الخيال العلمي علم آثار المستقبل

د. أحمد خالد توفيق

راجي عنايت

إبراهيم العريس

 

الخيال العلمي ضرب من ضروب الأدب لا يزال في عالمنا العربي محاطاً بشيء من الارتباك في التعامل معه، ويزيد من هذا الارتباك عدم تحديد مفهوم هذا النوع من الأدب، ورواج الاعتقاد أنه فنغربي الهوية لا علاقة له باهتمامات الإنسان العربي وهمومه.

هنا ثلاث مساهمات تتكامل في إجلاء الكثير من الغموض الذي يكتنف أدب الخيال العلمي والمفاهيم الشائعة حوله. فالمساهمة الأولى تسعى إلى التعريف به، وتتناول صلة القرابة ما بين الخيال العلمي وبعض التطورات العلمية الحقيقية، كما تؤكد حضور هذا الفن على ساحة الأدب العربي المعاصر من خلال تعداد بعض الأسماء اللامعة فيه في المشرق والمغرب على حدٍ سواء. وتهدف المساهمة الثانية إلى إظهار الفرق بين الخيال العلمي واستشراف المستقبل. أما الثالثة فتتضمن مفاجأة للكثيرين تكمن في الكشف عن رائد عرفه الجميع روائياً وأديباً من الصف الأول في عصر النهضة، وبقي لنا أن نعرف أنه كان النظير العربي لجول فيرن الأوروبي.

أناناس على سطح القمر: أدب الخيال العلمي والعالم العربي
بقلم د. أحمد خالد توفيق
ربما كان أول مقال يعرِّف الخيال العلمي هو ذلك الذي نشر في نيويورك هيرالد في سبتمبر 1835م، وكان نقداً لـقصة كتبها ر. أ. لوك. فقد اعتبر المقال لوك مبتكراً لنوع جديد تماماً من الأدب، واختار كاتب المقال لهذا النوع اسم (القصة العلمية). إلا أن هناك تعريفات عديدة للخيال العلمي منها:
• 
الخيال العلمي هو خيال ممزوج بالحقائق العلمية والرؤية التنبؤية، وبالذات هو ما يكتبه جول فيرن وهـ. ج. ويلز. (هوجو جيمزباك – 1926م).
• 
الخيال العلمي هو خيال أسس على فروض علمية أو علمية زائفة، تم صبها في قالب غير حقيقي لكنه كذلك غير خارق للطبيعة (سبراج دي كامب – 1953م).
• 
الخيال العلمي هو مصالحة بين الأدب والعلم اللذين حسبهما الكثيرون متعارضين يقوم أحدهما على الخيال ويقوم الآخر على التجربة والاستقراء (يوسف الشاروني).

صار من الحقائق المفروغ منها أن تنمية الخيال العلمي مدخل ضروري لتنمية الإبداع والكشف المبكر عن المبدعين. وقد أدركت الدول المتقدمة هذه الحقيقة، فقامت بإدراجه في مناهج التعليم المختلفة، وافتتاح أقسام دراسية بالجامعات في تخصص أدب الخيال العلمي. وكما يقول كاتب الخيال العلمي العظيم (آرثر كلارك) -صاحب أوديسا الفضاء 2001 -: القراءة النقدية لأدب الخيال العلمي هي بمثابة تدريب أساس لمن يتطلع إلى الأمام أكثر من سنوات عشر .

الخيال العلمي والتطبيقات المعاصرة
لم يعد الخيال العلمي يقتصر على تفسير ما حدث بأثر رجعي (أي أن فلاناً تنبأ بكذا وكيت)، بل بدأ استخدامه لفهم ما سيحدث أو ما يجب أن يحدث. على سبيل المثال تهتم وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية إيسا ووكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة بالبحث في أعمال الخيال العلمي بحثاً عن أفكار واعدة تصلح.. ومن الملاحظ أن الصورة العامة قد تبدو محبطة للبعض لأن تصور كتَّاب الخيال العلمي للقرن الواحد والعشرين كان أكثر طموحاً، ويكفي أن خمسة أعوام قد مرت على عالم (2001 أوديسا فضائية) كما تخيله آرثر كلارك.. ولكن ثورة الاتصالات والمحمول والإنترنت والقنوات الفضائية تبدو جامحة بالمقارنة بخيالات كتَّاب الخيال العلمي.. في حين يبدو أن ثورة الاستنساخ تمشي كما تصورها كتَّاب الخيال العلمي بالضبط. ويظل استكشاف الفضاء في طفولته بالنسبة لما تصوره هؤلاء.. على أننا نحمد الله على أن الجحيم الشمولي الذي تخيله جورج أورويل في (1984م) مثلاً لم يتحقق..

من الأمثلة القريبة لنا فكرة حرب النجوم التي هي تأثر واضح مباشر بأفكار الخيال العلمي.. لقد بدأت الفكرة في الستينيات في الولايات المتحدة كوسيلة للتصدي للصواريخ عابرة القارات، وقد أنتجت الولايات المتحدة الصاروخ نايك زوس لهذا الغرض.. وقد نجح هذا الصاروخ في اعتراض صواريخ تيتان وأطلس عابرة القارات.. ثم تبلورت الفكرة أكثر في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، عندما أعلن عام 1983م عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي التي عرفت فيما بعد باسم حرب النجوم .

إلى ذلك، فإن فكرة وجود حياة على كواكب أخرى هي فكرة محورية في أدب الخيال العلمي، ووصل الأمر إلى درجة أن هذه الفرضية تحولت من مجرد مادة فلسفية إلى نظرية علمية تناقش في الأوساط العلمية الرصينة. وقد اتخذت بالفعل الخطوة الأولى في المشوار الاستكشافي بفضل وكالة الفضاء الأوروبية إيسا ESA. التي سمحت للمهمة الفضائية المعروفة باسم (COROT) أن تنطلق في عام 2005م إلى أعماق الفضاء الخارجي بحثاً عن كواكب تشبه الأرض في الخصائص المناخية وفي الظروف المعيشية الأخرى بحيث يتاح لصورة أو أخرى من صور الكائنات الحية أن تعيش فيها.

فكرة الانتقال الآني سيطرت لفترة طويلة على عقول العلماء، خاصة أنها صارت من تقاليد أدب الخيال العلمي.. ومؤخراً تم إحياء ما يعرف بتأثير (أينشتاين – بودلوسكي – روزن) والذي نوقش عام 1930م.. أن تدخل كابينة صغيرة لتتلاشى جزيئاتك وتتجمع في زمن آخر أو مكان آخر أو الاثنين معاً.. يشبه الأمر آلة الفاكس التي تدخل فيها الورقة هنا لتخرج في اليابان مثلاً، مع فارق مهم هو أن الأصل يختفي.. تطبيقات الفكرة مغرية بلا شك وتنذر بثورة حقيقية في وسائل الانتقال والاتصالات. وقيل إن هذه التجربة نجحت بشكل محدود جداً مع قطعة عملة انتقلت مسافة تسعين سنتيمتراً وعبر وسطين متصلين، وقد استغرق ظهور الثاني حوالي ساعة.. دعك بالطبع من حالة تداخل الجزيئات المعقدة التي صار إليها الجسم والتي أقرب وصف لها هو (عجين الجزيئات)، مما يجعل فكرة نقل جسم أكثر تعقيداً شبه مستحيلة في الوقت الحالي وبمعرفتنا الحالية..

وترتبط الفكرة ذاتها بفكرة أخرى بالغة الأهمية لدى كتَّاب الخيال العلمي، هي فكرة السفر عبر الزمن.. وقد افترض أينشتاين في نظريته أن هناك طريقتين للسفر في الزمن.. إما بالسرعة أو الجاذبية.. إن الفترة بين حدثين تعتمد على حركة الراصد. وفي حال حركة راصدين بسرعتين مختلفتين، فإنهما سيرصدان فترتين مختلفتين بين الحدثين نفسيهما، وهو ما يطلقون عليه (تناقض التوأمين Twin paradox). لقد أثبتت الساعات الذرية أن هذا الكلام دقيق وقابل للتحقيق. اقترح أينشتاين كذلك فكرة أن الجاذبية تعرقل الزمن، وأن الساعة تسير أسرع على قمة الجبل منها على سطح البحر، وبالطريقة نفسها تُسرع الساعة في الفضاء قياساً بالأرض. وقد اعترف أينشتاين بضرورة الإقرار بأن نظريته قد تعني إمكان العودة إلى الماضي في ظروف مُعيَّنة. ومن هنا ساد مفهوم (الثقب الدودي) في الثمانينيات والذي تبناه علماء ميكانيكا الكم. إن العلماء يؤكدون أن آلة الزمن ممكنة لكن في اتجاه واحد.. إلى الماضي أو المستقبل. أي أن رحلة الزمن هذه سوف تكون رحلة بلا عودة!

هذه مجرد عينة عن العلاقة المعقدة بين الخيال العلمي من جهة والتطور العلمي الحقيقي من جهة أخرى. ولكن ماذا عن الخيال العلمي في أدبنا العربي اليوم؟

الخيال العلمي في العالم العربي
(أن نأكل الأناناس على سطح القمر) هو تعبير استخدمه أحد طلاب المدارس الابتدائية السوفييت عندما طلب منه الشيوعيون أن يصف رؤياه للمستقبل. والحقيقة أن الطفل لم يدرِ أن الاتحاد السوفييتي كان وقتها يواجه مشكلة حقيقية في توفير الخبز على الأرض.. هذه هي مشكلة النظرة العربية العامة لأدب الخيال العلمي: نحن عاجزون عن تخيل أكل الأناناس على سطح القمر بينما لا خبز لدينا.. هناك ما هو أهم دوماً لدى الكتَّاب من حروب المجرات ومشكلات الروبوت النفسية.. هناك البشر الظامئون إلى الخبز والحرية.. وكما يقول الأديب السعودي أشرف إحسان فقيه: فكرة العمل القصصي عند المتلقي العربي تقوم على تيمات محددة كالهزيمة السياسية أو الجنس أو تفصيل لواعج النفس والخاطر. وحين تحاول أن تلتف حول أي من هذه الرموز فأنت تخاطر بأن تصنف نفسك إما كدخيل أو كمغامر، واحتمال أن تجد نفسك منبوذاً من قبل سدنة وسطك الثقافي وارد جداً .

يمكننا أن نضيف كذلك أن العقلية العربية بطبعها تنفر من ضرب الأدب الذي يصف نفسه منذ البداية بأنه خيال .. وكما يقول فاروق خورشيد في كتابه عن أديب الأسطورة عند العرب ، فإن الراوي العربي القديم كان بحاجة دائمة إلى إقناع مستمعيه بأن ما يحكيه أحداث واقعية شهدها بنفسه وإلاَّ فقد اهتمامهم.. بالتالي انتحل الرواة قصصاً كثيرة إشباعاً لملكة الخيال عندهم، لكن الجمهور تناقلها كحقائق تاريخية بعد ذلك.

وسط هذا الحصار كان هناك عدد محدود من الكتَّاب العرب الذين احتفظوا بإيمانهم بهذا الضرب من الأدب، وقد حقق بعضهم نتائج معقولة.. قد يرجع البعض جذور أدب الخيال العلمي العربي إلى جذور قديمة جداً مثل أسطورة حي بن يقظان ، لكننا نحاول هنا أن نكتفي بالنماذج المعاصرة منه، على الأقل بعد ما ظهر مصطلح خيال علمي للوجود.

في مصر كانت هناك محاولات متناثرة لتوفيق الحكيم في سنة مليون و رحلة إلى الغد ويوسف عزالدين عيسى في أعماله الإذاعية التي فقد معظمها للأسف. وفي الستينيات ظهر من كتبوا الخيال العلمي وهم يعرفون ما يفعلون جيداً.. من هؤلاء مصطفى محمود بروايتيه العنكبوت (1965م) و رجل تحت الصفر (1967م).. ثم نهاد شريف الرائد الأهم في أدب الخيال العلمي، والأديب الوحيد الذي كرس نفسه لهذا النوع من الأدب فحسب، في روايته قاهر الزمان (1972م) ومجموعته القصصية رقم أربعة يأمركم (1974م) و سكان العالم الثاني (1977م) و الشيء (1989م) ورواية ابن النجوم (1997م). كما كانت هناك العديد من الروايات بقلم صبري موسى وإيهاب الأزهري وأميمة خفاجى التي تحدثت عن الهندسة الوراثية في روايتها جريمة عالم التي نشرت في موسكو عام 1990م… وقد استعرضهم يوسف الشاروني بشكل موفق في كتابه المهم الخيال العلمي في الأدب العربي . كما قدَّم د. نبيل فاروق عدداً كبيراً من العناوين في سلسلة ملف المستقبل ، ناقش فيها بجدية كل تيمات الخيال العلمي تقريباً، وإن لم ينل رضا النقاد لارتباط كتاباته بسلاسل الجيب التي يصطلحون على اعتبارها ألغازاً.

وفي الجزائر هناك الأديبة صافية كتو التي اعتبرها الناقد التونسي حمدي عباسي سبَّاقة إلى أدب الخيال العلمي بقصصها المحققة الفضائية (1967م) و القمر يحترق (1968م) و الكوكب البنفسجي (1969م). وهناك أحمد عبدالسلام البقالي من المغرب صاحب رواية الطوفان الأزرق التي تشابه بشدة رواية سكان العالم الثاني لنهاد شريف، وإن صدرت الروايتان في الوقت ذاته تقريباً، ومن لبنان قاسم قاسم لعنة الغيوم .

ومن السعودية نذكر أشرف إحسان فقيه الذي أصدر مجموعتين من الخيال العلمي هما صائد الأشباح (1997م) و حنيناً إلى النجوم (2000م)، وقد لاقى الكثير من الإحباط لدرجة أنه فكر في التوقف أكثر من مرة..

وفي سورية لمع اسم الكاتب الدكتور طالب عمران الذي صدر له ما يزيد على 52 كتاباً في هذا المجال, وقدَّم برنامج آفاق علمية في التلفزيون السوري لمدة تزيد على 14 سنة، فضلاً عن برنامج خواطر مدهشة للإذاعة السورية لمدة 13 سنة.، وقد صدرت دراسة موسعة عن أعماله للباحث السوري محمد عزام.

وعلى مستوى الأديبات تنفرد الأديبة الكويتية طيبة أحمد الإبراهيم عن الأديبات العربيات بكتابة أدب الخيال العلمي, فقد كتبت خمس روايات في هذا المنحى, صدرت الأولى منها في الكويت عام (1968م) وهي الإنسان الباهت , كما صدر لها عام (1991م) روايتان هما: الإنسان المتعدد , و انقراض الرجل . وقد كانت أول كاتبة عربية تنبأت بعملية الاستنساخ على الإنسان قبل تطبيقه العملي عام 1997م. كذلك هناك الأديبة لينا كيلاني من سورية ولها ما يزيد على الأربعين عملاً في مجال الخيال العلمي. وغيرهم الكثيرون ممن فاتنا ذكرهم.

وما زال أدب الخيال العلمي يعد بالكثير، لكن علينا في العالم العربي أن نتعلم كيف نحترمه ونهتم به ونقرأه، كجزء من رحلة استعادة الوعي الذي فقدناه كل هذه السنين.

بين الخيال العلمي
والرؤية المستقبلية
بقلم: راجي عنايت
في عام 1974م، وجدت في إحدى مكتبات بيروت كتاباً جديداً لآرثر كلارك بعنوان تقرير عن الكوكب الثالث وتأملات أخرى . ومن أكثر ما يبهر في هذا الكتاب هو ما جاء في نصفه الثاني من حديث عن الآلة المفكّرة، وعن عصر آلات الإدارة الذاتية وأثرها على العمل والعمالة، وعلى انقضاء مصطلحات ذلك الوقت الاجتماعية والسياسية. وفي فصل التكنولوجيا والمستقبل يقول المؤلف: بديهي أنه من المستحيل أن نتنبأ بالمستقبل. أنا لم يحدث أن عمدت إلى فعل هذا. الذي حاولت أن أفعله، في كتابات الخيال العلمي وغيرها من الكتابات، هو أن أرسم إطاراً لمساحات لا بد أن يقع المستقبل داخلها .

كان هذا الكتاب باباً واسعاً عبرت منه إلى عالم الدراسات المستقبلية العملية التي تنير الطريق أمام اقتحام المستقبل، وتفتح أبواب التطور، وتسهل الانتقال من عصر إلى آخر.

صعوبة تأطير الخيال العلمي
نتيجة للآفاق الواسعة التي يخوضها القصص العلمي، بفروعه المختلفة، يصبح من الصعب، بل ومن الظلم، أن نسعى إلى محاولة حصر هذا الفرع القديم الجديد من الإبداع الأدبي في تعريف ما. ندرك معنى هذا إذا عرفنا أن القصص التي تدور حول طاقية الإخفاء، التي وردت في ألف ليلة وليلة، يمكن أن تدخل تحت مسمى الخيال العلمي.

يقول برايان آلديس، الذي يعتبر من أعلام أدب الخيال العلمي، إبداعاً و نقداً، في كتابه حول تاريخ القصص العلمي أي تعريف للقصص العلمي سيجيء ناقصاً شيئاً ما.. يجب أن تكون التعريفات أشبه بالخرائط: تساعد على اكتشاف الأرض، لكنها لا تكون بديلاً عن جهد الاستكشاف .

أمّا إيزاك آزيموف، وهو واحد من أكثر كتَّاب الخيال العلمي شهرة، فيشير إلى فرانكشتاين وهو عنوان قصة الخيال العلمي الرائدة التي كتبتها السيدة ماري، زوجة الشاعر الشهير شيلي، قائلاً إن هذه القصة تمثل الموضوع الأثير في قصص الخيال العلمي، من حيث أن الإنسان يصنع ما ينقلب عليه، ويسعى إلى تحطيمه.. وهو يرى أن المبدأ ذاته ينسحب على معظم قصص الروبوت (الإنسان الآلي).. الإنسان يصنع الروبوت، ثم ما يلبث هذا أن يتمرَّد على صانعه.

ونورمان سبينراد، الناقد وكاتب قصص الخيال العلمي، يعتبر قصص الخيال العلمي فرعاً من فروع القصص الخيالي. ويعني بذلك أي نص أدبي يقوم على عنصر تخيّلي.. كل ما يكتب عن الممكن تخـيّل وجوده، مع أنّه غير قائم. لكن بريان آلديس يرى أنّه من المستحيل التمييز بين القصص العلمي، والخيال العلمي، والقصص الخيالي. و هو يرى أن أكثر القصص العلمي نجاحاً، هو الذي يجسِّد الإنسان في علاقته بمحيطه المتغيّر، وقدراته المتغيّرة. ومن ثم يرى أن النبض الأساس للقصص العلمي يرتبط بأمرين: التطوّر، والتكنولوجيا.

الابتكار كممارسة شعبية!
وقد نجد من يسأل: هل يصبح الخيال العلمي خطوة محسوبة لتقدَّم علمي، يمكن الوصول إليه؟.

لا أعتقد أنه لا يمكن الفصل بين الخيال العلمي، والكشوف العلمية، والرؤية المستقبلية.. فهي جميعاً متداخلة، تؤثّر في بعضها البعض.. وتستند جميعها إلى أمر أساس هو القدرة على التفكير الابتكاري.. القدرة على التفكير فيما لا يتم التفكير فيه..

ونحن هنا نميز بين ضروب الابتكار الأدبي والفني، وبين التفكير الابتكاري الذي يعتبر أكثر شمولاً وتميّزاً. فقد كان التفكير الابتكاري في عصر الزراعة والصناعة قاصراً على العلماء النابهين، والمفكّرين اللامعين، والقيادات العليا لأي مجتمع.. يتم التفكير والابتكار عند تلك المستويات، ولا يكون على جموع العاملين من البشر سوى تنفيذ العمليات الإنتاجية القائمة على تلك الابتكارات.. لقد كان السواد الأعظم من العاملين، يحسب ضمن العمالة اليدوية أو العضلية، التي تقوم بتنفيذ عمل محدود، لا يقتضي الكثير من التفكير.

ومع دخولنا عصر المعلومات، وظهور التكنولوجيات غير المسبوقة.. ومع اختراع الكمبيوتر وباقي الأجهزة الرقمية، مثل الروبوت (أو الإنسان الآلي)، تولَّت هذه التكنولوجيات جميع الأعمال النمطية المتكررة البسيطة التي كانت تقوم عليها حياة السواد الأعظم من العمالة العضلية، في المصنع والمكتب.. وقامت الآلة بها بشكل أكثر دقّة وكفاءة واقتصاداً من الإنسان.

وهكذا، لم يبق أمام الإنسان إلاّ العمل العقلي المعرفي.. أصبحت مسؤولية العامل تكمن في التفكير في حلّ المشكلات، واستكشاف الحلول المبتكرة التي يحل بها المشكلات، ثم تطبيقها، ومراقبتها.. وهذا يدخل جميعه في نطاق التفكير الابتكاري.. وهنا يكمن جوهر أزمة البطالة الشائعة في العالم، وبخاصة في الدول المتطورة تكنولوجياً.. وهي التي يطلق عليها تعبير البطالة البنيوية ، والتي تستدعي ثورة في مجال العمل والعمالة، أداتها التأهيل والتدريب وإعادة التدريب.

المهم.. أن التفكير الابتكاري يصبح بهذا ممارسة شعبية.. وبالنسبة لموضوعنا هنا، يمكننا أن نتصور أثر هذا، على شكل المزيد من النجاح والانتشار والازدهار لأدب الخيال العلمي.

جرجي زيدان..
جول فيرن العرب
إعداد: إبراهيم العريس
الأسطورة وحكايات الشعب
عرف الكتَّاب العرب سواء أكانوا من أصول عربية أو من أهل الثقافة العربية, وبالتضافر خاصة مع الخيال الشعبي, كيف يسبقون جول فيرن واتش دجي ويلز بقرون وقرون في مجال الحديث عن مناطق مجهولة آهلة بالسكان أو خيالية منهم. عن غوص في أعماق عوالم مأهولة هناك واستكشافها, عن الطيران والأسلحة الفتاكة المعاصرة, عن التركيبات السياسية المستقبلية. بل حتى عن شاشات سحرية تظهر الحاضر والماضي والمستقبل لمن يتفرس فيها. إن هذا كله قد يبدو للوهلة الأولى, خلاصة فكر أسطوري (شعبي) متراكم عبر الأزمنة وآتٍ من آداب وأساطير شعوب مختلفة. غير أن تفرساً مدققاً فيه, ودراسات معمقة لبعض أبرز نماذجه (حكايات عديدة في ألف ليلة مثل حكاية التاجر والعفريت, حكاية الخادمة تودد؟ ورحلات السندباد وحكاية علاء الدين وصولاً إلى سيرة سيف ابن ذي يزن وغيرها, من دون أن ننسى خيالات الرحالة العرب حين يصفون مناطق وشعوباً زاروها ورووا عنها الأعاجيب, ثم إنجازات العلماء العرب في كل المجالات, إنجازات واقعية مهَّدت لاختراعات أتت على الصعيد العالمي متأخرة عنهم قروناً). هذه الدراسات المعمقة كفيلة بأن تضعنا مباشرة في صورة أحدث تعريفات استشراف المستقبل. وإذا كان قد طلع في القرن العشرين مفكرون يقولون إن معظم الاختراعات العلمية والاكتشافات في هذا القرن إنما تبدو تطبيقاً لمبتكرات خيال جول فيرن وزميله الإنجليزي ويلز. فإن في وسعنا أن نقول أيضاً إن جزءاً كبيراً مما عرفه العالم خلال نصف الألفية الأخيرة, إنما يبدو وكأن له جذوراً في مبتكرات خيال الكتّاب العرب.

توقعات جرجي زيدان
ونحن في الحقيقة يمكننا أن نطيل زمن هؤلاء الكتَّاب, لنصل به, حتى إلى مشارف القرن العشرين، متوقفين هنا مع كاتبنا العربي الكبير, ومبتدع روايات تاريخ الإسلام, جرجي زيدان, لنجد كيف أنه, من خلال استفتاء أجري معه قبل إطلالة القرن العشرين بسنة أو سنتين, قدَّم صورة عن استشراف المستقبل تكاد تجمع بين أساليب التحليل لدى سابقيه من المؤلفين العرب وبين الغائصين في لعبة استشراق المستقبل من كتَّاب أوروبا والعرب عموماً. مع ملاحظة أن هذا الاستشراف يبدو لديه, مقصوداً ومباشراً, على عكس ما كانت الحال بالنسبة إلى أسلافه. واستشراف المستقبل هذا, بقلم جرجي زيدان, لم ينشر في ذلك الحين, بل بقي حبيس أوراق زيدان. وهنا بعض أبرز فقراته علماً بأن الموضوع كان يتمحور حول القرن العشرين وما سيستجد فيه من مخترعات وفنون وعلوم ونظم وأوضاع. يقول زيدان:

في الدول وأحوال مصر والعرب
• 
يقرر كثير من المفكرين السياسيين أن عهد الدولة الصغير انقضى, وأن المستقبل سيشهد نظام تكتل الدول الذي يدمج الدول الصغيرة المتقاربة في أجناسها وأصولها وأوضاعها في كتل كبيرة وهكذا: يتحد الناس بعد مائة سنة, حسب الأجناس في دول قليلة مثل دولة اللاتين و دولة الجرمان و دولة الروس ، وتكون الصين واليابان دولة واحدة. ويرى زيدان أنه مع نهاية القرن العشرين تنقلب جمهورية فرنسا وتصير ملكية وتصير ألمانيا جمهورية لانتشار الاشتراكية فيها. وكذلك تنقلب الولايات المتحدة من الجمهورية إلى الملكية. وتتم الجامعة العربية بين الشعوب العربية, لكن الوحدة العربية لا تتم في القرن العشرين بل في القرن الذي يليه. أما بالنسبة إلى مصر فإنها ستصبح حكومة نيابية وفيها مجلس يمثل كل ما فيها من الملك والأجناس. والأزهر سيدرس كل العلوم واللغة الإنجليزية. وللسيدات سيكون هناك نادٍ يحمل اسم نادي قاسم أمين . وسيكون السفر بين القاهرة والإسكندرية بالطائرة, وبين مصر وأوروبا بالبالون. وفي القاهرة سيقوم مستشفى للراديوم يعالج أمراض السرطان أما المنازل فستبنى على الطراز الفرعوني. ويقوم بجوار الأهرام فيلا من هذا الطراز تعرف بفيلا فرعون . وتكثر الواحات في صحراء مصر. وتقوم في مصر بكثرة مصارف وطنية يقبل المسلمون على التعامل معها.
• 
بالنسبة إلى زيدان سيبلغ عدد سكان مصر العام 2000م، 25 مليون نسمة. وسيقوم دكتور عالم بالبحث عن ميكروب الفرح وميكروب الحزن. فيما سيقوم طبيب آخر بعملية نقل أعضاء الجسم البشري من شخص إلى آخر. وستصدر جريدة عربية يعرف المشترك فيها أخبارها لا بقراءتها بل بطريق التلفون. ويجلس المرء في بيته مع زائريه ويشاهد ويسمع التمثيل بالسينماتوغراف الناطق.
• 
بين الإسكندرية ورأس الرجاء الصالح سيسافر الناس بالسكة الحديدية الكهربائية. ومن القاهرة إلى طوكيو سيسافرون بالبالون. وسيعثر العلماء في أرض اليمن على مدينة قديمة ذات صلة بالحضارة الفرعونية.
• 
ينشأ في مصر مجمع علمي يطلق عليه اسم مجمع البحث عن مفاخر الشرق القديم .
• 
في مجال الحياة الاجتماعية يرى جرجي زيدان أن الزواج سوف يكون بالتراضي بين الزوج والزوجة, وبعقد مدني يجوز إلغاؤه. وسيتوجب على الشاب والفتاة أن يقدما عند الزواج شهادة طبية تثبت خلو كل منهما من الأمراض. ولن يتم الزواج إلا بعد تقديم هذه الشهادات. كما أن الحكومة ستنشئ مختبراً خاصاً لفحص الشبان والفتيات مرّة في كل سنة. وتقيد نتيجة الفحص في سجلات الحكومة حتى يعرف الطبيب عند إعطاء الشهادة الأمراض التي تعرضوا لها.

الحكومة والمجتمع
• 
الحكومة هي التي تتولى, عند نهاية القرن العشرين وفي رأي جرجي زيدان, كل الأعمال العامة على المبدأ الاشتراكي, حيث يدفع كل إنسان مبلغاً ينفق منه على المصلحة العامة. والمدارس سوف يتعلم منها التلاميذ كافة العلوم, حتى الطب والقانون, وإن لم يكن القصد تخريجهم أطباء أو قانونيين.
• 
وستنال المرأة حريتها من الخروج إلى الأسواق والتعلم والتوظف والمتاجرة, بل إنها ستصبح جندية تقاتل كالرجال.
• 
وبالنسبة إلى زيدان لن ينطبق هذا على مصر وحدها بل على العالم كله, هذا العالم الذي سوف يتكلم مع نهاية القرن العشرين لغة واحدة وسيتداول نقوداً موحدة. أما بالنسبة إلى البريد فإن الطوابع التي سوف تستخدم فيه طوابع دولية. وتكون الرسائل مثل أسطوانات الفونوغراف, حيث يسمع المرء صوت صاحب الرسالة المرسلة إليه.
• 
أما الملابس فتتألف في أغلب الأحيان من كساء بسيط وصندل في الرجل وقبعة على الرأس للوقاية من الشمس.
• 
تقام المساكن في الهواء الطلق وتكون بسيطة التركيب قليلة الأثاث. وتغرس حولها الأشجار ذات الزهور والثمار النافعة للصحة. وفي كل بيت سيكون هناك غرفة للتلفون بلا سلك. ويمكن بواسطته محادثة الناس ورؤيتهم كذلك. أما مطبخ البيت ومغسله فيداران بالكهرباء. وفي مجال الطعام سيكون هناك رجوع إلى الطبيعة, أي الإكثار من أكل الخضار والفاكهة والتقليل من تناول اللحوم.
• 
والرياضة لا يكون بد منها, رياضة بدنية مدة معينة كل يوم. أما الإنسان فإنه سوف يعمل نصف النهار, ليمضي النصف الثاني في النزهة والقراءة.
• 
في المجال التجاري سوف تكون دكاكين التجارة مملوكة لجمعيات تعاونية يشترك فيها كل رجل وكل امرأة بسهم أو عدة أسهم. وتتصل هذه الحوانيت بالمنازل بواسطة تلفون بلا سلك. وستنار المدن بالمصابيح الكهربائية، وذلك على نفقة الحكومة. أما البيوت فتنار كذلك بالكهرباء ولكن على نفقة سكانها.

الطبابة وزرع الأعضاء
• 
والمجرمون سوف يعاملون بالتطبيب في المستشفيات, لا بالحبس في السجون. في الوقت الذي سوف يعدل فيه الطب عن العقاقير إلا في حالات قليلة. أما العلل الداخلية فسوف يتم كشفها عن طريق أشعة رونتجن , فيرون الأعضاء والأحشاء واضحة وكل ما يصيبها ظاهراً. وتجري العمليات الجراحية بكل يسر وسهولة. ويجريها الناس في منازلهم لبعضهم البعض. أما طبيب العائلة فيبقى مرتَّبه محسوب لطالما لم يكن في العائلة مريض, فإذا أصاب أحد أفرادها المرض انقطع مرتبه حتى يشفى المريض.
• 
وسيكون العلم قد اكتشف لكل مرض جسمي أو نفسي مكروباً. فللفرح ميكروب وللحزن ميكروب وكذلك الحال للذكاء والغباء, والإخلاص واللؤم, والنشاط والكسل, إذ لكل حال من هذه الحالات ميكروب. كذلك سيكون العلم قد وجد لكل مرض مصلاً شافياً, حتى أمراض النفس مثل الحب والبغض. وجدوا لكل منها مصلاً يعالجها ويشفيها.
• 
في الوقت نفسه يستمر العلم في البحث عن وسيلة لإطالة الحياة باستبدال الأعضاء التي هزلت وشاخت بأعضاء أخرى قوية أو شابة. وقد رضي أحد العلماء أن يضحي بنفسه ليجري زملاؤه عليه إبدال أعضاء.

خطف الطائرات ونفاد موارد الطاقة
• 
وبالنسبة إلى الأدب, الذي كان عالم جرجي زيدان المفضل, سيقبل الناس على قراءة رواية بطلها مكتشف جديد لمادة تطيل الحياة, واستخرجت بواسطة أشعة الراديوم ووجدوا لها تأثيراً على الأحياء, فصنعوا منها مصلاً سموه مصل الحياة .
• 
وفي انتقال من الأدب إلى الفن رأى زيدان أن الملاهي ستقام خارج المدن وتكون نشاطاتها على نفقة الحكومة. وتتقاضى هذه مقابل ذلك من كل فرد ضريبة سنوية تتيح له التفرج على كل الملاهي.
• 
وللمواصلات سوف تبنى طائرات عملاقة كالبيوت, فيسكن فيها الإنسان حتى وهي رابضة على الأرض لتطير به عند الحاجة حاملة جميع أفراد أسرته ومن يريد من الأصدقاء فضلاً عما تحمله من معدات المنزل والسكن. وفي هذه الطائرات أجهزة التلفون والتلغراف بلا سلك. وفيها المرآة السحرية التي يرى فيها الراكب, المشاهد البعيدة. وتُخترع مادة ترمى بها الطيارة من بعد, فتوقفها عن السير لتمنع فرارها بالهاربين إن سرقوها يوماً وهربوا بها.
• 
وأخيراً, إذ تفرغ الأرض من الفحم الذي يستخدم وقوداً, يستخدم الناس حرارة الشمس بدلاً منه, وكذلك يستخدمون الرياح في توليد القوى المحركة.

فأيهما الأكثر؟ ما تحقق من توقعات جرجي زيدان، أم ما لم يتحقق؟

المصدر: https://qafilah.com/ar/%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%8a%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%85%d9%8a/

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك