الاتجاهات العلمية في الإسلام

الاتجاهات العلمية في الإسلام

رشدي راشد*

يبدو أن الدراسات التاريخية المتأخرة قد سمحت لنا بتأكيد قضية لم تخضع لدينا قط لشك أو ارتياب، ومفادها أنه في غضون خمسة قرون، استمر البحث العلمي الكلاسيكي سواء من حيث الكثرة أو الزخم في الظهور والازدهار وخاصة في دار الإسلام وباللغة العربية.

فيما بين القرنين الثامن والرابع عشر الميلاديين اكتمل عقد البحث العلمي بشخصيات علمية بارزة كالخوارزمي أول من كتب في علم الجبر، وابن الهيثم الذي ندين له بأول ثورة علمية في مجال المناظر خصوصا والفيزياء على وجه العموم، وعمر الخيام الذي وضع أسس فرع جديد في علم الرياضيات وهو الهندسة الجبرية. غير أنه وعلى الرغم من عظمة هؤلاء وزخم وثراء عطائهم، فإن البحث العلمي لم يتخذ طابعا فرديا فحسب بل قامت به هيئات منظمة من العلماء مثلت مجموعات بحث تنتمي إلى مدارس قائمة. ولنضرب مثالا هنا عدًّا لا حصرا من أواسط القرن التاسع الميلادي بالآثار العلمية لمجموعة بني موسى في الرياضيات والفلك والميكانيكا. أو من القرن الثالث عشر بمدرسة مراغة بمراصدها وفئات باحثيها في علم الفلك.

وعلى الرغم من هذا الإلمام بتاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية, فإن علماء القرنين الأخيرين وكثير منهم من القرن الحالي لم يجدوا غضاضة من اعتماد تحقيب تاريخي تم اقتراحه بداية في إطار مساجلات عرفها القرن السابع عشر قبل أن تتحول إلى نظرية في التحقيب التاريخي مع المنهج الوضعي لأوجست كونت من جهة وإلى تصور نظري في الإنتروبولوجيا مع الفلاسفة الألمان في العصر الرومانسي من جهة أخرى.

ولقد عرف هذا التحقيب طريقه للنور في خضم السجال الذي دار بين القدماء والمحدثين بالإضافة إلى أن الميل لصالح فلسفة الأنوار كان سببا في ظهور فكرة التحقيب تلك.

وترتد فكرة التحقيب هذه إلى تصور تحكمه ثنائية العصر الوسيط والعصر الحديث وهكذا وحسب هذا المنظور تكون العلوم قد تطورت في ثلاث مراحل: 1- القديمة, و2- الوسيطة, و3-الحديثة.

ولعل هذا التحقيب المحكوم بتصور ثنائي كان فكرة محبذة لدى فلاسفة عصر الأنوار ومفادها أن التطور اللانهائي للعلم يتم تحقيقه بواسطة إزالة مستمرة للأخطاء. هكذا فإن هذه الثنائية والتي صارت بشكل تدريجي قدرا مقدورا من خلال دورها البسيط في عملية تعيين مراحل التطور الزمني أو مراحل التطور البشري -والذي تم تصوره من قبل كوندورسي مثلا كلا واحدا لا يتجزأ - قد تحولت- سواء بشكل اعتباطي أو مقصود- هي نفسها إلى أداة ستستخدم لدى الدارسين للتمييز بين وضعيتين تاريخيتين متباينتين.

وبناء على ذلك, فليس مهما أن نتصور العلم الحديث بوصفه تجاوزا جذريا للعلم الوسيط أو تطورا طبيعيا له أو بوصفه الامتداد المباشر لعلوم اليونان متجاوزا بذلك -وبضربة واحدة- العلم الوسيط.

هكذا فإننا نرى أن تلك الثنائية ومعها مفاهيم مثل العلم الحديث والعلم الوسيط تتأسس على مصادرة تقول إن النشاط العلمي المعاصر ينتمي إلى علم واحد أو أنهما وببساطة يوجدان في المستوى نفسه.

ومهما يكن الموقف الذي نتبناه فإننا سنكتشف سريعاً أننا سنواجه عقبات يستحيل تجاوزها.

ولعل أولى هذه العقبات تتعلق بتعدد معاني كلمة الوسيط. فلا شيء يضمن لنا وجود تعاصر وجودي للهوية (الهوية بمعناها المنطقي) ولا لوجود تشابه ايضا بين الاهتمامات المعرفية والمنطقية. وبمعنى آخر هل يجوز لنا أن نطلق مصطلح الوسيط على العلوم اللاتينية والبيزنطية والعربية ضربة واحدة؟

وليس مستغرباً أن نجد المؤرخين يتحاشون مواجهة هذا السؤال, فهم لا يطرحون القضية بإعادة تأسيس هذه العلوم أو ما نتج عنها من معارف واحدة واحدة.

إلا أنه وما دام المؤرخ عاجزا عن تحديد -أو حتى تصور- وجود ملمح مشترك وراء علوم العصر الوسيط من رياضيات وبصريات وفلك وغيرها، فإن التسلسل التاريخي الذي يقيمه هذا المؤرخ بين المدارس العلمية المختلفة يسقط تلقائيا, ومعه ينقلب التحقيب المقترح رأساً على عقب.

وثمة قضية أكثر جدلا تثور من استعمال مصطلح الوسيط لوصف علوم تنتمي إلى إطار ثقافي واحد. وعلى سبيل المثال فإنه لا يجدي عمدنا إلى تلمس الأسباب لتبرير استعمال المصطلح لوصف جهود ليوناردو البيزاني (أوائل القرن الثالث عشر) وليس جهود لوقا باشيولي (نهاية القرن الخامس عشر) أو استعماله بخصوص الكراجي (نهاية القرن العاشر) وعدم استعماله مطلقا لوصف جهود اليزدي في بدايات القرن السابع عشر.

وكل هذا يوحي بأن ثنائية الوسيط والحديث لا تنسجم مع النشاط العلمي, وأنها -تبعا لذلك- ليست أداة إجرائية ناجحة في عملية التحقيب.

وعلى العكس من ذلك فإن هذه الثنائية توشك أن تحرف النقاش المهم والمتعلق بقضية الحداثة الكلاسيكية. إنه من الواجب على العقول أن تتحرر لكي ينقلب هذا المنحى التصوري بدأ وقبل كل شيء عن طريق تعميق المعرفة بمكونات هذه العلوم التي أريد لها أن تنحشر تحت مظلة واحدة وهي مظلة مفهوم الوسيط, وهكذا ومن خلال هذا التصور الجديد فإن الملامح المميزة لكل مدرسة علمية ستظهر لا محالة.

إن ما نقصد إليه هو استقطار هذه الملامح المميزة ومن خلال ذلك بيان محاور التطور لهذا النشاط العلمي في إطار ما وصلت إليه معرفتنا الحالية. وهذا المنحى يفرض علينا منحى جديدا.

إن ما يقع فيه مؤرخو العلوم من خطأ هو حشر العلوم الإسلامية ضمن وضعية تاريخية واحدة (الوضعية هنا بمعناها الفلسفي لا اللغوي) إن هذا التصور مرتبط بالجانب العرقي أكثر من ارتباطه بالتحديد التاريخي, وهكذا فإن البعض يتحدث عن علوم عربية مقابل علوم أوروبية, بل إن بعض الآراء الديماغوجية والوطنية الحديثة حفزت آخرين للحديث عن علوم عثمانية وفارسية ومغربية غير أننا سنظل عاجزين عن الإمساك بتاريخ العلوم الإسلامية ما لم نضعها ضمن أفق ظل دائما أفقها، وخصوصا الأفق العالمي للعصر القديم.

لقد كانت العلوم في الإسلام مكونا رئيسيا من مكونات العلوم الكلاسيكية والتي تميزت بملمحين هما:

- أولا: عقلانية جديدة جبرية (نسبة للجبر الرياضي) وتحليلية.

- ثانيا: التوجه العلمي الجديد نحو التجربة بوصفها أساس الاستدلال في علم الفيزياء ومقوما من مقومات النقد في البحث العلمي. ويمكن هنا أن نستدعي نقد الكندي لأقليدس ونقد الرازي لجالينوس ونقد ابن الهيثم لبطلميوس. ولقد عرفت الإسكندرية وبَرغا جزءًا من هذه العلوم الكلاسيكية في العصر الهلليني وتأسست أجزاء أخرى منها في بغداد وطوس والقاهرة وأخيرا انتقلت إلى أوروبا إبان القرن السابع عشر. وإذن فإن الضرورة تقتضي تجنب التصور العرقي الإثنوغرافي بكل تجلياته والذي سقط فيه أكثر المؤرخين لكي نستطيع فهم النشاط العلمي الكلاسيكي.

وثمة ممارسة أخرى للمؤرخين وجب الابتعاد عنها وتتمثل في تصنيف المساهمات المختلفة للعلماء على أساس جغرافي وعلى أساس الاختصاص, ومن خلال اعتماد مقياس وجود مؤلفات مكتوبة لهذا العالم أو ذاك وهكذا فإنك تجد العالم الفذ الجهبذ وقد وضع إلى جانب من هو دونه منزلة ومرتبة وبالسير على هذا المهيع فإننا نحكم على أنفسنا بإساءة فهم بروز وتطور العقلانيات العلمية ومن ثم سيؤدي هذا إلى عدم فهم أي شيء بالمرة.

ومن جهة أخرى فإن أية محاولة للفهم فإن طريقها الوحيد هو الرجوع تلك الاتجاهات العلمية ذاتها حيث ستكون مهمتنا هي إعادة بناء هذه الاتجاهات العلمية التي قطعت شوطا ما في هذا الحقل المعرفي أو ذاك.

وعلى الرغم من ذلك فإن مفهوم المدرسة أو الاتجاه ذاته ليس سهل التناول. وفي الواقع فإنه من غير الكافي أن نعتمد على وصف تجريبي بسيط لفهم اتجاه علمي ما, وخصوصا استدعاء الأسماء والعناوين والمعاهد وشبكات تبادل المعلومات. ومع أن هذا يسهل تموضع اتجاه علمي ما، إلا أنه لا يمكننا من تحديده أو التدليل على تأسيسه.

كما أنه يتوجب علينا تحديد مساره زمنيا أي بدايته ونهايته وبيان حدوده آخذين الحيطة من الخبط العشوائي المتسرع عبر ارض لزجة لتاريخ حي.

لمفهوم الاتجاه بعدان أساسيان: الأول مادي واجتماعي وهو ما ساطلق عليه مصطلح (قابلية التشيؤ), ويتطلب إعادة تكوين وقائع مسار العلم في بعدها المادي وللوصول إلى ذلك وجب علينا فحص النصوص سواء تعلق الأمر بمخطوطات أو كتب مطبوعة وفحص شبكات انتقال الأفكار والتي تدور حول المحاور الرئيسية وفحص السياق الاجتماعي إلى غير ذلك.

وباختصار فإن هذا التوجه يفيد في النظر إلى الأعمال العلمية بوصفها إنتاجاً مادياً وثقافياً أنتجه الإنسان في زمان ومكان معينين. والبعد الثاني ذو طابع مفهومي مرتبط بالإطار النظري الذي ينتمي إليه الإنتاج العلمي(1).

ولنعمد الآن إلى هذه المدارس العلمية مركزين على علم الرياضيات والتي اقترح بيان اتجاهاتها الأساسية, لكن لفهم بزوغ وتكوين هذه الاتجاهات علينا استدعاء حدثين حاسمين: ففيما كانت هذه الاتجاهات في مرحلة نموها خلال القرن الثامن فإنها خرجت للوجود في القرن الذي يليه. وينبغي الحديث هنا عن امتداد وتوسع للرياضيات اليونانية وليس عن مجرد نقلها إلى العربية وعن تشكل علم الجبر بوصفه اختصاصا مستقلا بذاته داخل علم الرياضيات.

لقد لوحظ في القرنين التاسع والعاشر نشاط مكثف في ترجمة النصوص اليونانية المهمة في علم الرياضيات والفلك والطب والفلسفة. وثمة حركة ترجمة أخرى وإن كانت أقل حجما شملت ترجمة المساهمات العربية إلى اللغة اللاتينية والتي انطلقت في القرن الثاني عشر. وربما ادى النظر السطحي بالعقول الساذجة إلى الاعتقاد بأن هذه الاتجاهات تأسست من خلال اكتشاف اعتباطي للكتب وبسبب تقلبات الظروف.

غير أن دراسة نسقية لهذه الحركة مع الكتب المترجمة ستمكننا من القول بأن هذا النشاط كان مرتبطا بحركة بحثية نشيطة عرفتها المرحلة نفسها والتي عرفت ازدهارها في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية كعلوم اللغة والتاريخ والفقه وعلم الكلام والفلسفة ثم في مجال الرياضيات.

ومع ذلك فإن التفصيل في الحديث عن هذه الحركة يخرج بنا عن مقصود هذا البحث وإن كان غرضنا من التعريج عليها هو تقديم بعض الأمثلة التوضيحية(2).

ولنستدع مثالا من عمل ثابت بن قرة المتوفى عام 901 والذي يمثل -إن صح القول- عَلَماً مثالياً من أعلام الرياضيات وهو الذي كان مترجما في الآن ذاته. وبوصفه مترجماً لكتاب المدخل إلى علم العدد في علم الحساب لنيقوماخوس الجراشي وخبيرا في علم العدد للمدرسة الفيثاغورية الجديدة فقد كان على علم بتعريفات الأعداد المتحابة وأولى مجموعتيهما. وبوصفه مشاركاً في ترجمة الأصول لأقليدس فقد كان ملما بالأعداد التامة الزوجية وطريقة حسابها, كما هي مدونة في الكتاب التاسع من كتاب الأصول لأقليدس, وتبعا لذلك فإن ثابت بن قرة لم يكن في حاجة لوقت طويل ليعمق النظر في النظرية الأولى عن الأعداد المتحابة. وهناك أمثلة أخرى عديدة شاهدة على انتشار الرياضيات اليونانية بفعل الترجمات العربية، مثل الترجمات التي اهتمت بارخميدس وأبلونيوس و وديوفنطس وآخرين. وإبان القرن التاسع فإن العلماء لم يكتفوا بمعرفة واسعة بالرياضيات اليونانية بل تجاوزوها إلى تكوين معرفة بحثية وليس فقط معرفة تلاميذ وأتباع ولهذا تميزت معرفتهم بطابعي النقد والإبداع.

ولقد ارتبط الحدث الثاني والذي لا يقل أهمية عن الحدث الأول بتأسيس علم الجبر بوصفه اختصاصاً مستقلاً داخل علم الرياضيات حدث هذا إبان العقود الأولى من القرن التاسع. ومن النتائج الكبيرة لهذا الحدث وظهور أنطولوجية جديدة للمواضيع الرياضية مما هيأ أمكانية جديدة لم تكن معروفة من قبل وهي تطبيق علم على آخر كتطبيق علم الجبر على علم الحساب وعلم الحساب على علم الجبر أو تطبيق أحدهما على علم المثلثات, وكذا تطبيق الجبر على الهندسة أو تطبيق الجبر على نظرية الأعداد الأقليدية إلخ وهذه التطبيقات تحولت إلى جهود مؤسسة لتخصصات جديدة في علم الرياضيات. والجدير بالذكر أنه لكي يتم التوصل لهذه التطبيقات الجديدة فإن الأمر يقتضي مناهج جديدة في البحث(3).

وعلى أساس هذين الحدثين يمكن وبدقة تصور انبناء الاتجاهات العربية المختلفة في علم الرياضيات. ومن هذه الاتجاهات سنعمد إلى مناقشة نماذج أساسية منها.

في البداية كان ثمة من اتّبع أعمال الخوارزمي حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ وأضافوا إليها إضافات قليلة, لكن من دون تعديلات جوهرية في الموضوع والأسلوب والسبب أن هؤلاء كانوا معلمي رياضيات ولم يكونوا باحثين فيها مما جعلهم مجرد شراح، وهناك آخرون استفادوا من الإمكانات التطبيقية الجديدة لأعماله بإحداث جدل ثنائي بين علم الجبر وعلم الحساب من جهة وبين الجبر والهندسة من جهة أخرى.

وهكذا استطاعوا تعديل جزء مهم من بنية الرياضيات الواسعة.

إن تطبيق الحساب على الجبر والذي أطلقت عليه سابقا حسبية الجبر أدى في نهايات القرن العاشر إلى تأسيس علم الجبر الخاص بمتعدد الحدود على يد الكرجي العالم الرياضي البغدادي, غير أنه ولكي يكون البحث حول متعدد الحدود ممكنا فقد احتيج إلى تطوير التحليل التوافقي.

في إطار هذا الاتجاه قام العلماء بدراسة جبرية للكميات الصماء جنبا إلى جنب مع التحليل الديوفنطيسي المنطقي مع محاولات لحل المعادلات التكعيبية والمعادلات التربيعية الثنائية باستعمال صيغ الجذور.

وخلاصة الأمر فإنه وبفضل علماء من أمثال أبي كامل وخصوصا الكرجي وخلفه مثل السمويل والسلمي والزنجاني وغيرهم فإن الحسابات الجبرية المجردة قد تطورت ونتيجة لذلك تطورت عملية اكتساب المعرفة حول البنية الجبرية للتوسيعات الجبرية المنتهية لحقل الأعداد المنطقية(4).

كما شهدنا بزوغ علم الحساب مع هؤلاء العلماء وبفضل جهودهم البحثية بوصفه تخصصا يمكن استيعابه أكثر من خلال طريقة التأليف وليس من خلال الموضوع.

لقد بدأ علماء الرياضيات بعرض للنظام العشري وأخذوا بعين الاعتبار الأسس المختلفة وتغيراتها متجاوزين ذلك إلى الكسور بما في ذلك من قضايا تتعلق بعناصر من الجبر الأولي ومن الحساب الهندسي.

ومن الذين كتبوا في علم الحساب الكرجي ومن جاء بعده كالسمويل. وبرز في هذا على الخصوص ابن الخوام والفارسي والكاشي وهو العلم الذي لا ينبغي خلطه مع الحساب الهندي أو مع حساب الفيثاغوريين الجدد.

ومن جهة أخرى فإن تطبيق الجبر على الحساب أخرج إلى النور مجالات جديدة في علم الرياضيات كالتحليل العددي حيث وجدنا طرق مختلفة لاستخلاص الجذر النوني للعدد الصحيح بالإضافة إلى طرق مختلفة أخرى في التقريب كما هو الحال بالنسبة للغاريتمات العددية للاستكمال أو أكثر من ذلك بالنسبة للحل العددي للمعادلات الجبرية والنظرية الكلاسيكية للأعداد وخصوصا دراسة خصائص الأعداد الصحيحة.

أما الاتجاه الثاني فقد نتج عن التقاء الجبر بالهندسة. وفي الحقيقة فإننا نعلم أنه وخلال القرنين التاسع والعاشر اهتم كثير من الرياضيين بترجمة بعض المسائل الهندسية إلى لغة الجبر سواء تعلق الأمر بهندسة المستويات, كما نجد عند ثابت بن قرة أو تلك المتعلقة بهندسة المجسمات كما لدى الماهاني والخازن والكوهي وأبو الجود. واهتم بعضهم بحل بعض المعادلات التكعيبية الحاصلة من تقاطع منحنيات مخروطية.

وبعد نصف قرن اكتشف عمر الخيام (1048-1131) طرق نظرية مثل وحدة القياس والبعد والحساب الهندسي لبلورة نظرية عامة فتحت بابا جديدا لحل كل المعادلات ذات الدرجة أقل أو تساوي 3 بمساعدة علم الهندسة.

ولقد قام الخيام بذلك عن طريق عملية تحويل مزدوجة: تحويل مسائل هندسية مجسمة إلى معادلات جبرية ثم حل تلك المسائل عن طريق خلق تقاطع بين منحنيين مخروطين وبعد أقل من نصف قرن بقليل قام خلفه شرف الدين الطوسي بإحداث تغيير في الجبر الهندسي عن طريق منهج تحليلي, وإلى هذا الاتجاه ينتمي علماء آخرون أمثال كامل الدين بن يونس(5).

وأما الاتجاه الثالث فهو اتجاه علماء الهندسة الذين أقاموا نظرية الأعداد على تصور حسابي خالص أي على طريقة البرهنة الأقليدية, والتي طور كل من الخجندي والخازن وأبو الجود والسجزي وبعدهم بكثير اليزدي التحليل الديوفنطسي الصحيح في الوقت الذي كان علماء آخرون ومن ضمنهم ثابت بن قرة والبغدادي وابن الهيثم والفارسي يطورون نظرية الأعداد التقليدية.

ومع الهندسة الجبرية - وخصوصا تلك المتعلقة بدراسة المنحنيات وفقط المخروطية منها في ذلك الوقت -فقد بدأنا نشهد- وعن طريق المعادلات المتعلقة بالمخروطات تأسيس مجال جديد لم يكن له ما يماثله في الهندسة اليونانية.

فقد كانت مفاهيم هذا المجال تستوجب وجود اختصاص لم يكن هو يماثله في الرياضيات اليونانية معرفة معمقة بالكتابين الأولين من مخروطات أبولونيوس وعناصر أقليدس, وأخيراً تم ميلاد هذا المجال الجديد في الهندسة والذي انبنى تصوره على المخروطات وتم تخصيصه للرسوم الهندسية باستعمال المنحنيات المخروطية.

لم يعد الأمر إذن متعلقا بمعالجة مسائل معزولة وحاصلة بطريقة متفرقة كما هو الشأن في الهندسة القديمة (هندسة أوطوقيوس) بحيث يتم حلها عن طريق المنحنيات مخروطية كانت أم غير ذلك. بل صار الأمر بالأحرى متعلقا بمنهج قادر على اكتشاف ودراسة حقل المسائل الهندسية برمته، تلك المسائل التي كانت أغلبها حول: المجسمات القابلة للبناء عن طريق المخروطات, وكذا أيضا مجال المستويات والتي بنيت بمساعدة المنحنيات المخروطية فحسب باستثناء بعض المنبسطات الأخرى.

وضمن هذا المجال الجديد درس بعض الرياضيين مثل ابن الهيثم وبدقة وجود حلول عددية عن طريق التحليل والتركيب وهما منهجا البحث في هذا الإطار ذلك البحث الذي انبنى أيضا على الخصائص اللانهائية والخصائص المكانية للمنحنيات المخروطية وتخصيصا بالنظر إلى تماسها.

ولقد أضحى هذا المجال والذي أثراه العلماء من أواسط القرن التاسع مجالا نشطا للبحث في النصف الثاني من القرن العاشر مع امثال الكوهي والسجزي وأبي الجود والصاغاني وابن الهيثم تمثيلا لا حصرا مقدمين كلهم طرائق مستجدة وأدوات لعلماء الجبر وخصوصا تلك المتعلقة بمقياس المقبولية (admissibility).

ومنذ ذلك أصبح البناء الذي تستعمل فيه المخروطات بناء مقبولا في الهندسة مساويا بذلك البناء الذي يستعمل فيه المسطرة والبركار فكان الأمر بذلك خطوة جبارة إلى الأمام.

كما ساهم علماء هذه المدرسة مع آخرين في دراسة المجال الثاني والذي لم يدرسه الأوائل إلا لماما وخصوصا دراسة التحويلات الهندسية كالتشابه والنقل والتحاكي وغيرها. والواقع أنه ومن أواسط القرن التاسع استمروا في دراسة التحويلات الهندسية وبشكل مطرد أكثر مما فعل أسلافهم الإغريقيون وتشهد لهذا أعمال الفرغاني والأخوة بني موسى وخصوصا أصغرهم الحسن بالإضافة إلى ثابت بن قرة.

وعلى سبيل المثال فقد أمد بن قرة التحولات الهندسية بمصطلح (النقل) كما أن كتابات ابن سهل والقوهي والسجزي وابن الهيثم بينت كلها أن علماء الهندسة لم يكونوا مهتمين بدراسة الأشكال فحسب, لكنهم بالإضافة إلى ذلك درسوا العلاقات الرابطة بين الأشكال.

صحيح أن التحولات الهندسية لم تكن حاضرة إلا نادراً قبل القرن التاسع وأن أرخميدس وأبلونيوس أعملاها في أعمالهما ومع ذلك فإن إعمالها إبان القرن التاسع كان أكثر اطرادا وكانت مجالات تطبيقها أكثر اتساعا.

لقد كانت الفروق بين القدماء والمحدثين ظاهرة, وإذ ظهرت بعض هذه التحويلات في سياق البرهنات لدى الأوائل, ويشهد لهذا أرخميدس فقد ظهرت وجهة نظر جديدة مع المحدثين وخصوصا تلك المتعلقة بالتحويلات والتي تعد أساسية في الهندسة.

ومن نتائج هذه الرؤية الجديدة وليس أقلها أهمية تغير النظرة للموضوع الهندسي من القرن التاسع وما بعد.

ولقد أعطي المجال الأول والذي ترسخ من خلاله هذا التوجه الجديد في الهندسة اسم علم التسطيح(6), هذا المجال خرج من رحم علم الفلك وتم بناؤه حينما كانت الإجراءات الدقيقة لتمثيل الكرة على سطح مستو في حاجة إلى أن تتأسس على أسس صلبة من أجل بناء الأسطرلابات. وهنا وفي هذا السياق يجدر بنا أن نستدعي حدثين تاريخيين جديرين بالذكر: ففي أواسط القرن التاسع كانت موضوعات التسطيح مطروحة للنقاش والجدال وشارك فيهما كل من بني موسى والكندي والمروروزي -فلكي المأمون- والفرغاني وغيرهم وبالإضافة إلى ذلك فإن كون موضوعات التسطيح تلك أثارها علماء الرياضيات الذين استفادوا من ترجمة كتاب أبلونيوس (المخروطات) لم يتم التركيز عليه منذئذ. ولقد طور كل من القوهي وابن سهل والبيروني وآخرون هذه المدرسة التي تحمل بصمات رياضيين أمثال الفرغاني في القرن التاسع وباختصار فإنه وفي هذه المدرسة نجد اتجاها جديدا في البحث الهندسي والذي ظهر فيه كتاب بطلميوس المسمي بتسطيح الكرة على أحسن الأحوال كجد قديم.

هذا الاتجاه الجديد في البحث تم إثراؤه من خلال البحوث الهندسية حول الرخامات والتي قام بها علماء هندسة أمثال ثابت بن قرة وحفيده ابن سنان.

ولقد تميز هذا الفصل من الهندسة حول التسطيح أيضا بلغته وإجراءاته في البرهنة. فقد كانت اللغة مزيجا من مصطلحات نظرية النسب وخصوصا الهندسة التقليدية مع مصطلحات ستصبح منذئذ لصيقة بمفاهيم التسطيح, وفيما يتعلق بالبراهين فقد تأسست على المقارنات بين النسب والتسطيحات من جهة والإسقاطات من جهة أخرى.

وأما المجال الثاني والذي لاحظنا فيه تطورا في استخدام التحويلات فقد تم تفعيله هو نفسه في بدايات أواسط القرن التاسع, بعد الالتقاء الحاصل بين هندسة المواضع (geometry of positions ) وهندسة الأشكال التابعة لمدرسة أبولونيوس من جهة وهندسة القياس التابعة لمدرسة أرخميدس من جهة ثانية. لقد استخدم طريقة التحويلات ومن البداية كل من الحسن بن موسى وإخوانه وكذا تلميذهم ثابت بن قرة, وكان هذا الاستخدام إما ضمن توضيحه لبعض القضايا المنطقية أو في سياق البرهنة.

ولقد تابعوا أعمالهم العلمية المختلفة عن طريق استخدام المشاكلة أو الصلة التعامدية أو عن طريق المزج بين الأسلوبين. وفي القرن الموالي وسع إبراهيم بن سنان وبشكل - كبير مجال تطبيقات التحويلات الهندسية من أجل تخفيض عدد المقدمات في كتابه (كتاب في مساحة قطع المخروط المكافيء), وفي النهاية بدأنا نلاحظ مزيدا من تطبيقات التحويلات في مجالات أخرى من الهندسة وعلى سبيل المثال البناء الهندسي بالإضافة إلى الجبر.

وفي الواقع فقد كان من نتائج هذه النزعة التحويلية الجديدة إدخال مفهوم الحركة في التصورات الهندسية والبرهنات.

لقد تصوروا هندسة أكثر شمولا من اجل إعادة تنظيم المفاهيم الهندسية أو على الأقل بعضها, ومن ثم النظر إلى تلك المفاهيم في إطار الحركة. ولقد كان ابن الهيثم صاحب هذا التصور في مجال الهندسة والذي أطلق عليه اسم: المعلومات(7).

وتم تطوير فن التحليل أو صناعة التحليل لإمداد هذا المجال بمنهج. وأصبحت هذه الصناعة بذاتها موضوع بحث قار لثابت بن قرة وابراهيم بن سنان وابن الهيثم(8), وهكذا -ولأول مرة- بدأنا نتجه نحو هندسة المكان(9). وبالإضافة إلى ذلك ركز هؤلاء الرياضيون على دراسات نظرية وتطبيقية تتعلق بالإجراءات الضرورية لإعادة إنتاج الحركة وبالتالي تتبع المنحنيات المخروطية.

إن توليد البناء الهندسي بواسطة المخروطات فحسب، والتسطيحات، والتحويلات الهندسية، والرسم المستمر للمخروطات وإبداع الهندسة العامة وهندسة المكان كل هذه المجالات الجديدة والتي بالكاد اهتم بها الأقدمون قد ساهمت في تغذية موضوعات البحث في الهندسة العربية.

ولعله يتوجب علينا في هذا الصدد الإشارة إلى التجديد الذي لحق بالهندسة الكروية وحساب المثلثات من قبل أبي الوفاء البوزجاني والصاغاني وتخصيصا وبعد حين من قبل البيروني ونصر الدين الطوسي.

كما ينبغي النظر في الاتجاه العظيم للبحث في التحليل الرياضي أو ما يمكن أن نطلق عليه اتجاه الأرخميديين العرب.

ولقد ساهمت رسالتا أرخميدس: القياس والدائرة, والكرة والأسطوانة, -واللتان ترجمتا إلى العربية- في إثارة واحد من أقدم الاتجاهات في البحث. ومن جديد فإن من خصوصيات هذا الاتجاه منذ بداياته مع بني موسى هو أن أبحاث أرخميدس كانت تقرأ في ذات الوقت الذي كانت تدرس فيه المخروطات مع بعض عناصر الجبر. وهكذا فقد ساهم كل من بني موسى وثابت بن قرة والماهاني وابراهيم بن سنان والقوهي وابن سهل وابن الهيثم وبشكل تدريجي في نشر رياضيات أخميدس في كل الاتجاهات فاستطاعوا إعادة أهم النتائج التي توصل إليها أرخميدس نفسه في كتبه من مثل: قياس القطع المكافيء والمخروطات والكرة والتي ولأسباب متعلقة بتاريخ اعمال أرخميدس لم تتم ترجمتها إلى العربية.

كما ساهم أولئك العلماء في توسيع دائرة التحليل الرياضي لتشمل مجالات لم يدرسها أرخميدس كما لم يدرسها إلا لِمَامًا العلماء الأوائل مثل: الهلاليات والأشكال ذات المحيطات المتساوية والأشكال ذات المساحات المتساوية والزاوية المجسمة بالإضافة إلى قياس مجسمات أخرى والجسم المكافيء المولد من دوران القطع المكافيء على القطر. وبنفس الأهمية ذلك الاعتماد الدائم والواسع على المجموع الحسابي من جهة والتحويلات الهندسية من جهة أخرى. إن مجال التحليل الرياضي هذا لم يتم تغييره من جهة الشكل فقط بل وأيضا من جهة الأسلوب.

إن المدارس التي ذكرناها لم تكن الوحيدة مع أنها مثلت محاور البحث العلمي. فقد كان ثمة اتجاه في البحث في الهندسة التطبيقية والتي انخرط فيها أمهر وأهم علماء الهندسة مع علماء الجبر. كما كان هناك بحث في فلسفة الرياضيات إلى جانب اتجاه ثري في شرح الكتابات الرياضية ولقد عرفت أنواع متعددة من الشروح بعضها مختصر وبعضها مفصل والبعض الآخر مرمم للنص المشروح.

وثمة مجالات أخرى تضمنت أشكالا مختلطة من الرياضيات التطبيقية ولقد أشرنا إليها؛ لنبين اتساع وثراء المدارس الرياضية ولنظهر كيف أن الحدود بينها لم تكن واضحة مما يجعل الحديث عنها مفردة مجرة أمنية ندعها للمستقبل. إن ما ذهبنا إليه في هذا البحث في حدود ما يسمح به النظر التاريخي هو إبراز المدارس المتنوعة والتي رسمت ملامحها الرياضيات العربية شاسعة الأطراف. وهذا ما يسمح لنا بالقول أنه من القرن التاسع إلى القرن السابع عشر عرف العالم اتجاها نسقيا وثريا في علم الرياضيات يمكن أن نطلق عليها اسم: الرياضيات الكلاسيكية.

ونجد لما حدث في الرياضيات شبيها في البصريات والفلك وكل فروع العلم الكلاسيكي.

ونقول: إن العلوم في الإسلام تقدم نفسها كما كانت في الماضي, أي جزءا من العلوم الكونية وهو ما حاولت جميع الأطراف تغطيته بسبب الإيديولوجيا سواء كانت قومية ضيقة الأفق أو استعمارية إلحاقية في القديم والحديث.

*******************

الحواشي

*) مفكر وباحث من مصر.

1- R. Rashed, ‘Inaugural Lecture: History of Science and Diversity at the Beginning of the 21st Century’ in Juan José Saldana (ed), Science and Cultural Diversity, Proceedings of the 21st International Congress of History of Science (Mexico City, 7-14 July 2001), Mexico, 2003, vol.1, pp. 15-29

2- R. Rashed, ‘Scienze ‘estate’ dal Greco all’arabo: transmissione e traduzione’ in I Greci Storia Cultura Arte Societa, 3. I Greci Oltre le Grecia, a cura di Salvatore Settis (TORINO: Giulio Einudi Editore, 2001), pp. 705-740

3- R. Rashed, the development of Arabic Mathematics: Between Arithmetic and algebra, Kluwer, Boston Studies in Philosophy of Science, 1994.

4- R.Rashed (ed. and co-author), Encyclopedia of the history of Arabic Science (London-New York: Routledge, 1996) 3 vols.

5- R. Rashed and B. Vahabzadeh, Omar Khayyam: The Mathematician, Persian Heritage Series, no. 40 (New York, 2000). R. Rashed, Les Mathématiques infinitésimales du IXe au XIe siècle , vol. III : Ibn al-Haytham. Théorie des Coniques, constructions géométriques et géométrie pratique (London, 2000) : vol. Méthodes géométriques, transformations ponctuelles et Philosophie des Mathématiques (London, 2002) and Oeuvre mathématique d’al-Sijzi. Volume I : Géométrie des coniques et théorie des nombres au Xe siècle, Les Cahiers du MIDEO, 3 (Louvain-Paris : Editions Peeters, 2004)

6- R. Rashed, Geometry and Dioptrics in Classical Islam (London: al-Furqan Islamic Heritage Foundation, 2005)

7- R. Rashed, Les Mathématiques infinitésimales du IXe au XIe siècle, vol. IV

8- R. Rashed, Les Mathématiques infinitésimales du IXe au XIe siècle, vol. II : Ibn al-Haytham (London: al-Furqan Islamic Heritage Foundation, 1993); R. Rashed and Bellosta, Ibrahim ibn Sinan: Logique et Géométrie au Xe siècle (Leiden : E.J.Brill, 2000)

9- R. Rashed, Les Mathématiques infinitésimales du IXe au XIe siècle, vol. IV

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=468

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك