المسألة القرآنيّة
علي الشدوي
1
يشكّل التّحقيق بشأن نسخة القرآن الأولى موضوع علوم القرآن، وهو مبحث أساسي في علوم الدّين الإسلامي قديما وحديثا. وتصفّح فهرس كتابي الإتقان في علوم القرآن للسّيوطي أو البرهان في علوم القرآن للزركشي يبيّن إلى أي حدّ هي مهمّة مسألة النّسخة الأولى للقرآن.
متى ظهرت نسخة القرآن الأولى؟ وأين ظهرت؟ ولماذا؟ وعلى يد مَن؟ هل هناك ضرورة لمصحف موحّد بدلا من مصاحف متعدّدة؟ وإذا كان التّوحيد مهمّا من أجل وحدة المسلمين فمن يحقّ له حذف أو إضافة أو حرق نصوص القرآن المختلفة؟ هذه الأسئلة المضمرة تجعل من علوم القرآن أجوبة عن تساؤلات المسلمين القدماء الفعّالة والواعية عن كتابهم المقدّس.
لا شيء مؤكّد في إجاباتهم، ومع ذلك هناك إجحاف فيما لو أنكرنا الرّوايات الّتي تتضمّنها علوم القرآن. نحن نؤمن أنّ في تلك الرّوايات مظاهر لتاريخ حقيقي للقرآن، وأنّنا يمكن أن نصوغ استنادا إليها بعض الفرضيات. لن ندعي بأنّنا سنصل إلى حقائق تاريخيّة؛ إنّما أن نظهر الأهميّة في أن نوجّه الرّوايات عن جمع القرآن وتدوينه توجها مختلفا؛ فنحن لا نرى نسخة القرآن الأولى بالصّورة الّتي رآها الزّركشي أو السّيوطي إنّما نراها على نحو مختلف بسبب الزّركشي والسّيوطي، لاسيّما موقع الله من النّسخة الأولى وموقع محمّد. إنّ إجابة الزّركشي والسّيوطي عن هذا الموقع واحدة وهي تعدنا بما يفوق قدرتها على أن تساعدنا على أن نصل إلى الحقيقة.
لن نرفض إجابة الزّركشي والسّيوطي، وسنتبنّاها إلى حين؛ لأنّنا يمكن أن نبني عليها قضيّة هي ما إذا العمليات الّتي تعرّضت لها نسخة القرآن الأولى الّتي كرّس السّيوطي والزّركشي كتابيهما لها قادرة على تبرير إجابتهما أم أنّ هناك وجها آخر يمكن أن يظهر ويدحض إجابتهم.
2
سنبدأ التّحليل بأصل نسختنا الحديثة من القرآن. في الواقع بإمكاننا أن نتحدّث تاريخيا عن أصول وليس عن أصل؛ هناك أوّلا ما سنسمّيه ” الأمّهات القديمة” وهي الآيات المكتوبة في العُسُب واللّخاف والألواح في عهد محمّد. هناك ثانيا النّسخة ” الأمّ” الّتي كُتبت في عهد أبي بكر وسُمّيت “مصحف حفصة”. وأخيرا هناك النّسخة “الدّستور” الّتي كُتبت في عهد عثمان بن عفان.
فيما يتعلّق بالأمّهات القديمة نحن لا نعرف شيئا عنها؛ ما نعرفه هو أنّ محمّدا وقبل أن يملي الآية على الكتاب يقول ” ضعوا هذه الآيات في السّورة الّتي يذكر فيها كذا وكذا[1]” وهذا يعني أنّ مفهوم النّص المكتوب حاضر في ذهن محمّد. وكما هو الحال في تلك المرحلة التّاريخيّة دُوّنت الآيات في العظام والعُسب (جريد النّخل) والألواح وغيرها من المواد المستخدمة أوعية للكتابة.
تعطينا الحكاية التّالية فكرة عمّا بدت عليه بعض أمّهات القرآن المدوّنة، والعمليات الّتي خضعت لها[2]. أرسل عثمان صحابيا بكتف شاة إلى أُبي بن كعب فيها (لم يتسن) و (أمهل الكافرين) و (لا تبديل للخلق) فعدّلها؛ محا أحد اللّامين لتصبح كما هي في سورة الرّوم “لا تبديل لخلق الله (30)[3] ومحا فأهمل وكتب بدلا منها ما نعرفه الآن في سورة الطّارق ” فمهّل الكافرين (17) وألحق في كلمة يتسنّه حرف الهاء لتصبح كما هي في سورة البقرة ” لم يتسنه (259).
غير المحو والتّبديل والزّيادة والنّقصان هناك عدم الأمانة في التّدوين كما في حادثة عبد الله بن أبي السّرح (وقيل غيره) الّذي غير ما أملاه عليه محمّد. هناك آيات منسوخة وأخرى منسيّة كما يفهم من آية في سورة البقرة هي ” ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها (106).
غير التّدوين الّذي أشرف عليه محمّد هناك تدوين آخر يخصّ الصّحابة أنفسهم[4]؛ حيث لم يكتف بعضهم بالحفظ بل زاد الكتابة كما هو حال خزيمة بن ثابت الّذي وجدوا عنده آخر سورة التّوبة مكتوبا، ولو لم يقل النّبي عن شهادته أنّها بشهادتين لما قُبلت. بل إنّ بعض الصّحابيات دوّن القرآن كأمّ ورقة بنت عبد الله بن الحارث الّتي سمّاها محمّد بالشّهيدة.[5] وكما سنعرف فيما بعد فإنّ تدوين آية لا يكفي للثّقة بإدخالها في النّسخة الأمّ، بل لا بّد من أن يدعمها السّماع[6].
3
بعدما حدث في معركة اليمامة؛ أتى عمر بن الخطاب إلى الخليفة أبي بكر وقال له: ” إن القتل قد استحر (اشتد) بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن[7]“. تردد أبو بكر، لكن عمر أقنعه فكلف زيد بن ثابت.
نحن نوافق نولدكة بأنّ ربط جمع القرآن بمعركة اليمامة ربط ضعيف،[8] ليس فقط بسبب ما توصل إليه من أنّ عدد القتلى ممّن يشهد لهم بوضوح بمعرفتهم القرآن شخصان فقط؛ إنّما أيضا بما نميل إليه مماثلة مع ما حدث بعد معركة القادسيّة حيث أمر عمر القائد سعد بن وقاص بأن يوزّع ما بقي الغنائم على حملة القرآن، ولمّا قدم عمرو معد يكرب طلب منه سعد أن يتلو آية فاعتذر بانشغاله بالحروب، وأنّه لم يجد وقتا لحفظ القرآن، وأنّ جنديا اكتفى بالبسملة. أوضح من هذا في معركة اليمامة ذاتها حين أسف أحد الجنود من أنّه لا يعرف سورة البقرة. والمعنى بشكل عامّ أنّ في ربط معركة اليمامة بجمع القرآن مبالغة في انشغال العرب آنذاك بحفظ القرآن.
وعلى أي حال؛ فالسّبب غير مهمّ؛ لأنّ لحظة التّدوين ستأتي عاجلا أو آجلا. ومع ذلك يمكن أن نفكّر في أنّ الأمّهات القديمة يمكن أن تُقرأ بمعزل عن بعضها البعض، ومن ثمّ لن يكون لها ترتيب محدّد وثابت؛ أي سيكون هناك ترتيب مختلف بعد كلّ قراءة لهذه الآيات. ثمّة إذن حاجة إلى طريقة توحّد هذه الآيات، ولا يوجد أفضل من الكتابة في سفر واحد لتوحّد نصا طويلا كالقرآن مهما قيل عن ذاكرة العربيّ في تلك المرحلة التّاريخيّة. ومع هذا فنحن نوافق نولدكة في أنّ الظّروف العامّة ستؤدّي عاجلا أو آجلا إلى جمع القرآن[9]؛ ذلك أنّ محمّدا مات وإرثه الّذي لا يقدّر بثمن هو القرآن، ولا بدّ من المحافظة عليه، وتدوينه في نسخة موثوقة.
لماذا زيد بن ثابت؟ لأنّه كتب الوحي لمحمّد. وينقل نولدكة عن دارسين لم يسمّهم أنّهم تفهّموا شباب زيد في ضوء أنّه سيكون مطيعا للخليفة من صحابي مسنّ[10]. ونحن نرى إمكانيّة ذلك مقارنة مع عبد الله بن مسعود الحانق على زيد إلى حدّ أنّه قال إنّه حفظ القرآن وزيد لم يخلق بعد. ومع ذلك يبدو لي أنّ تردّد زيد غير مقنع، فهو لا يحتاج إلى من يدفعه إلى فعل ما فائدته عظيمة.
هل نقلت هذه النّسخة كلّ ما هو مكتوب في الأمّهات القديمة؟ لا. فآية الرّجم الّتي أتى بها عمر بن الخطاب لم تُكتب لأنّه وحده؛ ذلك أنّ الشّرط الّذي وضعته اللّجنة أنّ الآية لا تُكتب في نسختهم إلّا بشاهدي عدل. وقد حدث فعلا ماعدا آخر سورة براءة فشهادة من أتى بها عن شهادة رجلين[11].
استنادا إلى هذه الأمّهات القديمة دًوّنت النّسخة الأمّ. وقد أنهى زيد بن ثابت هذه النّسخة الأمّ وسلّمها لأبي بكر. تتكوّن النّسخة من مائة وأربعة عشر سورة مرتّبة من السّورة الأطول ثمّ الأقلّ طولا ثمّ القصيرة ثمّ الأقصر. يرى نولدكه أنّ هذا التّرتيب لا يمكن أن يكون مصادفة، وأنّه نتيجة ارتباط أدبي ويتأسّف أنّ هذه الرّوابط لا يمكن تحديدها[12]. أمّا بلاشير فيعيده إلى عادات خاصّة بالسّاميين، ويدلّل بأنّ فقهاء اللّغة العراقيين وضعوا القصائد الطّوال في مقدّمة مجموعاتهم الشّعريّة للشّعر القديم[13]. كلّ سورة مقسمة إلى آيات، ولكلّ سورة اسم. ولا يبدو لنا أنّ أسماء السّور توقيفيّة إنّما هي توفيقيّة سمّوها على طريقة العرب في التّسميّة؛ فالعرب يراعون في الكثير من المسمّيات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في الشّيء من خلْق أو صفة تخصّه، أو تكون معه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرّائي للمسمّى[14]. والخلاصة هي أنّ القرآن أصبح مكتوبا كالدّيوان، والسّورة كالقصيدة، والآية كالبيت الشّعري[15]. هل هذه النّسخة ملك للدّولة؟ إلى الآن نعم لأنّ أبا بكر تركها لخليفته عمر ولم يورّثها لأحد من أبنائه. لكن تصرّف عمر بن الخطاب لا يدلّ على أنّها ملك للدّولة فقد آلتّ إلى ابنته حفصة زوج الرّسول. لو أنّها ملك للدّولة لآلتّ بعد عمر إلى خليفته عثمان بن عفان وهذا لم يحدث. هل هي نسخة خاصّة؟ ذلك ما يرجحه نولدكه، وحجّته لا بأس بها فهذه النّسخة لم تكن قطّ نسخة معتمدة لأي إقليم من أقاليم الدّولة.
4
نسخ الأقاليم المختلفة هي الّتي دفعت عثمان بن عفان إلى أن يقرّر توحيد القرآن بحيث يكون هناك نسخة واحدة لكلّ أقاليم الدّولة. السّبب المتداول في كتب علوم القرآن أنّ حذيفة بن اليمان قال لعثمان “أدرك هذه الأمّة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنّصارى[16]“. طلب عثمان من حفصة إعارته نسخة أبي بكر. ما يلفت الانتباه أنّ الرّواية تنقل عنه قوله: ” أرسلي إلينا الصّحف”، ولم يقل المصحف، ويبدو من هذا أنّ ” النّسخة الأمّ” لم تُسمّ مصحفا إنّما صحفا؛ أي دون هُويّة. وعلى أي حال فقد استخدمت اللّجنة الّتي كونها عثمان لكتابة النّسخة الدّستور النّسخة الأمّ ثمّ أعادها أبو بكر إلى حفصة والغالب أنّها أحرقت بعد موت حفصة وهي نهاية محزنة لا تناسب الجهد المبذول في كتابتها، ولو لم تحرق ووصلت إلينا لكانت نسخة لا تقدر بثمن.
لا نستطيع أن نكوّن تصوّرا لما اعتقدته اللّجنة الّتي كتبت النّسخة الدّستور لكن لا يوجد شكّ في أنّ بعض أعضائها كان عضوا في لجنة النّسخة الأمّ كزيد بن ثابت، وأنّ هدف النّسخة الدّستور هذه هو جمع القرآن على قراءة ثابتة، وليس جمع القرآن في مكان واحد كهدف اللّجنة الأولى.
هناك مشكلات جمّة في تكوين اللّجنة أهمّها عدم ضمّ ابن مسعود إليها، وأكثريّة القرشيّين فيها. أمّا أغلب مشكلات هذه النّسخة فقد أتت من النّسخ الأخرى؛ فهناك أربع نسخ لأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وابن مسعود والمقداد بن أسود. نولدكة يعتبر هذه مجموعات وليست نسخا[17]، لكنّنا نصفها بالنّسخ لأنّها اُستخدمت في الأمصار فقد استخدم البصريون نسخة أبي موسى الأشعري، والكوفيون نسخة ابن مسعود، والحمصيون نسخة المقداد، والسّوريون نسخة أُبيّ. وقد تتبّع نولدكة ما يتعلّق بهذه النّسخ، وهناك تفاصيل دقيقة في كتابه “تاريخ القرآن” عن هذه النّسخ من حيث علاقتها ببعضها بعض، وعلاقتها مجتمعة بالنّسخة الدّستور (مصحف عثمان)[18].
5
نحن على معرفة بنسخة عثمان هذه (النّسخة الدّستور)؛ وإن كانت معرفة غير مؤكّدة. فقد ذكر المراكشي في كتابه ” الذّيل والتّكملة” أنّ رجلا روي عن جدّه أن جدّه رأى هذه النّسخة عام 837ميلاديّة. كما وصف يبلغ طول النّسخة شبرين وأربعة أصابع متفرّقة، وفي الصّفحات الّتي عدّ أسطرها ثمانية وعشرون صفحة. هناك صفحات غطى الدّم نصفها أو ثلثها أو أقلّ من ذلك. وهناك صفحات (دارسة)؛ ويبدو أنّ معنى دارسة في وصف هذا الرّجل ليس تالفة أو قديمة إنّما معناها (ممسوحة) وحين سأل عن السّبب قيل له بسبب أيدي النّاس[19].
إحدى أكبر مشكلات النّسخة الدّستور هي الإمكانات المتعدّدة لقراءة الكلمة غير المنقوطة وغير المشكولة الذتي استمرّت فترة طويلة[20]. سنكتفي هنا بذكر أهمّ حلين لها. الحلّ الأول اقترحه ابن مقسم وهو أنّ كلّ قراءة وافقت المضمون ووجها من وجوه العربيّة فالقراءة بها جائزة وإن لم يكن لها سند؛ أي إزاء آية غير مشكولة يسمح للقارئ بأيّ قراءة صحيحة لغويا ومطابقه للمعنى. وقد حوكم وتاب ثمّ عاد إلى قوله في آخر حياته[21]. الحلّ الثّاني عبارة عن اقتراحات بعضها غريب منسوبة إلى ابن مجاهد وابن مسعود فإذا شكّ القارئ في حرف هل هو تاء أو ياء فيقرؤه بالياء لأنّ القرآن مذكر[22]. إنّ قراءة وثيقة توبة ابن شنبوذ الّتي أوردها ابن خلكان لتشير إلى نوعيّة الأخطاء المرتكبة؛ فالفاعل (الجنّ) في آية في سورة سبأ ” تبيّنت الجنّ أن لو كانوا (14) أصبحت في قراءة ابن شنبوذ (الإنس) ” تبيّنت الإنس أنّ الجن لو كانوا …” وإحلال كلمة (شكركم) في آية في سورة الواقعة محلّ (رزقكم) “وتجعلون رزقكم أنّكم تكذبون (82) وأضاف إلى آية من سورة آل عمران (آية 104) ما هو بين القوسين ” ولتكن منكم (فئة بدلا من أمّة) يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (ويستعينون الله على ما أصابهم) أولئك هم المفلحون.
لقد أنتج تحليل مخطوطات صنعاء نتائج مدهشة، تتعلّق بتطور نسخة القرآن إلى أن وصلت إلينا في نصّها النّهائيّ. هذه المخطوطات عُثر عليها عام 1972في الجامع الكبير في صنعاء القديمة[23]، وقدّر أنّها تعود إلى العصر الأمويّ. تتميّز هذه المخطوطات عن غيرها بوجود نصّين في كلّ رقعه. النّص الأوّل (النّص الباطن) أزيل (مُحي) وكُتب بدلا منه نصّ آخر (النّص الظّاهر)، وقد تمكّن الباحثون من قراءة النّص الباطن بعد أن استعانوا بالأشعة البنفسجيّة.
درست الباحثة إليزابيث بوين جزءا من هذه المخطوطات وحلّلتها مقارنة بين النّص الباطن وبين النّص الظّاهر. وهذه عيّنة من النّتائج على سورة واحدة هي سورة التّوبة[24].
رقم الآية | النّص الباطن | النّص الظّاهر/ الآن |
17 | في الدّنيا والآخرة وفي النّار هم خالدون. | وفي النّار هم خالدون. |
23 | لا تتّخذوا آباءكم ولا أبناءكم ولا إخوانكم. | لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم. |
72 | ذلك الفوز العظيم. | ورضوان من الله أكبر من ذلك وهو الفوز العظيم. |
74 | يعذبهم الله في الدّنيا وما لهم | يعذبهم الله عذابا أليما في الدّنيا وفي الآخرة ومالهم. |
80 | إنّ الله لا يهدي | ذلك بأنّهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي |
112 | العابدون السّائحون الرّاكعون | العابدون الحامدون السّائحون الرّاكعون السّاجدون. |
لا يجب أن نستغرب؛ فعادة النّصوص الشّفهيّة أن تكون مرنة قبل أن تدوّن تدوينا نهائيا، ونحن لا نستثني القرآن من ذلك، بل إنّ بعض الصّحابة قال بذلك. فعبد الله بن عمر يقول: ” ذهب من القرآن كثير”، وأبو موسى الأشعري نسي سورة شبيهة بإحدى المسبّحات (تبدأ بكلمة سبّح أو يسبّح) ولم يتذكّر منها إلا آية واحدة. وينقل عن سعيد بن جبير أنّ سورة التّوبة كانت تعادل سورة البقرة في طولها، وعائشة تقول: إنّ سورة الأحزاب تتكوّن من مائتي آية، وهي في مصحفنا ثلاث وسبعون. أكثر من هذا أنّ محمّدا نفسه كما في البخاري عن عائشة أنّه سمع رجلا يقرأ في المسجد فقال: رحمه الله أذكرني كذا وكذا آية اسقطتهنّ من سورة كذا وكذا[25].
لقد تحوّل القرآن إلى نصّ مثل أي نصّ آخر، ومخطوطاته أصبحت مثل أي مخطوطات أخرى تزيد وتنقص. والمعنى أن لا حصانة للقرآن وهو نصّ مكتوب، ولا جدوى من أنّ الله حفظه إلّا عند المؤمنين الذّين يستبعدون العقل من التّفكير في نتائج العمليات الّتي جرت للقرآن حتّى وصل إلينا.
*******
[1] – الزّركشي، بدر الدّين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: عبد الرّحمن المرعشلي وآخرون (بيروت، دار المعرفة، ط1، 1990) جـ1/329.
[2] – الرّافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة العربيّة (بيروت، دار الكتاب العربي، ط9، 1973) ص 42.
[3] – الأرقام التّي تتلو الآيات القرآنيّة هي أرقامها في السّورة، وسأتبع هذه الطريقة من الآن.
[4] – السّيوطي، الحافظ جلال الدّين، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (بيروت، المكتبة العصريّة للطباعة والنّشر والتّوزيع، ط1، 1988) جـ1/167
[5] – نفسه، ص 204.
[6] – نفسه، ص 167.
[7] – السّيوطي، جـ1/165.
[8] – نولدكه، ص 253
[9] – نولدكه، ص 256.
[10] – نفسه، ص 251.
[11] – السّيوطي، ص 168.
[12] – نولدكه، ص 275.
[13] – بلاشير، القرآن، نزوله، تدوينه، ترجمته وآثاره، ترجمة: رضا سعادة (بيروت، دار الكتاب العربي، 1974)، ص 38.
[14] – الزّركشي، جـ1/368.
[15] – العبارة للجاحظ، نقلا عن الرّافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة العربيّة (بيروت، دار الكتاب العربي، ط9، 1973)، ص 555.
[16] – الزّركشي، جـ1/ 330.
[17] – نولدكة، ص 259.
[18] – نفسه، ص 259 وما بعدها.
[19] – نقلا عن https://ar.wikipedia.org
[20] – عن التّطور التّاريخي للقراءات القرآنيّة والقراء انظر نولدكه، ص 555 وما بعدها.
[21] – الذهبي، سير أعلام النّبلاء، تحقيق: حسان عبد المنان (بيت الأفكار الدّوليّة)، ص 576.
[22] – السّيوطي، جـ1/305.
[23] – https://ar.wikipedia.org
[24] – هذه عينة أيضا من التّغييرات في سورة التّوبة. لمراجعة التّغييرات كاملة لسورة التّوبة وغيرها انظر: المسيح، محمّد، مخطوطات القرآن، مدخل لدراسة المخطوطات القديمة (water publishing، ط1، 2017) ص 91 وما بعدها.
[25] – المسيّح، ص 25 وما بعدها.