باديو؛ من أجل نيوأنطلوجيا

نور الدين الولاد

 

أي هايدغر؟ أي باديو؟

ما ينفك الماضي يمضي والحاضر ما يفتأ يحضر، إن الماضي لا يوجد وراءنا، ونحن لا نكون بعيدين ولا قريبين جدّا من أصولنا الفكرية، هكذا أكد هايدغر، في الوجود والزمان، ولهذا تعد أنطلوجية الرجل هي أنطلوجية الحاضر الذي لا ينفك عن الماضي، ذلك أن فلسفته ليست فلسفة القطيعة ولا هي من طينة الفكر المحكوم بضرورة التجاوز، بل إنها فلسفة الرجوع إلى مجال أهمل، حتى مرحلته، رغم أنه يستحق التفكير، وهو الأمر الذي أعرب عنه هايدغر حينما نبهنا أنه يوجد "اللامفكر فيه" دوما في ما اعتقدنا أننا قد فكرنا فيه، بما في ذلك المرحلة اليونانية التي اعتقدنا أنها ولّت وانقضت، وأنه من المحال إعادتها أو التفكير على شاكلتها. لهذا، دعا هايدغر لضرورة معاودة صريحة لسؤال الكينونة: "إن هذا السؤال المذكور قد ذهب اليوم في النسيان"[1].

إن فلسفة هايدغر محطة مهمة في الفلسفة المعاصرة، إذ بالإضافة إلى أنها تشربت من الفلسفات السابقة عليها، فإنها رسمت معالم أنطلوجية جديدة؛ فنجد لها مشارب الفينومينولوجيا والوجودية...؛ بل إنه أسس لميتافيزيقا الحضور، وجعل همها النظر إلى التاريخ "كانفتاح"، والتنبيه أنه على الفلسفة التفكير في الوجود؛ ذلك أن الذي يجعل هذا الأخير منسيا هو الموجود ذاته.

فأنطلوجية هايدغر هي أنطلوجية تصدع الكائن، وتخلخل كل إقفال للآني، خصوصا والرجل ينظر "للحاضر كانفتاح"؛ ففلسفة هيغل مثلا ستجد في الكثير من عناصرها المهمة تقاطعا مع فلسفة هايدغر، فيعتبر هذا الأخير أن المفهوم الهيغيلي للزمان هو المفهوم التقليدي الذي كرسته الميتافيزيقا؛ أي إنه لا يختلف عن المفهوم الذي يقدمه أرسطو. وكما يقول المفكر المغربي، عبد السلام بن عبد العالي: "فوفق التقليد المعروف بين الكرونوس والكرة، يلح هيغل على الدورة الدائرية للزمان"[2]، بل أكثر من هذا إن هيغل -وإن كان قد استجلى موقفه الخاص من الفلسفة الديكارتية وأعرب صراحة عن الإضافة التي أضافها إلى الفيلسوف الذي سيقول عنه هايدغر إنه قلب تصورات العالم[3]- رغم قوله: "لقد غادرت الأرض الديكارتية"، إلا أنه سوف يظل وفياً لهاته الأرض كونه سيجعل من هاته الذات مطلقة متمثلة في التفكير؛ ومن ثم سوف لن يضيف شيئاً كبيراً في الميتافيزيقا حسب هايدغر؛ حيث إنه لم يتخط زمن الميتافيزيقا الذي يجعل من الذات حاكماً على الموضوع الذي ينجلي أمامها؛ وبعبارة أدق إن هيغل حسب هايدغر حصر "الوجود" في دلالة الموجود فحوله إلى موجود أرقي وأضفى صفة المطلق على هذا الموجود.

إلا أنه ليس مرامنا في هذا المقام أن نفصل في فلسفة هايدغر الأنطلوجية ونعرض مفاهيمه الكبرى بقدر ما نسعى إلى توضيح الإضافات المهمة والمنعرج الأنطلوجي الذي رسمه هايدغر في الفلسفة المعاصرة من جهة، ونوضح مكانة هذه الفلسفة عند فيلسوفنا "آلان باديو" والتنحية التي سيضفيها على هاته الفلسفة الأنطلوجية.

فأكثر الألغاز المحيرة في الفلسفة، حسب آلان باديو، هو لغز الوجود، ولهذا المسوغ ذاته يحاور باديو الكبير هيدغر، لذلك ارتأينا أن نقارن بين أنطلوجيا هايدغر وأنطلوجيا آلان باديو. فهل سيؤكد باديو هو الآخر منعطف الفكر الهيدغري، المتمثل في هدم وتفكيك الميتافيزيقا لصالح أنطولوجيا مشبعة بالتفكير والذهول بالوجود الذي نسته الميتافيزيقا منذ زمن؟ ما هي الفروقات الممكنة بين أنطلوجيا شعرية وأخرى تؤمن أساسا بالرياضيات؟ كيف يمكن القول بتواطؤ الوجود؟ وبأي معنى بوسعنا محاولة تبيان أن دلوز حسب باديو قد صخب الوجود وجعل للأنطلوجيا صوتاً يؤمن بتعدد الأصوات كسيمولاكرات متعددة؟

يبدي آلان باديو منذ مقدمة كتابه الأساس "الكينونة والحدث"[4] تعاطفاً كبيراً مع هايدغر على حساب الفكر الأنكلوجكسوني، خصوصاً وأن جزءاً مهما من هذا الأخير صور أنطلوجيا هايدغر كجملة من القضايا التي لا إحالة واقعية لها تجعل منها فكراً يعول عليه لتحصيل المردودية العلمية أو النفعية بوجه عام، يقول باديو: "وجه الفكر الأنكلوجكسوني انتقادات إلى هايدغر، وجعل منه عدمي، بل ومتأخر".[5] وهو الأمر الذي دفع باديو ليصف الهنيهة الراهنة للمشهد الفلسفي -وكذا السياسي- بأنها لحظة شائكة[6] جعلت الرجل يقع في لحظة تأسيسية تأخذ الفلسفة الهايدغرية بجدية وقبل أن تنتقدها، إن صح مفهوم الانتقاد هنا، تشكل عرفانا لها، فيؤكد باديو أن هايدغر هو آخر فيلسوف قبله[7] سيعيد الاعتبار للسؤال الأنطلوجي.[8] أما في الفترة المتزامنة مع باديو، فإن هذا الأخير سيحاور التصور الدلوزي للكينونة.

إن فلسفة هايدغر محطة مهمة في الفلسفة المعاصرة، إذ بالإضافة إلى أنها تشربت من الفلسفات السابقة عليها، فإنها رسمت معالم أنطلوجية جديدة

لن نجد إطلاقاً باديو يبشر بفلسفة النهاية؛ أي يرفض رفضاً مطلقاً فلسفة، ويعلن تجاوزها فيقدم وصفة بديلة، ولهذا السبب نلحظه في كتابه "الوجود والكينونة" يدخل في سجال وحوار مع الدعوة المتكررة لـ "المعاودة". إنها معاودة التفكير في الوجود ورغبته الملحة في ألا يبقى الإنسان حيواناً أليفا وأمينا طيعاً، ويحث بالمقابل على الإنسانية "الخلاقة"[9]، فإن أتيحت لنا فرصة أن نسمي فلسفة باديو هاته ونعنونها، فلنقل إنها "فلسفة الحدث"، حيث إن هذا الأخير لا ينبغي، حسب صاحبنا، حصره في شيئية الأشياء؛ لأن الحدث لا يموت، رغم أن الفرد يسعى إلى طمسه، كما أنه لا يفيد إطلاقا الظاهر.

وعلاوة على ذلك، تجدر الإشارة إلى أن فلسفة باديو لا تنحصر كلها في تعاويذ أنطلوجيا ملغزة برياضيات صعبة المنال، بل إنها أكثر واقعية في جزء كبير منها، وذلك دون اعتبار الأنطلوجيا بعيدة كل البعد عن الواقع، بل إن فلسفة الرجل تسعى بالملموس لتقصي الفلسفة الماضية كخدمة للآني واللحظي، كيف لا والرجل يدعو إلى تدخل الفلسفة في الشأن العام، والفيلسوف في المجتمع، فيقول: "إن الفيلسوف الأصلي -الأول- يعطينا تعريفا أوليا للحظة الفلسفية، بمنطقها الآني[10]، والتي هي حراك -une bataille- مفاهيمي حول مفهوم "الموضوع"، الذي يأتي اليوم على صورة مضادة للإرث الديكارتي".[11]

ويزكي واقعية فلسفة باديو ما دعا إليه في كتابه "الفلسفة في الحاضر"، إذ أعرب عن ضرورة تدخل الفلسفة في الحاضر، كجملة من الوقائع التاريخية والسياسية، وضرورة تدخل الفيلسوف في الراهن. إلا أن فيلسوفنا لا يسعى إلى تأكيد الفكرة الزائفة القائلة: "إن الفيلسوف بمكنته معرفة، ومنه الحديث، في كل شيء، لأن ذلك يسقطنا في ما أسماه باديو بـ "فيلسوف التلفزيون"، وهو الذي لا يخلق مشكلاته، الحال أن الفيلسوف الأصيل هو من يبدع مشكلاته، المشكلة لحدودها، وواجبات أوضاعها.

ومن ثمة يمكن القول، إن أنطلوجية الرجل هي تفكير انعكاسي متريث، يحن للماضي ويرسم أبعاداً بين التفكير والسلطة، الحقائق المثلى للتفكير وبين مؤسسات الدولة. إنها أنطلوجية تحطم التحفظ الاجتماعي تجاه "الحدث".

فإذا عدنا لأحد المعاجم وبحثنا عن دلالة المفاهيم التي تشكل عصب هذا المحور، فإننا سنكون ملزمين بالبحث عن معان ومفاهيم من قبيل: "الأنطلوجيا"، "الكينونة"، "الحدث"، "الواحد"، "المتعدد".... فما المعنى الذي تفيده هاته المفاهيم؟ ما هي التقاطعات والتوافقات التي أحدثها باديو في هاته المفاهيم مع الفلسفات السابقة عليه؟ كيف سترسم الأنطلوجيا معالم روح جديدة معه؟ وبأي معان يمكن القول بالرياضيات كصخب لأنطلوجيا تقول "خطاب" العالم، لا العالم؟

الأنطلوجيا عند باديو:

تكاد تذكر جل المعاجم الفلسفية، والمؤرخة للفلسفة، أن هايدغر يشكل منعرجاً مهما في تاريخ الميتافيزيقا وتربط الأنطلوجيا في شق مهم لها به، فيؤكد "أندري كونت سبونفيل"[12] أن الأنطلوجيا خطاب عن الوجود بما هو موجود، كما أكد ذلك أرسطو، وهي شق من الميتافيزيقا، مع هايدغر والهيدغريين.[13] إلا أنه تجدر الإشارة إلى كون "سبونفيل" قد أكد شيئاً يمكن القول عنه إنه شبه متعارف عليه في التأريخ للفلسفة، وبالموازاة أشار إلى شيء غير فلسفي في تعريفه لهذا المفهوم الفلسفي؛ فلنأخذ الشق الأخير من تعريفه للأنطلوجيا؛ حيث يضيف في تعريفه للأنطلوجيا قائلاً: "... والعلوم تمنحنا إفادة، وهي أن الكينونة ليست إلا حلم الفلاسفة، وأنها لا تشكل سوى شوائب الوجود"[14]، والحال أن الأنطلوجيا منذ مدة، وهي تعبير عن رغبة في فهم العالم الواقع، أو ما نفترض أنه واقع وتسعى للاتصال به، فنعثر في فلسفة دولوز[15] مثلاً توافقاً وتشابهاً بالعالم الجزيئي الذي تثبته الفيزياء المعاصرة ونظرية الأوتار المتعددة[16]، فالأنطلوجيا ليست علماً، ولكن من قصور التفكير الحكم عليها بـ "شوائب الوجود".

لقد ربط باديو بين الرياضيات والأنطولوجيا على شاكلتين، اعتبر أولا الرياضيات هي الأنطلوجيا، ثانيا الرياضيات المحضة تمثل علم الكينونة، وليست الكينونة. وربط باديو الرياضيات بهادين الشرطين يشكل منعطفاً مهماً لامس جانبين من تاريخ السؤال الفلسفي؛ يتجلى الأول في كون الرياضيات أضحت يقينية وأساسها أصبح باتاً، أما الجانب الثاني، فهو الالتفاتة في المسألة القديمة الخاصة بطبيعة "الموضوعات" الرياضية، والتي شكلت تضاربا بالنظر إلى تاريخها؛ فكانت مثالية عند أفلاطون، وأفكاراً فطرية لدى ديكارت، وفي فلسفة كانط كانت الرياضيات تعبر عن فكر يبنى في الحدس الخالص، واعتبرت في مجالات أخرى اصطلاحات كتابية منطقية..، أما آلان باديو، فقد نفى أن يكون للرياضيات موضوع، ذلك أنها -الرياضيات- مثول للمثول ما دامت بالتعريف الرياضيات هي أنطلوجيا.

استغرب باديو من إهمال الفلاسفة الوشيجة الكائنة بين الرياضيات وسؤال الأنطلوجيا، وهو استغراب عائد إلى نظرته للرياضيات، التي رأى أنها لعبت دوراً إرشادياً بدءاً بـ برميندس، أفلاطون، كانط، اسبينوزا. لقد كانت الرياضيات بالنسبة إليه نموذجا لليقين ومثالاً للهوية.

إلا أنه لا ينبغي أن نسقط في ثغرة اعتبار الكينونة رياضيات بدليل أن الأنطلوجيا تقولها الرياضيات؛ حيث إن هاته الأخيرة لا تقول العالم، إنّما تقول خطاب العالم[17]، فالرياضيات ليست هي الكينونة ولكن ما يمكن أن نقوله عن الكينونة تقوله الرياضيات؛ ومنه فالفيلسوف هو الذي يصوغ سؤال الوجود. أما الرياضي، فهو الذي يجيب عنه، والإجابة المعاصرة للرياضيات تكمن في النظرية التعددية. فلنقل هنا إن مرام باديو يتمثل في "أنطلوجيا رياضية"، لا شعرية؛ أي إن أنطلوجيته تمثل تنحية للهيدغرية، في هاته النقطة بالأساس.

يتجلى ضابط التمييز بين الأنطلوجيا الشعرية والأنطلوجيا الرياضية في كون الأولى، والتي ينتمي إليها هايدغر، مسكونة بتبديد الحضور وفقدان الأصل؛ أي إنها تنظر للحاضر كصدى للماضي الذي لا ينفك يحضر في الآني، سواء كنفي أو كإثبات، ومنه الأنطلوجيا هي تذكر الماضي والحنين إلى الأصل، أما الثانية، الأنطلوجيا الرياضية، فترتكز أساسا على البعد الطرحي[18] للكينونة، لأن الذي قد يوصلنا إلى الأنطلوجيا الرياضية هو "كانتور"، "غودل"، أو "كوهين"، وليس على طريقة هايدغر، الذي جعل من أنطلوجيته أنطلوجية شعر، واللغة اليونانية والألمانية أقرب لسؤال الوجود من أية لغة أخرى.

لكن هذا القول بالرياضيات لا يفيد أن الطرح الرياضي هو المرتجى، لأن الهدف عند باديو هو الوصول إلى ما هو غير أنطلوجي من خلال الأنطلوجيا ذاتها، فذلك ما يميز نظرة الآن باديو للوجود؛ الموزعة بين الوجود والتعدد. وبما أنه من المحال العد بالوجود كواحد حسب الرجل -كما يمكن أن نجد في فلسفة برميندس- فكيف سيكون هذا الوجود متعدداً، وبالتالي السؤال المطروح هو: هل الوجود، حسب باديو، واحد أم إنه متعدد؟

تواطؤ الوجود:

إن هاته الأنطلوجيا الرياضية التي ينادي بها آلان باديو هي أنطلوجيا تروم تقصي الوجود بمثالية أقل، وكأنها ما تفتأ تتذكر وصية ألتوسير: "لتكف أن تحكي لنفسك قصصاً بعد اليوم"، فعلاً ليست لألتوسير تمفصلات أنطلوجية ملغزة، ولكن تأثر آلان باديو بالرجل في شقه السياسي ونزعته الاحتدامية هو ما جعل باديو يفكر في أنطلوجية تسعى إلى تنحية أنطلوجية هايدغر، تلك التي تجعل الحقيقة تتمنع عن الظهور، لصالح أنطلوجيا تجعل الحقيقة مرتبطة بالوجود. إنها أنطلوجية أقل شعرية وأكثر واقعية.

يبدو أنه من السهل القول إن الرياضيات تؤدي إلى مثالية من مثل مثالية أفلاطون، والتغني بعالم فوقي، تماماً كعالم المثل الأفلاطوني أو روحانية دراسة الأعداد، الحال أن الرياضيات عنده توكيد على أنطلوجيا تختزل الأعلى، كتراتب في الطبيعة، إلى الأدنى. ومنه فالرياضيات، كعلم، هي المدخل الأكبر والأساس للوجود. ووجه الجدة في المذهب المادي، الذي كان تاريخيا دياليكتيكيا وسوسيولوجيا مع ماركس، أصبح رياضيا مع باديو.

كل تنظيرات آلان باديو تنطلق من اللبنة الأولى الأساسية؛ إن الوجود تعددية لامتناهية، واللغة تكون خادعة لنا عندما تسعفنا في الحديث عن الوجود بصيغة المفرد، لأن الوجود ليس وجوداً واحداً، والتعريف به كأنه صيغة محدودة هو أمر متولد عن غياب ميكانزمات الرياضيات في الدهن، فالوجود هو تعددية لامتناهية تتفكك إلى تعددية جديدة، والرياضيات هي وحدها القادرة على تبصر هذه التفككية اللانهائية.

وتتكون "التعددية" من الفراغ؛ فعندما تتأكد الرياضيات، الحاكمة على الوجود، أن التعددية تؤدي إلى تفكك لانهائي، فإن النتيجة المرتقبة، على الدوام، هي الفراغ؛ حيث إن الإنسان المهووس دائما باكتشاف سر الوجود، وبتعبير آخر الكائن الذي يحيا الظمأ الأنطلوجي بتعبير "ميرسيا إلياد"، لا يركن إلى شيء ويسلم أنه "الدال" الوحيد، والسبب في ذلك يرجع إلى كون الأشياء لا تحمل أية دلالة في جوهرها؛ لأنها تتفكك لانهائيا.

وهنا نقطة تبيان أخرى، بين هايدغر والآن باديو، إذ الأول يبحث بصفة مستمرة عن "إضفاء معنى عن الوجود" بالصفة الهاربة للكلمة، ولماذا هي أنطلوجيا شعرية حسب باديو؟ لأنه من المحال القبض عليها، لذلك تبقى، إن صح القول، في معميات التمني وكفى.

فالجلال الذي منحه هايدغر للوجود انتهى في نهاية المطاف لضرورة الشعر و"انتظار" الإله[19]، وهذا ما سيعده باديو، وكأنه ضرب من التريث غير المجدي، حيث إن هايدغر في هذا المقام تصور اللانهائي على أنه إله، وهو تصور يحتاج إلى إعادة نظر حسب باديو، بل إنه حتى إذا ما اعتبر اللانهائي فوضى ملتبسة، وهو ادعاء جيل دولوز، فإن ذلك يكون جمالاً ورونقاً، حسب الرجل، لا غير؛ فالعالم أكثر من أن يكون رونقاً وجمالاً ساحراً، لأنه يتشكل من قوانين صارمة ورياضية، وهذا ما سيؤكده باديو في كتابه، الذي كتبه بعد الوجود والحدث، "منطق العوالم".

لقد أكدنا أن ملتقى الحقائق[20] تقوله الرياضيات، كترابط فكري ممكن، والفلسفة تأخذ صبغة التدخل[21] في الوجود من أجل أن تطرح سؤاله، وحتى تبقى الفلسفة مواكبة لسؤال الوجود عليها ألا تنسى الموافقة التي أقامها أفلاطون بين الرياضيات والسياسة دون نسيان وظيفة الجدل؛ فأفلاطون جعل من الرياضيات والسياسة متماكنان أنطلوجيا، وهنا سيوضع الشعر مرة أخرى موضع شك، إن الأمر شبيه بالتجربة الأفلاطونية، حينما سعت لتوحيد السياسة والرياضيات، وأهمية هاته الأخيرة في تربية الناشئة، وتهيئ الملك الفيلسوف. ومعلوم أن الشعر، عصب أنطلوجيا هايدغر، كان يشكل البعد الغرائبي في المدينة الأفلاطونية، وكأنه يشكل البعد السري للسفسطة، لأنها تبلغ الذروة في الليونة وفي التلاعب اللفظي.[22] إلا أن باديو لا يقف وقفة عدائية قطعية أمام الشعر.

يؤكد آلان باديو أن الذي "يعرف لغة الوجود الرياضيون وحدهم، خصوصاً وأن الوجود ليس له موضوع"[23]. فقد أكدنا قبلاً أن الفلاسفة يطرحون سؤال الوجود، وبالمقابل يجيب عنه الرياضيون، ولكن ألا يمكن القول إن العلاقة بين الرياضيات والفلسفة ليس علاقة متلازمة، الواحدة منها تتطلب الأخرى ضرورة؟ هل بمكنتنا تحديد تراتب بين الفلسفة والرياضيات في تقصي سؤال الوجود؟

يشهد العالم، كما يذهب لذلك جيل دلوز التباسا[24]، ولذلك يؤكد آلان باديو أنه ليس للرياضيين أية حاجة إلى الفلسفة اليوم[25] إلا أنه العكس غير صحيح؛ فالفلسفة في حاجة إلى الرياضيات؛ لأن الأولى ولو أنها تعرف سؤال الوجود فهي تواقة إلى الثانية، الرياضيات، وآلياتها المنطقية الملغزة لتعرف أسرار "الطبيعة"، إذ إن هاته الأخيرة هي "الكينونة" وقد تسترت تحت لواء أسرار، يضيف آلان باديو: "لقد أشار هايدغر، وإشارته في محلها، أن لفظ الطبيعة، كلمة أساسية عند الإغريق تحيل إلى الكينونة، وهي أساسية، لأنها تشير إلى وجود الكينونة في نمطه الظاهري"[26].

إلا أنه أضاف إلى تعريف هايدغر أن الطبيعة ليست فسحة الوجود، ولكنها مجال الظاهر[27]. فهل الكينونة هي الطبيعة إذن؟ وكيف يتأسّس فهمهما؟

إن الكينونة تكاد تكون مستحيلة الفهم والإدراك، ولكن الطبيعة هي ما يجعل من الكينونة أمراً بسيطاً.[28] وهي -الكينونة- تبنى بشكل تصعدي[29] منطلقها تعدد الطبيعة وغياب موضوعها، لأن الكينونة يصعب القبض عليها، ولو باستخدام الرياضيات، أما الطبيعة فهي ما يظهر ويتمثل أمامنا، حيث إن الأولى -الكينونة- تشمل ما يظهر وما لا يظهر، ومنه فهي تحيل في دلالتها إلى مجال أوسع من ذلك الذي يخص مفهوم الطبيعة.

فإذا كان هايدغر قد أحدث منعرجاً هاماً بطرحه سؤال الوجود، واعتباره أن هذا الأخير قد سقط في النسيان، فإن آلان باديو طرح فكرة مناهضة لفكر هايدغر؛ حيث يقول: "لنعوض الغياب بالحضور"[30]؛ فبدل التأكيد على أن الوجود نسي ينبغي تعويض ذلك بـ "المشروع الأنطلوجي"[31]، كمحاولة لإرجاع الوجود إلى الطبيعة ورغبة في فهم الكينونة، والذي إن أردنا أن نحدده لا بد أيضاً، كما يقول آلان باديو: من التقعيد لمفهوم "التطبيع"[32] -normalité-.

فهل تسعفنا أفكار التعدد، والتي تعد أوليات وبديهيات نظرية المجموعات، في التقعيد والتفكير لهذا المفهوم؟ إن التطبيع هو السعي للقبض على الكينونة، التي تعتبر طبيعة لامتناهية، والكينونة تجسد لا تناهي الطبيعة[33]، ومنه التأسيس للمجموعات المتعدية[34] في الرياضيات وتعدد الموجود مبثوث في الوجود، وكما أن الوجود هو المسؤول عن خلق تعددية في الطبيعة فإنه المسئول عن إنتاج بديهيات - des axiomes- تخص الوجود ذاته[35]، أهم هاته الأخيرة أن الوجود يفوق الموجود، وأن الكينونة أرقى من الطبيعة.

بهذا المعنى، يمكن القول إن التطبيع هو جماع الإبداع الرياضي الذي يترجم القوى الطبيعية بمعادلات رياضية؛ والكينونة هي الأفق الذي ينبغي أن يطاله الفيلسوف في سؤاله، والرياضي بحسابه، وركيزة الرياضيات اليوم هي ما جاء به "كانتور"، وأجمل ما وصفت به رياضيات هذا الأخير ما قاله عنه "ديفيد هيلبرت": "لا أحد ينبغي أن يحرمنا من الجنة التي صنعها لنا كانتور".

التواطؤ الدلوزي من منظور آلان باديو:

ما الذي يجمع بين فيلسوفين وازنين مرجعياتهم الفلسفة أقل ما يمكن القول عنها إنها متباينة؟ ما الخيط الناظم الذي يجمع بين جيل دلوز، كقارئ للرواقيين، هيوم، نتشه، وبرغسون، وبين آلان باديو، إذ كان في شبابه متشبعا بسارتر، هيغل، هوسرل، وبألتوسير؟ كيف اعتبر باديو أنطلوجية دلوز؟ وكيف بوسعنا القول أن دلوز، باعتراف باديو، أحدث دويا للكينونة؟

كتب باديو عن جيل دولوز قائلا: "اكتشفت أن دولوز كان شغوفاً بالرياضيات، وكان ينهل منها استعارات باذخة، ...، كنا نلتقي حول اسبينوزا، وكان اسبينوزاه في نظري شيئا مجهولا"[36]، لقد كانت بينهما نقطا مشتركة وأخرى متباينة، وكأنهما كانا يشكلا بولشيفيا ضد فاشيا[37]، بمنطق الاحتدام نفسه، فرغم أن كتاب "دلوز صخب الكينونة" كتبه الرجل بعد وفاة دلوز، ورغم أنه يشكل في طبيعته عرفاناً بمساهمة الرجل، فإنه لا يخلو من طابع الصراع، يقول باديو: "هو كتاب يشكل الرسالة العظمى التي ستكتب بعد وفاة الرجل. إنه لا يمثل مراجعة لفكر دلوز، بل إنه يحاول أن يتمم ما لا يقبل التمام: وهي صداقة صراعية ظلت مستحيلة التحقق"[38].

يفيد معنى "التباس العالم" الدلوزي أنه لا الواحد ولا المتعدد يسعف في تفسير الكينونة أو القبض عليها؛ لأن العالم وفق دلوز لا يتأسس على نظام تصنيف ثابت، ومن ثمة فهو الذي شهر بضرورة التخلي عن توزيع الكينونة إلى واحد ومتكثر، خصوصاً وأن الخطوة المنهجية الافتتاحية للعصر الحديث قامت على أساس هاته الثنائية[39]. يقول جيل دولوز: "نفس الصوت الواحد للمتكثر ذي الألف صوت، صخب الكينونة واحد لكل الكائنات"[40]. إلا أنه ليس كل شيء، بالنسبة إلى دلوز، مفاجأة، حدث، أو إبداع، فتعدد ما يحدث ليس إلا تعبيراً على السطح المضلل؛ ذلك أن الكينونة هي الحدث الذي تتواصل فيه الأحداث جميعا.[41]

والبين أن الإشكال الأكبر لدلوز لا يتجلى في تحرير المتعدد، ولكن يتعلق بتوسيع التفكير، ليشمل مفهوم جديد للواحد؛ فبالأولى ينبغي تحديد ماهية الواحد لتبنى عليه المتعددات، كجملة من السيمولاكرات، حيث إن ميتافيزيقا دلوز لا بد من التعرف عليها كميتافيزيقا في "الواحد" وبقاياه، نفس الكينونة الواحدة للممتنع وللمكن وللواقعي، لأن أساس كل الأعراض لا يمكن أن يكون سوى "واحد". حيث إنه لا يوجد إلا الاختلاف، ولا يوجد خلف هذا الأخير سوى الاختلاف نفسه، ولهذا الذي يفهم الوجود حسب الرجل -دلوز- هو دان سكوت[42].

إننا نتحسس ونحن نقرأ كتاب آلان باديو هذا "دلوز صخب الكينونة" أن دلوز قد نبّه آلان باديو إلى شيء غاية في الأهمية، وهو أن الكينونة محايدة ومتساوية، والأفراد هم المختلفون، فالكينونة لا تقبل التقويم.[43] وذلك بالمعنى الذي يقول به نتشه عن الحياة لا يمكن تقويمها. إلا أنه في إطار كنه الكينونة المتساوي يوجد ما هو غير متساو وبالمقابل متواطؤ[44]، وهو التفكير، ومنه فما دام دلوز يعتبر "الوجود سابق بالضرورة على آثاره"[45]؛ فإنه على منوال الرواقيين يتفكر الوجود بكونه متراتبا.[46]

قيمة الفلسفة تتمثل أساساً في صياغة سؤال الوجود، والرياضيات تجيب عنه، مما يستوجب على الفلسفة التسلح بميكانيزمات الرياضيات في التفكير

لكن ما يعيبه جيل دلوز عن هايدغر هو كون هذا الأخير حصر مهمة الفلسفة في التفكير، يقول جيل دلوز: "ليس من المتاح أن يخلق الوعي هدفاً مباشراً للتفكير، خصوصاً وأننا لا نشرع في التفكير إلا تحت قهر وضغط، ...، والحال أنه لكي نشرع في التفكير لا بد من أن نلتفت قليلاً عن الوعي، فالوعي ليس هو المبتغى من التفكير، حيث إن الإشكالات تفلت ضرورة من الوعي"[47] ويضيف دلوز مستنداً في ذلك على ماركس. "إنه ومن مرتكزات الوعي أن يكون وعياً زائفاً"[48]. وبتعبير أدق إن الوعي ليس هو الغرض الأسمى في الوجود، لأنه أحياناً قد يكون شيئاً نشازاً، فيستطيع أن يقوم بتنحيتنا عن جادة الصواب، وكأن دلوز هنا يدعو لضرورة قراءة واعية للوعي؛ قراءة غير فلسفية للفلسفة، وقراءة فلسفية لهاته الأخيرة، إن التفكير بالضبط هو انبساط الكينونة كعناصر متخارجة في أحوال متكثرة لهاته الكينونة، والذي يضع هاته الأخيرة على المحك هو الأشياء والأسماء، التي تكون سجلات للكينونة. فما هي بالضبط حدود هايدغر بالنسبة إلى دلوز؟

من جهة، يوافق دلوز على تثمين حركة هايدغر حيث "قد يبدو أنه تخطى القصدية لصالح الهيرمونيطيقا" وأحدث قلباً في العلاقة "وعي - موضوع" من خلال المرور من الفينومينولوجيا إلى الأنطلوجيا، إلا أن هايدغر لم يقطع مع القصدية، من منظور دلوز إلا ليحتفظ بها على نحو آخر.

ومن جهة أخرى نفس ما يؤكده دلوز أعرب عنه نتشه حول هادغر؛ يقول نتشه: "هايدغر كاهن مكار، لا يقلب إلا ظاهراً القصدية والوعي، إنه بقي حبيس الفينومينولوجيا بالمعنى الذي تكون به مزكية للكثير من الأشياء"[49]. ولكن ضابط التعارض بين دلوز وهايدغر يتجلى في كون الأول يعتبر الثاني لا يذهب للأقصى في الأطروحة الأساسية التي تضفى على الكينونة صفة الواحدية، فتصبح الكينونة واحدة، بل إن هايدغر من منظور دلوز ما يفتأ يعيد القول المأثور لأرسطو: "إنما تقال الكينونة على معان كثيرة. إلا أن هذا "التعدد" الكينوني الذي يقر به هايدغر، والذي ظل وفياً فيه لأرسطو، لا يسع جيل دلوز الذي تبصر الكينونة كواحدة وصخبها متعدد.

لقد دافع دلوز على أنه لم يكن ثمة غير قضية أنطلوجية: الكينونة متواطئة، إلا أن هذا التواطؤ لا يفيد أن الكينونة واحدة من حيث العدد، لأن الواحد هنا ليس واحد التعداد والمطابقة، الحال أن اقتدار الكينونة يكمن بالأحرى في أن الكائنات متكثرة ومتمايزة، منفصلة ومتباينة، شتات بلا جميعة[50]، وبالمقابل ليس التواطؤ تحصيل حاصل ولكنه يتناسب بالتمام مع وجود الأشكال الكثيرة للكينونة. ولنقل أنه بتعدد هذه الأخيرة يُتعرف على الواحد، كما هو في نظر اسبينوزا؛ حيث الجوهر تعبر عنه في الحال صفات لامتناهية.[51]

ونظرة جيل دلوز في تواطؤ الكينونة هي ما حكم علاقته بتاريخ الفلسفة[52]، حيث أظهر ميولا لأولئك الذين أكدوا بصريح العبارة أن للكينونة نفس الصوت الواحد، بل لأنه يجسد التيار القائل بتواطؤ الكينونة -دونس سكوت، اسبينوزا، الرواقيون- عده البعض مؤرخاً للفلسفة[53] وليس فيلسوفاً، إلا أن أطاريح الرجل الفلسفية القوية تجعل من هذا الانتقاد خافتة الصوت، الحال أن دلوز لم يقل بوحدانية الوجود عدداً، وقال إن تعدد الأشكال لا يفضي إلى قسمة الكينونة، باعتبارها كثرة المعنى الأنطلوجي، وبعبارة أخرى إن دلوز نبه إلى أن الكينونة تقال بعين المعنى الواحد على أشكالها جميعا؛ إنها متمايزة صورياً ومتساوية أنطلوجياً.

لكن ألا يمكن القول إن هذه القضية التي يقول بها جيل دلوز -كل كثرة محلها الأنطلوجي هو محل واحد- قال بها أفلاطون؟ وإذا كانت كذلك فأين المشروع النتشاوي -قلب الأفلاطونية- الذي يجعل منه دلوز طرحاً مسعفاً في فهم الكينونة؟

إن لهذه النتيجة مظهراً أفلاطونياً، بل أفلاطونياً محدثاً، ولكن دلوز يتماشى وقلب الأفلاطونية من خلال إعلائه من شأن السيمولاكر، كنسخ للأصل، وإثبات ضوابطها[54] وبهذا فقد جعل آلان باديو من الدلوزية أفلاطونية مشكلة من جديد؛ تجري فيها الكائنات مجرى السيمولاكرات؛ ودلوز لا يفكر على الإطلاق في إعدام هاته الأخيرة، بل ينبغي إثبات حقها كشهادة للاقتدار المتواطئ للكينونة. زد على ذلك، أن أفلاطون في إطار تمييزه بين المحسوس والمعقول أثبت أن الواقع لا ينبغي أن يبنى إلا على الأساس الذي يكون من خلاله السيمولاكر سيمولاكراً؛ ولا مخرج من هذه الدعاوى والمماحكات إلا بتنزيل "الواحد". تلكم فروقات الدلوزية والأفلاطونية. ويوافق باديو جيل دلوز عندما يقول: "وحده الإنسان الحر بمقدوره أن يتفهم أشكال العنف كلها في عنف واحد، الأحداث القاتلة كلها في حدث واحد"[55].

فهل تمجيد السيمولاكرات كصفة موجبة لوحدانية الكينونة هو قلب للأفلاطونية؟

يبدو أن الإشكال في هذا المقام هو إشكال الأسماء، حيث يتولد عن السؤال السابق أسئلة أخرى. ماذا عسى أن يكون الاسم لما هو متواطئ؟ هل تسمية المتواطئ هي نفسها متواطئة؟ ثم هل يمكن تجريب اسم للكينونة يكون المعنى المتواطئ؟

إنه لصحيح حسب دلوز أن التمييز بين المعاني هو تمييز واقعي، إلا أنه ليس تمييزاً عددياً ولا هو أنطلوجيا، لكنه تمييز شكلاني، كيفي، دلالي، ومنه فالكينونة لا يمكن أن تنحصر في التمييز العددي للأسماء؛ فهي لا تتطابق ضرورة مع شتى الوحدات الاسمية. ولكن هذا المتواطئ يستحيل أن ننعته باسم واحد، يقول آلان باديو: "إلا أنه ما يتجلى مع تطور التجارب أن اسماً واحداً لا يكفي البتة، إذ أنه لابد من اسمين -....، وذلك بالنظر إلى كثرة السيمولاكرات، ورغم ذلك ليس ثمة أي تمييز واقعي، كما عند اسبينوزا، الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، لكن من جهة الأسماء لا بد من توزيع ثنائي - هو بمثابة التشديد على فكرة تواطؤ الكينونة، حينا في مادتها المباشرة، وحينا آخر في أشكالها وتحيناتها."[56] وهذا تنحية للأفلاطونية.

فشرط إضفاء المعنى هو تعدد الأسماء؛ أي إنه حسب دلوز، في نظر باديو، لابد من اسمين حتى يسعفنا القول إنه لا يوجد إلا معنى واحد، وهو أمر ظل قائما منذ أفلاطون إلى هايدغر، عند تمييزه بين الكينونة والكائن. أما جيل دلوز، فقد قدم مجموعة موسعة من أزواج المفاهيم لتثبيت صفة الكينونة بصفتها فاصلاً في تحديد المعنى؛ وليس لائقاً القول، مع دلوز، أن تعدد الأسماء يكون حسب تعدد الحالات، إذ سيظهر أن مقولة التواطؤ تضفى على أقصى تقدير في عشرة أزواج أساسية.[57]

خاتمة

نستشف أن أنطلوجيا باديو تفيد تواطؤ الكينونة؛ وأن الكائنات متكثرة ومفترقة؛ أي إن الكينونة صوت يُقال وينقال بعين المعنى، ولهذا السبب ارتأى باديو تسمية كتابه حول دلوز بـ "صخب[58] الكينونة"، كون دلوز جعل للكينونة صوتاً، ووعى بأن هذا الصوت واحد رغم الأصوات الكثيرة، وما يقال عن الكينونة ليس البتة هو هو، إلا أن الكينونة هي هي، رغم ما يُقال عنها من المعاني، ومنه تخص الكينونة الحدث الأوحد لكل ما يحدث من أشياء متمايزة، تكون الكينونة هنا كشكل أقصى للأشكال كلها التي تبقى مستقلة، كينونة واحدة لكل المرات والأشكال[59]؛ شبح واحد لكل الأحياء.

لنقل بما أن الكينونة، بين دلوز وباديو، هي الحدث الأوحد الذي تتواصل فيه كل الأحداث، وبما أنها لا تقال دونما تحدث، فإن التواطؤ يحيل إلى "ما يحدث" وإلى "ما يقال". إنه جماع الحدث والمعنى، والحال أن للتواطؤ سمتين رئيسيتين: -حدث واحد لكل الأحداث- عين الكينونة الواحدة للممتنع، للممكن، وللواقعي.[60]

يؤمن آلان باديو بأن مجاورة أفلاطون هي مجاورة لهيغل؛ فهذا الأخير، هو الآخر، ينزل قابلية فهم الكائن ضمن صيرورة الواحد[61]، والذي هو في الوقت نفسه الواحد بصفته صيرورة. إلا أن الفكرة المهمة التي يضفيها آلان باديو على المفهوم الفلسفي للزمن، بعد اعترافه بمجهودات هيجل ودلوز في هذا الباب، هي التركيز على مفهوم "الحضرة"، وتبيان العلاقة الجدلية بين الزمان والحقيقة، حيث يقول: "يشتق مفهوم الزمان في تقديري من مفهوم الحضرة[62]، وهو في الآن نفسه متعدد، ومن اللازم التفكير في الحقيقة كوقف وانقطاع، لا كزمان أو كينونة لا زمانية للزمان".[63]

وعلاقة التفكير بالزمان هي أميل، عند باديو، لاعتبار دلوز، خصوصاً عندما يقول هذا الأخير: "أن نفكر أي نرمي قطع النرد"[64] ولماذا يمكن أن نعتبر هذا ميل لدلوز على حساب هيغل؟ لأن طبيعة الذاكرة عند دلوز هي افتراضات وتفرقات، وفي اعتبار هيغل هي أطوار، أشكال، كبرى، والواحد هو السائد دائماً، ومنه أن نفكر أي نلغي الزمن، لأن الحقيقة نساءة، وإنها -الحقيقة- على عكس ما يذهب إليه هايدغر، هي نسيان النسيان، وهذا الأخير ليس نسيان هذا أو ذاك، إنما هو نسيان الزمان نفسه. يقول آلان باديو: "إن في نسيان الزمن تتولد الحقائق المثلى". خصوصا وأن الحقيقة لا تنفصل عن المسار الذي يؤسسها كما ينبهنا فوكو.

ولقد أكدنا أن أنطلوجيا باديو، بتحليلها الأنكلوفوني، قد سعت للدفاع عن فلسفة هايدغر أمام الاتجاهات التحليلية، وكذا المذاهب الانكلوجكسونية كالاتجاه النفعي الذي صور فلسفة هايدغر ببسالتها وقوتها على أنها غير لائقة لتطلعات مجتمع الاستهلاك والنفع، والحال أن شرذمة من هؤلاء المفكرين الاستهلاكيين انتهوا بأفكارهم المبيتة إلى إمبريالية كسحت العالم كسحا لمصالحها الخاصة، دون الكونية. أما فلسفة هايدغر، فقد كان لها فضل كبير في تقصي سؤال الوجود، مما جعل آلان باديو يشكل عرفانا لها قبل أن ينتقدها. فبين مرحب ومستنكر لأنطلوجيا هايدغر استبان باديو أن الرجل هو آخر فيلسوف قبله تقصى سؤال الوجود عن حق.

غير أن أنطلوجيا باديو هي رياضيات بالأساس؛ نذكر قولته الشهيرة "Ontology is mathematics"، بينما هايدغر، من منظور باديو، يؤسس لأنطلوجيا شعرية، صحيح أن باديو يتغنى بالشعر، كتيمة جمالية، ويمدحه في مقامات عديدة، إلا أنه لا يسعفنا في الوصول إلى الكينونة؛ فهاته الأخيرة ليست هي الرياضيات، ولكن ما يمكن أن نقوله عنها تسعفنا فيه الرياضيات، ذلك أن هاته الأخيرة هي علم الوجود وليست الوجود، تقول هذا الأخير وليست هي عينه، وهو ما عبر عنه آلان باديو، كما أشرنا سابقا، بمفهوم "التطبيع" normalité، كمحاولة بشرية، وإن شئنا علمية، للقبض على الكينونة، إلا أن باديو نفى أن يكون للرياضيات موضوع، لأنها حسب الرجل هي "مثول"، وغياب موضوعها هو ما يشكل ماهيتها، فذلك ما يثبته تاريخها منذ برميندس.

أما قيمة الفلسفة، فتتمثل أساساً في صياغة سؤال الوجود، والرياضيات تجيب عنه، مما يستوجب على الفلسفة التسلح بميكانيزمات الرياضيات في التفكير، فيصبح فعل التفلسف شبيه بـ "رمية النرد"؛ حيث إن الرياضيات تسلم بلاتناهي الوجود، ورمية النرد الحقة تتسم بثلاث سمات؛ أولها أنه لا توجد إلا رمية نرد واحدة، وما ينتج عن هاته الرمية هو تمييزات عددية لا تتمايز إلا شكلانياً؛ أي إن كل التصريفات السطحية لا تشكل سوى سيمولاكرات الرمية الكبرى. ثانياً، رمية النرد الوحيدة هي إثبات للاتفاق برمته، الاتفاق من حيث هو رمية الرميات جميعاً، وهو اعتبار يجعل من التفكير متاحا للجميع وليس حكراً على أشخاص، فالتفكير بالتعريف حسب باديو هو أن نجعل الفرادات النكرة تتكلم، وكما أوضحنا فباديو لا يدعو الفيلسوف ليتحدث في كل شيء، بل إن الفيلسوف حتى لا يكون "مفكر التلفزيون"، على حد تعبيره، عليه أن يخلق موضوعه، وعليه أن يعيش حالة أجنبة، لأن الالتزام الفلسفي يقتضي أجنبة داخلية حتى لا يصبح الفيلسوف أسير الأيديولوجيا.[65]

أما ثالث هاته السمات فتتجلى في فكرة العود الأبدي؛ حيث إن الرمية نفسها هي التي تعود؛ وهي فكرة الواحد الذي يعود دائما بصفته كينونة فعالة للأحداث جميعا، على اعتبار أن العود الأبدي هو الإثبات المتواطئ منبسطا في "الأحداث" كلها التي تحل بالكينونة.[66] والرياضيات تعرف شيئاً عن هاته السمات.

وسوف يعتبر باديو، صراحة وضمنا، أن جيل دلوز نبهه إلى أن الكينونة لا تقبل التقويم، بالمعنى الذي قال به نتشه إن الحياة لا يمكن تقويمها، كون الكينونة متساوية والأفراد هم المختلفون، إلا أنه تحت لواء وحدة الكينونة المتساوية يوجد ما هو متواطؤ.

ويضع باديو على عاتق الفلسفة مهمة الحياة والسعي ما أمكن لتجويد هاته الأخيرة، ولا يتوان في مواجهته الجريئة لأجندة تروم مصالحها، بما في ذلك الليبرالية اليوم، أو بالأحرى الديمقراطية التي لا تتناسب شعاراتها الرنانة مع مراميها الاستغلالية. وكل هاته الادعاءات كانت بهدف تحقيق مشروع إيتيقي خالص غايته بلوغ سعادة كونية. فقد أكد صاحبنا -في كتاب ميتافيزيقا السعادة- أن كل فلسفة، وإن كانت ملغزة بمعارف علمية معقدة، وبآثار فنية مجددة، وبحالات حب كثيفة، إنما هي ميتافيزيقا السعادة، وإلا فهي لا تستحق أية لحظة عناء.[67] وهو ما يؤكد أن فلسفة الرجل هي فلسفة حياة.

 

المصادر والمراجع:

باللغة الفرنسية:

- Alain. Badiou, L’être et l’événement, édition du SEUIL, janvier, 198.

- Alain Badiou, l’aventure de la philosophie français, imprimer en France par l’imprimerie CPI Firmin Didot, jiuillet 2014.

- André comteـ Sponville, Dictionnaire philosophique, quatrième édition "Quadrige" 2013 Septembre. Presse universitaire de France.

- Alain Badiou, Deleuze le clameur de l’être, Hachette littératures, 1997.

- Alain Badiou, Métaphysique du bonheur, Réel Paris. P.U.F. 2015.

باللغة العربية:

- مارتن هايدغر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، مراجعة اسماعل مصدق، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2012.

- مارتن هايدغر، التقنية ـ لحقيقة ـ الوجود، ترجمة: محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح. المركز الثقافي العربي، المغرب.

- عبد السلام بن عبد العالي، هايدغر ضد هيغل. التراث والاختلاف، الطبعة الثانية 2002

- عادل حدجامي، فلسفة جيل دلوز عن الوجود والاختلاف، الطبيعة الأولى 2012


 

 

[1] مارتن هايدغر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، مراجعة إسماعيل مصدق، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2012 الصفحة 49

[2] عبد السلام بن عبد العالي، هايدغر ضد هيغل. التراث والاختلاف، الطبعة الثانية 2002، ص: 41

[3] مارتن هايدغر، التقنية ـ لحقيقة ـ الوجود، ترجمة: محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح. المركز الثقافي العربي، المغرب، من الصفحة 137

[4] Alain. Badiou, L’être et l’événement, édition du SEUIL, janvier, 198, la page 7,8

[5] A. Badiou, L’être et l’événement, la page 8

[6] Une époque complexe.

[7] أي قبل باديو، حيث إنه يعتبر هايدغر هو الفيلسوف الأكبر الذي خصص جهدا حقيقياً للبحث الأنطلوجي والكينونة. أما جيل دلوز، فقد اعترف به كمعاصر له، وذلك في كتاب: دلوز صخب الكينونة.

[8] Ibid, page: 8,9

[9] Créatrice.

[10] Le moment philosophique.

[11] A. Badiou, l’aventure de la philosophie français, imprimer en France par l’imprimerie CPI Firmin Didot, jiuillet 2014, Page 12

[13] André comteـ Sponville, Dictionnaire philosophique, quatrième édition "Quadrige" 2013 Septembre. Presse universitaire de France, "Perspectives critique". Paris. La page: 647

[14] Ibid. p 647

[15] وهو الذي سيقول عنه آلان باديو إنه جعل للأنطلوجيا صخبا فريدا، ونفى عنه صفة مؤرخ الفلسفة وكفى.

[16] عادل حدجامي، فلسفة جيل دلوز عن الوجود والاختلاف، الطبيعة الأولى 2012، الصفحة: 7

[17] A. Badiou, l'être et l'événement, la page 14

[18] Soustractive.

[19] أنظر حواره مع مجلة "Der Spiegle".

[20] La conjoncture.

[21] Intervenante.

[22] آلان باديو، بيان من أجل الفلسفة، ص ص: 8، 9

[23] A. Badiou, l’être et l’événement, la page: 15.

[24] A. Badiou, Deleuze le clameur de l’être, Hachette littératures, 1997. La page: 18

[25] A. Badiou, l’être et l’événement, la page: 17. Les mathématiques n’ont aujourd’hui nul besoin de la philosophie.

[26] Ibid la page: 141

[27] Ibid., p.141

[28] Ibid. , p. 147, 147

[29] Maximalement.

[30] Ibid., p.142: … substituer le manque à la présence

[31] Ibid.,p. 149

[32] Ibid ,p. 149

[33] Ibid.,p.150

[34] Les ensembles transitifs.

[35] Ibid, la page 151

[36] Alain Badiou., Deleuze le clameur de l’être. p.8

[37] Ibid., p.9

[38] ibid., p. 15

[39] ibid., p.19

[40] Ibid., p.20

[41] Ibid., p.20

[42] عادل حدجامي، فلسفة جيل دلوز عن الوجود والاختلاف، الصفحة: 181

[43] Alain Badiou., Deleuze le clameur de l’être., p.23

[44] Ibid., p.167

[45] عادل حدجامي، فلسفة جيل دلوز عن الوجود والاختلاف، الصفحة: 179

[46] معلوم أن التفكير الفلسفي عند دلوز ليس في متناول الجميع، ولكنه أيضا ليس متمنعا عن الكل، أما حسب باديو فـ "لتفكير هو أن نترك الفرادات النكرة تتكلم".

[47] Deleuze, Différence et répétition, a partir d’ouvre d’Alain Badiou, Deleuze le clameur d’être., p34, 35

[48] Ibid., p. 34

[49] Ibid., p. 37, 38

[50] A, Badiou, la logique du sens, à partir de: Deleuze Le clameur de l’être., p. 41

[51] A, Badiou, Le clameur de l’être., p. 39, 40

[52] هاته الادعاءات التي ترى في المتن الدلوزي مؤرخا للفلسفة فقط، قد نفاها نفيا مدللا عليه الدكتور عادل حدجا مي في كتابه "فلسفة جيل دلوز عن الوجود والاختلاف".

[53] Ibid., p.41

[54] Ibid 42.

[55] G. Deleuze., la logique du sens, p. 179. A partir de: Badiou., Deleuze le clameur de l’être., p. 43, 44

[56] A. Badiou., Le clameur de l’être, p. 46

[57] Ibid, p. 46

[58] Le clameur.

[59] Ibid, 167, 168

[60] Ibid., p. 169

[61] Ibid., p. 96

[62] La présentation

[63] Ibid., même page.

[64] Ibid., p. 47: penser c’est lancer les dès.

[65] ibid, 111, 112, et 113

[66] ibid, page, p. 111

[67] A. Badiou, Métaphysique du bonheur, Réel Paris. P.U.F. 2015. Page 7

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك