مدخل إلى حوار الديانات

عفاف عنيبة

 

في العقود الأخيرة برز مفهوم حوار الديانات، و قد إحتفى به الكثيرون من أهل الفكر و العلم فى عالمنا الإسلامي لكن فى عصر تميز بتعالى الحضارة الغربية، من حقنا أن نطرح بعض الأسئلة الهامة. كيف يتأتى لنا محاورة أصحاب حضارة صرنا تابعين لها في العصر الحالي؟؟ و بغية ماذا نريد إقامة مثل هذا الحوار؟ هل لكي نقدم المزيد من التنازلات و لنظهر المزيد من الإستسلام لمنطق أن ما لله لله و ما لقيصر لقيصر؟

 

عندما سنقدم على فعل الحوار، سيسارع محاورونا فى تذكيرنا بأنه يتوجب علينا التشبث ببعض المبادىء المشتركة منها إحترام حقوق الإنسان و حق الشعوب فى الإحتكام الى النظام الديمقراطي الذى يكفل لها إدارة شؤنهم بالعدل. ماذا سنقول لهم عندئذ؟ أننا كنخب مفكرة لا نقوى الإلتزام بهذه المبادىء، لأننا نخاف على حياتنا؟

فمحاورة الآخر المتحضر صاحب القوة المتغطرسة، يتطلب حد أدنى من توفرنا على مقومات سيادة المصير. أضف الى ذلك أن الغرب المؤسساتى و النخبوي يشترط في إقامة الحوار معه على أن نعامله كشريك كامل الحقوق و أن لا نخاطبه بلغة العدو بل بلغة الشريك الحضاري المتفوق علينا. عندئذ السؤال الذى سيطرح نفسه علينا هو كالتالي: 
كيف سيتأتى لنا إعتبار المؤسسة السياسية الأمريكية طرف صديق لنا كامل الحقوق و هي الراعية لحوار الديانات أو الحضارات، و سجلها مظلم مع العالم الإسلامي؟

كمسلمين لسنا في حاجة الى محاورة رجال دين يهود أو ممثلي الكنائس المسيحية بقدر ما نحن فى حاجة الى إفهام الغرب المؤسساتي العلماني  بأن الإسلام كدين هو نظام حياة لا يفصل بين العام و الخاص، بين الدين و الدولة، بين الدنيا و الآخرة، بين الباطن و الظاهر. و المشكلة الحقيقية التى نحن بصددها هى في كيفية إقناع هذا الغرب المؤسساتي الذى رفض التسليم بما أقره إيمانويل كانط من قرنين و عامين عندما أكد أن مبادىء الخير و الشر هى واحدة لكل البشر!

فهذا الإقرار وحده سيسمح لنا بالتحاور من زاوية مختلفة و هي الإنسانية كقاسم مشترك بيننا جميعا كنا، مسلمين، أو مسيحيين أو يهود. لهذا يبدو لي من السابق لآوانه أن نهرع الى حوار ديانات أو حضارات. و إن كان لا بد لنا من المشاركة فى مثل هذه الحوارات، علينا أن نلزم خطة عمل تقضي بأن نوصل رسالتنا إلى المعنيين و الإصرار على حقنا فى تمسكنا بهذا السقف فى أى محاولة حوار.

فما يجب أن نعيه، بأن جيلا من الغربيين هو قيد التكوين من أقاصى الأرض الى أقاصيها مختلف تماما عن الرجال الذين يشرعون فى مبنى الكابيتول فى واشنطن. ممن بدأوا يفهموا بأن لا خيار لحضارة الغرب فى القبول بالمبدأ السالف الذكر و شخصيا فأنا أراهن على هذا الجيل الجديد الذى هو فى طور التكوين و الولادة. و الذى ينطبق عليه موقف الرئيس جون فيتزجيرالد كنيدى : "يجب على الرجل أن يفعل ما عليه بالرغم  من النتائج الشخصية و بالرغم العوائق و الأخطار و الضغوطات، فما يفعله هو أساس الأخلاق الإنسانية."

بناء على هذه الرؤية، لنا أن ننتبه إلى معطى خطير جدا و هو في الحقيقة مفتاح الحوار بين الإسلام و بقية الديانات:  يصعب علينا الحديث عن حوار، إذا ما إفتقد هذا الحوار الأرضية الأخلاقية التى وفقها نستطيع أن نتقابل، نتحاور، نتناقش، نختلف و نثري بعضنا البعض. و الحوار ركيزته هو مبدأ التعايش بين الشعوب و الديانات و الحضارات. فأى حوار نريد اليوم كنا مسيحيين أو مسلمين؟ هل هو الحوار الذى نخرج منه بقناعة أنه محكوم علينا التعايش مع بعضنا البعض بشرط أن نحتكم الى معادلة الخير هو الخير لكل الناس و الشر هو الشر لكل الناس؟ أم أنه حوار هدفه إجلاس أطراف بعضها متنافر و الآخر متفاهم و لب الخلاف بين هؤلاء و هؤلاء قائم على فهم مغلوط للقانون الأخلاقي؟ و ماذا نجني من الصنف الثانى من الحوار؟

إن أي حوار كان على مستوى الديانات أو الحضارات سيفضى شئنا أم أبينا الى مقاربة الهم السياسى الذى يعصف بكوكبنا. فلنأخذ أي موضوع حوار: التنمية، حرية الأقليات، الحريات العامة،  أو حقوق الإنسان. كل هذه تخضع إلي سياسة معينة للدولة. فكيف حينئذ نذهب إلى الشأن السياسى إنطلاقا من رؤية دينية أو حضارية و حال السياسة كعلم فى عصرنا الحالى يرتكز أساسا على مبدأ فصل الدين عن الدولة ؟ ألا ندخل بذلك متاهة التضاد و التناقض و التصادم أم أن للعلمانية قيم مشابهة لقيم الدين؟

و حتى وإن وجد هذا التشابه فهل نتمكن من النظر و الحديث و المناقشة و التوصل إلى رؤية مشتركة و نحن محافظين على برودة أعصابنا فى موضوع مثل حق الشعوب فى تقرير مصيرها من فلسطين الى الشيشان؟ 
أم أن النخب الدينية و الفكرية مطالبة فقط بإنتاج مادة فكرية قابلة للتمطط و التأقلم مع كل الأوضاع الشرعية منها و الغير الشرعية؟ و الأهم من كل ذلك  لماذا نتحاور و ما هي أهداف هذا الحوار و عن ماذا نتحاور؟

1) لماذا و كيف نحاور؟ 
محكوم علينا بالتعايش شئنا ذلك أم أبينا و يفترض التعايش الإحتكام الي الحوار و تبادل الآراء و التوافق في مسائل مصيرية أو الضرورات الخمسة و هي حفظ النفس و النسل و العقل و المال و الدين. عندما نقرر الإلتقاء و نتفق على برنامج حوار و عمل مشترك، أهم ما سنذهب إليه هو كيف نقارب بين الهموم و نتجاوز الخلافات و نعمل علي رأب الصدع بخلق أجواء ثقة و صبر.

فأي عمل يتطلب طول نفس و أي حوار يتطلب مرونة و لا أقول تنازلات. قبول الآخر بعلاته و حسناته مهم و جدولة الأولويات في الحوار مفيد جدا. يستحيل علينا أن نذهب الى حوار ديانات أو حوار حضارات و كل واحد منا يحمل عن الآخر كم هائل من الأحكام المسبقة السلبية فى معظمها. أو أن يتحول الحوار إلى عملية مفاوضات، نطالب فيها مثلا بمبادلة قيمنا بقيم يراد لها أن تكون عالمية فهذا فخ لا يجب أن نقع فيه. فقيمنا عالمية و تخاطب البشرية قاطبة و لسنا فى حاجة الى إستبدالها بمبدأ الحرب الوقائية مثلا التى سنها العقل العسكرى الأمريكى لحل مشاكل قابلة للحل بالتى هى أحسن!!

ثم إن إختيار مواضيع الحوار لا تأتي عبر إملاءات كما يفعل مثلا المجلس العالمي للكنائس أو ما ذهبت إليه الكنيسة الكاثولوكية مؤخرا في مطالبتنا بترك عقيدة من عقائدنا و تتعلق بالمصدر الإلهي للقرآن الكريم، فلا يجب أن يفهم الحوار ما بين الديانات إلى أنه توحيد ديانات أو إلغاء لعقائد و تثبيت لأخرى. في فرض أجندة حوار من طرف علي طرف آخر عدم إحترام، إهانة و إستخفاف بالمحاور. للتعايش السلمي آداب، القفز عليها لا يخدم أي طرف ثم ليكن الحوار إختيار إرادي و ليس أمرا مفروضا. فالحوار بديل عن القطيعة و إنسداد الأفق. يستوجب الإستعداد للحوار بعض الشروط كقابلية التسامح و الإصغاء و التركيز علي جوهر القضايا لنتفرع إلي التفاصيل فيما بعد. فلنتفاهم على ما هو قاسم مشترك بين بني البشر، كمطلب السلام و إحترام خصوصية كل ديانة و ثقافة علي حدة.  في نفس الإطار يحمل الدين لأصحابه الخصوصية الثقافية ذات الطابع المتفرد التى تجعل من أتباع دين معين يختلفون و يتميزون عن الآخرين ليس ذلك التميز العنصرى الممقوت بل التميز الذى يجعل كل فريق و شعب و أمة جزءا من فسيفساء إنسانية جميلة تتكامل و لا تتصادم، تختلف و لا تتنافر.

لهذا يبدو لنا مهما جدا أن نحدد المفاهيم و الأبعاد التى نريد إضفاءها على فعل الحوار، فلا نغيب عامل الخصوصية الذى يضمن لكل أحد وجوده الذاتى و الموضوعى فى آن. و هذا هو كنه الدين، أن يمنح أتباعه البصمة التى تسمح له بأن يكون متميزا عن كل الآخرين و مشابها لهم جميعا فى إنسانيتهم! فالمبادىء التى نلتقي عليها تمكننا من التفاهم و التوافق على ثبات الخير و الشر لكل الناس إذا ما نتذكر ما قاله آنفا إيمانويل كانط، و اعتبار مبادىء التعايش والتسامح و الصبر على بعضنا البعض علامة فارقة فى بناء مجتمع عالمى تسوده قيم دينية بشر بها كل الأنبياء عليهم الصلاة و السلام تثمينا لقيمة الإنسان فى الكون.

فلنذهب الى حوار الديانات بتصور "فلنحاور الآخر و لا نتناسى أنه إنسان مثلنا له ما لنا و عليه ما علينا". إذا ما إنطلقنا من هذا التصور سنستطيع أن نحاور الآخر و ديانته بثقة متعاظمة. فالحوار يسمح لنا بالتذكير بأهمية ترك للدين كامل الحرية فى مخاطبة عقول و أفئدة الناس دون واسطة. فالإنسانية فى حاجة إلى هاد و إلى مرشد يسمو على كل شىء و ليس هناك إلا الدين لكي يلعب مثل هذا الدور. و إذا ما نأخذ بفكرة المستشرقة كارين آمرسترونغ فى مقالها المعنون بما يلى "هل الخلود مهم؟ يسكن الدين هنا و الآن."  فهي تحدثت فى مقالها القيم عن ضرورة أن ننظر للدين كفلسفة حياة تصلح للدنيا أكثر من أي بعد آخر. و هي تقول "كنت أعتقد أحيانا بأن المسحيين بدخولهم الجنة فى السماء، سيشعرون بالغضب إذا ما حرموا من رؤية بنوع من الأسى و الفرحة المغضوبين عليهم يكتوون بنار جهنم!!" هكذا جاء تصور مسيحية كاثولوكية سابقة للشعور الطبيعي الذى يتولد عن طاعة أتباع لتعاليم دينهم و كيف يتصورون جزاء الآخرة و كيف يتخيلون مصير المرضيين و المسخوطين!

فهذا التصور نتقاسمه جميعا كأبناء ديانات سماوية بشرت بالجنة للمتقين و سقر للفجرة. إذا ما نشترك فى مثل هذه الرؤية، فكيف لا نشترك فى تصورنا لدور المخلوق فى الدنيا. و قد لخصه خير تلخيص الرئيس جون فيتزجيرالد كنيدى فى خطابه الذى ألقاه أمام مجلس شيوخ لولاية ماساشوستس و هو يستعد لتسلم مهام رئيس الولايات المتحدة الأمريكية قائلا: "كإبن ماساشوستس و بكل تواضع وبخشوع أطلب من الرب أن يساعدني في مهمتي هذه و هذا عن وعي مني من أن فى هذه الأرض إرادته العليا ينفذها رجال..."  فإن إتفقنا فى حوار الديانات أن الإنسان ما هو إلا خليفة الله على الأرض، نكون قد خطونا خطوات كبيرة نحو الحوار المثمر الذي يتجاوز العموميات و الخصوصيات ليذهب إلى اللب. ألا و هو كيف يجب أن يكون دور الإنسان فى ظل الدين، و كيف نجعل من الدين المحرك لحياتنا و المعيار الذى نحكم وفقه على صلاح مسعانا من بطلانه. فالوصية الخامسة لدى المسيحيين و اليهود هى ما يلى "لا تقتل" و الوصية الخامسة فى الإسلام المذكورة فى أواخر الآيات من سورة الأنعام هى الآية التالية: (و لا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق)  صدق الله العظيم، فنلاحظ أن القتل محرم فى الديانات السماوية الثلاث و رغم ذلك تطالعنا شاشات العالم يوميا بمناظر قتل فردية و جماعية. فالناس يقتلون و يقتلون كما لو أنهم خلقوا للقتل!!

كيف نذكر الناس بأن ما يجمعهم أكبر مما الذى يفرقهم و الحوار إن أردنا أن نرسخه كسبيل حضارى لمخاطبة بعضنا البعض، لنا أن ننطلق فيه من معايير محددة تقول للأبيض أبيض و الأسود أسود. فلنا أن نحتكم جميعا إلى منطق يؤمن أشد الإيمان بأن الظلم و الظالم كان يهوديا مسيحيا أو مسلما، فلنا أن نعامله كذلك دون أدنى مواربة. بذلك فقط نؤسس لمصداقية الحوار، و أى تساهل مع هذا المعيار أو تهرب منه لن يفضى الحوار إلا إلى مزيد من التباعد و الخلاف و التصادم. و قد يصدق ما أسمته كارين أمرسترونغ بوجود ديانات حسنة و أخرى سيئة، فالدين مطالب أكثر فأكثر فى زمننا المعاصر بتلبية حاجة الإنسان فى الإيمان بيقين أعلى من كل محسوس و غير محسوس. فالمؤمنون أينما وجدوا فى هذا الكوكب يريدون ليقينهم أن ينتصر فى أفعالهم، و حوار الديانات مدعو بدوره أن يحل ألغاز عجز على فكها فلاسفة و سياسيين وحكماء وأبطال. لهذا لا نستطيع أن نستسيغ إجتماع لأهل الإختصاص فى الديانات ليبحثوا مواضيع لا تتصل بهذه الألغاز المحيرة. كيف نجيب على هذا الأسئلة: كيف نتمكن من إحترام بعضنا البعض لنكف من التقاتل البغيض؟ كيف نبنى معالم حضارة إنسانية لا تحتكر شيئا لنخبة من الأثرياء المتعالين؟ كيف نذكر كل أحد بنعمة الحياة و حتمية الموت و البعث و الحساب؟ كيف نتجاوز الأحقاد و آلاف السنين من الضغائن و الفهم السىء لدور الدين فى حياتنا ؟ كيف نجعل من الدين حلقة تواصل تؤاخي بين بنى البشر؟ و كيف نستطيع  العيش وفق تعاليم ديننا دون أن نصطدم بالمنطق الوضعي الذي يرفض أن يقنن الدين لحياة البشر أفرادا و جماعات؟ لازالت الألغاز كثيرة و لكنني أظننى أوجزت أهمها.

المصدر: http://www.natharatmouchrika.net/index.php/search/item/47-1

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك