإرادة وحريّة النّاس في اختيار أنفسهم ونمط حياتهم وفقا لتطلّعاتهم وطموحاتهم ورغباتهم وميولهم…

فخطاب روح الدّين ينتظم نفسه كنظام خطاب سياسي مقنّع بدعوى دينيّة. وككلّ خطاب ديني لحرّاس المتخيّل السّردي يؤسّس مصداقيته وشرعيّة ممارسته في وقوفه النّكوصي على أطلال الملّة والدّين، من خلال الدّفاع عن المعتقد، وهو ينسبه إلى نفسه إلى درجة التّملك ليكتسب جدارة الأسطرة والقداسة الكماليّة والمثاليّة الّتي تخوّله رسم مسارات الأفراد والجماعات كحيّزات مجتمعيّة أقرب إلى عوالم الكيطو، ووصم الاختلاف الديني والمذهبي والفكري بالدونيّة والتّبخيس والكفر والإلحاد لكونهم يتعبّدون للطّاغوت، حتّى ولو كانوا مسلمين في طقوسهم وشعائرهم. ذنبهم الوحيد أنّهم يؤمنون بالنّظام السّياسيّ العلمانيّ الحداثيّ، ويسعون للفعل والإسهام الحضاري في نادي الإنسانيّة، وهم بذلك في انحراف عن الصّراط المستقيم الّذي يحدّده فكر روح الدّين وفق مقولات وقواعد هي أشبه عنده بالمسلّمات الفطريّة الّتي تلقّاها من العالم الغيبيّ، في نوع من التّماهي بكونه وحيا منزّلا، أي مسلّمات تشتغل كقوانين وآليات تكفّر كلّ ما له صلة بالسّياسة، الدّولة، العقل، الفكر، الحريّة، والتّدبير البشريّ في حدود العقل للحياة المجتمعيّة. ينكلّ بكلّ هذا الواقع الحيّ ليخلو المجال للفاعل الدينيّ بشكل أحادي استبدادي طغياني في خنق مستويات الواقع السّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة في دوائر تزداد ضيقا وتضييقا في عالم العروج كآليّة لهدر الإنسان في وجوده وطاقاته، في حريّته وجسده وفكره…،” فوضع الحكم الديني وضع الواجب المثالي الّذي يعيد بناء الواقع القائم على وجه أفضل، وإذا تقرّر هذا ظهر أنّ الحكم الديني يتّسع لما لا يتّسع له هذا الواقع، إذ ينطوي على مكنونات إنشائيّة لا ينطوي عليها، ويفتح فيه آفاقا إصلاحيّة لولاه لكان يضيق عنها، ثمّ إنّه يحمل من قابليّة التّعميم ما يجعله لا يختصّ بمجتمع محدّد، وإنّما يشمل مجتمعات مختلفة، كما أنّه يحمل من قابليّة التّكييف ما يجعله لا يتعلّق بزمن واحد بعينه، وإنّما يستوعب أزمنة متتالية”7. لذلك يروّج لثقافة العبيد والاسترقاق الدينيّ السّياسيّ من خلال هجومه العنيف على الحياة الدنيويّة البشريّة وما وصل إليه الشّرط الإنساني في تطوره الحضاريّ، مطالبا بضرب عرض الحائط بكلّ المفاهيم الانسانيّة الحديثة في التّنظيم والتّفكير السّياسي الاجتماعي البشري، لكونها تتناقض مع العالم الغيبيّ كما هو منزّل عند طه عبد الرحمن على العالم المرئي. إلى جانب رفضه كلّ أشكال الحياة الّتي تعبّر عن فعل وحريّة وطموحات الإنسان في عيش الحياة السّياديّة الحرّة والمتحرّرة من الأحكام الدينيّة والسّياسيّة، أجل عيش الحياة بكلّ تناقضاتها، بما فيها من أفراح وأحزان، ومتعة وصحة ورفاه مشبع بأمل العيش الصّحيّ النّفسيّ والجسديّ والماديّ والرمزيّ الكريم والحياة السّعيدة، الآن هنا، بعيدا عن ثقافة العنف والإرهاب والخوف والابتزاز السّياسيّ والدينيّ والاقتصاديّ…، وفي كلامه وضوح لا يحتاج إلى الكثير من الشّرح والتّأويل:

” السّيادة وقد بلغوا من قوّة التّعلق بها أن نسبوها إلى المؤسّسات والشّعوب والأفراد، وجعلوا طلبها علامة على تحمّل الإنسان أمر تدبير شؤونه بنفسه، مع إيهامه بأنّه قادر على أن يبسط سلطانه على العالم المرئيّ بسط الإله لسلطانه على العالم الغيبيّ، قسمة بينهما، ولما جاوز هذا التّعلق حدّه، واضعا السّيادة في غير موضعها، كان لا بدّ أن تنقلب هذه السّيادة إلى عبادة في غير موضعها، جاعلة الإنسان يتسلّط ويتألّه، متعبّدا لنفسه، فضلا عن تعبيده لغيره.”8

فالكتاب من أوّله إلى آخره يلجأ عمدا إلى هذا التّلازم البنيويّ في الأفكار حين يربط حديثه عن الدنيويّ بالدينيّ، السّيادة البشريّة بالسّيادة الإلهيّة، العالم المرئي بالعالم الغيبيّ، وفي ذلك يبلور نوعا من الاستخلاص المنطقيّ المسيّج إلهيا بطريقة تخفي سطوة الفكر البشريّ في تكريس البضاعة الميتافزيقيّة:” السّيادة عبادة، الإنسان يتألّه، متعبّدا لنفسه وتعبيدا لغيره”9. إلى أن يجزم بأنّ ما يسود هو عبادة للطّاغوت، ومنبع الشّر عنده “نفس الإنسان الّتي تجعله ينسب كلّ شيء إلى ذاته” وتورّطه في الاستبداد والاستعباد والظّلم وانتحال السّيادة الّتي هي ” في الأصل، حقّا غيبيا لا يملكه إلّا الإله الحقّ، جلّ جلا له.”10 ولا مخلّص له من شرور النّفس/السّياسة إلّا من خلال الرّوح الّتي تمكّنه من استعادة ذاكرته الأصليّة الّتي فطر عليها في عالم الغيب قبل أن يولد، باعتماده آليّة العروج في مراتبه المتعدّدة، وهذا ما لا يستطيعه إلّا الفاعل الديني في القضاء على شرّ النّفس/ السّياسة. لهذا لا يستقيم الحديث عن وصل أو فصل الدّين عن السّياسة لأنّها شرّ ينافس السّيادة الإلهيّة، ويفسح المجال لسيادة الطّاغوت، ويفسد غاية الخلق في التّعبد لله. هكذا يورط قارئه في نوع من الشّطح الخيالي الصّوفي ممارسا التّنسيب الّذي يراه شرّا في النّفس المسكونة بهاجس التّملّك والملك وحبّ التّسيّد والقهر، والقامعة لبروز الرّوح، حيث أنّ كتابه في فكره الضّمني والصّريح يحمل دلالات التّنسيب لنفسه كقدرة التّفسير والشّرح وإدراك ورؤية ما يقبع في العالم الغيبيّ، وطرح وتوضيح آليّة التّنزيل، كما لو أنّه عاش تجربة العروج وأحاط بكلّ جوانبها الغيبيّة في البحث عن الكمال الأخلاقيّ. وكلّ هذه الهلوسة الدينيّة لغرض السّطو على معتقد النّاس وحشرهم في الزّاوية الضّيقة للأتّباع والعبيد، حيث يستحيل الحديث عن المؤمن، لأنّ الإيمان لا يمكن أن يكون جماعيا، فهو  إمّا أن يكون فرديا أو لا يكون. لذلك هناك فرق بين الأتباع والمؤمن الّذي لا يكون في حاجة إلى جدليّة الشّيخ والمريد. ولا تفلح إستراتيجيّة الكتابة في كتاب روح الدّين في إخفاء تحايلها الإيديولوجي، أي بناء الأرضيّة الشّرعيّة الدينيّة للهجوم من جهة على الفاعل السّياسيّ بشكل عامّ، والوصم السّيء للسّياسة باعتبارها شرّا من عمل النّفس الأمّارة بالسّوء والكفر والتّعادي والطّغيان،” إنّ التّنازع السّياسي ليس له مجال خاصّ يستقلّ به، حتّى إذا خرج عنه لا يعدّ سياسيا، بل كلّ مجال، إقتصاديا كان أو ثقافيا أو دينيا أو أخلاقيا، يمكن أن يتحوّل التّنازع فيه إلى تنازع سياسي مهما أصبح ينزل رتبة التّعادي، فحيثما وجد التّعادي، فثمّة سياسة، وفائدة هذه النّتيجة أنّها تشكّك في بداهة التّصور السّائد الّذي يخصّ السّياسة بمجال تدبير الشّأن العامّ.”11

ومن جهة أخرى إفساح المجال للفاعل الدينيّ وحده للسّيطرة والهيمنة على شؤون الأفراد والجماعات والمجتمع، من خلال ما يسمّيه آليّة التّشهيد لتنزيل السّلطة الإلهيّة في العالم الدنيويّ بفضل النّشاط الدينيّ التّعبديّ، بعيدا عن النّشاط السّياديّ العلمانيّ. هكذا يريد أن تنتصر المفاعيل السّرديّة للمتخيّل الدينيّ في هدر القيمة الإنسانيّة في الكينونة والصّيرورة، والزّج بالإنسان في قوقعة ميثاق العهد الآدميّ بين العبد والله، بين العبد والسّيد، بين المريد والشّيخ، بين القطيع والرّاعي…، هكذا يرسم سعة الإئتمانيّة المخلصة من ضيق العلمانيّة.

وكما قلنا سابقا صاحب روح الدّين يصفّي حسابه مع السّياسة حتّى لا يستقيم أي فكر ولا أي حديث يتعلّق بانتظام خطاب سياسي حول ضرورة فصل الدّين عن السّياسة في الدّولة وأدواتها السّياسيّة والإيديولوجيّة، وهو في ذلك يستهدف حريّة وقيمة وحصانة الإنسان في عيش إنسانيته بعيدا عن أسره في آدميته الدينيّة الّتي لم تعد قادرة على أن تكون مطيّة في واقعه الحيّ الرّاهن، فكيف لها أن تكون وسيلة للعروج بحثا عن كمالات العالم الغيبيّ، كما يزعم روح الدّين، وهي تغيّبه كفرد لتكرّس استرقاقه كعبد؟ وبعبارة واحدة لم يعد بإمكان آدميته الدينيّة لميثاق العهد المتوهّم في بحر العدم الغيبيّ أن تفيده في أي شيء يخصّ معطيات حياته الرّاهنة، وما تطرحه من مشكلات وتحدّيات ومخاطر وفرص في إمكانيّة نشأة مستأنفة للانطلاق الحرّ والعقلانيّ لحريّته وانفتاح طاقاته بما يجعله مؤهّلا للانخراط والإسهام في العطاء الفكريّ والفلسفيّ والثّقافيّ الانسانيّ، بما يتجاوز عتباتنا المقدّسة في الدّين والهويّة والملّة وذاكرة متخل الماضي الأسطوري. وهذا العطاء يتطلّب فردا حرّا لا عبدا تابعا.” الفاعل الّذي يشهد أنّ الإله واحد لا شريك له ملزما بأن يتعبّد له بما أناطه به من التّكاليف، وما افترض عليه من الأعمال، أمّا إذا اشتغل بعبادته على مقتضى تكاليف وأعمال يضعها من عنده، فإنّه يجعل من نفسه إلها مثله، بل أدهى من ذلك، يجعل نفسه أحقّ بالألوهيّة منه، مادام قد استقلّ بالتّشريع من دونه، ومن يشرع لنفسه، مستغنيا عن ربّه، لا يعبد إلّا نفسه.”12 هكذا يضيّق صاحب روح الدّين الخناق على القارئ فيحوّله إلى مجرّد آلة عمياء لا تقوى على انتزاع حريّتها وتقرير مصيرها كأي كان في هذا الوجود البشريّ المحكوم بالصّيرورة باستمرار، حيث كلّ شيء ورشة تأويليّة، لا تعترف بالحقائق النّاجزة والجاهزة والنّهائيّة، والمعنيّة بالسّير قدما في ظلمة الفكر الظّلاميّ بمختلف خلفياته الدينيّة والعلمانيّة. والأكثر من ذلك أنّ صاحبنا لا يقبل بغير طريق العروج، ومن ينحرف عنها فهو عنده متعبّد للطّاغوت، ومن ثمّة تسقط كلّ أفكاره الزّائفة حول حريّة التّدين والمعتقد والاحترام الدينيّ والتّساوي في المعاملة، ليتأكّد استعلاؤه الديني في تفاضل الأديان نوعا وطورا…ثمّ يحكم طوقه على القارئ حين يقول” أحكام الدّين تتعلّق بأفعال الإنسان كلّها وبكلّ الوقائع الّتي لها صلة بهذه الأفعال”71. سالبا من الإنسان شرطه التّاريخي في أن يولد حرّا ويعيش حرّا وفق قدراته وإمكاناته واختياراته المعرفيّة والعقليّة والعلميّة…، إلاّ أنّ روح الدّين في عروجه الغيبيّ عند طه عبد الرّحمن لا يرى في الإنسان سوى مشروع عبد آدمي مهدّد، في أيّة لحظة في جرأة ممارسة عدم قصوره العقليّ، بالتّعدي على حدود حرّاس العقيدة والملّة، وبالتّالي فهو متّهم إلى أن تثبت براءته في عدم وقوعه في سياسة التّعبد للطّاغوت.” إنّ الاجتزاء ببعض الأحكام الدينيّة يوقع صاحبه في التّعبد للطّاغوت، ذلك أنّ هذا الاجتزاء يكون مبنيا على التّحكم والتّشهي مهما ادّعى صاحبه من معقوليّة أو موضوعيّة أو واقعيّة فيما أورده من الاعتبارات المصلحيّة والمسوغات الظرفيّة، فيلزم أن يكون، في هذا الاجتزاء المتشهي، متّبعا لهواه، جاعلا منه إلها يتعبّد له طواعيّة من دون الإله الحقّ، وهو وحده الّذي أحاط بكلّ شيء علما ووضع لكلّ شيء حكما”14.

********

الهوامش:

يتعلّق الأمر هنا:

بكتاب فتحي المسكيني: الإيمان الحرّ أو ما بعد الملّة، ط1، 2018، مؤمنون بلا حدود.

وكتاب طه عبد الرّحمن: روح الدّين، ط4 ،2017، المركزالثّقافي العربي.

  1. روح الدين، ص80.
  2. ص92.
  3. ص94.
  4. ص102و103.
  5. ص 103.
  6. ص23.
  7. ص 82.
  8. ص 25.
  9. ص26.
  10. ص 25.
  11. ص 141.
  12. ص55.
  13. ص 71.
  14. ص 74.
  15. المصدر: https://www.alawan.org/2020/03/24/%d9%81%d8%b5%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%84-%d9%81%d9%8a%d9%85%d8%a7-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%b1%d9%88%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%91%d9%8a%d9%86-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%8a%d9%85%d8%a7/
  16. (2)
  17. 2- روح الدّين أو التّفكيك الذّاتي للدّولة وتطييف المجتمع

    بعد هجومه على السّياسة بكونها من النّفس الأمّارة بالتّسيّد الذّاتيّ الدّاخليّ المستقلّ عن التّسيّد الدّينيّ الخارجيّ، ورفضه للسّيادة البشريّة السّياسيّة في وضع القوانين وتدبير حياتهم الاجتماعيّة والسّياسيّة، بما يعبّر عن خروجهم من مرحلة القصور العقلي واستقلالهم كمواطنين يسهمون في بناء الحداثة السّياسيّة وهم يتحرّرون من تسيّد المؤسّسات الدّينيّة، ولا رجال دين يتسيدون عليهم، فإنّه لا يرى في تطور حياة الإنسان في فكره وطموحاته وانطلاق طاقاته الابداعيّة الخلاّقة في الاختيار والحريّة والتّدبير…، وما وصل إليه الوجود الانساني الحضاري من تطوّر إلاّ تعبّدا للطّاغوت، ومشوّها للسّياسة والعلمانيّة والحداثة السّياسيّة، وكلّ المؤسّسات المرتبطة بها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وقانونيا وثقافيا. فهو في حرب جهنميّة ضدّ الحداثة السّياسيّة والتّطور الانسانيّ الحضاريّ مورّطا قارئه في الاختيار بين  الانحياز إلى الله، أو إلى الطّاغوت. مشوها الرّغبة العارمة لجدارة الانسان في عيش فعله التّاريخيّ في أن يكون سعيدا حرّا طليقا من الصّمائم النّفسيّة الأوليّة لثقافة النّكوص، متخطّيا حدوده الموروثة في الدّين والإيمان والثّقافة والسّياسة والانتماء والهويّة…، ما أمكنه ذلك في صيرورة لا تهدأ، وفي حياة تتغيّر باستمرار.” ويتمثّل غلوّ العلمانيين في تصوّرهم لقدرات الإنسان في كونهم يظنّون أنّ في طاقات الانسان أن يملك نفسه، نفعا وضرّا، إذ لا يخفى عليه شيء من أمره، مراقبا نفسه، بل إنّه يملك مراقبة الآخرين في أفقه ومراقبة العالم من حوله، مستغنيا بحوله وطوله عن تدخّل أيّ إله في شأنه، وجعل بعضهم مهمّته قائمة في أن يزحزح الحدود الّتي تحصر وجوده، بل أن يتجاوزها، وتطلّع آخرون إلى أن يكون العقل بلا حدود، أو تكون الحقوق بلا حدود، أو تكون السّياسة بلا حدود، أو يكون الاقتصاد بلا حدود…والحقّ أنّه لا يضاهي مزعوم معرفتهم بمقدرة الإنسان إلّا ثبوت فاحش جهلهم بحقيقة الإله، فلولا أنّهم بلغوا النّهاية في الجهل بالألوهيّة، لما زعموا ما زعموا للإنسانيّة من سلطان مبين.”15  هكذا يقدّم التّطور الحضاري الانساني كمعركة بين الإنسان والإله، وهو يتستّر إيديولوجيا على أنّ ما يطرحه من أفكار ليست أكثر من تأويل لورشة بشريّة لها ما لها وعليها ما عليها، حسب سياقها التّاريخ الاجتماعيّ خاضعة للتّعديل والحذف والنّسخ والإضافة في سيرورة تكوّنها وتطوّرها التّاريخي كمدوّنات دينيّة بشريّة تلبّست رداء القداسة، وهذا ما يقوم به حين يقول بعظمة لسانه”ولما كانت نظريتنا تنبني، أساسا، على تصوّر موسّع للوجود الانسانيّ، لزم أن ينطلق تقويمنا للعلمانيّة من هذا التّصور نفسه”16 وهو في هذا الكلام يعصم نفسه من شرّ التّنسيب الّذي تنجزه النّفس/الأنا على حدّ تعبيره لأنّه ربّما قد حصّل بالعمل التّزكوي في مراتب الكمال ما يمكّنه من تخطي الحدود الّتي يضعها للآخرين.” فقد تقدّم أنّ الأصل في التّسييد هو وجود النّسبة الذّاتيّة، فبقدر ما تنسب النّفس إلى الذّات من الاشياء، يكون لها من التّسيد عليها، فلا تسيد بغير نسبة نفسيّة، وحتّى يلزم تسيّد الذّات من وضعها لقانونها، يجب على كلّ من وضع قانونا أن ينسبه لنفسه، ولا يصحّ هذا إلاّ في حالة التّسليم بأنّ الإنسان خالق لأفعاله…ولا شكّ أنّ العلمانيين لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا بخلق الإنسان لأفعاله.”17 . ويتفادى هذا المأزق الّذي يضع فيه نفسه حين يقوم بتسييج إلهيا نظريّته في روح الدّين كما لو أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة في تصنيف النّاس ووصمهم بالكفر وعبادة الطّاغوت كلّما اختاروا أنفسهم خارج الحدود الّتي وضعها الفكر البشري المتستّر بحدود الدّين والإرادة والسّلطة الإلهيّة.

    بناء على هذا الرّفض المطلق للعصر وما وصل إليه التّطور البشري على مستوى الحداثة السّياسيّة ينتقل للهجوم على الدّولة الحديثة من زاوية المعتقد، ” للدّولة معتقدها وقناعتها الخاصّين، بدءا بالمعتقد العلمانيّ، وانتهاء بالقناعة السّياسيّة.”18وبالتّالي حسب ما أشرنا إليه سابقا فإنّ من طبيعة هذه الدّولة الحديثة في نظره أن تكون مجرّد كفر يتعبّد للطّاغوت. فيقدّم للقارئ صورة مشوهة حول الدّولة الحديثة والعلمانيّة، مضيّقا الوجود في زاوية منطق: إمّا مؤمن أو كافر، التّعبد لله أو التّعبد للطّاغوت.” المعتقد العلماني معتقد تدبيري يتعبّد به لذات غير ذات الله، ولما كان لا يعبد من دون الله إلاّ الطّاغوت، وجب أن يكون صاحب هذا المعتقد، وقد طغى واستغنى، متعبّدا للطّاغوت.”19 وهو في هذا لا يرى أنّه يضيق فسحة الوجود على المواطن، الّذي لا يريد أن يبقى عبدا تحت عباءة عبء وطأة حراس الحدود الدّينيّة للسّلطة الإلهيّة، السّياسيّة في حقيقتها البشريّة، وهي لا تكفّ عن التهام حياة النّاس بنوع من التّعالي الأقرب إلى مذبح القربان في الإجهاز على إمكانيّة امتلاك قيمة وجدارة الإنسان في أن يكون ويصير إنسانا لا أقلّ أو أكثر.

    وفي سياقه سطوه على التّاريخ الدّينيّ يلجأ إلى الانتقاد حين لا يقوى على النّقد مبيّنا ما يعتبره تدخّل الدّولة العلمانيّة  في معتقدات المواطنين، وهو يكرّر التّفاهة الإعلاميّة المرتبطة “بالقوانين الفرنسيّة المتعلّقة بمنع ارتداء الحجاب في المؤسّسات التّعليميّة والأمكنة العموميّة”20 والغريب في الأمر أنّه يدافع عمّا يعتبره حقوق المواطنين في حريّة المعتقد بلغة وفكر ومفاهيم ومبادئ لا يؤمن بها، ولا يمكن لخلفيته الدّينيّة الإيديولوجيّة أن تتّسع لمفهوم الإنسان كما بلورته الثّقافة الحديثة، في أبعاده المتعدّدة: القانونيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاعتقاديّة…، حيث فكّر طه عبد الرّحمن ولغته ومصطلحاته لا تتّسع إلّا للأوامر والنّواهي،  للرّاعي والرّعيّة، للسّيد والعبد، للشّيخ والمريد، للقبور والأضرحة والأولياء الصّالحين، للمسلم والذّميّ…

    هكذا يبحث عن مبرّرات واهية لتشويه مفهوم الدّولة الحديثة، انطلاقا من عدائه للعلمانيّة الّتي يعتبرها شرّا على الدّولة والأفراد لأنّها في نظره تؤدّي بالمسؤولين المتدينين إلى الانحراف عن دينهم. مع العلم أنّه يختار لمعجمه اللّغويّ كلمات بعينها كاتّهام ذكي للعلمانيّة بالكفر والشّرك. ” فمن أشرك بتديّنه علمنة، لا محالة أخذته العلمنة عن نفسه“21 ففعل أشرك هنا حامل لشحنة رمزيّة إيحائيّة ودلاليّة وتداوليّة تستهدف السّياق النّفسي الثّقافي الدّيني للقارئ حتّى يعتقد بأنّ العلمانيّة شرك بالمعنى الدّيني البسيط مسبّبا صاحب كتاب روح الدّين تضييقا على الوجود الانسانيّ، دون أن يقوى حتّى على مناقشة مفهوم الشّرك فلسفيا أو سياسيا أو اجتماعيا…

    والأكثر من هذا أنّ طه عبد الرّحمن له موقف سلبي من القيم الاجتماعيّة والثّقافيّة والفلسفيّة الانسانيّة الّتي ظهرت مع بروز عصر الدّولة العلمانيّة الحديثة، الّتي يعتبرها شرّا على الفاعل الدّينيّ الّذي تعرّت أسطرة وقداسة ملّته، أو مرجعيّة جماعته الدّينيّة كفكر بشري تاريخي له شروطه التّاريخيّة الاجتماعيّة والثّقافيّة، وله ظروفه وسياقاته السّياسيّة الاجتماعيّة، وشرطه الحضاري كسقف يحتوي الإطار المعرفي الّذي تكوّنت وتطوّرت فيه المدونات الدّينيّة، كورشات تأويليّة محكومة بالتّركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ والبنى الصّراعيّة للتّناقضات المجتمعيّة. وفي هذه السّياقات المعقّدة والشّديدة التّرابط والتّركيب كان عليه أن يفهم الضّرورة التّاريخيّة لتخطّي الحدود الدّينيّة واحتجاب الأشكال الفكريّة والسّياسيّة والاعتقاديّة للمقدّس، بدل ركوب صهوة النّكوص المرضي، في محاولته تجاوز الواقع بالأوهام.” الحقبة الحديثة الّتي تشهد ازدهار الحداثة وانتشار العلمانيّة…هذه الفترة تميّزت، في بلدان الغرب، بالأفول التّدريجيّ للدّين، بدءا بمؤسّساته التّاريخيّة وانتهاء بمعتقداته الرّوحيّة، وقد عملت قوى العلمانيّة على تسريع وتيرة هذا الأفول، سواء بمحاربة هذه المؤسّسات والمعتقدات أو بإنهاض همّة المواطنين إلى التّمسك بقيم الحريّة والتّسامح والمساواة وطلب أسباب العلم والتّقدم.”22 هكذا يحمل الدّولة العلمانيّة مسؤوليّة هذه الصّيرورة والتّحولات العميقة الّتي مسّت حياة الإنسان والمجتمعات، دون أن يكلّف نفسه فهم حدود ومحدوديّة الاعتماد على الفكر الدّينيّ في استيعاب الصّدمات والرّضّات الّتي تعيشها المجتمعات في حركة تطوّرها التّاريخي. لهذا نجد صاحب روح الدّين يحنّ إلى عصور المتخيّل التّاريخيّ للعبوديّة الدّينيّة والاسترقاق السّياسيّ الاجتماعيّ، بغطاء شرعي للقداسة الدّينيّة. لذلك هو مصرفي تحليله الضّيق والسّطحي للسيرورة التّاريخيّة للمجتمعات، على الهجوم على الدّولة الحديثة الّتي يعتبرها دينا سياسيا ومدنيا أخذت مسحة القداسة وحلّت مكان المقدّس الدّينيّ. ويضيّق رؤية الوجود الانسانيّ حين يربط الفكر والأفكار والقيم الفلسفيّة والعلميّة والثّقافيّة والاجتماعيّة الّتي أنتجت الدّولة الحديثة بحفنة أو طبقة حاكمة. يفعل ذلك بتحايل إيديولوجي ليوهم قارئه بطاغوت الدّولة الحديثة ونظامها السّياسي حتّى ولو كان ديمقراطيا. بهذا التّغابي والخداع الفكري يواصل تضييق العقل والفكر والوجود الانسانيّ وهو يختزله في معادلة الدّولة والقيم الانسانيّة بالطّاغوت. ” إنّ الكيان السّياسي الّذي يقع عليه التّقديس في هذا الدّين الدّهري ليس الشّعب في كلّيته، ولا الإرادة العامّة الّتي تعبّر عنه، وإنّما هو فئة قليلة من أفراد الشّعب وجملة الأفكار المثلى الّتي تخدم أغراضها…تتكوّن الأفكار المثلى لهذه الفئة من قيم دنيويّة صريحة يراد لها، هي الأخرى، أن تضاهي المعاني الرّوحيّة الغيبيّة، شحذا للذّهن وإنهاضا للعمل، بل أن تحلّ محلّها في العقول والقلوب نحو الانسانيّة والتّاريخ والثّورة والمستقبل والوطن والشّعب والدّولة والطّبقة والعرق.”23

    وصاحبنا له موقف الرّفض والعداء الصّريح للسّياسة والسّياسي وللعلمانيّة والدّولة الحديثة وكلّ القيم الانسانيّة الّتي أنتجتها البشريّة في سياق تطوّرها الحضاري، حيث لا شيء عنده يعلو على لغة وأوامر ونواهي الشّريعة والشّعائر والطّقوس…، الرّاعي والرّعيّة، السّيد والعبد، الشّريعة والتّوحد الصّوفي… هذا هو عالم سعة الائتمانيّة الّذي يعترض به على ما يسمّيه ضيق العلمانيّة وفق منطق العنف الرّمزي: (إمّا أو)، مؤمن/كافر، فاعل ديني/ فاعل سياسي…نوع من التّعادي والكراهيّة وزرع الضّغينة في جوف الانسان وتحويله إلى مجرّد مشروع موت يبتزّه الفاعل الدّيني باستمرار تحت وطأة عنف ألم رهيب مولّد لعذاب لا ينتهي في طلب الموت والخلاص.” لا خيار ثالث للإنسان، إمّا أن يتعبّد لله أو يتعبّد للطّاغوت، فإنّ التّعبد لأيّ نظام سياسي، أو قل لأيّ نظام تسيدي، إنّما هو تعبّد للطّاغوت، وتفاوت أنظمة الحكم فيما بينها من حيث مراتبها في الإحاطة أو الشّموليّة لا يؤثّر في هذا التّعبد الظّاهر، لأنّ من تعبّد للطّاغوت قليلا كمن تعبّد له كثيرا، فالطّاغوت الأدنى كالطّاغوت الأعلى، بل إنّ اجتهاد بعض هذه الأنظمة في أن تحدّ من نزوعها الإحاطي أو الشّمولي لا يخرج الخاضعين لها مطلقا من هذا التّعبد للطّاغوت، حتّى كأنّ التّسيد المعهود والتّعبد للطّاغوت صنوان لا يفترقان.”24

    فربطه للتّسيد والطّاغوت بالسّياسة سهل عليه مهمّة الهجوم على القيم المرتبطة بالدّولة الحديثة معتبرا إيّاها أسسا ماديّة للتّعبد للطّاغوت: سيادة الدّولة، سيادة الشّعب، الفرد…، موضّحا موقفه الرّافض لأيّ تسيّد سواء من قبل الدّولة، الشّعب، الفرد. ” التّسيد من حيث هو كذلك، أي بصرف النّظر عن نسبته إلى الدّولة أو الفرد، لا يوجد إلّا مع وجود ميول إلى الاستعباد، ولا خلاف في أنّه لا ظلم للإنسان أعظم من الاستعباد.”25 يقول هذا دون أن يرى دوره النّكوصي الفكري والسّياسي وهو يسهم في تكريس ثقافة الخوف والحدود العبوديّة، للوصاية على العقل والحريّة والاختيار الإنساني في مواصلة سيرورة الاستيعاب والتّجاوز الّذي يعني تفعيل وإنجاز فرضيّة قتل الأب، عوض مشروع الفاعل الدّينيّ في تكريس التّاريخ الآسن لقتل الأبناء وابتزازهم في موتهم.

    يطرح الكثير من الأفكار بنوع من التّحليل الخجول والمبتسر والمزوّر للفكر السّياسيّ الحديث عند الفلاسفة والمفكّرين من جان بودوان وكارل شميت وجان جاك روسو…، يضع كلّ هذا على سرير بروكست، تبعا للأهداف الّتي تتوخّاها استراتيجيّة الكتابة في طرح ما يسمّيه نظريته في رسم طرق الخروج من التّسيّد. فعداؤه للسّياسة والدّولة العلمانيّة الحديثة دفعه إلى ربط التّلازم بين التّسيد والتّسيس، حتّى يقنع قارئه بضرورة التّخلص من الفاعل السّياسيّ والدّولة العلمانيّة، ليفسح المجال الشّرعي الدّيني للفاعل الدّينيّ وحاكميّة الخلافة في السّطو على السّلطة واستعباد وقهر النّاس في موتهم، مقابل فوزهم بحياة النّعيم. “التّسيس والتّسيّد فعلان متلازمان، فلا تسيّد بغير تسّيس، ولا تسّيس بغير تسيّد، فيلزم أنّ الخروج من أحدهما هو الخروج من الآخر، وأنّ نهايته هي نهايته.”26 ولا فرق عنده في هذا بين النّظام الاستبداديّ أو الفاشيّ أو النّظام الدّيمقراطيّ، فكلّها أنظمة عاجزة عن ذلك. الشّيء الّذي يفرض ضرورة الخروج من السّياسة والدّولة العلمانيّة إلى الديانيّة، من خلال العمل التّزكويّ الّذي يعتمد القواعد والسّلوكات والأخلاق الصّوفيّة في الجهاد والمجاهدة لقهر النّفس وبعث الرّوح من مرقدها بواسطة آليّة العروج في مراتب الكمال، بعيدا عن شرّ النّفس والتّسيّد والسّياسة والدّولة العلمانيّة الحديثة وكلّ القيم الانسانيّة، والتّحصّن في كهوف الماضي للاستعباد الدّينيّ تحت ظلّ السّلطة الإلهيّة الّتي تحمينا من شرّ التّدبير البشريّ والانتظام الاجتماعيّ الانسانيّ. بمعنى هجر السّياسة وتفكيك الدّولة العلمانيّة الحديثة، والقيم المرتبطة بها كالسّيادة للشّعب والحريّة، وولادة الفرد…

    ” العمل التّزكوي أصله هو الخروج من النّفس، استرجاعا للرّوح الّتي في العالم الغيبيّ، وعلامة هذا الاسترجاع مشاهدة آثار هذه الكمالات والصّفات القدسيّة في العالم المرئيّ…وواضح أنّه لا أوسع ولا أحسن من تدبير يجمع بين الظّاهر والباطن، وخاصيّة التّثوير تجعله يستبدل بالتّسيّد ضدّه أي التّعبد، وبالتّدبير السّياسيّ ضدّه، أي التّدبير الدّيني.”27ومن ثمّة يعود إلى تبرير سطوة المتخيّل الدّينيّ في وجهه الصّوفيّ شاهرا لغة الحدود في وجه انفتاح واتّساع الوجود الانسانيّ باسم السّيادة الإلهيّة، بنوع من التّحايل الإيديولوجيّ المقرف في دعوته إلى التّستر على تمركز وانتشار بؤر وتيّارات الحاكميّة للفاعل الدّينيّ تحت رداء حدود الله الّتي في حقيقتها السّياسيّة والفكريّة ليست إلّا ورشة تأويليّة بشريّة في الهروب إلى الأمام بطريقة الانحدار في الزّمان كنكوص مرضي في الانكفاء على الذّات.” ومحال أن تكون حدود الله ومحارمه المبيّنة لعباده، وقد قدّرها وقضى بها بوصفه الواسع الموسّع، قيودا توثّق آفاق وجودهم ومغاليق توصد أبواب عالمهم، وإنّما، على العكس من ذلك، جعلها لهم أقوى الأسباب الّتي تبلغهم إلى تخليص أنفسهم من أشر أنفسهم، فضلا عن تخليصهم من أسر غيرهم.”28

    مبيّنا أنّ العمل التّزكوي الّذي يفتح آفاقا متمايزة بسخريّة لاذعة في مراتب الإيمان هو الوسيلة الفضلى للخروج من السّياسة والدّولة العلمانيّة، ولا يجد حرجا في التّجرؤ على اعتقادات النّاس، ونعت إيمانهم بأقبح النّعوت، مميّزا بعنف رمزي ساخر بين الأتّباع الّذين يسمّيهم بالمؤمنين” ولا يزال المؤمن يتزكّى، حتّى تفصله عن أهل الاعتقاد السّاذج مراتب تكاد لا تطوى لهم، فلا يقدرون على توهّم إيمانه، فضلا عن تقبّله، فينكرون حاله ويزرون عليه عمله.”29بهذا الشّطح الفكري الأقرب إلى الهلوسة يطرح نظريته للفاعل الدّينيّ لقلب السّياسة والدّولة العلمانيّة، عن طريق ما يسمّيه الازعاج للدّولة وللآخرين لدفعهم لما فيه الخير، أي من التّعبد للطّاغوت والتّسيد إلى التّعبد لله، ممّا يؤدّي في نظره إلى خلق ما يسمّيه” الحيزات بلا دولة، وهي عبارة عن فجوات أو بالأحرى، فسحات تكسير التّدبير المحيط للدّولة، إذ ينتظم الأفراد في هذه المتّسعات المجتمعيّة.” 30.

    فعداؤه للسّياسة وبالضّبط للدّولة العلمانيّة الدّيمقراطيّة الحديثة يدفع به إلى التّنظير لكيفيّة تفكيك الدّولة، ومعاودة إنتاج طائفيّة سياسيّة جديدة بغطاء ديني ينشر الإزعاج الأقرب إلى الإرهاب في التّحريم الدّينيّ والتّجريم السّياسيّ. وبهذا المعنى يكون روح الدّين أو جوهر الدّين أو صميم الدّين…، نوعا من التّحايل الإيديولوجي عند الفاعل الدّينيّ  في التّعبير عن نكوصه المرضي إلى عوالم القهر والاستبداد والاستعباد، أو نوعا من التّهور المحتشم الّذي تنقصه الجرأة الفكريّة الفلسفيّة في ممارسة تقوى الفكر حيث النّقد الواضح روح السّؤال.

    *****

    الهوامش:

    يتعلّق الأمر هنا:

    بكتاب فتحي المسكيني: الإيمان الحرّ أو ما بعد الملّة، ط1، 2018، مؤمنون بلا حدود.

    وكتاب طه عبد الرّحمن: روح الدّين، ط4 ،2017، المركزالثّقافي العربي.

    15- ص 196.

    16- ص 182.

    17- ص 191.

    18- ص 208.

    19- ص 209.

    20- ص 210.

    21- ص 212.

    22- ص 227.

    23- ص 213و232.

    24- ص 237.

    25- ص 252.

    26- ص 254.

    27- ص 269.

    28- ص 273.

    29- ص 288.

    30- ص 306.

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك