الإمبريالية الجديدة.. ما بعد العولمة ما بعد الحداثة

الدكتور عز الدين عناية

 

تتردد كثيراً في السنوات الأخيرة على لسان بعض المفكرين الغربيين، مصطلحات "ما بعد" ما بعد الرأسمالية، ما بعد الاستعمار، ما بعد الامبريالية، ما بعد العولمة، ما بعد الحداثة، ما بعد التاريخ. إن العولمة التي سعت من خلالها مراكز رؤوس الأموال الضخمة و الشركات العملاقة، أن تجعل العالم أمريكياً، بحسب ما قال مرة الرئيس الأمريكي الشهير "فرانكلين روزفلت" الذي وصل إلى البيت الأبيض العام 1933 و مكث فيه 12 عاماً، في أصعب مرحلة واجهتها الولايات المتحدة، حيث شهدت الكساد الاقتصادي العظيم حينها، قبل أن يتمكن روزفلت من إحداث الإصلاحات الاقتصادية الكبيرة، هذا الرجل قال ذات مرة إن قدر العالم في النهاية هو أن يتأمرك.

 

السؤال الكبير: هل تمكنت العولمة من حذف الحدود و الهويات و بناء عالم بلا جدران؟ الإجابة بظني نجدها في الارتدادات على ثقافة العولمة، من خلال عودة الشعوب في كثير من الأماكن، إلى جذورها القومية للدفاع عن مصالحها، فانفجرت الصراعات الإثنية و القومية و المذهبية و الطائفية، التي أصبحت سمة العصر.

 

إذن حين يتحدثون عن مرحلة ما بعد العولمة، فهذا لا يعني أن العولمة كنظام عالمي قد أكملت وظيفتها و تطورت، بل على العكس إن ما يجري في العالم يؤكد أن العولمة شأنها شأن كافة مراحل الرأسمالية، ما هي إلا وسيلة لسرقة خيرات الدول النامية، حتى لو اضطر الغرب إلى استعمال القوة المفرطة، باسم الديمقراطية و حقوق الإنسان حيناً، و صيانة حقوق الأقليات حيناً، أو الدفاع عن الحلفاء و محاربة الإرهاب أحياناً أخرى.

 

بذرة الرأسمالية

في الحقبة التاريخية الممتدة ما بين انهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس، و حتى القرن السادس عشر، كان الإقطاع يفرض سيطرته على ما يقارب من 95 في المئة من الأراضي في أوروبا و الصين و اليابان و الهند. إن الرأسمالية نمت في أحشاء الإقطاع بوقت مبكر من ظهورها، حيث يذكر التاريخ انتفاضات متعددة قام بها المزارعين و العبيد ضد الإقطاع. كما يمكن آنذاك ملاحظة نشوء مراكز الإنتاج اليدوي في المدن الإقطاعية مترامية الأطراف، و كانت تضم جمعيات الحرفيين من نسّاجين و حدادين و صناع الأحذية و السيوف و سواهم، مما كان سبباً من أسباب تطور الرأسمالية لاحقاً. ترافق ذلك النشاط مع نمو مضطرد في عدد التجار و اتساع رقعة تجارتهم و تنوعها.

 

 

الجشع و حب المال و الرغبة في مراكمة الثروات، دفع التجار إلى بناء مدن قريبة من وسائل النقل النهرية و البحرية، مما أسهم في اتساع الأسواق الوطنية ثم العالمية، و في زيادة الإنتاج، و نشوء شريحة من التجار الأثرياء الرأسماليين، و تراكم رأس المال بين أيدي هؤلاء أضعف الإقطاع، و لذلك كان الانتقال من شكل الإنتاج الإقطاعي مثيراً، حيث أصبح المنتج هو التاجر الرأسمالي، و انتقل الحرفيين تدريجياً إلى شريحة الأثرياء، مما أدى إلى توسيع و زيادة الإنتاج، و قاموا بتوظيف أموالهم لمضاعفة الأرباح، و بذلك يكون كبار التجار قد دفعوا مسيرة الاتجاه الرأسمالي خطوات للأمام نحو التشكل.

 

 

لأن النظام الإقطاعي كان يدافع عن بقاءه و استمراره ضد التطورات التي تحصل، كان للتاريخ رأي مختلف، حيث قامت الثورات البرجوازية ضد النظام الإقطاعي الذي كان يعيق نموها و تطورها، فأصحاب الرأسمال لم يستسلموا للقيود التي كانت الإقطاعية تفرضها على الأسواق المحلية، لأن التجار كانوا يتطلعون إلى الأسواق الخارجية. فتمت تصفية الإقطاع عبر ثورات رغم مقاومته العنيدة.

 

 

و هنا نشأ النظام الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و الأرض. فمنذ نشأتها كنظام عالمي، و الرأسمالية تسعى لأن تُخضع الكون لمتطلبات نموها، فعمدت إلى تكييف واقع الدول النامية كي تتلاءم مع شروط حركة الرأسمالية المتغيرة، و أزماتها المختلفة، بما يضمن استمراها و تضخمها. و بدأت مرحلة جديدة من الاستغلال ضحيتها هذه المرة الطبقة العاملة التي توسعت نتيجة الهجرة من الريف للمدينة، بعد أن فقد المزارعين الصغار مصدر رزقهم، فتحولوا إلى عمال في مصانع المدينة، حيث يراكم الصناعيين رأس المال، نتيجة الاستغلال البشع الذي يتعرض له العمال. الرأسمالية نفسها التي أوجدت الطبقة العاملة و جعلتها حطباً للموقد، جلبت الطبقة التي ستثور عليها لاحقاً مطالبة بحقوقها الاقتصادية و السياسية.

 

قبل الثورة الصناعية

 

 

شهدت فترة نهاية القرن الخامس عشر اكتشافات جغرافية يسّرت تشكل سوق عالمية، و أسهمت في نشوء الرأسمالية فيما بعد، فقد تمكن عدد من البحارة مثل "كولومبوس، كريستوفر، فاسكودي جاما" من الوصول إلى الهند، و اكتشاف العالم الجديد الذي سمي القارة الأمريكية. و كان التجار الإسبان و البرتغال، الذين عانوا من الهيمنة و السيطرة التجارية التي كانت تفرضها الإمبراطورية العثمانية، قد مولوا الرحلات التي قام بها البحارة و أدت إلى هذه الاكتشافات، ثم اندفع التجار عبر أساطيل لا تتوقف إلى عرض البحار و المحيطات، و تمكن الأوروبيين من نهب خيرات المناطق المكتشفة من الذهب و الفضة، و أقاموا فيها محطات تجارية، و استطاع المستوطنين البيض من فرض سيطرتهم على تلك البقاع الجغرافية بواسطة القوة و القمع للسكان المحليين، و عبر عمليات القرصنة و قتل الناس.

 

هكذا بدأ رأس المال التجاري الأوروبي بالسيطرة على أسواق العالم ابتداء من القرن السادس عشر الذي شهد ولادة نظام جديد في الإمبراطورية البريطانية، حيث تم تأسيس مشاريع ضخمة مثل "شركة الهند الشرقية، شركة هدسون باي، شركة البحر الجنوبي، بنك إنجلترا" و تم إنشاء العديد من الشركات المساهمة، و كان للتجار حصة مالية في الشركات الجديدة، و هكذا كانت الحركة التجارية البريطانية و انفتاحها على الأسواق الجديدة بمثابة المقدمة لظهور طبقة الرأسماليين التجاريين.

 

و استطاعت هذه الشركات الاحتكارية تكديس الأرباح الضخمة من خلال تجارتها، و ما كونته من مراكز تجارية لم تستثني شيء من نشاطها، فعمدت على سرقة خيرات تلك البلدان، و تاجرت حتى بالبشر، الذين كان يتم اصطيادهم من أفريقيا و بيعهم لأصحاب مزارع السكر و التبغ في شمال و جنوب أمريكا و في أوروبا. أرست تلك الشركات نمط الإنتاج الكولونيالي الذي حقق فوائض مالية للقارة الأوروبية. هذه العائدات المالية الضخمة تحققت عبر إسالة الدم و السرقة و النخاسة و الخداع الذي مارسته الرأسمالية التجارية على الشعوب.

 

بعد الثورة الصناعية

 

ظهور الآلات، و اختراع آلة الغزل، و التطور الهام في صناعة الأقمشة الذي ساهم فيه الإنجليزي "إدموند كارترايت" باختراعه للآلة الكهربائية لصناعة الخيوط. ثم تطورت صناعة الحديد، و تم في بداية القرن الثامن عشر البدء باستخراج المعادن بواسطة فحم الكوك بدلاً من الفحم النباتي الذي كان مستخدماً من قبل، و في خمسينيات القرن التاسع عشر تم تطوير صناعة الصلب الذي أصبح في جوهر كافة الصناعات و الأدوات و السفن و المباني. كذلك ساهم اختراع المحرك البخاري و تطويره في سبعينيات القرن الثامن عشر في اكتمال دائرة الثورة الصناعية.

 

الثورة الصناعية و التطور الكبير في المكننة أسهما في النمو الهائل الذي تحقق في الإنتاج الصناعي، فبدأ البحث خارج الحدود القومية للدول الرأسمالية، عن أسواق جديدة لهذه السلع الفائضة.

 

شهدت تلك المرحلة التفاوت الواضح غير المتكافئ بين الدول الرأسمالية الصناعية و بين المستعمرات، فبينما أسهمت الثورة الصناعية في التطور الهائل لوسائل الإنتاج، و مراكمة رأس المال في أوروبا، ظلت المستعمرات في أفريقيا و آسيا و جنوب أمريكا على حالها من التخلف و الفقر، و لم تتوفر فيها ظروف نشوء الصناعة و التطور الاقتصادي، نتيجة توفر فائض من السلع و البضائع الغربية الرخيصة التي نافست الإنتاج المحلي و قضت عليه، ثم تحولت هذه الدول إلى مُصدر للمواد الخام، و مستورد للمنتجات المصنعة غربياً. و بذلك تم دمج الدول التي كان اقتصادها بسيطاً لكنها مكتفية ذاتياً بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، فتحولت إلى سوق كبيرة للمنتجات الصناعية الغربية.

 

الاستعمار و الامبريالية

 

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد العالم مركزية الإنتاج و بالتالي تركز رأس المال الاستعماري، و تغولت الشركات الصناعية الضخمة، فابتعلت المؤسسات الصغيرة و المتوسطة، و انتهى عصر المنافسة، و ظهرت قوة رأس المال المالي المستخدم في الصناعة، الذي تسيطر عليه البنوك التي تحالفت مع المؤسسات الصناعية الهائلة. ما حصل أنه بدأت هذه القوة المالية تبحث عن استثمارات لها خارج الحدود الوطنية تحقق لها عوائد أعلى من الداخل، بعد أن احتدم التنافس في الدول الرأسمالية الصناعية. فشهدت الفترة الممتدة من الربع الأخير للقرن التاسع عشر إلى بداية الحرب العالمية الأولى، تنافساً محموماً بين الدول الصناعية الرأسمالية لتصدير رأس المال، فالتحقت المؤسسات الأمريكية و الفرنسية و الألمانية بالأسواق التنافسية و كسرت الاحتكار البريطاني.

 

و تميزت هذه المرحلة بالصراع و التنافس الطاحن بين المراكز الرأسمالية الاحتكارية، بهدف اقتسام مناطق العالم. و أخذ رأس المال يبحث عن أماكن جديدة للاستثمار في إنتاج المواد الخام. هذا الصراع بين القوى الاستعمارية على المصالح و بهدف مراكمة رأس المال، و الحفاظ على الاستثمارات الخارجية، أدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى.

 

الحرب العالمية الثانية

 

بروز ألمانيا النازية و سعيها للسيطرة على مزيد من الأسواق العالمية بقوة السلاح، يعكس في أحد جوانبه طبيعة الأزمة العميقة التي أصابت النظام العالمي الرأسمالي، و التناقض المتصاعد بين القوى الاحتكارية. و هو ما أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية، التي أعقبها ظهور و تطور حركات التحرر الوطني في كل من آسيا و أفريقيا و أمريكا الجنوبية، و استطاعت أن تُخرج الاستعمار و تحقق الاستقلال السياسي الشكلي، و انتهى عصر الاستعمار العسكري في المستعمرات و بدأ استعمار اقتصادي جديد، من خلال تحالف الامبريالية مع أصحاب رؤوس الأموال الزراعية و التجارية المحليين.

 

أدركت الرأسمالية العالمية التي تقدمت الولايات المتحدة لقيادتها بعد الحرب العالمية الثانية، أنها تحتاج إلى أنماطاً جديدة للاستغلال، و إعادة إنتاج علاقات الهيمنة، وفقاً للمتغيرات التي حدثت في العالم، هذه الأنماط هي ما جسّد مرحلة الامبريالية. اعتمدت الامبريالية الجديدة إلى إحداث علاقات خاصة مع مستعمراتها السابقة، و استخدمت المعونات الاقتصادية و القروض كسلاح لإعادة إنتاج السيطرة، ثم أقامت علاقات مع كبار الملاك و التجار و الوجهاء، و كبار الموظفين و العسكريين الذين أصبحوا عبيداً للإمبريالية لاحقاً. ثم أقدمت الرأسمالية العالمية على استعمال القوة العسكرية لوقف نمو بعض البلدان النامية، و العمل على تفكيكها حتى تظل خاضعة، و قدمت المعونات البوليسية للأنظمة الديكتاتورية لقمع المعارضين لها، و أقامت قواعد عسكرية في بعض تلك البلدان. في المحصلة بقيت هذه الدول أسواقاً استهلاكية للبضائع الغربية، و قطاعاً مربحاً للاستثمارات، و تعززت تبعية الأنظمة الحاكمة للهيمنة الامبريالية.

 

العولمة الرأسمالية

 

شهد العالم مرحلة جديدة بدءً من ثمانينيات القرن العشرين، من أهم معالمها التركز الشديد في رأس المال المالي، و زيادة هائلة في اتساع نشاط الشركات عابرة للقارات متعددة الجنسيات، و انهيار جدار برلين، و سقوط المعسكر الاشتراكي في بداية التسعينيات، و تداعي منظومة التحرر القومي، و الانسحال المريع للبنية الأيديولوجية و الفكرية للأحزاب الاشتراكية و الليبرالية، و التطور الهائل الذي حققته تكنولوجيا الاتصالات و الثورة الرقمية. هذه المتغيرات أوجدت واقعاً تاريخياً أخلّ بتوازنات المصالح و القوة التي كانت سائدة طوال الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية. و أدى إلى مرحلة أحادية القطبية أو العولمة، التي مكّنت الولايات المتحدة من تسيّد المشهد السياسي و الاقتصادي و الثقافي العالمي، على اعتبارها الطرف المنتصر الذي يمتلك الحق في تحديد نمط العلاقات الدولية وفق مفاهيم الليبرالية الجديدة.

 

تحررت الرأسمالية العالمية من قيود الانتشار و التوسع بسبب التطور النوعي الضخم في التقنيات و ثورة المعلومات، و بسبب قيام التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة، فكان لا بد من أن يترافق مع هذه المتغيرات الهامة، تطوير النظم المعرفية و السياسية و الاقتصادية، التي من شأنها تعزيز سيطرة هذا النظام العالمي الجديد أحادي القطبية

 

عالم جديد تفرض فيه قوة وحيدة شروطها و نمطها و رؤيتها على الجميع باسم العولمة، التي لم يتصدى لها أحد، خاصة في الدول النامية المنهزمة التابعة، التي أطاعت التوجه الجديد حفاظاً على مصالحها، و استجابت للعولمة عبر تحرير التجارة، و إعادة هيكلة الاقتصاد، و تبني نظام الخصخصة، و التكيف مع المتغيرات.

 

هذه العولمة ظهرت نتيجة ظروف دولية و إقليمية، و تطوراً في السيرورة التاريخية. إن العولمة هي بمثابة امتداد تاريخي و سياسي و اقتصادي لتطور الرأسمالية التي لم تكف عن النمو منذ كانت جنيناً في القرن الخامس عشر، ثم ولدت في القرن الثامن عشر، ثم تحولت الرأسمالية إلى شكلها الامبريالي في نهاية القرن التاسع عشر.

 

لقد بلغ النظام الرأسمالي العالمي الامبريالي في مرحلة العولمة طوراً، يسعى فيه باستخدام القوة، لإعادة شعوب العالم إلى القواعد التي كانت تحكم الفترة الأولى لنشوء الرأسمالية، القواعد التدميرية التي كانت قائمة على أساس المنافسة الموحشة، التي تضمن سيطرة الأقوى على مقدرات الدول و مصير الشعوب. فالهيمنة هي التي تشكل محور نشاط المراكز الرأسمالية بثوب العولمة في الفترة المعاصرة. و يتم ضمان استمرار السيطرة و اتساعها إما عبر استعمال القوة العسكرية، أو من خلال الأنظمة التابعة و الخاضعة لنفوذ الغرب.

 

هذه هي طبيعة الرأسمالية في طور ما بعد الامبريالية. فما تحاول خلقه الامبريالية ليس نظاماً جديداً للكون، بل إن ما يجري هو امتداد طبيعي و تواصل تاريخي لتطور الرأسمالية التي تقوم بالأساس على التوسع و الانتشار و مراكمة رأس المال، و تستفيد الرأسمالية الامبريالية- بثوبها الأمريكي السافر بشكل خاص، و الأوروبي المحتشم بدرجة أقل- من المتغيرات الدولية لتفرض مزيداً من استبدادها المتوحش على الدول الأخرى، و الضحايا الرئيسيين هنا هم الدول النامية و شعوبها.

 

قوم لا يحتاجون الديمقراطية

 

الكارثة الكبرى تراها جلية واضحة في العالم العربي، الذي لا يزال يصر أن يكون منطقة خالية من الديمقراطية و من العولمة، حيث تبحث معظم الأنظمة العربية عن المبررات لتفسير غياب الديمقراطية و عدم حاجتهم إليها.

 

في مفارقة مبكية يتذرع بعض العرب بالصين التي حققت نمواً في غياب نظام ديمقراطي، نعم هذا صحيح لأن الصين طبقت سياسة رأسمالية الدولة بدلاً عن رأسمالية السوق، و هي الاستثناء الوحيد.

 

لكن العرب لم يتبعوا لا النظام الصيني، و لا النظام الديمقراطي، و لا الاشتراكي، و لا الليبرالي، و لا الوسطي، و لا نظام السوق الحر. لم يتبعوا أي نظام و لا أي نظرية، و ليست لديهم أية خطط استراتيجية لا اقتصادية و لا سياسية و لا أمنية و لا قومية. كل ما تفعله معظم الأنظمة العربية هو مواصلة السياسات الاستبدادية لإخضاع شعوبها، و استمرار السياسات الاقتصادية الفاشلة، التي لم تثمر إلا خراباً و خواء، و لم تستطع معظم الأنظمة العربية تحقيق نتائج واضحة على صعيد التنمية المستدامة. و هذا ليس موقفاً نظرياً، بل معطيات تستند إلى الأرقام التي لا يمكن نفيها.

 

حسب تقارير منظمة العمل الدولية في جنيف، التي صدرت في النصف الأول من العام 2018، فإن نسبة العاطلين عن العمل من الشباب العرب بلغت 30 في المئة، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف المتوسط العام لبطالة الشباب في العالم. أما المعدل العام للبطالة العربية فهو ضعف المعدل العام العالمي.

 

وفيما يتعلق بحجم الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية في العام 2017 فقد بلغ حسب تقدير صندوق النقد الدولي 2.65 تريليون دولار، و هو ما يمثل 2.5 في المئة من الناتج العالمي، لكن أكثر من نصف هذا الناتج يأتي من دول الخليج نتيجة بيع النفط. فيما على سبيل المقاربة بلغ حجم الناتج المحلي الأمريكي 20.4 تريليون دولار، و هو ما يمثل حوالي ربع الناتج العالمي. و مفيد أن نذكر هنا أن عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية قد بلغ في العام 2017 حوالي 327 مليون مواطن. فيما يبلغ عدد السكان العرب 407 مليون مواطن.

 

فيما يتعلق بالأمية فقد أكدت تقارير المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم "الألسكو" في العام 2018 أن معدل الأمية في الدول العربية لا يزال مرتفعاً مقارنة مع دول العالم النامي، حيث بلغ 26 في المئة، يصل عند الإناث حوالي 50 في المئة، و ترتفع هذه النسبة عند الإناث في بعض دول المنطقة إلى أكثر من 60 في المئة. فيما يبلغ المعدل العالمي 13.6.

 

وحسب إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للأغذية و الزراعة "فاو" العام 2017 فإن 40 مليون عربي يعانون من نقص التغذية، و أن نحو مائة مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر. إن أكثر من 13.6 في المئة من السكان العرب لا يجدون ما يأكلونه.

 

على الأبحاث العلمية تصرف الدول العربية مجتمعة معدل 0.4 في المئة من ناتجها المحلي على البحوث، فيما تصرف إسرائيل 2.6 في المئة من ناتجها على الأبحاث غير العسكرية. بينما تصل النسبة في الدول الغربية إلى 4- 5 في المئة. و رغم أن العرب يشكلون حوالي من 5 في المئة من سكان العالم، إلا أن مساهمتهم في نشر الأبحاث العلمية لا يتجاوز 0.02 في المئة من النشر العالمي.

 

نكوص حضاري

 

يبدو المشهد و كأن الولايات المتحدة و بعض الغرب الأوروبي مقبلون على مرحلة ما بعد الديمقراطية الليبرالية، أو ما بعد العولمة و الحداثة التي سادت المجتمع الغربي طوال العقود الماضية. مرحلة تنتشر فيها الشعبوية و الاتجاهات غير الليبرالية، و يعلو صوت الأفكار اليمينية العنصرية المتشددة.

 

هل هذا الاستنتاج صحيحاً، أم متسرعاً؟ هل الأفكار اليمينية أصبحت تشكل القاعدة، أم إنها ما زالت استثناءات رغم حجمها و خطورتها؟ في الواقع أنه على الرغم من كون الديمقراطية لا زالت تنمو في العديد من الأماكن في هذا الكوكب خاصة في القارة الافريقية و أمريكا الجنوبية، و في دول جنوب شرق آسيا، إلا أن الاستبداد ما زال يبسط مخالبه على أعناق الشعوب في أماكن عديدة.

 

هناك القليل من الديكتاتوريات في العالم تحولت إلى نظام انتخابي ديمقراطي خلال العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة، حيث الآن هناك 69 دولة غير ديمقراطية من أصل 192 دولة.

 

إن السياسات الحمائية الانعزالية التي تحاول إدارة الرئيس الأمريكي "ترامب" اتباعها لحماية وظائف الأمريكيين، لا تبدو أنها إجراءات واقعية بقدر ما هي خطاب ديماغوجي، إذ أن العولمة لا تعتمد فقط حرية التجارة، بل أيضاً - و هذا الأهم- على التكنولوجيا الحديثة التي مكنت شركة "أوبر" أن تصبح أكبر شركات التاكسي في العالم، رغم أنها لا تمتلك سيارة واحدة، و جعلت من شركة "أمازون" أكبر شركة للتسوق، و هي لا تمتلك متجراً واحداً.

 

هل نحن على أبواب مرحلة ما بعد العولمة، أم دخل العالم مرحلة من الفوضى عديمة الملامح، أم أن الأمر لا يعدو كونه إننا ما زلنا نتأقلم مع العولمة و ما أفضت إليه من نتائج تظهر في جانب منها على أنها مبشرة لخدمة الإنسان المعاصر، و في جانبها الآخر تظهر أنها مدمرة في قدرتها على النهب والقتل والإخضاع، وجعل الإنسان المعاصر يعود إلى فطرته البدائية الموحشة، في إشارة بائنة للنكوص الحضاري.

المصدر: http://www.natharatmouchrika.net/index.php/articles/kadaya-hadaria/item/3844-2019-06-17-09-07-31

الأكثر مشاركة في الفيس بوك