كيف نبني حضارتنا بقيم تدبير الاختلاف

خالد الصمدي

 

“ونحن نبني حضارتنا”(1)… تلك العبارة الخالدة الجامعة التي أضحى العالم اليوم في حاجة ماسة إلى فهمها، واستيعاب مختلف أبعادها، والرؤية التي شغلت بال المفكرين والمصلحين الساعين إلى خير البشرية من مختلف الأمم والشعوب على مر التاريخ.

فما عبارة “نحن” التي تتصدرها إلا دعوة إلى إحياء الضمير الإنساني الجمعي الذي يسعى إلى توطيد قيم التعايش والتساكن باسثمار إيجابيات التنوع والاختلاف… وما حرف “نا” الدال على الجمع إلا اعتراف مزدوج؛ فهو اعتراف بأنْ لا حضارة خارج تلك التي تسعى إلى العمران بذراع الإنسان وفكر الإنسان وعلاقات الإنسان، واعتراف في نفس الآن بالتعدد والاختلاف المفضي إلى التكامل والتعاون… فلا جمع إلا بين متعدد، والنتيجة في النهاية عمران حضاري مشترك عند التفكير بهذا الضمير الجمعي، أو خراب مهين عند طغيان الفردانية وسيادة “بؤس الدهرانية” حسب تعبير الفيلسوف طه عبد الرحمن.

وإن الأمة الإسلامية اليوم وهي تسعى إلى بناء مقومات الحوار مع الذات ومع الآخر، في حاجة ماسة إلى استيعاب هذا المفهوم أكثر من أي وقت مضى؛ ذلك أن حدة الصراعات بين مكوناتها قد تفاقمت، وكشف واقعها المعاصر عن فقر كبير في قيم تدبير الاختلاف، مما تقوم معه الحاجة ماسة إلى إعادة بناء الوعي الجمعي المشترك بهذه القيم وترسيخها في الممارسة والسلوك.

ومعلوم أن عالمنا اليوم يعرف احتكاكًا غير مسبوق بين الثقافات والحضارات، وبين الأجناس والأعراق والديانات، مما تبرز معه الاختلافات والتناقضات الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية التي تتفجر أحيانًا في شكل صراعات حادة، وقد تكشف في أحايين أخرى عن خبرات ومؤهلات وإمكانات هائلة للتقارب والحوار والتعايش، حين تزول الغشاوة ويحضر النظر الجلاء الصافي والمتبصر.

ولئن كان الاختلاف سنة كونية لا محيد عنها لقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(هود:118-119)، وقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)(الروم:22). فإن عالمنا اليوم يحتاج إلى فكر يستوعب هذه السنة الكونية، ويسعى إلى الاستفادة مما يتيحه التنوع في الطاقات والقدرات والأفكار والآراء والتوجهات والاختيارات في بناء الحضارة المشتركة، والتخفيف من حدة الصراعات والخلافات التي تضعّف الذات الإنسانية برمتها، لأن العالم اليوم انتقل من مرحلة “بناء الحضارات المختلفة المتعاقبة” إلى “بناء الحضارة الواحدة المشتركة” التي تجمع في داخلها تنوعًا واختلافًا، مما يعني أن الإيمان باستمرار الحضارة الإنسانية قائم بالضرورة على قدرتها على تدبير هذا التنوع من خلال ترسيخ ثقافة تدبير الاختلاف.

وفي هذا الإطار يجد شبابنا اليوم نفسه معنيًّا بقيادة حركة التنمية في سياق تشكل هذه الحضارة المشتركة في عصر العولمة بما تحمله من تطورات هائلة في تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وتَحوُّلٍ عَميقٍ يتجاوز عالم الأفكار إلى عمق منظومة القيم التي تشكل جوهر الإنسان، مما تبرز معه حاجة ماسة إلى التربية على قيم ومهارات تدبير الاختلاف.. ولن يتم ذلك إلا من خلال التوعية بأهمية توسيع مساحة المشترك من خلال إطار نظري عميقِ المحتوى متأصِّلٍ في المصادر الإسلامية، والتدريب الميداني من خلال تطبيقات عملية تنمّي مهارات تدبير الاختلاف وترسخ قيمه المتجذرة في مصادر الوحي، وفي صور مضيئة من تاريخنا وحضارتنا الإسلامية.

ولا يخفى ما للطبقة المثقفة برمتها من أهمية في قيادة حركة التغيير الثقافي والاجتماعي، فإذا آمنت هذه الطبقة بقيم التعايش والتساكن والحوار، وكانت قادرة على تدبير الاختلاف في بناء ونشر مواقفها وآرائها وتصوراتها واجتهاداتها في المحيط، فإن ذلك سيشكل الإطار الخصب لنقل هذه الخبرة والتجربة إلى جيل الشباب من خلال صياغة خطاب يروج لهذه القيم ويعمل على نشرها.

وهذه رسالة إلى القيادات الفكرية والثقافية المؤثرة في مسارات المجتمعات من القائمين على المنظومات التربوية والتعليمية، والقائمين على برامج التوعية الدينية والثقافية في وسائل الإعلام، والمشتغلين في مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات ومنظمات وطنية ودولية، وينبغي أن يركز خطابهم في هذه المجالات المختلفة على جوانب ثلاثة:

• الجانب المعرفي المتعلق بمفهوم الاختلاف والحكمة منه ومجالاته، ووضعه في سياق خريطة المفاهيم التي يتحرك فيها من أجل تكوين رؤية واضحة لدى المتلقي عن هذا المفهوم وتصحيح بعض التشوهات التي تحيط به، كل ذلك استنادًا إلى مصادر الوحي، ومقاصد الشريعة الإسلامية.

• الجانب المهاري المتعلق بقواعد وآليات ومهارات تدبير الاختلاف وفوائدها ومكاسبها، وما ينتج عن غيابها من سلبيات ثقافية واجتماعية. وذلك بالاستناد إلى التوجيهات الإسلامية في هذا المجال، والاستدلال بالنماذج العملية في الثقافة والحضارة الإسلامية، وكذا الكتابات الحديثة في مجال التواصل الناجح(2).

• الجانب القيمي المتعلق بمنظومة بيان وتحديد القيم الحاكمة التي ينبغي ترسيخها في المجتمع ضمانًا لحسن تدبير الاختلاف، وكشف ما يناقضها من التصورات والسلوكات التي تبرز عند الفشل في تدبيره، مع الحديث عن طرق ووسائل نشر هذه القيم في المحيط الثقافي والاجتماعي والسياسي.

وإن المتأمل في النص القرآني المؤسس الرحمة المهداة للعالمين، يقف على التكامل بين هذه الجوانب الثلاثة في أبهى تجلياته النظرية والتطبيقية. فهو مصدر تأسيس للمفاهيم والتصورات، ودليل ينمي المهارات العملية بالنماذج والأمثلة والخبرات، ويرسخ القيم الحاكمة لتدبير مختلف مجالات الحياة، ومنها تدبير التنوع والاختلاف باعتباره أساسًا لبناء للحضارة والعمران.

فالكتاب الحكيم يسعى إلى ترسيخ مبدأ تدبير الاختلاف بمختلف أبعاده المعرفية والمهارية والقيمية عبر مسارين متوازيين ومتكاملين يفضيان إلى نفس النتيجة:

1- المسار الأول: ترسيخ المفاهيم والقيم الداعمة للاختلاف الطبيعي، وهي المفاهيم والقيم التي تسهم في ترشيد هذا النوع من الاختلاف، وتواكبه وتحصنه بالتوجيهات التي تحافظ على وحدة الإنسانية، وتقوي من لحمة القيم المشتركة التي تربطها حتى وإن اختلفت في المعتقد، ضمانًا لاستمرار العمران، وجعل الحوار والجدال والتعامل بالحسنى هو السبيل إلى القرب من الحق، وهكذا تجد في القرآن الكريم:

دعوة إلى الإقرار بالحرية وقبول الاختلاف

وهما مفهومان وقيمتان متلازمتان وأصيلتان في الإسلام، سواء كان هذا الاختلاف في الخلقة، أو اختلافًا في المعتقد، أو اختلافًا في الرأي. وقد كان لهذا المنهج نتائج عظيمة في تاريخ الإسلام خاصة، والحضارة الإنسانية بصفة عامة.

دعوة إلى التعارف والتعايش والتساكن

وذلك من أجل توفير البيئة السليمة الآمنة للحوار، وإتاحة الفرصة للتعريف برسالة الإسلام من غير إكراه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات:13).

ترسيخ مبدأ الحوار في حل الخلافات

ذلك أنه من مستلزمات تحقيق التعايش والتساكن، الإقرار بحق الآخر في حرية الاختيار، وكذا قبول مبدأ الاختلاف. وكل ذلك يعززه القرآن الكريم بالدعوة إلى فتح باب الحوار مع أصحاب الاختيارات المختلفة، وجعله الملاذ الآمن للوصول إلى حل النزاعات في كل الظروف والأحوال.

ومن أجل أن يكون هذا الحوار هادفًا ومجديًا، أحاطته الشريعة الإسلامية بجملة من التوجيهات؛

• كالدعوة إلى البحث عن المشترك؛ وهو ما أسماه القرآن الكريم بالكلمة السواء، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(آل عمران:64).

• والدعوة إلى المجادلة بالتي هي أحسن؛ قال تعالى: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(العنكبوت:46).

• والدعوة إلى الإحسان إلى المخالفين ومد جسور التواصل معهم بمختلف الطرق والوسائل؛ لأن ذلك مدعاة إلى استمرار الحوار، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ)(التوبة:6).

• والدعوة إلى العدل والإنصاف حتى مع المخالفين؛ فالعدل والإنصاف أساس العمران، والله تعالى ينصر الأمة العادلة وإن كانت غير مسلمة، ويستبدل الظالمين ولو كانوا من المسلمين بقوم آخرين غيرهم، ثم لا يكونوا أمثالهم.. ولذلك أمر الإسلام بترسيخ قيمة العدل والإنصاف بين الناس على اختلاف مللهم ونِحَلهم وتوجهاتهم، فذلك من مقتضيات ترسيخ الثقة المتبادلة من أجل وضع أرضية مشتركة للحوار البناء، ومن مقتضيات التعايش وتبادل المنافع والمصالح، قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(الأنعام:152)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(المائدة:8).

ومن مظاهر الإنصاف عرض آراء الغير كما هي دون زيادة أو تحريف قبل مناقشتها أو الرد عليها، وهذا منهج القرآن الكريم في عرض أقوال وحجج المخالفين؛ إذ يعرض أقوال إبليس وأقوال المشركين، ويرد عليها بمنطق العقل وخاصة ما تعلق منها بقضايا العقيدة كالتوحيد والبعث وغيرها. والنماذج من هذا كثيرة ومتعددة خاصة في القرآن المكي.

2-المسار الثاني: تحديد الأسباب المؤدية إلى الاختلاف غير الطبيعي ومحاربتها، ومن تلكم الأسباب:

التفرقة بعد معرفة الحق والانقياد له

والإسلام يذم هذا السلوك سواء وقع داخل الجماعة المؤمنة التي عرفت الحق واسترشدت بهداه، قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(آل عمران:105)، وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)(آل عمران:103)، وقال تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(الأنفال:46).

الظلم والعدوان

جرم الإسلام كل أشكال الاعتداء والظلم والطغيان بغضّ النظر عن الجهة التي يصدر عنها، أو الجهة التي يمارس عليها، ذلك لأن الظلم والعدوان مناقض لقيم الاختلاف الطبيعي القائمةِ على التساكن والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، والتدافع من أجل الوصول إلى الحق، ضمن مجتمع متعايش متضامن.

والظلم والعدوان مظهر من مظاهر الاختلاف غير الطبيعي الناشئ عن الصراع والنزاع واتباع الهوى، واعتزاز كل ذي رأي برأيه. فكان موقف الإسلام منه شديدًا، قال تعالى: (وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(البقرة:190)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي عن ربه – عز وجل- قال: “يا عبادي! إني حرّمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا” (رواه مسلم)، وحرّم قتل النفس إلا بالحق، وحمى الأعراض والأموال من الانتهاك.

وإذا كانت الفتن مظنة انتهاك الحقوق، فإن الإسلام حرص على التنبيه إلى خطورة انتهاكها في مثل هذه الأحوال بصفة خاصة، والنموذج من سورة الفرقان التي تكررت فيها كلمة “الحق” تسع مرات، وهي السورة التي تتحدث عن حال المسلمين في الغزو والقتال.

العصَبية والعرقية

ومن ذلك أن الإسلام حرم العصبية على أساس اللون أو العرق أو اللغة، لأن ذلك استخدام لمقومات الاختلاف الطبيعي في غير ما وجد من أجله. ونجد ذلك جليًّا في نص خطبة الوداع التي تعتبر بمثابة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي ختم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسالته إذ يقول: “يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد.. ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى. ألا هل بلّغتُ؟”، قالوا: بلّغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم قال: “أيّ يومٍ هذا؟”، قالوا: يوم حرام، ثم قال: “أي شهرٍ هذا؟”، قالوا: شهر حرام، ثم قال: “أي بلَدٍ هذا؟”، قالوا بلد حرام، قال: “فإن الله قد حرّم بينكم دماءَكم وأموالكم كحرْمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلَدكم هذا، ألاَ هلْ بلّغتُ؟”، قالوا: بلّغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: “ليُبَلّغ الشاهدُ الغائبَ” (رواه الإمام أحمد).

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شديد الحسّاسية من كل الأساليب التي قد تؤدّي إلى إحياء العصبيات والنعرات حفاظًا على تماسك المجتمع المسلم، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذرّ -رضي الله عنه- وقد عَيّر أحدًا بأُمّه: “يا أبا ذر! أعَيَّرتَه بأمّه؟ إنك امْرُؤٌ فيك جاهلية” (رواه البخاري).

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما بال دعوى الجاهلية؟” قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: “دعوها، فإنها منتنة” (رواه مسلم).

وكان الناس يتفاخرون بآبائهم في الجاهلية فنهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. فعن ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب في الناس يوم فتح مكة فقال: “أيها الناس! إنّ الله قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليّة وتَعاظُمَها بِآبَائِها، فالناسُ رجُلان: بَرٌّ تقيّ كريم على الله، وفاجِرٌ شقيٌّ هَيِّنٌ على الله، والناسُ بَنُو آدم وخلق اللهُ آدم مِن تُرابٍ” (رواه أبو داود).

الانغلاق على الذات وعدم الانفتاح على الآخرين لمجرد اختلافهم

“إن البحث عن الصواب حيث يكون، والأخذ بالحكمة ولو من فم المخالف، واعتبار المنتوج العلمي البشري مجالاً للبحث والاختيار في ضوء مقاصد الإسلام وغاياته الكبرى التي تستدمج كل اجتهاد إيجابي نافع، هو “المسلك القويم”. فإذا نظرنا إلى القرآن الكريم وجدناه يقصّ علينا من قصص الأمم المختلفة ما يعتبر مجالاً واسعًا لأخذ العبرة والمثل. وإذا نظرنا إلى سنّة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وجدناه يوجّه بعض صحابته إلى تعلم اللغات الحضارية السائدة في عصره؛ كالسريانية والفارسية للاطلاع على حضارتهم والاستفادة منها. وإذا تصفّحنا تاريخ الخلفاء الراشدين ومَن اهتدى بهدْيهم مِن بعدهم، وجدناهم قد أدخلوا من تجارب الأمم الأخرى في تنظيم الدولة؛ كسك النقود ونظام الجبايات والبريد وغير ذلك من النظم الإدارية. وإذا اطّلعنا على تاريخ الفكر الإسلامي، وجدنا اهتمام المسلمين بالترجمة، من خلال تأسيس دار الحكمة في المشرق ومدارس قرطبة في المغرب، ووجدنا حوارات مفتوحة بين فطاحل العلماء والفقهاء المسلمين وغيرهم من الأحبار والرهبان من الشرعتين اليهودية والنصرانية. كل ذلك بهدف إبراز سماحة الإسلام وقوة حجته ومنطقه الفكري والعقدي، وفي نفس الآن الاستفادة من كل اجتهاد يخدم البشرية ويرقى بها إلى أحسن حال، ولم يكن هؤلاء يضيقون ذرعا بالفكر المخالف”(3).

إن هذه النماذج التي عرضناها، تكشف عن منهج القرآن القويم في تدبير الاختلاف، فهو بهذا المعنى دين القيمة الذي يبني الحضارة وينشئ العمران، وما سوى ذلك إيذان بخراب العمران وينتهي إلى تحقق سنّة الاستبدال، قال تعالى ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾(محمد:38).

(*) رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية الإسلامية، تطوان / المغرب.

الهوامش

(1) ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2010م.

(2) انظر: على سبيل المثال كتاب “أمسك عليك هذا” مقدمات وعشر قواعد في فنون التعامل مع الآخرين، للدكتور علي الحمادي، إصدار مركز التفكير الإبداعي، الطبعة الثالثة، سنة 2000م.

(3) انظر: “كيف نبني ثقافتنا الإسلامية وكيف نقدمها للآخرين”، د. خالد الصمدي، مجلة حراء، العدد:12 (يوليو 2008).

المصدر: https://hiragate.com/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d9%86%d8%a8%d9%86%d9%8a-%d8%ad%d8%b6%d8%a7%d8%b1%d8%aa%d9%86%d8%a7-%d8%a8%d9%82%d9%8a%d9%85-%d8%aa%d8%af%d8%a8%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ae%d8%aa%d9%84%d8%a7%d9%81/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك