المفهوم الإسلامي للقيمة لدى الاقتصادي أبي الفضل الدمشقي

المفهوم الإسلامي للقيمة لدى الاقتصادي أبي الفضل الدمشقي

مصطفى محمود عبد السلام*

إن الباحث في الاقتصاد الإسلامي يجد أن تعاليم الإسلام جاءت في صورة مبادئ عامة وأصول كلية ثابتة، اتسمت بطابع الخلود فلا تتغير ولا تتبدل، وأن الآراء والأفكار التي تباشر توضيح هذه المبادئ والأصول لا تشاركها في هذا الطابع، بل يؤخذ منها ويرد عليها، وعندما نقول نظرية الإسلام في مسألة معينة أينما ترد في البحث هو تجوز لا حقيقة لأن الإسلام يتمثل بالقرآن والسنة النبوية الشريفة ومصدرها الوحي، فلا يصح أن نطلق عليها نظرية بالمعنى المعروف عن النظرية في الفكر الوضعي التي تتسم بالتبدل والتغير والتفنيد أحياناً. وإنما نعني بها نظرة الإسلام إلى المسائل في موضوع البحث وآراء الفقهاء والمفكرين في الدراسات الإسلامية التي تسير على هدي القرآن والسنة النبوية الشريفة.

وعلى هذا الأساس، فإننا عندما نتناول نظرية القيمة في الفكر الإسلامي هو لبيان آراء الفقهاء والمفكرين في الدراسات الإسلامية الذين تناولوا الموضوع.

سبق علمي لعلماء المسلمين

تأسيساً على ما تقدم يمكن القول: إن المهتمين في العلوم الإسلامية تناولوا موضوعات اقتصادية تؤكد سبق العرب اقتصادياً للمفكرين والاقتصاديين الأوربيين على الرغم من التصور الخاطئ لدى بعض المفكرين بأن طابع المدارس الفكرية غير الأوربية للعصر الوسيط لا يمكن أن يخرج عن إطار محددات المذاهب الاقتصادية الأوربية، مما أدى إلى وقوعنا في عتمة الرؤية الأمر الذي يتطلب التوجه العقلاني لتحديد أبعاد الغزو الفكري بطريقة تأخذ في الاعتبار الخطوات العلمية من خلال فهم نصوص الشريعة الإسلامية واستيعابها والرجوع إلى كتب التراث الإسلامي مع الأخذ في الاعتبار مستجدات العصر لتشكيل حضارة عربية بهويتها الإسلامية القابلة للتواصل والأخذ والعطاء لأن الدين الإسلامي جاء بنظم وشرائع وعقائد واقتصاد وسياسة وقيم عليا وسلوك ومفاهيم وفلسفة لحضارة متميزة بطابعها الإسلامي الأصيل(1).

وتأسيساً على ما تقدم سنتناول في هذا البحث معالم نظرية القيمة في مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وآراء أحد الفقهاء والمفكرين في العالم الإسلامي، وهو الدمشقي.

ولغرض بيان مفهوم القيمة واتجاه المفكرين في تفسيرها سنتناول مفهوم المال لأنه المدخل لفهم القيمة في الفكر الإسلامي:

أولاً: تحديد مفهوم المال

لكي نفهم اتجاه المفكرين المسلمين في تفسيرهم للقيمة لابد أن نتناول مفهوم المال في الشريعة الإسلامية حسب ما تناوله فقهاء المسلمين؛ لأن الفقه هو البناء القانوني الذي يحدد اتجاهات الباحث المسلم.

تعريف المال

المال في اللغة: ما ملكه الإنسان من كل شيء، فما لم يملكه لا يعد مالاً في اللغة كالشجر في الغابة والسمك في الماء والطير في الهواء(2).

والمال عند الفقهاء، له اصطلاحان رئيسان، هما: اصطلاح الحنفية واصطلاح الجمهور.

فقد عرّف فقهاء المذهب الحنفي المال بتعريفات كثيرة مختلفة في ألفاظها متقاربة في معناها، ومن تعريفاتهم للمال (بأنه ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة(3).

ففقهاء الحنفية يوجبون لتحقيق مالية الشيء اجتماع أمرين.

1- أن يكون شيئاً مادياً يمكن إحرازه وحيازته.

2- أن يكون الشيء منتفعاً به انتفاعاً معتاداً مشروعاً في حالة السعة والاختيار دون حالة الضرورة.

أما جمهور الفقهاء قد اتفقوا على تعريف المال وهو أوسع من تعريف الحنفية؛ فعرفه الشاطبي بأنه (ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك من غيره وإذا أخذه من وجه(4)

وعلى وجه العموم فالمال عند الجمهور هو ما يمكن حيازته والانتفاع به(5) ويمكن القول أن الجمهور عرفوا المال على أساس:

1- ما يمكن حيازته.

2- أن يكون الشيء له قيمة بين الناس.

3- أن ينتفع بهذه القيمة انتفاعاً شرعياً.

ويقول الإمام الشافعي: أنه لا يقع اسم المال إلا على ماله قيمة يباع به ويلزم متلفه، وقد قسم الفقهاء المال حسب ما له قيمة وحرمة في الشريعة الإسلامية إلى:

1- مال متقوم: وهو ما حيزّ بالفعل وأباح الشارع الانتفاع به في حالة السعة والاختيار فيكون هذا النوع من المال داخلاً ضمن التعامل به في النشاط الاقتصادي.

2- مال غير متقوم: وهو ما لم يحز بالفعل أو حيّز بالفعل لكن حرّم الشارع الانتفاع به في حالة السعة والاختيار، وهذا النوع من المال يخرج عن التعامل به في النشاط الاقتصادي.

مما تقدم نجد أن المال المتقوم -أي الذي له قيمة- هو المال الذي يمكن حيازته، والحيازة هنا تعني اندماج العمل مع الأشياء، وبالتالي تكون للشيء قيمة وبدونها تكون الأشياء غير متقومة، فكل شيء تجسد فيه قدر من العمل اكتسب من خلال ذلك قيمة وأصبح حسب المفهوم الفقهي مالاً متقوماً ويلزم دفع العوض عند الانتفاع به من قبل الآخرين، أما الأشياء التي لم يتجسد فيها العمل فهي ليست ذات قيمة بغض النظر عن درجة منفعتها.

أن هذا لا يعني أن الأشياء التي لم تحز بالفعل ليست نافعة أو لا تحتوي على منافع فتلك الأشياء تمتلك خاصية النفع، وبهذا نفهم أن الأشياء التي تكون موضوعاً للتبادل هي الأشياء التي تكون نافعة شرعاً والتي يمكن حيازتها.

إذن المنفعة الشرعية هي شرط أساسي في الأشياء موضوع التبادل فالأشياء ذات المنافع المباحة والتي تشبع حاجة إنسانية دون بذل الجهد (الأموال الحرة) لا تدخل ضمن موضوع التبادل، أما الأشياء ذات المنافع المباحة والتي لا تشبع حاجة إنسانية إلا ببذل الجهد في تحصيلها (الأموال الاقتصادية)، هي التي تدخل ضمن موضوع التبادل، أما الأشياء المحرمة والتي حُيزّت فعلاً فأنها تتعارض مع أحكام الشريعة وبالتالي لا يكون للمنافع المنتجة لهذه الأشياء أية قيمة معتبرة شرعاً وبذلك لا يكون لها سعر في السوق ولا يضمن متلفها.

نستطيع في ضوء ما تقدم أن نعزو القيمة في السوق إلى عنصرين لابد من اجتماعها هما(6):

1- أن تجسد السلعة قدراً من العمل الإنساني.

2- أن يكون العمل المبذول وفقاً للشروط الشرعية.

فإذا انتفي العمل المبذول أصبحت الأشياء من المباحات غير المتقومة، أما إذا انتفي العنصر الثاني فلا يكون للعمل قيمة طبقاً للأحكام الشرعية ومعنى ذلك أن الاعتبار الشرعي الأخلاقي يشكل أحد عناصر القيمة وهذا ما يميزها عن القيمة الاستعمالية في الاقتصاد الوضعي الذي يأخذ في الاعتبار قابلية السلعة على إشباع حاجة بغض النظر عن الموقف (القيمي) من تلك السلعة وطريقة أنفاق العمل لإنتاجها(7).

يتضح أن العمل المبذول في الأشياء المباحة المنتفع بها شرعاً والتي تشبع حاجة إنسانية معتبرة يكون عنصراً أساسياً في القيمة التبادلية.

هل هذا يحمل معنى أن تكون كمية العمل المنفق في الأشياء المتحققة في السوق باعتبارها ثمناً لكمية العمل المبذول في إنتاجها..؟

إن الأحكام تكاد تتفق إلى أن القيمة التبادلية في السوق يتم تحديدها وفقاً لعوامل متعددة تشكل عاملي العرض والطلب (مبدأ التراضي).

هذا ما توضحه الأحكام الخاصة بتحديد الربح والمرابحة في البيوع المختلفة التي تفيد أن القيمة التبادلية لا ترتبط ارتباطاً مباشراً بكمية العمل أو بالكلفة رغم أن الأحكام تشدد على ضرورة بيان التكلفة عند تحديد السعر (خاصة في بيع المرابحة) ليس من أجل بناء السعر في ضوئها وإنما من أجل وضع المشتري أو المستهلك في الصورة الواقعية لتكلفة السلعة ليقرر على أساسها قبول أو رفض نسبة الربح المضاف إليها(8).

وتجب الإشارة هنا إلى أن من الفقهاء من فرق بين القيمة الجارية وبين القيمة الحقيقية -قبل "ريكاردو"- وهنا يبرز " ابن عابدين" فيفرق بين الثمن والقيمة (إن الثمن ما تراضى عليه المتعاقدان سواء زاد على القيمة أو نقص. والقيمة ما قوّم به الشيء بمنزلة العيار من غير زيادة ولا نقصان)(9)

وهنا نجد "ابن عابدين" في مجال التفرقة بين الثمن والقيمة يعتمد على ما ورد في القرآن الكريم وتفسير العلماء.

فالزمخشري يربط بين القيمة والثمن في تفسيره لقول الله تعالى (وشروهُ بثمن بخسٍ دراهمِ معدودة وكانوا فيه من الزاهدين)(10) فيقول: المبخوس ناقص القيمة نقصاناً ظاهراً(11).

وينقل القرطبي قول أبن العربي الذي يربط بين الثمن والقيمة في تفسير الآية، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوفي ثمنه بالقيمة.

وهكذا نجد القرآن الكريم قد ميّز بين القيمة والثمن، فالثمن يدور حول القيمة ارتفاعاً وانخفاضاً، والكلام عن الثمن هو كلام عن مؤشر قد يتطابق مع القيمة وهو الأصل في الاقتصاد الإسلامي، إذ تسود المنافسة في السوق الإسلامية، حيث يؤكد القرآن الكريم على إقامة الوزن بالقسط والوفاء بالكيل.. وكل ذلك من باب القيمة كاملة غير منقوصة(12) والثمن يجب أن يعبر عنها وإلا كان بخساً مما استنكره القرآن الكريم.

وهنا نجد القيمة عند الفقهاء بمنزلة العيار بغير زيادة أو نقصان، أما الثمن فهو عرضة للزيادة والنقصان عن القيمة وفقاً للقوانين الاقتصادية.

ثانياً: تفسير مفهوم القيمة عند أبي الفضل الدمشقي

أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي الذي عاش في القرنين الخامس والسادس الهجريين الموافقين للقرنين الحادي عشر والثاني عشر من الميلاد.

هذا ما وصلنا من ترجمة عن الدمشقي حيث اندثرت الكتابات التي تترجم لحياته ولكن كتابه "الإشارة إلى محاسن التجارة" الذي طبع للمرة الأولى بواسطة المستشرق ريتشر وظهرت طبعته باللغة العربية عام 1318هـ قد خلدت اسمه، غير أن حياته ظلت مجهولة، وفي السنوات الأخيرة كان هناك اهتمام واسع بكتابه، بحيث يمكن القول بأنه أشهر الكتب في التراث التي حملت عنوان التجارة، هذا الاهتمام الواسع جعل الكثير من المستشرقين يقبل على طلبه بإلحاح وحرص شديدين(13).

وقد خصص الدمشقي فصلا للقيمة والأسعار في كتابه (الإشارة إلى محاسن التجارة)، وكان الدمشقي تاجرا له باع طويل في أنواع التجارة خصوصا التجارة الخارجية ولذلك جاءت أفكاره وتصوراته جامعة بين ما تحصل عليه من ثقافة علمية وبين ما تجمع له من خبرة عملية واسعة في الحياة الاقتصادية فقد عبر في كتابه عن رؤية اقتصادية شاملة للمال بعامة والنقد بخاصة بوصفها المحور الذي يدور حوله النشاط الاقتصادي، وقد عالج قضايا اقتصادية أخرى بفروعها وفي مقدمتها القيمة والقيمة المتوسطة والرشد الاقتصادي وعوامل تكوين الثروة وأنماط العمل التجاري(14).

وقد امتاز منهج الدمشقي في كتابه بالاعتماد على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والمصادر التشريعية الأخرى حيث استسقى معارفه من خلال معطيات الفكر الإسلامي كما امتازت دراسته بالواقعية.

لذا نجد توافقاً بين ما طرحه حول تفسير القيمة والسعر وبين ما يمكن استنتاجه من النصوص الشرعية والأصول المبدئية للشريعة الإسلامية، وقد استند في تحليله للقيمة والسعر على مبدأ التراضي، إذ أن المتتبع لآراء الفقهاء عند تعرضهم لعملية التبادل الشرعية، يجد أنهم يربطون ربطاً وثيقاً بين مشروعية التبادل وبين إقرار مبدأ التراضي بين البائع والمشتري، وتبرز أهمية هذا المبدأ في كونه تندرج تحت سياقه جميع الجوانب والعوامل التي تدخل في تكوين السعر في صيغته من التوازن الاقتصادي فهو يعكس جانبي العرض والطلب ويندرج العرض تحت مبدأ التراضي في الأخذ بنظر الاعتبار نفقة الإنتاج من ضمنها العمل وجانب الطلب المنفعة المعتبرة شرعاً والرغبة التي تدفع المشتري للحصول على السلعة، يقول الله -تعالى- (يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم)(15).

إن القول بمبدأ التراضي وجعله أساساً للقيمة التبادلية للسلعة يعني أنها أخذت بعين الاعتبار التوازن بين عاملي العرض والطلب، وهذا ما أقرّه المفكرون الاقتصاديون على يد "مارشال" رائد المدرسة الكلاسيكية المعاصرة الذي حاول تفسير القيمة وتحديدها على أساس العوامل الذاتية والموضوعية على حدٍ سواء.

القيمة والقيمة المتوسطة عند الدمشقي

أ- القيمة المتوسطة

في محاولة تتّبع تحليلات الدمشقي حول القيمة المتوسطة نجده يبدأ في الحاجة إلى المال الصامت(16). وهو العين والورق وسائر المصنوع منها(17).

فقد تناول تطور شكل التبادل من شكله البدائي المتمثل بالمقايضة حتى شكله النقدي، وأبرز العامل الحاسم في سياق هذا التطور وهو تعدد الحاجات الإنسانية ونتيجة لتطور الإنتاج (لأن الصناعات مضمومة بعضها إلى البعض)(18)، وصعوبات عملية التبادل السلعي القائم على المقايضة الأمر الذي أدى إلى أيجاد مقياس مشترك يلقى قبولاً عاماً بين الناس في عملية التبادل ( فلذلك احتيج إلى شيء تثمن به جميع الأشياء وتعرف به قيمة بعضها من بعض فمتى أحتاج الإنسان إلى شيء مما يباع أو يستعمل دفع قيمة ذلك الشيء من ذلك الجوهر الذي جُعل ثمناً لسائر الأشياء(19)، فوجد الناس بعد تطور تاريخي المعادل الذي يلقى قبولاً عاماً (ووقع إجماع الناس كافة على تفضيل الذهب والفضة)(20).

وهنا يظهر الشكل النقدي للقيمة المعبّر عنها بالسعر، ويرى أن الوحدات النقدية لا تحمل قيمة ذاتية خاصة وإنما تكمن قيمتها في وظائفها إلا إذا تحول الذهب والفضة إلى استعمالات أخرى غير النقود، وهنا نجد السعر هو الذي يعبر عن القيمة بوحدات نقدية معينة وهو ما ينتهي إليه التحليل النقدي للقيمة عند الدمشقي(21)، ولما كان الدمشقي مهتماً بالتجارة الخارجية فقد حاول تحقيق أفضل صيغة للتبادل التجاري على الصعيد الدولي، ولذلك أنشغل في إيجاد معيار عام تتحدد في ضوئه قيم السلع المتعددة فاهتدى إلى (المعرفة بالقيمة المتوسطة لسائر الأعراض)(22)، فيقول (فإن لكل بضاعة ولكل شيء ما يمكن بيعه قيمة متوسطة معروفة عند أهل الخبرة(23)، وقد أدرك أن اختلاف قيم السلع على صعيد التبادل التجاري الخارجي إنما يكون بسب اختلاف تكاليف الإنتاج وفنونه (ذلك لأن الأسفاط الهندية بالمغرب مخالفة لقيمتها باليمن والمتوسط والمعتدل من أسعارها في أحد المكانين غير المتوسط والمعتدل من أسعارها في المكان الآخر، وقيمة المرجان بالمشرق غير قيمته بالمغرب وذلك لأجل القرب من المعادن وكذلك الأمكنة المشهورة كل يختص بفن من الفنون لا يستطيع غيرها مثله، فإن قيمة ذلك الشيء المصنوع في معادنه مخالفة القيمة في الأماكن التي يستظرف بها)(24).

وبهذا يحدد الدمشقي على ضوء معرفة القيمة المتوسطة السلوك الاقتصادي التجاري الرشيد، ويمكن القول أنه وضع بدايات لنظرية التكاليف النسبية "لريكاردو" ولنظرية "هكشر أولين"(25) في التجارة الخارجية.

ب- تفسير القيمة

لقد أخذ في تحليله للقيمة الجوانب والعوامل الاقتصادية التي تدخل في تكوينها وبالتالي استطاع أن يحدد ويفسر القيمة على أساس العوامل الذاتية والموضوعية، فيحدد العوامل الموضوعية بنفقة الإنتاج ويضمنها العمل فعندما يذكر (الجَزْع) وارتفاع قيمته إنما يكون بسب تكلفة إنتاجه فيقول: (يعمل به الصُنّاع أعلاقاً كباراً صحاحاً فكثير أن تبلغ أثماناً كثيرة لأجل الصنعة لأنه حجر مانع)(26).

وبهذا فإنه يعطي العمل الأساس في تكوين القيمة التبادلية ويذكر التكاليف الأخرى غير العمل في تكوين القيمة عندما يشير إلى الفولاذ بأنه يأخذ شكل السلعة (لأنه مصنوع وليس يخرج من المعادن فولاذاً) إلا عندما ينسب إلى الصناع الحاذقين بعمله وأما الحديد فإنه يختلف بحسب صُنّاعه والأماكن التي عُمل بها، وبهذا نستطيع القول بأن "الدمشقي" ميز بين العمل الماهر وبين العمل غير الماهر في تحديد قيمة السلعة، فقد أشار إلى المهارة والحذق كأحد العناصر التي تدخل في مكونات القيمة، وبهذا يكون قد بين العوامل الموضوعية في تحديد القيمة التبادلية بنفقة الإنتاج ويضمنها العمل، أما العوامل الذاتية: فإنه يرى أن لها دوراً كبيراً في تحديد القيمة فالمنفعة المتوقعة من الحصول على السلعة هي التي تخلق الرغبة عند المستهلك لحيازتها وعلى هذا الأساس فإن القيمة تزيد وتنقص على أساس المنفعة والرغبة المتحققة من الحصول عليها، والعلاقة بين المنفعة والرغبة من جهة والقيمة من جهة أخرى يصورها الدمشقي بقوله: (أن أصل التجارة في البيع والشراء، أن يشتري من زاهد أو مضطر إلى أخذ الثمن، ويبيع من راغب أو محتاج إلى الشراء لأن ذلك من أوكد الأسباب إلى مكان الاستصلاح في المشتري وتوفير الربح.

ومن النص السابق يحدد الدمشقي عاملي العرض والطلب في تحديد القيمة التبادلية وزيادة على هذا أشار إلى عدد من العوامل والظروف المؤثرة في طلب وعرض السلعة وبالتالي كيفية تحديد القيمة والسعر من خلال فهم الآلية التي يعمل من خلالها كل منهما فقد بين بصورة لا تختلف عما هو عليه في التحليل الاقتصادي العوامل المؤثرة في كل من العرض والطلب(27) ومنها.

1- الضرائب: حيث يقول (… ثم يضيف إلى ثبت الأسعار ثبتاً بمكُوس البضائع فأن مكوسها تختلف في سائر البلدان ثم يميز الفائدة وكذلك في جميعها)(28).

2- دخل المستهلك: حيث يرى أن دخل المستهلك له أثر كبير على الطلب على السلعة المنتجة ولهذا فإن الزيادة في الدخل يتبعها زيادة في الطلب على السلع والخدمات على اختلاف في نوع السلع لكل طبقة من طبقات المجتمع، فزيادة دخل الفقراء عادة يتبعها زيادة في الطلب على السلع الأساسية، أما زيادة دخل الأغنياء فيتبعها زيادة في الطلب على السلع الكمالية.

فقد بين الدمشقي تأثير الدخل في طلب السلع وبالتالي على أسعارها حيث أوضح أن الطلب على كتب العلم يكون قليلاً نتيجة انخفاض دخول العلماء أما الطلب على الجواهر الثمينة يكون من ذوي الثراء.

نخلص مما تقدم إلى أن أبا الفضل الدمشقي كان سّباقا في تشخيص العوامل المؤثرة في تحديد القيمة التبادلية ويرى أن جميع العوامل المحيطة بالسلعة تعمل على تحديدها ومن الخطأ الاعتماد على عامل واحد كمحور للقيمة وهذا هو جوهر نظرية التوازن بين العرض والطلب التي لم يتوصل إليها الفكر الاقتصادي الغربي ألا بعد سلسلة من الافتراضات والنظريات ابتداءاً من نظرية العمل مروراً بنظرية المنفعة الحدية حتى وصل بالنهاية على يد "الفريد مارشال" إلى القول بنظرية العرض والطلب في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي مما يعطي لأبي الفضل الدمشقي خاصية السبق الزمني في ملاحظته لهذه النظرية وجوهرها قبل أن يفطن إليها رواد الفكر الاقتصادي الحديث.

بالإضافة إلى ذلك هناك السبق التاريخي للدمشقي على علماء الغرب فهذا "سان توماس الأكويني" الفيلسوف الذي عاش في الفترة من 1225م إلى 1274م أي أنه جاء بعد الدمشقي بحوالي قرن من الزمان أو أكثر، وفي تاريخ الفكر الاقتصادي الأوربي يشار إلى آرائه كأحد رموز الفكر الاقتصادي الذي وجد في عصره، ففي عصر الأكويني كان الفكر الأوربي عن الثمن محكوماً بفكر أرسطو عن الثمن العادل ولكن الحقيقة أنها فكرة لا تتضمن تحليلاً للواقع فهي تخضع لمنهج ما يجب أن يكون، ويذكر أن الأكويني حاول أن يجعل فكرة الثمن العادل تحمل أثراً لقوى العرض والطلب أي يخضعها لمنهج ما هو كائن ويعتبر الفكر الأوربي هذه المحاولة للأكويني خطوة متقدمة نحو تقديم أفكار اقتصادية صحيحة نسبياً.

وبالتالي فإن المقابلة بين آراء الدمشقي ومنهجه الذي كان يعتمد على دراسة وتحليل ما هو كائن وليس ما يجب أن يكون وبين الأكويني يتبين تفوق الدمشقي الواضح ومن ثم، فإن هذا الأمر يثبت أن مساهمة الأكويني والتي يقومها الفكر الأوربي تقويماً إيجابياً على اعتبار أنها أرقى الأفكار في عصرها هذه المساهمة جاءت بعد الدمشقي بأكثر من قرن من الزمان ومن حيث المضمون فإنها أدنى بكثير من مساهمة الدمشقي(29).

**********************

الحواشي

*) باحث من مصر.

1- زينب صالح الأشوح، الدليل الشامل للاقتصاد الإسلامي، دار غريب للطبع والنشر، 2004، ص320 وما بعدها.

2- أبو الفضل، جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، اسطوانة المحدث، اسطوانة ليزر، الإصدار الثاني 8.3، عام 2003

3- ابن عابدين، محمد أمين، حاشية ابن عابدين، في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، ج4، ط2، (دار الفكر العربي 1966 ) ص57.

4- الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى النخعي الغرناطي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، (دار المعرفة - بيروت - لبنان - ب ت) ص17.

5- عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الثالث، ط6، ( دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، ب ت ) ص4.

6- شوقي دنيا، الفكر الاقتصادي لدى المسلمين الأوائل، دار الفكر الإسلامي، جدة، 1986، الجزء الأول، ص58.

7- المرجع السابق، ص59.

8- المرجع السابق، ص60.

9- ابن عابدين، مصدر سابق، ج4، ص575.

10- سورة يوسف، الآية (20).

11- الزمخشري، جار الله بن محمود بن عمر، الكشاف، ج2، (بيروت - ب ت) ص452.
12- القرطبي، أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، ج9،(القاهرة 1967) ص155.

13- رفعت العوضي، التراث الاقتصادي للمسلمين، دار المنارة، القاهرة، 1999، ص40.

14- زينب الأشوح، مرجع سبق ذكره، ص321.

15- سورة النساء، الآية (29).

16- أبو الفضل جعفر الدمشقي، الإشارة إلى محاسن التجارة، تحقيق، السيد الشوربجي، ط1 (دار البيان، جدة، 1985) ص28.

17- الدمشقي، المرجع، ص25.

18- نفس المصدر، ص29.

19- نفس المصدر، ص30.

20- نفس المصدر، ص31.

21- شوقي دنيا، مرجع سبق ذكره، ص65.

22- الدمشقي، مرجع سبق ذكره، ص38-40.

23- نفس المصدر، ص39.

24- نفس المصدر، ص38.

25 - مصطفى عز العرب، مقدمة في نظرية التجارة الدولية، جامعة حلوان، 1995)، ص58-75.

26- نفس المصدر، ص70.

27- الدمشقي، مصدر سابق، ص106.

28- رفعت العوضي، التراث الاقتصادي للمسلمين، مرجع سبق ذكره، ص43.

29- رفعت العوضى، التراث الاقتصادي للمسلمين، مرجع سبق ذكره، ص45.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=501

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك