في إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة أو الحد الفاصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية

في إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة أو الحد الفاصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية

وجيه كوثراني*

الحديث عن حدود العلاقة بين الدين والسياسة أو (الحد الفاصل) بين الطرفين، انطلاقاً من إشكالية العلاقة بين الحاكم والفقيه، (وهي إشكالية يرى بعض الباحثين أنها تخص التاريخ الإسلامي وحده والمجتمعات الإسلامية وحدها) حديث معقد لناحية مسائله المتشابكة، وطويل لناحية مضامينه ومراحله التاريخية.

على أن النقطة المركزية التي ينبغي الانطلاق منها -في منهج البحث- هي أن (التاريخ الخاص) وعلى الرغم من خصوصيته التي يسهل البحث عنها في مفرادات وسمات وصفات معينة - هو جزء من تاريخ إنساني عام تتواصل فيه الحضارات والأفكار وتتفاعل، وتتطور في نسق سائد أو في نموذج غالب. من هنا كان من المفيد في مناهج البحث في الإنسانيات - وفي حالنا في (تاريخ الأفكار) - اللجوء إلى ما أضحى يسمى في المدرسة التاريخية الحديثة (التاريخ المقارن).

وفي موضوعنا المطروح - يشير علينا (التاريخ المقارن بين مجتمعاتنا الإسلامية من جهة والمجتمعات الأوروبية المسيحية القروسطية (من القرون الوسطى) والحديثة من جهة أخرى أن نتبين أوجه الاختلاف أو التشابه في حقل الموضوع المثار حول إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة، على الرغم من اختلاف المفردات المعبرة عن أوجه تلك العلاقة. فهناك في الغرب الكنيسة أو الاكليروس من جهة والملك أو الأمير اللذان أضحيا مع الشعب دولة/ أمة في مسار التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحديثة. (بدءاً من النهضة وحتى الثورات القومية والديمقراطية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر). وهنا في شرقنا الإسلامي ثمة فقيه أو مؤسسة دينية من جهة، وثمة أمير أو سلطان أضحى دولة تنحو أن تتماثل مع مجتمعها دولة حديثة، أي دولة/ أمة. (وبتعبير أدق عربياً دولة/ وطن، أو دولة مواطنين في مجتمع مدني.

هذا الإشكال في المقارنة بين حالين، أو بالأحرى بين مسارين ثقافيين في موضوعة العلاقة بين الدين والسياسة، تختلف في معالجته وفي فهمه، المواقف ونتائج البحث ووجهات النظر لدى الباحثين أجانب أو عرباً. فمن قائل بالتوحد والاندماج بين الدين والسياسة، على أنّها معطى تاريخي ثابت في الإسلام وتاريخه وثقافته، وبين قائل بالثنائية بين الطرفين وإمكانية الفصل عبر حدّ قد يضيق أو يتسع.

1- مُثُل من القول بالاندماج عند بعض المستشرقين كما عند بعض الإسلاميين

كتب برنارد لويس في كتابه (اللغة السياسية للإسلام)، حول العلاقة بين الدين والسياسة يقول: (الإسلام الكلاسيكي، يميّز بين الكنيسة والدولة. بينما في المسيحية، فإن وجود السلطتين يعود إلى مؤسسها الذي نصح أتباعه بأن (يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله). فعلى امتداد تاريخ المسيحية كانت هناك سلطتان، الله وقيصر، ممثّلتان في العالم بما سُمّي (Sacerdotium et Regnum)، وفي العصور الحديثة بكنيسة ودولة. قد تكون هاتان السلطتان مترابطتين، وقد تكونان منفصلتين، وقد تعيشان بوفاق أو في صراع، وقد تهيمن الواحدة على الأخرى، وقد تتدخل الواحدة في شؤون الأخرى (...) ولكن يبقى دائماً أنهما اثنتان: السلطة الروحية والسلطة الزمنية، وكل واحدة مزودة بقوانينها الخاصة وبتشريعاتها، وببنيتها الخاصة وبتراتبيتها)(1).

ثم يتابع: (أما الإسلام، فإنه لم يعرف قبل مرحلة التغريب، هاتين السلطتين، بل عرف سلطة واحدة. وبالتالي فإن الفصل بين الكنيسة والدولة، وهو أمر متجذِّر بعمق في المسيحية، لا أصل له في الإسلام. حتى إنه في اللغة العربية الكلاسيكية، كما في بقية اللغات التي تستخرج مفرداتها الثقافية والسياسية من اللغة العربية، ليس هناك وجود لأزواج من الكلمات التي تناسب معنى الروحي (spiritual) والعلماني (Séculier). فقط خلال القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، وتحت تأثير الأفكار الغربية ومؤسساتها، ظهرت أولاً بالتركية، ثم بالعربية، كلمات جديدة للتعبير عن معنى “Séculier”. بل إنه حتى في الاستخدام الحديث، ليس هناك ما يوازي تعبير (الكنيسة) بمعنى (تنظيم إكليريكي). فكل الكلمات الدالّة على الجامع أو المسجد تنطبق فقط على بناء للعبادة وليس على فكرة مجردة abstraction أو سلطة أو مؤسسة. صحيح أنه في المراحل المتأخرة من الإسلام الكلاسيكي صير إلى تمييز جماعة من محترفي العلم الديني (رجال الين) تشبه تقريباً (الاكليروس) حيث عُبِّر عنهم بكلمات من قبيل: (علماء) أو (ملالي)، ولكن يبقى أن لا وجود معادل لتعبير (علماني) (laïque)، وهو تعبير يخلو من أي معنى في سياق الإسلام. بل أنه حتى في أيامنا، فإن مفهوم أي تشريع أو سلطة زمنية متعلّقة بأي مجال من مجالات الحياة لا يدخل في نطاق المقدّس (المقدّس الشرعي) ولا يخضع لقواعد الشريعة، يُعتبر معصية أو خيانة عظمى للإسلام)(2).

ويستنتج لويس بصورة قاطعة أن هذا الأمر ينطبق على الأحزاب والحركات المسماة (أصولية)، كما على جميع الدول في العالمين العربي والإسلامي التي وجدت نفسها ملزمة بالنصّ على الإسلام ديناً للدولة. إلا أنه يستثني التجربة التركية الكمالية من هذا الحكم، مع استدراك لظاهرة اختراق إسلام المجتمع التركي لعلمانية الدولة.

المفارقة هي أن نجد كتّاباً إسلاميين معادين للاستشراق مثال محمد عمارة والشيخ القرضاوي وآخرين يكرّرون المصطلحات نفسها ويستخدمون المفاهيم نفسها ليصلوا إلى الاستنتاج نفسه: غربة العلمانية عن الإسلام والمسلمين، بل تناقضها مع مبادئ الإسلام وقواعده.

يقول محمد عمارة: (إن الإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله). وفي رأيه، أن العلمانية التي هي، في مفهومه، فصلٌ بين الدين والدولة، وبالتالي بين الدين والسياسة، هي (أصل من أصول المسيحية)، فتطبيقها في العصور الحديثة الأوروبية هو عودٌ إلى الأصل، وكأن المسيحية في أصولها تدعو بطبيعتها إلى العلمانية. أما ما حدث في التاريخ بين مراحل البابوية - القيصرية، والحكم بالحق الإلهي، ونشوب الحروب الدينية، فما هو إلاّ انحراف عن الأصول الأولى للمسيحية، انحراف تتحمل وزره طبقة رجال الدين أي الإكليروس.

على هذا النحو يُنزع التاريخ وملابساته وتعقيداته عن الدين، عن المسيحية وعن الإسلام، فتستقيم في ذهن المستشرق (الكلاسيكي) وفي ذهن الكاتب الإسلامي صورة جامدة أبدية: صورة التوحيد والدمج هنا، وصورة الثنائية هناك.

يقول عمارة: (نحن لسنا مواجهين بتلك الثنائية المتناقضة، ولا بذلك الاستقطاب الحادّ، اللذين جعلا الأمور هناك: أبيض وأسود، علمانية تفصل الدين عن الدولة أو تسعى لهدمه وانتزاع تأثيره وأثره من الدولة والمجتمع معاً، أو كهانة وسلطة دينية وحكم بالحق الإلهي)(3). إذاً، إنها الثنائية في المسيحية التي يقدّمها المستشرق إلى الإسلامي، حجة وتبريراً للاختلاف بين التجربتين، ولرفض العلمانية (كحل). بل إنه لا وجود لمشكلة في التجربة الإسلامية ليكون هناك حلّ!

وعندما ينتبه الكاتب الإسلامي إلى أن ثمة (بعضاً) من مشكلة أنتجها (الواقع)، نراه يكتفي بالإدانة، ويستحضر (الإسلام) و(تيارات الفكر الإسلامي جميعها) لتأكيد هذه الإدانة. يقول: (صحيح أن الواقع التاريخي الإسلامي قد شهد تقليد المسيحية في هذه الآفة، فتحوّل بعض من (علماء) الدين الإسلامي إلى (رجال دين) وزعموا لأنفسهم سلطاناً في (التحليل والتحريم)، واحتكروا (لآرائهم) صلاحيات الرأي الوحيد ومن ثم الرسمي للإسلام، رغم أن اجتهاد المجتهد ف.ي الإسلام لا يلزم غيره من المجتهدين، بل ولا يلزم المقلّدين لمجتهدين آخرين... لكن هذا التقليد في هذه الآفة قد ظل واقعاً مداناً من تيارات الفكر الإسلامي جميعها، ولم يصبح مقبولاً إلاّ في إطار المذهب الشيعي وحده)(4).

عليه، يسهل في ذاكرة الانقسام الشيعي - السنّي، بل في ذاكرة كل انقسام في عالم الإسلام، أن يحصر الكاتب (تلك الآفة) بفرقة من الفرق، وخاصةً عندما يُلغى التاريخ، تاريخ الفرق وصراعاتها، وتاريخ والدول وعصبياتها، وتاريخ الفقهاء وعلاقاتهم بالسلاطين (سلباً أو إيجاباً)، كما تُنسى حالات التأثيم والتكفير في دنيا السياسة باسم الدين سواء عند السنّة أو الشيعة. يسهل بعد كل ذلك أن ينصّب الكاتب نفسه ناطقاً باسم (الإسلام الصحيح)، وحَكَماً على (الواقع التاريخي)، فيسمح لنفسه بأن يقول: (إن هذا الواقع التاريخي لم يعترف به الإسلام ولم يتحوّل إلى جزءٍ من الدين).

هذا التعالي على التاريخ والواقع، يسمح بإنتاج (خطاب إسلامي) معاصر، له وظيفتان:

وظيفة أولى هي إلغاء الصراعات في التاريخ. وإن اعترف فيها بخجل، فهي من قبيل (الانحراف) أو (الآفة).

ووظيفة ثانية مكمّلة هي خوض الصراع السياسي القائم من خلال تبنّي وجهة نظر يراها صاحبها إسلامية صحيحة يُماهيها بالإسلام الكلّي والشمولي ويُشهرها ضد التيارات العلمانية وضد القائلين بالفصل أو التمييز بين السلطة الدينية والسلطة المدنية باعتبار هذه الأخيرة نشأت في حضن الحضارة الأوروبية وفي سياق ملابسات ومقدمات خاصة، يلخّصها حال الاندماج والصراع بين الكنيسة والسلطة الزمنية، فكيف حصل الفصل أو التمييز في التجربة المسيحية؟

2- مقدمات التمييز (إلى حد الفصل) بين السلطة الدينية والسلطة المدنية في أوروبا

كانت الحروب الدينية التي اجتاحت أوروبا في غضون القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر، قد ولّدت جدلاً صاخباً في مجتمعاتها ولاسيما في تلك التي شهدت صراعات حادة ودموية وانقلابات وأزمات حكم وسلطة. (كإنجلترا على سبيل المثال).

تكثف الجدل حول طبيعة الحكم من زاويتين: من زاوية علاقته بالسلطة البابوية الكاثوليكية - ومن زاوية علاقته بمجتمع رعية لم يعد مع توسع الدعوة البروتستانتية فيه وفي أكثر من مجتمع أوروبي، مجتمعاً كاثوليكياً متجانساً وتابعاً في الكثير من أوجه حياته للسلطة البابوية الواحدة. اقتُرح التجانس بين دين الملك ودين الرعية حلاًّ للمشكلة.

ففي مجمع انعقد بين الكاثوليك والبروتستانت في العام (1555م) في أوغسبورغ (ألمانيا) أقر مبدأ يقول: (الناس على دين ملوكهم). لكن المبدأ لم يطبق في الواقع. ثم ما لبث أن فجّره التاريخ. فبين (1555 و1648م) (معاهدة وستفاليا)، كانت حرب الثلاثين عاماً وإبانها زال هذا المبدأ وبلغ الاضطهاد والتعصب أوجها، (مقدمة رسالة في التسامح -جون لوك- عبد الرحمن بدوي- ص16).

وكان أن بدأ في سياق هذا الجدل ظهور أفكار تقدمية وبنّاءة لحل ذاك الإشكال الذي كان في أساس تفجر الصراعات ما بين الفرق الدينية وهو إشكال يرتبط أولاً بطبيعة العلاقة ما بين سلطة الحاكم (السياسي - المدني) وسلطة الكنيسة أو رجل الدين. وثانياً بطبيعة العلاقة ما بين الأفراد من جهة وما بين الفرق والجماعات الدينية من جهة ثانية.

كثيرة هي الندءات الفكرية والرسائل في (التسامح) وقبول الدين الآخر، التي ظهرت في النصف الثاني من القرن السابع عشر، في كل من هولندا وبريطانيا وفرنسا. من بين تلك النداءات القوية، نداء بيير بيل (P. Bayle) الذي يقول في نقد الكالفينية (لا شيء أدعى إلى جعل العالم مسرحاً دامياً للاضطراب والمذابح، من تقرير هذا المبدأ القائل بأن كل المعتقدين بحقيقة دينهم يحق لهم أن يبيدوا سائر الأديان).

هذا على أن أشهر الرسائل والنداءات التي كان لها أوسع تأثير فيما بعد، هي رسالة جون لوك في التسامح (1689م) التي نشرت في بادئ الأمر مغفلة (دون اسم الكاتب). وعلى أن لا نغفل تأثر لوك بمن سبقه ولاسيما برسالة بيل التي ظهرت قبل رسالة لوك بسنوات ثلاث.

خلاصة رسالت لوك يكمن إيجازها بالمبادئ والتوجهات التالية:

- التسامح علاقة مميزة للكنيسة الحقة. عدم التسامح يتنافى مع الفضائل المسيحية. ينبغي على المسيحيين أن يجاهدوا أنفسهم ضد أخطائهم قبل أن يضطهدوا سائر الناس. وحتى لا يكون (الخير العام) عذراً للطغيان الديني ولا الحربة الدينية عذراً للإباحة، يجب التمييز بين وظيفة الدولة ووظيفة الكنيسة.

- توجد الدولة للمحافظة على الخيرات المدنية وهي: الحياة، الحرية، الصحة، الملكية، ولا شأن للحاكم المدني بالعناية بالأرواح لأن:

- الأرواح لم يكلها الله إليه.

- القوة لا يمكن أن تقنع عقول الناس.

- البلاد المختلفة تعتنق أدياناً مختلفة.

- الكنيسة جماعة حرة إرادية، ينضم إليها الناس لعبادة الله على النحو الذي يعتقدون أنه يرضي الله ويحقق لهم نجاتهم. للكنائس الحق في أن تضع قوانين تنظم شؤونها الداخلية الخاصة، لكن ليس ثمة ضرورة لحكم الأساقفة:

- لأن ذلك أمر لم يأمر به المسيح.

- ولأن ذلك كان دائماً موضوع نزاع.

- وينبغي أن تكون الكنيسة حرّة في قبول أو رفض النظام الأسقفي (...) وسلطات الكنائس مقصورة على الدعوة والوعظ والنصح (...).

وأما عن أهم الأفكار التي حملتها الرسالة فيمكن أن تصاغ كالتالي:

- لا بد من التمييز الدقيق بين مهمة الحكومة المدنية وبين مهمة السلطة الدينية واعتبار الحدود بينهما ثابتة لا تقبل أي تغير.

- رعاية نجاة روح كل هي أمر موكل إليه وحده، ولا يمكن أن يعهد بها إلى أية سلطة مدنية أو دينية.

- لكل إنسان السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين.

- حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان.

- التجاء رجال الدين إلى السلطة المدنية في أمور الدين إنما يكشف عن أطماعهم في السيطرة الدنيوية. وهم بهذا يؤازرون من نوازع الطغيان عند الحاكم (...).

- يجب ألا تفهم المذاهب المخالفة للمذهب السائد في الدولة بأنها بؤر لتفريغ الفتن وألوان العصيان إذا ما قام التسامح، فان السبب في وجود دواعي الفتنة عند المخالفين هو ما يعانون من اضطهاد من جانب المذهب السائد. ولذا فانه متى زال الاضطهاد واستقر التسامح معهم، زالت أسباب النوازع إلى الفتنة والعصيان)(5).

كانت هذه الأفكار منطلقاً للتغيرات التي ستتوالى على المجتمعات الأوروبية خلال القرون اللاحقة، والتي بدورها سيتأسس عليها لاحقاً، مع اعتبار أكيد للتغيرات في الإنتاج والبنى التحتية (أي الثورة الصناعية)، جملة من النتائج والتداعيات والتحولات في الأنظمة السياسية والثقافة ومجال حقوق الإنسان والمواطن. وحقل العلاقة بين المعتقد الديني والموقف السياسي.

وبالطبع لم يكن المسار واحداً في شأن تحديد هذه العلاقة، في كل المجتمعات الأوروبية، كما لم يكن سهلاً أو متسقاً في كل الأحوال والمجالات والمراحل. فثمة شيء من الخصوصية استدعته وضعيته كل بلد في تحديد حجم ومسافة العلاقة بين الدين والسياسة. على أن الجامع المشترك في الحداثة السياسية الغربية كلها هو الفصل المبدئي بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، واعتبار مبدأ حيادية الدولة تجاه المجتمع وبما يزخر هذا الأخير به من أديان ومعتقدات وحرية ضمير واعتقاد، هو مبدأ أساسي لا حياد عنه. فمن ناحية المبدأ، لا يجوز استقواء السياسي بالديني، ولا يجوز استقواء الديني بالسياسي. وليس معنى هذا -في الواقع العملي والمنطق التاريخي- عدم التداخل بين الدين المؤثر حتماً في الثقافة المعيشة وبين السياسة، بما هي خطط تدبير وبرامج واستراتيجيات عمل من أجل السلطة في الدولة. فهذا التداخل أمر واقع لا محالة بوعي او بغير وعي، من خلال الثقافة نفسها التي تشكل جسراً بين الموقعين الديني والسياسي. والمهم ألا يقود هذا التداخل إلى الاستقواء المتبادل على حساب الحقل المدني للسلطة وعلى حساب حيادية الدولة تجاه مجتمعها، وعلى حساب وسائل العمل السياسي السلمي ومبدأ تداول السلطة سلمياً. من هنا كان تأسيس أحزاب مسيحية حديثة في الغرب، تستوحي قيم المسيحية العامة (الإخاء والمساواة) وقيماً إنسانية عامة، ولكن لا تجعل من الانتماء الديني ومن المؤسسات الدينية، ومن السلطات الدينية، أدوات في العمل السياسي للاستقواء بها في المنافسة السياسية حول مواقع السلطة المدنية في الدولة.

3- عربياً وإسلامياً: أين المشكلة؟؟؟

أشرنا في معرض حديثنا عن حال الدمج بين السياسة والدين في رأي بعض الإسلاميين أو بعض المستشرقين من أنه (أي الدمج) حال تاريخي متغير، وليس ثابتاً أبدياً، أو جوهراً ماهوياً خالداً. ونقصد بالحال التاريخي المتغير أن العلاقة بين الملك والكنيسة في أوروبا (القروسطية) كالعلاقة بين السلطان والفقيه (أو المؤسسة الدينية) في التاريخ الإسلامي، هي علاقة وظيفية أي هي علاقة بين سلطات تتوزّع بين المجتمع والهيئة الحاكمة السلطانية وتتمثل إلى جانب السلطان بشتى (الولايات) التي يتوزعها نظام الحسبة والقضاء والتعليم، والمساجد والأوقاف، والنقابات، الخ. أي شتى (الولايات) التي تحدّث عنها وعرّفها الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية).

وبهذا المعنى تصبح الدولة السلطانية في التاريخ الإسلامي، بدءاً من الأموية وحتى العثمانية المتأخرة، وسواء سميناها (خلافة أو سلطنة) هي وفقاً لمصطلح الماوردي (وبقية الفقهاء) (إمارة استيلاء) مشرّع لها فقهياً، أي دينياً، لأنها تقوم بمهمات الخلافة أو بجزء منها. فأين موقع الدين وأين موقع السياسة في هذا التشكل التاريخي للدولة السلطانية التي يُحبذ البعض أن يسميها (دولة إسلامية)؟

إن دراسات العديد من المؤرخين والباحثين العرب المعاصرين، (ومن بينها دراسة كاتب هذه المقالة: الفقيه والسلطان)(6) تشير وفقاً لمصطلحات ابن خلدون إلى أن العصبية، وهي في أساس تشكلها، ذات مضمون اجتماعي - أهلي وسياسي، كانت في أصل مشروع الممانعة من أجل الاستيلاء على نصاب الدولة. على أن قوة هذه العصبية تزداد وتتضاعف بالدعوة الدينية، كما أكّد ابن خلدون مراراً في مقدمته.

هذا يعني أن استقواءً متبادلاً حاصل في الواقع أي أن علاقةً وظيفية قامت وتقوم بين العصبية ذات النزوع والوازع السلطانيين، (أي للتغلب والاستيلاء والقهر) وبين الدعوة الدينية المُكرّسة لحق ديني أي (شرعي) في السلطة. وهذا الحق يمكن أن تدّعيه أي أسرة أو فرقة خدمت الإسلام بفعل إدعاء اكتساب الأسبقية أو الأقربية في الإسلام (كمثل العلوية أو العباسية...) أو بفعل جهادي عسكري ومرابطة كحال السلاجقة أو الأتراك العثمانيين...

وهذا يعني أن العلاقة بين الدين والسياسة تصبح في الممارسة السياسية -أي في الممارسة السلطانية- علاقة ثنائية وليست أحادية. إذن ثمة نوع من توزع السلطات بين الأديولوجيا (بما فيها الثقافة والدين) التي تعطي للعلماء (أي الفقهاء)، وبين الساسة (أي الحكم بالسيف أي بالقوة) التي تعطى للسلاطين والأمراء المتغلبين.

أمّا الوظيفة التي تجمع بين الطرفين فهي وظيفة تكاملية قسرية أو طوعية توحي بل توهم بالتوحد. وقد أضحت هذه الثقافة جزءاً من ثقافة سياسية أهلية، أعيد إنتاجها في العصر العربي الحديث والمعاصر، بأشكالٍ من الحزبية الإسلامية، أي بأشكال من العمل السياسي المتذرّع بالإسلام، والمتسلح بحداثة عالمية يُنتَقى منها الأسلحة الأفعل في التكنولوجيا والتنظيم.

على أن هذه الحداثة (المستعارة) والتي يسميها البعض (بالإحيائية) أو (الأصولية) الجديدة تعيش على نصوص منتقاة من التراث، وتعيد إنتاج ثقافة سياسية سلطانية وخاصة في مجال العلاقة الوظائفية بين الدين والملك. ولعلّ أهم هذه النصوص المستدخلة في الثقافة السياسية الإسلامية، وفي الذاكرة الجماعية ورموزها، هي نصوص الآداب السلطانية التي اخترقت بدورها كتب التاريخ كما كتب الفقه والسياسة. وقد توقف دارسو هذه النصوص من الكتاب المعاصرين عند النص المنسوب للملك الفارسي أردشير والمعروف (بعهد أردشير)(7).

يقول أردشير: (واعلموا أن الملك والدين أخوان توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه. إن الدين أسّاس الملك وعماده، ثم صار الملك بعد حارس الدين. فلا بد للملك من أسّاسه، ولا بد للدين من حارسه، لأن ما لا حارس له ضائعٌ، وما لا أساس له مهدوم. وإن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إياكم إلى دراسة الدين وتلاوته والتفقه فيه فتحملكم الثقة بقوة السلطان على التهاون به. فتحدث رياسات مستسرّات في من قد وتّرتم وجفوتم وأخفتم وصغّرتم من سفلة الناس والرعية وحشو العامة. واعلموا أنه لن يجتمع رئيس في الدين مسرّ ورئيس في الملك معلن في مملكة واحدة قط إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك. لأن الدين أُسٌّ والملك عماد. وصاحب الأس أولى بجميع البنيان من صاحب العماد).

إن هذا الإلحاح في الجمع بين الرياسة الدينية والرياسة الملكية كي يقوم ويستمر بنيان الدولة، ستكرره خطابات الآداب السلطانية التي عبّرت عن جزء كبير من الثقافة السياسية الإسلامية السلطانية والأهلية في جميع العهود. في عهود الدولة السلطانية كما في عهود الدولة الحادثة المعاصرة. وهو إلحاح براغماتي وظيفي وموحد قسري لثنائية السلطة لكي لا يستقل الحيّز الديني عن الحيّز السياسي فتحدث (الرياسات المستسرات) (على حد قول أردشير) أو تحدث (الانقلابات السرية)، وفرق التكفير والممانعة باسم الدين، وكما يحدث اليوم، ولو لأسباب مختلفة.

هذا على أن هذا الدمج الوظيفي أو الاستخدام البراغماتي للدين، سواء من موقع الدولة القائمة التي تعلن عن (إسلامها) في دساتيرها، أو من موقع المجتمع الممانع الذي يولّد باسم (الحق الديني) أيضاً شتى الممانعات السرية وغير السرية، هذا الدمج لم يجنب المملكة الإسلامية (الرياسات المستسرات) من العوام، كما لم يجنب الدولة الحديثة (رغم إعلانها الإسلام) الانقلابات والمؤامرات والممانعات باسم الإسلام.

4- العلاقة الملتبسة الدائمة والنقد الضروري

خلاصة القول أن العلاقة بين الدين وممثّليه وبين السياسة وممثّليها كانت على الدوام، وغبر العصور، علاقة تجاذب بين توحيد وانفصال، بين سيطرة هؤلاء على أولئك أو سيطرة أولئك على هؤلاء. كانت باختصار حقل تجاذب حتى سيطرت الدولة على الدين في التجربة التاريخية الإسلامية سيطرة شبه تامة، وحتى حدث الفصل بين السلطتين: السلطة المدنية السياسية من جهة، والسلطة الدينية من جهة أخرى، في التجربة التاريخية الغربية - المسيحية. وكان هذا الفصل الأخير هو التتويج الثقافي والدستوري والمؤسسي لمسار حل أو مخرج لمسألة العلاقة الملتبسة والمتجاذبة بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، بعد حروب ومآس وصراعات امتدت قروناً طويلة في التاريخ الأوروبي - المسيحي، اتسمت بالتعصب وضيق الأفق واستخدام الدين في قضايا الصراع السياسي. هذا في حين استمرت ملتبسة علاقة السلطة الدينية وممثّليها من فقهاء وعلماء وقضاة (شرعيين) بالمؤسسة الحاكمة، سواء كانت هذه السلطة سلطانية بالمعنى التراثي القديم، أو (مدنية) بالمعنى الاصطلاحي الحديث. بل إن الإشكال ازداد تفاقماً مع لجوء الحكّام المحدثين إلى الدين يستقوون به في تثبيت (حكمهم) وكسب (شرعيتهم). يتساوى في منهج هذا (الاستقواء) الحكّام المدنيون والعسكريون والدينيون، كلّ من موقع ومن زاوية، ولكنهم جميعاً يستهدفون المجتمع الأهلي المتدين، ليجعلوا من تدين المجتمع، أي تدين الناس، مادّة سياسية للولاء والطاعة والاستتباع- وكلها مفردات ومصطلحات تراثية يزخر بها تاريخنا السلطوي - فيتم بذلك إلغاء السياسة، بما هي تدبّر عقلي لشؤون الدنيا، فيستقيم للحكم والحكام استفرادهم للسلطة بالسلطة، وإلاّ فالاتهام بـ(البدعة) أو (الخروج) يغدو حلاًّ محتملاً لأهل الحكم من جهة وأهل المعارضة من جهة ثانية. (الولاء) أو (الممانعة) يضحيان حالتين للشرعية أو الخروج. السياسة تتماهى مع الدين هنا، إيمان أو كفر، حلال أو حرام، وبالتالي ولاء وطاعة، أو خروج وممانعة.

يدّعي كتّاب إسلاميون، ومعهم مستشرقون -كما أشرنا- أن الإسلام لا يفرّق ولا يميّز ولا يفصل في شأن العلاقة بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، وأنه يختلف عن المسيحية التي تفرّق بينهما. والواقع أنّ التاريخ ومعطياته ودراساته الكثيرة لا تقرّ هذا الكلام الذي أضحى (أسطورة) بفعل التكرار والدعوة، وعلو أصوات المنابر، التقليدية منها والحديثة. الإسلام في الواقع لا يختلف شأناً عن المسيحية في التاريخ. فوطأة هذا الأخير (التاريخ) وملابساته، أي ضغط البشر وأهواؤهم ومصالحهم، لا يمكن عزلها أو فصلها عن تمثّل البشر للدين. (أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله) قول للسيد المسيح، تمّ في سياق ماض؛ أنه حدثٌ عاد البعض إليه اليوم بهدف (التأويل العلماني). ولكن ذلك لا يلغي سياقات تاريخية أخرى طويلة ومديدة، تسيّست فيها المسيحية فحكمت مباشرة، وتنصّرت فيها السياسة، واستخدمت الدين فتبدّلت أدوار السيطرة أو التوحّد أو التجاذب بين قيصر والكنيسة، وبين الملك كسلطة مدنية وتكريسه بـ(الحق الإلهي).

في الإسلام أيضاً يمكن اللجوء إلى مختارات نبوية وصحابية وإمامية بقصد (التأويل العلماني). منها على سبيل المثال التمييز بين الرأي والوحي، والعودة إلى (ميثاق أهل المدينة) السياسي أو إلى مبدأ لا (إكراه في الدين) أو قول الرسول: (أنتم أدرى بأمور دنياكم)... بل إن التأويل العلماني قد يذهب بعيداً في تفسير موقف الإمام عليّ من مسألة التحكيم التي نادت بها جماعة معاوية وعمرو بن العاص، وهو تفسير يُخضع للمُساءلة اليوم الدعوة إلى (الحاكمية الإلهية) التي يُنادي بها الإسلاميون في معارضتهم للحكّم. لقد حذّر الإمام عليّ من رفع المصاحف بهدف التحكيم من خلال قولته التاريخية الشهيرة: (القرآن حمّل أوجه) منبّهاً إلى خطورة هذا الأمر وبما معناه أن الخلاف سياسيٌّ حول الإمارة. والفتنة في أن يقحم القرآن في هذا الخلاف.

قد تستخدم هذه الإشارات لتأويل علماني اليوم، كما استخدمت قولة السيد المسيح (أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله) لتبرير قابلية المسيحية للعلمانية، كما قابلية الإسلام لها. لكن ما أودّ قوله إن المرجعية النصّية أو الحدثية الانتقائية أو منهجية التأويل، لا تكفي جميعها بل لا تصحّ لتبرير موقف سواء أكان هذا الموقف داعياً للعلمانية أم رافضاً لها. العبرة هي في المنطق التاريخي ومساره واحتمالاته. والتاريخ هنا هو التاريخ العالمي، التاريخ المقارن، تاريخ الحضارات عبر تفاعلها، لا التاريخ الأوحد أو الأحادي المعزول عن أسباب تكوّنه وفواعله ومؤثراته المختلفة المصادر.

وإذا ما درسنا التاريخ الأوروبي المسيحي والتاريخ الإسلامي معاً بمنهج التاريخ المقارن، ومن زاوية متابعة جدلية السلطة الدينية والسلطة السياسية، وقفنا على تشابهٍ كبير في الوظائف والأدوار، وإن اختلفت التسميات والمصطلحات وتمايزت المراحل الزمنية وأشكال المؤسسات.

كثيرة هي الدراسات باللغات الأجنبية التي تناولت تجارب التاريخ الأوروبي المسيحي والمسارات التاريخية نحو تحديد تخوم العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمعات الغربية وصولاً إلى نشوء (لاهوت للعلمنة) يحاول التكيّف مع (العالم المعاصر المعلمن) من خلال اللاهوت المسيحي نفسه، في حين أن الدراسات باللغة العربية في هذا الحقل ما زالت قليلة وعديمة التأثر.

وعلى كل حال وفي حالة المجتمعات الإسلامية، فإن حاجتنا إلى الفصل بين السلطة المدنية والسلطة الدينية وحاجتنا إلى تحديد وتعيين الحد الفاصل بين الدين والسياسة للخروج من (طبائع الاستبداد) على حد تعبير الكواكبي في آخر عام من أعوام القرن التاسع عشر، وللخروج من مسالك التعصب وأساليب الاستقواء بالدين وخوض صراعاتنا السياسية به على نحو ما عانيناه ونعانيه في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين مع ظاهرة السلفية التكفيرية. لكننا نستدرك فنقول إن الكلام هنا ليس وصفة جاهزة. فكما أن المسار الديمقراطي مسار تاريخي طويل ضد إطلاقية الحكم حتى أرسى ممارسة وثقافة ديمقراطيتين، فإن العلمانية وفي حدها الأدنى وهو الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية هي أيضاً مسار تاريخي طويل ليس ضد الدين، وإنما ضد أسلوب من يستثمر الدين في السياسة، أي ضد المستقوين بالدين في المجتمع السياسي.

******************

الحواشي

*) باحث وأكاديمي من لبنان.

1- B. Lewis، Le Langage Politique de L’islam، traduit de l’anglais par Odette Guitard، Paris، Gallimard، 1988.

2- المرجع نفسه.

3- محمد عمارة، الإسلام والعروبة والعلمانية، بيروت، دار الوحدة، 1981م، ص63-64.

4- تم اقتباس هذه الأفكار من: جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة وتقديم عبد الرحمن بدوي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1988م، ص53-58.

6- وجيه كوثراني، الفقيه والسلطان، جدلية الدين والسياسة في تجربتين: في الدولة الصفوية والقاجارية والدولة العثمانية، ط1، 1990م/ ط2 2000م، دار الطليعة.

7- عهد أردشير. حققه وقدّم له: إحسان عبّاس، دار صادر، بيروت، ط1967م، ص4.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=431

الأكثر مشاركة في الفيس بوك