أعطال الفكر النقدي

 عمار بنحمودة

 

لقد أدّى التّراكم المعرفيّ المؤسّس على أرضيّة وعي دينيّ إلى خطاب عمدته التشريع لقوانين تحدّد للإنسان طقوسه وطرائق تعامله مع الآخرين، وتضبط كثيرا من الأحكام المتعلّقة بالسياسية والمجتمع، وفي المجمل تحدّد علاقة الفرد بالله والجماعة. واشتغل علم الكلام على قاعدة الردّ على أصحاب العقائد المارقة وتحديد أسس عقيدة الفرقة الناجية وسط فرق الهالكين. ولم يكن ذلك بمنكر في عصر كان هاجس رجل الدين فقيها أو متكلّما مأسسة الخطاب الدينيّ وحمايته وفق منطق سلطويّ من خطر التعدّد والتفكّك. فقد كان الهدف من وراء تلك التشريعات خلق التجانس وضمان ولاء المؤمنين لقانون واحد يمنع تفرّقهم ويزيد من لحمتهم. ولعلّ ذلك ما يفسّر حديث الفقهاء عن السنّة والجماعة وتشديدهم على ضرورة الانضباط للجماعة في الصلاة أو الحجّ أو الحرب ومنطق الاصطفاف وراء القائد وطاعته مقابل نهيهم عن الفرقة، وترك صلاة الجماعة وتهديد المتخلّفين منهم بأشدّ العقاب[1]. إلاّ أنّه رغم المغانم السّلطويّة التي جناها المُسلمون من منع الاختلاف وحروب الردّة وإدانة المارقين، فإنّ ميراث ذلك المنهج قد أدّى إلى ترسيخ عقليّة الطّاعة لا في السّياسة فحسب، وإنّما في الفكر أيضا، وهو ما عطّل الفكر النقديّ وجعل حضوره ضعيفا. وقد احتاج المفكّرون، زمن البحث عن مسالك للنهضة والتحضّر، وإثر صدمة الحداثة والاطّلاع على تقدّم الغرب، إلى مسوّغات دينيّة ومداخل شرعيّة من أجل الإقناع بقيمة النقد وأهميّته في تجديد العقل الإسلاميّ، بيد أنّ النقد ظلّ مُدانا وكثيرا ما أُلحقت تهمة الكفر بمن حاولوا الخروج عن نطاق القراءة الرسميّة واختبار سبل جديدة في التأويل[2]. إذ كانت مسالكه وعرة وبدا الاجتهاد والتجديد منكرا وبدعة، فكانت مساعي المجدّدين عسيرة، وهم يطمحون إلى إصلاح الفكر الدينيّ بطرح الأسئلة العقليّة ومحاولة إيجاد طرق لتحطيم الأسيجة الأورثودكسيّة. ولذلك، فقد انتقل كثير من المفكّرين من طور التفكير في إيجاد سبل للتجديد والتأويل إلى البحث عن الأسباب التي عطلت العقل الإسلامي وأضعفت الفكر النقديّ.

لقد أسّس "محمّد أركون" لمواجهة الدوغمائيّة مثلا مفهوم العقل الجديد المنبثق الصّاعد، وهو إذ "يُتَرَصَّدُ في جميع الثقافات ومن دون توقّف التحدّيات الجديدة لتاريخ البشر، فإنّه يوسّع من أفقه باستمرار ويكثر من ساحات تجاربه، ومصادر معلوماته."[3] فالنقد حسب رأيه يوسّع حقل التفحّص التاريخيّ داخل المجال العربيّ الإسلاميّ عن طريق إدخال مصطلح جديد هو: سوسيولوجيا الممكن التفكير فيه/ والمستحيل التفكير فيه، وكذلك المفكّر فيه/ واللامفكّر فيه في النّطاقات اللغويّة الفكريّة المتعايشة داخل نفس الفضاء الاجتماعيّ والسياسيّ.[4]

انتقل كثير من المفكّرين من طور التفكير في إيجاد سبل للتجديد والتأويل إلى البحث عن الأسباب التي عطلت العقل الإسلامي وأضعفت الفكر النقديّ

ولعلّه من المفارقات أنّ "محمّد أركون" كان يؤسّس مقوّمات فكر نقديّ في بداية الألفيّة الثالثة، وهو يتوق إلى أفق معرفيّ يتحرّر فيه العقل الإسلاميّ من الأسيجة الدوغمائيّة، ويحطّم حدود اللّامفكّر فيه قديما ليصير مفكّرا فيه، والحال أنّ الواقع كان يشهد انتشارا واسعا للحركات الأصوليّة المتشدّدة التي بدأت بالخروج من طور الانحسار والتخفّي إلى طور الظهور والانتشار. فقد استفاد الانغلاق اللاهوتيّ من الفضاءات التلفزيونيّة الجديدة العابرة للحدود والقادرة على توسيع القاعدة الجماهيريّة. وتبوّأ الشيوخ مقاعدهم من القنوات الدينيّة التي ألهبت مشاعر الخوف والرجاء من المقدّس. وصار لهم جمهورهم المؤمن برسائلهم والمتابع لبرامجهم، ثمّ استكملت وسائل الاتّصال الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعيّ ما بدأه التلفزيون. وأضحى جمهور الكتاب المؤمن بالنقد في تناقص. أمّا جمهور الإعلام الدينيّ المؤمن بالانغلاق، فقد زاد وانتشر وتوسّعت شبكته، ولم يعد خاضعا للرقابة. ولذلك، فقد أضحى السؤال عن الأسباب التي عطّلت الفكر النقديّ، وأسهمت في انتشار الدوغمائيّة أمرا ضروريّا تقتضيه مقاصد البحث عن سبل لتحرير العقل الإسلاميّ وتجديده.

وبالمقابل يقدّم "علي حرب" ثلاثة مفاتيح تمكّن من تجاوز العقبات التي تقف في طريق العقل النقديّ: يتمثّل المفتاح الأوّل في مواجهة عقليّة الوصاية؛ ويعني ذلك عدم الوثوق في وجود شخص يمكن أن يمثّل للناس والمجتمع أو إلى الأمة أو البشريّة الوعي والضمير أو العقل والاستنارة أو المعنى والقيمة. فهذه العقليّة من شأنها أن تنتج الطاعة العمياء والانقياد والقهر. وأزمة الوصاية في كونها تهب النخبة الحقّ المطلق في التفكير وتحديد المصير، بينما تُسلَبُ تلك الملكة من الجمهور، باعتباره قاصرا وجاهلا لا يمكنه تأسيس وعيه بنفسه.[5]ولعلّ أهميّة هذا العائق هي التي دفعت "علي حرب" إلى أن يخصّص كتابا يكشف فيه أوهام النخبة وينقد المثقّف.[6]

أمّا المفتاح الثاني لتأسيس عقل نقديّ، فيقوم على تجاوز عادة التقديس التي تتمثّل في "خلع طابع المفارقة والألوهة والتجريد والتعالي على المعاني والقيم التي هي ممارسات بشريّة، دنيويّة ومحايتة، أو محدودة وعابرة."[7] وليس معنى رفع القداسة الاقتصار على إدانة الوعي الدينيّ، وإنّما يشمل أيضا من يمارسون التقديس والتعظيم باسم العقل والإنسان. ففي الوقت الذي يعتقد فيه الإنسان أنّه يحافظ على القيم بالقداسة التي يمنحها لها، يتسبّب في كوارث وفواجع لعلّ من أبرزها استقالة العقل وتسليم مقاليد التفكير للآخرين وتدنيس العقل باستقالته التفكير.

وآخر المفاتيح التي يقترحها "علي حرب" هو نفي منطق المطابقة، باعتباره يعامل الأفكار بعقل غيبيّ ما ورائيّ بوصفها حقائق متعالية غير قابلة للنقد. وتؤدّي مسارات المطابقة إلى اختزال الواقع أو القفز فوقه أو قولبته، وهو ما جعل مفاهيم مثل المساواة والاشتراكيّة والعدالة الاجتماعيّة تتحوّل إلى شعارات مفرغة من المعنى وفاقدة لروحها على أرض الواقع.

اتفق كثير من المفكّرين حول عوائق النقد في الفكر الإسلاميّ، ولذلك فقد اتّجه سعيهم إلى أنسنة التاريخ الإسلاميّ بمحاولة نزع القداسة عن شخصيّاته وأحداثه

إنّ خلاصة هذه المداخل التي يقدّمها "علي حرب"، باعتبارها مفاتيح النقد وأسس العقل المتحرّر لتدور في فلك واحد وهو المقدّس، إذ يبدو من خلال هذه العوائق أنّ المقدّس هو من يجعل الإنسان يعتقد في وجود حقيقة متعالية غير قابلة للنقد، ولذلك فهو يسلّم مقاليد عقله وروحه لها. وإنّ الناظر بعمق إلى مثل هذا السّلوك ليدرك أنّه ناتج عن نزعتين: الأولى هي التواكل الفكريّ الذي يغني التابع والمطيع عن طرح الأسئلة. ولعلّه فكر ناشئ في بيئة سلطويّة دأب أصحابها على عقليّة المحافظة على ما هو كائن وعدم البحث عن سبل لتغييره. والثانية نزعة الخوف التي تنتاب الطرف المطيع من خطورة الخروج عن التصورات الصّراطيّة الثّابتة في ظلّ وجود ترسانة من القوانين الرادعة وسهولة الوسم بالكفر والردّة والبدعة.

وإنّ الناظر في الوسائط النقديّة التي قدّمها "نصر حامد أبو زيد"، ليلحظ اتفاقا حول أصل الأزمة التي عطّلت النقد، وأضعفت من فاعليّته في الثقافة العربيّة الإسلاميّة. ففي سياق حديثه، عن آليّات الخطاب الديني يعدّد الكاتب الأسباب التي عطّلت الفكر النقديّ مثل ردّ الظواهر إلى مبدأ واحد والاعتماد على سلطة التراث والسّلف واليقين الذهنيّ والحسم الفكريّ وإهدار البعد التاريخيّ، وإنّه لمن اليسير أن ندرك أنّ كلّ تلك العوائق التي عطّلت الفكر النقديّ لهي قائمة على مبدأ القداسة، باعتباره يمنح التفويض للإله الواحد كي يقرّر مصير الناس ويسنّ تشريعاتهم، ومادام تأويل السلف الصالح هو الأقرب إلى تلك القداسة لقربه من منابعها، فإنّ آراءه وأحكامه تظلّ هي الأكثر اتصالا بالمقدّس، وهو ما نتج عنه يقين ذهنيّ وحسم فكريّ أساسه الاعتقاد بالرافد الإلهيّ. وبذلك، ثبتت مواقع المقدّس ومواقف أصحابه، فغاب البعد التاريخيّ عن تصوّرات العقل الإسلاميّ، وصار الفكر النقديّ غير مفكّر فيه، بل هو منكر وبدعة.

لقد اتفق كثير من المفكّرين إذن حول عوائق النقد في الفكر الإسلاميّ، ولذلك فقد اتّجه سعيهم إلى أنسنة التاريخ الإسلاميّ بمحاولة نزع القداسة عن شخصيّاته وأحداثه، وهو ما احتاج إلى القيام بحفريات تاريخيّة من أجل إعادة قراءة التراث وفهمه وتأويله باعتماد أدوات نقديّة بعيدة عن التقديس والتبرير. ولئن وقعت بعض القراءات المعاصرة في التلوين مثل تجربة اليسار الإسلاميّ، فإنّ التنبيه على أهميّة المداخل النقديّة وتقديم آليّات لتجاوز الدوغمائيّة قد ولّد فكرا نقديّا، وإن ضعفت فاعليته في المسلمين، فإنّه يظلّ واعدا بآفاق الانتشار في ظلّ ارتباط النزعات الدوغمائيّة المؤمنة بالحقيقة المطلقة بالجماعات العنيفة التي لم تهدر البعد التاريخيّ فحسب، وإنما أهدرت القيمة الرمزيّة للدين وحوّلته إلى مصدر خوف وذعر للمسلمين أنفسهم. ولذلك، فإنّ مسارات النقد هي وحدها التي يمكن أن تعطي المسلمين القدرة على مواجهة أسئلة العصر دون خوف أو رهبة ودون الحاجة إلى إضفاء القداسة على آراء أسلافهم الذين فكّروا بحسب حاجات عصرهم.

يلخّص "كانط" (Immanuel Kant) (ت 1804 م) في جوابه عن سؤال "ما هي الأنوار؟" شروط العقل النقديّ بقوله: "إنّ بلوغ الأنوار هو خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه، والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد الغير. وإنّ المرء نفسه مسؤول عن حالة القصور هذه عندما يكون السبب في ذلك ليس نقصا في العقل، بل نقصا في الحزم والشجاعة في استعماله دون إرشاد الغير. تجرّأ على أن تعرف! كن جريئا في استعمال عقلك أنت

[1] جاء في صحيح مسلم ما يلي: "حدّثنا سفيان بن عتيبة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أنّ رسول الله ﷺ فقد ناسا في بعض الصلوات فقال: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلّي بالنّاس، ثمّ أخالف إلى رجال يتخلّفون عنها. فآمر بهم فيحرقوا عليهم، بحزم الحطب، بيوتهم، ولو علم أحدهم أنّه يجد عظما سمينا لشهدها."" يعني صلاة العشاء، صحيح مسلم، ط1، الرياض، دار طيبة، 2006، ج1، ص293. (حديث رقم 651).

[2] انظر مثلا ما قابلت به اللجنة العلميّة كتاب نصر حامد أبو زيد "نقد الخطاب الدينيّ." من تكفير نتجت محاكمة قضائيّة بتهمة الردّة والكفر

[3] محمّد أركون، نحو نقد العقل الإسلاميّ، (ترجمة وتقديم هاشم صالح)، ط1، بيروت، دار الطليعة، 2009، ص 32

[4] انظر: المرجع نفسه، ص 37

[5] انظر علي حرب، أصنام النظريّة وأطياف الحريّة، (نقد بورديو وتشومسكي)، ط1، الدار البيضاء/ بيروت، المركز الثقافي العربي، 2010، ص9

[6] انظر: علي حرب، أوهام النخبة والمثقف، ط3، الدار البيضاء/ بيروت، المركز الثقافي العربي، 2004

[7] انظر: علي حرب، أصنام النظريّة وأطياف النظريّة، ص 9

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A3%D8%B9%D8%B7%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A-6550

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك