للسخاوي 85 شيخة.. الموقعات عن الله يفتين ويناظرن ويخطبن على المنابر

إبراهيم الدويري

 

(1)

يحتدم الجدل بين الفينة و الأخرى في البلاد العربية و الإسلامية بشأن تعيين دُورِ و مؤسساتِ الإفتاء الرسمية نساءً "مفتياتٍ" بين مؤيد و معارض؛ و هو جدل عززته عوامل متعددة بينها تحكّم سلطان العادة باعتبار أغلب المفتين ‏و الفقهاء عبر التاريخ كانوا رجالا؛ و الخلط في أذهان الناس بين ‏وظيفتيْ الإفتاء و القضاء، حيث دار خلاف بين الأقدمين في جواز تولي المرأة منصب ‏القضاء، و لم تكن الفتوى كذلك. و هذا ما يجعل الحاجة قائمة إلى التطرق لعلاقة النساء ‏بالإفتاء و الفقه و العلم الشرعي عموما، للكشف عن مظاهر تلك العلاقة تنظيرا و ممارسة؛ و هو ما نسعى إليه في هذا المقال.

 

الإفتاء النسوي بصدر الإسلام‏

يطلق الإمام ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) مصطلح "التوقيع عن الله" على ‘صناعة الفتوى‘ التي أشبعها بحثا في كتابه: "إعلام الموقعين عن رب العالمين". و للفتوى و ممارستها شروط لخصها لنا الإمام النووي (ت 676هـ) بقوله: "شَرط الْمُفْتِي كَونه مُكَلّفا مُسلما ثِقَة ‏مَأْمُونا، متنزِّها عَن أَسبَاب الْفسق و خوارم الْمُرُوءَة، فقيهَ النَّفس سليمَ الذِّهْن رصينَ الفِكر ‏صَحِيح التَّصَرُّف و الاستنباط متيقظاً، سواءٌ فِيهِ الحرُّ وَ الْعَبْد وَ الْمَرْأَة". فمدار الفتوى إذن في الإسلام يرجع فقط إلى ‏الملكة العلمية، و الوازع الأخلاقي، و صحة النظر و الاستنباط.

 

و لم يكن التصدي للإفتاء في التاريخ الإسلامي يحتاج إلى قرار سياسي ‏بالتعيين عكس القضاء، لأن الفتوى هي: "الإخبار بالحكم الشرعي لا على وجه ‏الإلزام"‏، كما لم يكن الإخبارُ بالحكم الشرعي يحتاج إلى إذنٍ إلا من علماء يشهدون للتلميذ و‏ التلميذة باستحقاقهما لهذه الدرجة العلمية، التي يطلق على صاحبها في اصطلاحهم لقب ‏‏"المفتي" أو "العالم" أو "الفقيه". و لم يكن إطلاق الألقاب عند الأقدمين سهلا، خصوصا ‏الألقاب التي تترتب عليها مسؤوليات بحجم الفتوى التي يتحمل صاحبها مسؤولية "التوقيع عن رب العالمين".

 

و لذا نجد الإمام القاضي عياض اليحصبي (ت 544هـ) يقول: "لا نرى أن يسمى طالب العلم فقيهاً حتى يكتهل، و يكمل ‏سنه، و يقوى نظره، و يبرع في حفظ الرأي، و رواية الحديث و تبصره، و يميز طبقات رجاله، ‏و يحكم عقد الوثائق، و يعرف عللها، و يطالع الاختلاف، و يعرف مذاهب العلماء، و التفسير ‏و معاني القرآن؛ فحينئذ يستحق أن يسمى فقيهاً، و إلا فاسم ‘الطالب‘ أليق به". و من هذا ‏نعلم أن كل موصوفة بالفقه في كتب التراجم تستحق الإفتاء، كما نصت هذه الكتب على ‏أن نساء كثيرات تولين الإفتاء.  ‏

 

و قد ذكر العلامة ابن القيم أن "الذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول ‏الله (ص) مائة و نيف و ثلاثون نفسا، ما بين رجل و امرأة"، و ذكر منهم نحو اثنتين و عشرين مفتية، و هن حسب ترتيب فتاواهن قلة و كثرة: أم المؤمنين عائشة، و أم المؤمنين أم ‏سلمة، و أم عطية، و أم المؤمنين صفية، و أم المؤمنين حفصة، و أم المؤمنين أم حبيبة، و ليلى بنت قانف الثقفية، و أسماء بنت ‏أبي بكر، و أم شَريك، و الحولاء بنت تويت، و أم الدرداء الكبرى، و عاتكة بنت زيد بن عمرو، ‏و سهلة بنت سهيل، و جويرية أم المؤمنين، و ميمونة أم المؤمنين، و فاطمة ‏بنت رسول الله (ص)، و فاطمة بنت قيس، و زينب بنت أم ‏سلمة، و أم أيمن (الحبشية حاضنة رسول الله ص)، و أم يوسف (حبشية كانت تخدم رسول الله ص)، و الغامدية. ‏

 

و الباحث في تاريخ الإفتاء عبر العصور الإسلامية يدرك أن هذا العدد بنسبته المئوية المرتفعة ‏من "الموقعات عن رب السماوات" يعكس مدى حضور المرأة و دورها فقها و إفتاء في العصر ‏النبوي، و هذا الحضور أو الازدهار يؤكد لنا مقولة عبد الحليم أبي شقة التي جعلها عنوانا ‏لموسوعته الرائدة: "تحرير المرأة في عصر الرسالة".

 

عائشة و صناعة الفتوى

تجلى حضور النساء النوعي بين ممارسي الإفتاء في ‏القرن الأول في فقه أم المؤمنين عائشة (ت 58هـ) التي عدها مؤرخو الفتاوى ضمن الصحابة ‏السبعة المكثرين في "التوقيع عن الله"، و ذلك لأنها كانت "أفقه نساء الأمة على الإطلاق"‏ كما قال الإمام الذهبي (ت 748هـ) و ابن القيم، ‏و لأنها حسبما أثبته صاحب "الطبقات الكبرى" ابن سعد البصري (ت 230هـ) "استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر و عمر و عثمان و هلمّ جرا إلى أن ماتت‏‏"‏، و"كان الأكابر من أصحاب رسول الله (ص) عمر و عثمان ‏بعده يرسلان إليها فيسألانها عن السُّنن"‏. ‏

 

كان لقرب عائشة (ض) من رسول الله (ص) دور كبير في كثرة مروياتها حديثا و إفتاء، ‏و قد أكثرت من رواية الأحكام الفقهية حتى زعم الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) أنها "حُمل عنها ‏رُبع الشريعة"، و مجمل مرويات عائشة من صحيحيْ البخاري و مسلم حوالي "مئتين و نيفا و سبعين حديثا لم ‏تخرج غير الأحكام منها إلا يسيرا"‏، و جمع الشيخ سعيد فايز الدخيل فقهها و فتاواها في مجلد ‏ضخم سماه: ‘موسوعة فقه عائشة أم المؤمنين.. حياتها و فقهها‘.

 

و قد اشتهرت عائشة بفتاوى استقلت بها و آراء فقهية انفردت بها، و من ذلك انفرادها بفتوى عدم التفريق بين ولد الزنا و غيره في إمامة الصلاة ما دام هو الأقرأ لكتاب الله و الأفقه في الشرع، إذْ "ليس عليه من خطيئة أبويه شيء، [و] لا تزر وازرة وزر ‏أخرى"‏.

 

و من انفراداتها النسوية قولها بجواز سفر المرأة بدون محرم مطلقا إذا أمنت على ‏نفسها من الفتنة، فـ"عن الزهري قال: ذُكر عند عائشة المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، ‏فقالت عائشة: ليس كل النساء تجد محرما"‏. و يلاحظ الشيخ سعيد الدخيل -في كتابه عن فقه عائشة المذكور سابقا- أن كثيرا من فتاواها "ينطلق منها ‏بصفتها أنثى فقيهة متميزة، لأنها عاشت مع الرسول صلى الله عليه و سلم تحت سقف واحد، ‏و علمت منه ما لم يعلمه غيرها من الرجال"‏. ‏

 

لم يكن دور عائشة الفقهي مقتصرا على الإفتاء و التحديث بالسنن فحسب؛ بل كانت تناظر الصحابة ‏و تستدرك على فتاوى كبارهم مثل أبيها أبي بكر الصديق و عمر الفاروق؛ و قد جمع العلامة بدر ‏الدين الزركشي (ت 794هـ) استدراكاتها على الصحب الكرام في سفر ممتع بعنوان: "الإجابة ‏لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة"‏. كما خرَّجت مفتياتٍ مارسن الإفتاء بعدها، ‏و أخذ عنها الفقه و العلم خلق كثير بعضه من نساء أهل بيتها مثل: أختها أم كلثوم ‏ و بنت أخيها عبد الرحمن حفصة.

 

و ممن تخرجن على يد عائشة و حملن راية الإفتاء بعدها: "عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية... تريبة عائشة و تلميذتها...، و كانت عالمة فقيهة حجة ‏كثيرة العلم"؛ ‏و"صفية بنت شيبة أم منصور الفقيهة ‏العالمة.. القرشية"‏؛ و"أم الدرداء ‏الصغرى.. الفقيهة (ت بعد 81هـ)، و اشتهرت ‏بالعلم و العمل و الزهد"‏، و قد اتفق العلماء "على وصفها بالفقه و العقل و الفهم ‏و الجلالة"؛ كما يقول الإمام النووي‏.

 

‏عالمات يدرسن المشاهير‏

في عهد التابعين اشتهر في المدينة النبوية سبعة علماء أجلاء بلقب فقهاء المدينة السبعة، ‏و تفيدنا كتب التراجم بأخذ كل واحد من هؤلاء السبعة المشاهير العلمَ عن فقيهات؛ فأولهم ‏سعيد بن المسيب (ت 94هـ) أخذ عن عائشة و أم سلمة؛ و عروة بن الزبير (ت 93هـ) أخذ عن أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق و عن خالته أم المؤمنين عائشة التي "لازمها ‏و تفقه بها"؛ و القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (ت 107هـ) تربّى "في حجر عمته أم المؤمنين عائشة و تفقه منها و أكثر عنها"‏؛ و سابعهم الفقيه الشاعر عبيد ‏الله بن عبد الله الهذلي (ت 98هـ) أخذ العلم عن عائشة ‏و أم سلمة.‏

 

لم يُؤثر عن الأئمة ‏الأربعة تعلم ذو بال على أيدي النساء؛ إلا أن إمام المدينة مالك بن أنس (ت 179هـ) أخذ عن امرأة هي عائشة بنت ‏سعد بن أبي وقاص (عائشة الصُّغرى)، و أخذت عنه هو ابنته فاطمة التي ذكرها الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842هـ) في رواة موطأ أبيها، و قال: "كانت لمالك ابنة تحفظ علمه...، و كانت تقف خلف الباب فإذا غلط القارئ [من طلبته] نقرتْ الباب فيفطن مالك فيرد عليه". و كان سبب انصراف الإمام الأعظم أبي حنيفة إلى الفقه ‏و الفتوى سؤال امرأة.

 

و في العصور اللاحقة نجد أن أشهر شخصية فقهية هو الإمام أبو محمد ابن حزم (ت ‏‏456هـ) الذي عُرف بمذهبه الظاهري و تفننه في سائر العلوم؛ يقول عن علاقته العلمية ‏و التكوينية الأولى بالنساء: "و لقد شاهدتُ النساء و علمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه ‏غيري، لأني ربيت في حجورهن، و نشأت بين أيديهن، و لم أعرف غيرهن...؛ و هن علمنني القرآن و روينني كثيراً من ‏الأشعار و دربنني في الخط"‏. و هذه الصحبة المبكرة ‏من هذا العلَم الفذ للنساء جعلته أحد أكابر محللي النفس البشرية في التاريخ القديم، و خصوصا الأمور المرتبطة بالنساء.

 

و حين نتّجه شرقا في القرن الخامس نفسه نجد رجلا بحجم ‏الخطيب البغدادي "حافظ المشرق" يسمع الحديث من الفقيهة المحدثة طاهرة بنت أحمد التنوخية (ت 436هـ)، و قد ترجم الإمام ابن عساكر (ت 571هـ) لـ80 شيخة من شيخاته في ‘معجم النسوان‘، و جمع ‏أحد طلاب الحافظ السِّلَـفي (ت 576هـ) معجما لشيخاته، و الإمام الذهبي روى عن جماعة من النساء ذكرهن في معجم ‏شيوخه.

 

كما صرّح الإمام نجم الدين ابن فهد المكي (ت 885هـ) بالأخذ عن 130 شيخة، و ترجم الحافظ ابن حجر العسقلاني لـ170 ‏محدثة في كتابه ‘الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة‘ منهن 54 شيخة له، و في كتابه ‘التقريب‘ ‏ترجم لـ824 امرأة ممن اشتهرن بالرواية. و لتلميذه السخاوي (ت 902هـ) حوالي 85 شيخة ذكرهن في ‏‘الضوء اللامع‘، و شيخات معاصره الحافظ السيوطي (ت 911هـ) يصلن 44 شيخة.

 

و إذا كان اشتُهر عن الإمام ابن شهاب الزهري (ت 124هـ) قوله: "الْحَدِيث‎ ‎ذَكَرٌ ‏يُحِبُّهُ‎ ‎ذكور‎ ‎الرِّجَالُوَ يَكْرَهُهُ مُؤَنَّثُوهُمْ"؛ فإن الإمام الذهبي رسّخ في أذهان الناس مقولته :"و ما ‏علمت في النساء من اتـُّهِمتْ [بوضع الحديث] و لا من تركوها" في روايته‏. و هاتان المقولتان تعبّران عن زمانيْ قائليْهما ثقافيا؛ ‏ففي زمن الزهري كان الحديث صنعة متمحّضة للرجال، و في زمن الذهبي انتشرت المحدِّثات ‏في العالم الإسلامي، و خصوصا في الأسر العلمية لأن الرحلة في طلب العلم و الحديث لم تكن ‏متاحة لربات الخدور.

 

و لغة الأرقام تقول إن عدد المحدثات في القرنين السابع و الثامن وصل ‏في مصر و الشام حوالي 334 محدِّثة، أخذ عنهن مشاهير المحدّثين في ذلك العصر ممن ضربنا لهم الأمثال بابن ‏حجر و غيره؛ و عموما لا يوجد مشتغل بالحديث في تلك العصور إلا أخذ -على الأقل- عن امرأة محدّثة.

المصدر: http://www.natharatmouchrika.net/index.php/search/item/3904-85-1

(2)

مفتيات عبر الأزمنة و الأمكنة

و إذا تطرقنا إلى مجال الفقه و صناعة الفتوى تحديدا؛ فسنجد أنه لم يخلُ قُطر من أقطار الإسلام في عصر من العصور من وجود نساء "موقعات عن الله"؛ ففي القرن ‏الثالث الهجري نلاقي في القيروان "فقيهتَيْ تونس" -حسب تعبير المؤرخ للثقافة التونسية ‏حسن حسني عبد الوهاب- الأولى: أسماء بنت أسد بن الفرات (توفيت نحو 250هـ) ‏التي تعلمت على يد أبيها، و شاركت في مجالس المناظرة و السؤال التي كان يعقدها، و تفقهت على مذهب أبي حنيفة رغم شهرة أبيها في المذهب المالكي. أما فقيهة ‏تونس الثانية فهي خديجة بنت الإمام سحنون (توفيت نحو 270هـ) المؤسس الثاني ‏للمذهب المالكي و ناشره في الغرب الإسلامي، وصفها مترجم رجال الفقه المالكي ‏القاضي عياض بأنها: "من خيار الناس".

 

و غير بعيد عن تونس و في العصر نفسه؛ نجد في مصر الفقيهة أخت إسماعيل بن يحيى المُزَني (توفيت 264هـ) -ناصر المذهب ‏الشافعي- التي كانت تنافسه و تناقشه، و من طريف أثر منافستها له أنه أغفل ذكرها فكانت تعرف فقط بـ"أخت المزني". و أفاد السيوطي (ت 911هـ) في ‘حسن المحاضرة‘ بأنها "كانت تحضر مجلس الشافعي"؛ فقد علق الفقيه الرافعي على قولٍ "رواه المزني في ‏المختصر عمن يثق به عن الشافعي" بقوله: "و ذكر بعض الشارحين أن ‏أخته روت له ذلك عن الشافعي... فلم يحب تسميتها"‏.

 

و كما أغفل أخوها المزني ‏اسمها فإن كتب التراجم أهملت أخبارها و تاريخ وفاتها، سوى ما قاله السيوطي من أنها "ذكرها ابن السبكي و الإسنوي في الطبقات". و الظاهر أنها هي والدة الإمام أبي جعفر الطحاوي الأزدي (ت 321هـ)؛ إذ إن المزني خاله و لم يُذكر له غيرها من الأخوات.

 

‏و في الأندلس ذكر مؤرخها ابن عميرة الضبي (ت 599هـ) فاطمة بنت يحيى بن يوسف المُغامي (ت ‏‏319هـ)، و وصفها بأنها "عالمة فقيهة ورعة، استوطنت قرطبة و بها توفيت...، و لم يُرَ على نعش امرأة ما رُئي على نعشها" من كثرة المشيعين. و في العراق نجد أم عيسى بنت ‏إبراهيم الحربي (ت 328هـ) "كانت عالمة فاضلة تفتي في الفقه"‏، و أمة الواحد ابنة القاضي الحسين المحاملي (ت 377هـ) "برعت في مذهب الشافعي، و كانت تفتي ‏مع أبي علي بن أبي هريرة"‏ شيخ الشافعية (ت 345هـ)‏.‏

 

و في خراسان بأقصى الشرق؛ تخبرنا كتب التراجم عن أم الفضل عائشة بنت ‏أحمد الكُـمْساني المروزية (ت 529هـ) التي وُصفت بأنها ‏‏"امرأة عالمة فقيهة...، سمعت جدتها عيني بنت زكريا المكي ‏الهلالي"‏. و في ‏القرن نفسه نقرأ عن "العالمة.. التقية شهدة بنت أحمد" الإبَري (ت 574هـ)، و قد "برعت في العلوم...، اشتهر فضلها في الآفاق و نما بالعراق، ‏و لها مشاركة في كثير من العلوم و لا سيما الفقه..، و كانت تجلس ‏من وراء حجاب و تقرئ الطلاب، و تتلمذ عليها خلق كثير".‏

 

و من أشهر الفقيهات اللاتي مارسن الفتوى و تركن بصمات في المذهب الحنفي: المفتية فَاطِمَة ‏بنت علاء الدين السَّمرقَنْدِي (توفي والدها نحو 540هـ) مؤلف كتاب ‘تحفة الفقهاء‘، و زَوْجَة الإِمَام عَلَاء الدّين الكاساني (ت 587هـ و توفيت هي قبله) صَاحب كتاب ‘بدائع الصنائع‘. فقد "تفقهت على أَبِيهَا و حفظت مصنفه ‘التُّحْفَة‘.. [و] كَانَت تنقل الْمَذْهَب نقلا جيدا، وَ كَانَ زَوجهَا الكاساني رُبمَا يهم ‏في الْفتيا فَتَردهُ إِلَى الصَّوَاب و تعرّفه وَجه الخطأ فَيرجع إِلَى قَوْلهَا.. وَ كَانَت تُفْتِي... وَ كَانَت الْفَتْوَى أَولا يخرج عَلَيْهَا خطها وَ خط أَبِيهَا السَّمرقَنْدِي، فَلَمَّا تزوجت ‏بالكاساني صَاحب ‘الْبَدَائِع‘ كَانَت الْفَتْوَى تخرج بِخَطِّ الثَّلَاثَة"‏‏، أي توقيعاتهم.

 

‏و في القرن السابع تصادفنا فاطمة بنت الإمام السيد أحمد الرفاعي الكبير (ت ‏‏607هـ) كانت "فقيهة في دين الله"‏، و العالمة الفاضلة "زينب ابنة أبي القاسم الشهيرة بأم ‏المؤيد... أدركت جماعة من أعيان العلماء، و أخذت عنهم رواية و إجازة...، ‏ و ممن أجازها.. ‏الزمخشري (ت 539هـ) مؤلف [تفسير] ‘الكشاف‘، و ممن أجازتهم من أكابر العلماء العلامة المؤرخ.. ‏قاضي القضاة ابن خلّـكان‏ (ت 681هـ)". ‏

 

و قد اشتهر القرن الثامن بكثرة المحدثين و الفقهاء الموسوعيين، و تسعفنا الموسوعة التي ترجم فيها ‏الحافظ ابن حجر لأعيان هذا القرن ‘الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة‘ ‏بتراجم لكثير من الفقيهات و العالمات و المحدّثات كما تقدم. و قد شاع في هذا العصر إطلاق أسماء و ألقاب على العالمات ذات دلالة طريفة، و من تلك الأسماء و الألقاب: سِتُّ العلماء، و ست الفقهاء، ‏و ست القضاة، و ست الكَتَبة، و ست الوزراء، و ست الملوك.

 

و ممن أطلق عليهن ذلك: سِتّ الْعلماء بنت شيخة رِبَاط درب المهراني ‏‏(ت 712هـ)؛ و سِتّ الْفُقَهَاء أمة الرَّحْمَن ابْنة إِبْرَاهِيم ‏الصالحية الحنبلية (ت 726هـ)؛ و سِتّ الْفُقَهَاء بنت الْخَطِيب شرف الدّين العباسي (ت 765هـ)، حدثت هِيَ و أخوها عَلَاء الدّين مَعَ الْحَافِظ أبي الْحجَّاج ‏الْمزي بأجزاء من أمالي الْجَوْهَرِي؛ و أختها سِتّ الْقُضَاة بنت الْخَطِيب. كما ذكر الحافظ الذهبي كلا من: ست الوزراء بنت عمر بن المُنجى (ت 716هـ) فوصفها بـ"مسندة الوقت"؛ و ست الملوك ‏فاطمة بنت علي بن أبي البدر‏ (ت 710هـ). ‏

 

و في القرن التاسع حصر بعض الباحثين ‏عدد الفقيهات اللائي لهن علاقة بمكة المكرمة ‏إقامة أو جوارا أو زيارة بحوالي 270 فقيهة، كما ذكرت إحدى الكاتبات‏ أن عدد ‏النساء اللاتي ترجم لهن السخاوي في كتابه ‘الضوء اللامع لأهل القرن التاسع‘ ‏يصلن لـ1080 سيدة، معظمهن من الفقيهات المحدثات. و هذا يدل على أن الجهد ‏النسائي في جانب الفقه و الفتوى يحتاج لإعادة تدوين و تقييم. ‏

 

و من بين أعيان القرن العاشر الهجري تبرز لنا "الشيخة.. العالمة العاملة" أم عبد الوهاب بنت الباعوني الدمشقية (ت 922هـ)، و هي "أحد أفراد الدهر.. حُملت إلى القاهرة و نالت من العلوم حظاً وافراً، و أجيزت ‏بالإفتاء و التدريس". و في القرن الحادي عشر ‏تلاقينا في مكة المحدثة قريش بنت عبد القادر الطبري (ت 1107هـ)، كانت "فقيهة.. ‏من بيت علم كبير..، كانت تُقرأ عليها كتب الحديث في منزلها"، و قد عدها ‏صاحب ‘فهرس الفهارس‘ من "مسانيد الحجاز السبعة الذين قويت بهم شوكة الحديث في ‏القرن الحادي عشر و ما بعده"‏.

المصدر: http://www.natharatmouchrika.net/index.php/search/item/3910-85-2

(3)

واعظات يعتلين المنابر

توقف مؤرخو القرن الثامن الهجري كثيرا عند حياة أم زينب فاطمة بنت عباس البغدادية (ت 714هـ) التي سمي بها "رباط البغدادية" بالقاهرة عند تأسيسه سنة 684هـ؛ فوصفها الذهبي بأنها "الشيخة المفتية الفقيهة العالمة.. الحنبلية". و ذكر المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ) أنها "كانت تصعد ‏المنبر و تعظ النساء... [و] انصلح بها جماعة نساء في دمشق...، [ثم] تحولت ‏بعد السبع مئة إلى مصر، و انتفع بها في مصر من النساء جماعة، و بعُد صيتها".

 

و من وظائف ذلك الرباط الذي سُمي باسمها أنه كانت "تودع فيه النساء اللاتي طُـلّقن أو هُجرن، حتى يتزوّجن أو يرجعن إلى أزواجهنّ صيانة لهنّ، لما كان فيه من شدّة الضبط و غاية الاحتراز و المواظبة على وظائف العبادات". و عن علاقة هذه المفتية الحنبلية البغدادية بالفقه يقول الصفدي: "تفقهت عند المقادسة بالشيخ شمس الدين و غيره... و كانت ‏تدري الفقه و غوامضه الدقيقة و مسائله العويصة".

 

‏و قد بلغت من حضورها العلمي و الفقهي أن رجلا بحجم ابن تيمية رحمه الله تعالى كان يتعجب ‏من عملها و يثني على ذكائها. و لم يكن ابن تيمية متفردا بإعجابه ‏بها؛ فقد ورث عنه تلميذه الحافظ الذهبي ذلك الإعجاب حتى قال فيها: "و كان لها قبول ‏زائد، و وقع في النفوس، زرتُها مرة و أعجبني سمتها و تخشعها..، و قلّ من أنجب من النساء مثلها".

 

و قبل هذه الجليلة البغدادية؛ نجد شيخة دمشقية أخرى كان صعود المنبر سببا في تسميتها ‏بـ"العالمة"، و هي أم الفقيه الشافعي شهاب الدين الْأنْصَارِيّ (قَاضِي الْخَلِيل) المعروف بِـ"ابْن العالمة"، و كان سبب تسميتها ‏بالعالمة كما روى قطب الدين اليونيني (ت 726هـ) "أن الملك ‏العادل الكبير لما توفي (سنة 615هـ) نظروا امرأة تتكلم في العزاء فذكروها ‏و أنها من الصلحاء، فأتوا في طلبها فتبرأت من ذلك لعدم خبرتها بما يليق بذلك الحال، ‏فألزموها و أخذوها مكرهة، و كانت تحفظ كثيراً من ‘الخُـطَب النُّـباتية‘ (= خُطب ابن نُباتة المتوفى سنة 374هـ)؛ قالت: و كنت أسأل الله ‏تعالى في الطريق ألا يفضحني في ذلك المحفل و أنا أرجف فَرَقاً من ذلك.‏

 

قالت: فلما حضرتُ و صعدت المنبر سُرّي عني، فقرأت شيئاً من القرآن و خطبت بـ‘خطبة الموت‘...، و هي من طنّانات الخُطب؛ فاتفق في ‏ذلك المجلس من البكاء.. ما لم يتفق في غيره. و اشتهرت تسميتها بالعالمة". و قد اشتهر بلقب ‘ابن العالمة‘ عَلَم ‏آخر هو "أبو الفضل ابن العالمة عُرف بالإسكاف (ت ‏‏530هـ)"‏، ‏و كذلك أحْمَد بن أسعد أَبُو الْعَبَّاس الشهير بابن العالِمة "دُهْن اللّوز الّتي كانت عالمة دمشق"‏‏.

 

زهد في التأليف يوّلد الإهمال‏

رغم هذا الحضور العلمي اللافت للنساء في مختلف العصور؛ فإن كتب الفقه أهملت ذكر ‏أقوالهن الفقهية و مذاهبهن ما عدا أقوال أمهات المؤمنين و بالأخص عائشة، و ذلك راجع في ‏رأينا إلى أربعة أمور؛ الأول: أن الفقهاء اعتمدوا في نقل الأقوال على شهرة القائل و تصدره، ‏و لذا لم ينقلوا في كتب الخلاف إلا عن "مشاهير أئمة الأمصار". الثاني: أن أغلب الفقيهات كُنّ في كنف والد أو زوج عالميْن ‏يغطيان على ذلك التميز النسوي.

 

الأمر الثالث: أن النساء العالمات نادرا ما ألّـفن كتبا، ‏و للكتب وحدها القدرة على إبقاء الأقوال حية و خالدة. الرابع: أن المرأة في ثقافة الاجتماع ‏العربي تعتبر "عورة"، و يرى بعض الدارسين أن العرب استعادوا عادات ما قبل الإسلام في قضايا ‏المرأة و الاجتماع، و لذا نجد المزني لم يصرح باسم أخته و هو رجل من قبيلة مُزينة المضرية. ‏

 

و قد استطاع بعض الباحثين‏ بعد جهد جهيد أن يحصر فقط اسم 36 مؤلفة منذ القرن الثاني ‏الهجري و حتى القرن الثاني عشر، و أغلب تلك المؤلفات غير موجود و إنما ذكرت عناوينَه كتبُ التراجم ‏استطرادا. و هذا العدد الضئيل جدا يعكس زهد العالمات في كتابة مؤلفات تحفظ علمهن، ‏و ذلك الزهد جعل كتب التراجم -و خصوصا كتب طبقات الفقهاء- تهمل ذكرهن.

 

و قد تعجب ‏الباحث محمد خير رمضان يوسف -بعد جولاته في كتب تراجم فقهاء المذاهب- من إهمالها ‏للنساء الفقيهات و أخبارهن؛ ففي كتاب ‘الجواهر المضية في تراجم الحنفية‘ -الذي يحتوي حوالي 2115 ‏ترجمة- لم يجد من تراجم النساء سوى خمس فقيهات؛ و في كتب التراجم المالكية لم يجد ترجمة ‏لأي امرأة؛ و كذلك كتاب ‘طبقات الشافعية الكبرى‘ للسبكي (ت 771هـ) فإنه ضاق بمجلداته العشرة عن ذكر ‏أي فقيهة شافعية، و وحده الإسنوي ذكر "أخت المزني" التي لا يُعرف اسمها. و ليس في ‘طبقات الحنابلة‘ ‏لابن أبي يعلى (ت 526هـ) ذِكرٌ لأي فقيهة حنبلية، و قد عوّض عن ذلك بذكر النساء اللواتي كُنّ يسألن ‏الإمام أحمد تحت عنوان: "ذكر النساء المذكورات بالسؤال لإمامنا أحمد". ‏

 

و هذا الإهمال للتاريخ العلمي للنساء نلمحه في عدة قضايا أندلسية؛ الأولى: خبر أم أبي الوليد ‏الباجي (المتوفى 474هـ)، فقد كانت فقيهة و لم تـُذكر في كتب التراجم إلا بعلاقتها بابنها الذي صححت تاريخ ‏مولده، كما نقل ذلك ابن عساكر الدمشقي. و القضية الثانية: نجدها في التراجم التي خص بها صاحب ‘نفح ‏الطيب‘ حوالي عشرين سيدة من مشهورات الأندلس، و هي تراجم تتجلى فيها صور الإهمال ‏بكل وضوح و أسف باستثناءات قليلة؛ فغالب من ذكرهن ذكرها باسم مفرد يشبه اللقب مع نسبة لإحدى المدن ‏الأندلسية، مع إغفال كامل لبقية المعلومات المتعلقة بالاسم الثلاثي، و تاريخ الميلاد، و على من ‏تأدبن و تعلمن، و متى توفين.

 

و أغرب شيء في ذلك الإهمال تلك الحكاية التي حكاها المقري بصيغة التمريض في نهاية ‏ذكره للمشهورات الأندلسيات، قال: "و حُكي أن بعض قضاة لوشة كانت له زوجة فاقت ‏العلماء في معرفة الأحكام و النوازل...، و كان في ‏مجلس قضائه تنزل به النوازل فيقوم إليها فتشير عليه بما يحكم به"‏.

 

و أما القضية الثالثة؛ فتتجلى في الميزة التي اشتهر بها الغرب ‏الإسلامي من جمع أهله لمختلف فتاوى علمائهم في كتاب واحد، مثل ‘المعيار المعرب و الجامع ‏المُغرب عن فتاوي أهل إفريقية و الأندلس و المَغرب‘ لأبي العباس الونشريسي (ت ‏‏914هـ)، و لم تذكر مجلداته الاثنا عشر أي فتوى لأي فقيهة، و هكذا ‏اقتدت به موسوعات الفتاوى التي جُمعت بعد عصره.

المصدر: http://www.natharatmouchrika.net/index.php/search/item/3916-85-3

الأكثر مشاركة في الفيس بوك