صورة الصراع العربي الإسرائيلي في الكتب الدراسية البريطانية: دراسة في تحليل الخطاب اللغوي التربوي

صورة-الصراع-العربي-الإسرائيلي-٥

خلفية الدراسة

تحرص الدول جميعها على بناء مناهجها وكتبها الدراسية وفقًا للمنطلقات الفلسفية والدينية والفكرية التي تُبنى عليها مجتمعاتها سعيًا إلى تكوين مواطنين صالحين مخلصين لأمتهم وثقافاتهم؛ ذلك أنه مهما يكن من أمر، فإن لكل مجتمع معتقداته وثوابته وقيمه التي يصدر عنها، ويؤمن بها، ويسعى إلى التمسك بها والانطلاق منها. ويبدو أهمية الكتاب المدرسي في أنه من أهم مصادر تشكيل الوعي الثقافي والمعرفي والقيمي لدى الطلاب، حيث تتضمن الكتب الدراسية مجمل القيم والأفكار والمبادئ والتوجهات الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية التي تنص عليها الوثائق والسياسات التربوية والتعليمية في هذا البلد أو ذاك، التي ترسم الإطار الفكري والقيمي الذي يجب أن ينشأ ويترعرع فيه الطلاب بوصفهم العماد الأساسي لأي نهضة تنموية مستقبلية على الصعد كافة (العقيلي، 2004).

وتكتسب هذه الدراسة أهمية خاصة؛ إذ تأتي في ذروة التطورات العالمية ذات الوتيرة المتسارعة والمتجهة نحو عولمة الفكر والمفاهيم والقيم وسيطرة القطبية الأحادية في عالم اليوم وانعكاسات كل ذلك على المجالات كافة بما فيها المجال التربوي والتعليمي، حيث تتعالى الانتقادات الغربية لما تحتويه المناهج الدراسية في بعض الدول العربية من مفاهيم ومبادئ تبدو لهم غير متسامحة وترسم صورة سلبية عن الآخر الغربي، رغم أن جزءًا كبيرًا مما جاء في هذه المناهج ينطلق أساسًا من مجموع الأسس الفكرية والثقافية والدينية التي بُني عليها المجتمع العربي والإسلامي. ولعله من المنطقي في هذا السياق أن يطرح بعض التساؤلات المتصلة بما تتضمنه الكتب الدراسية في بعض الدول الغربية من قيم ومفاهيم ومكونات فكرية وثقافية، وهل تعكس هذه الكتب الأسس العقدية والفكرية والاجتماعية السائدة في تلك المجتمعات؟ وذلك من أجل مقاربة صورة العرب والمسلمين بشكل عام، وتحديدًا صورة الصراع العربي الإسرائيلي في تلك الكتب الدراسية؛ وذلك بوصف القضية الفلسطينية تقوم على رافعتين أساسيتين: العروبة والإسلام.

وتعد المسألة الفلسطينية إحدى المكونات الرئيسة للمخيال العربي والإسلامي والإنساني على كافة المستويات الوجدانية والفكرية والرمزية. وفي هذا المجال يؤكد (بشارة، 2009) أن مأساة احتلال فلسطين وقيام إسرائيل هما عقدة بارزة في التاريخ العربي الحديث، وهما جرح ما زال مفتوحًا وراعفًا؛ مما يجعلها تحتل مكانة بارزة في الوعي العربي. ويضيف بشارة أن قضية فلسطين تقع على تقاطع مسألتين كبيرتين، وهما المسألة العربية ببعديها القومي والإقليمي، وما تفرزه من صراعات وتعقيدات، وكذلك ما تقدمه من تحفيز وترميز لرفض الاستعمار والنزوع نحو التحرر والاستقلال. أما المسألة الأخرى فهي اليهودية العالمية، وذلك بوصف الغرب هو العالم، وتاريخه هو التاريخ العالمي، وثقافته هي المسيطرة في صنع الصور على المستوى العالمي. وهي المسألة التي ما زالت تصدر معلبةً إلى منطقتنا من أوربا، التي تمنع رؤية قضية فلسطين بوصفها قضية استعمارية كولونيالية، وتجعل إسرائيل جزءًا من أوربا والغرب؛ حيث أُخرجت من عالم الشرق، وصورت على أنها ضحية شرقنا العربي. ولذلك كله فالقضية الفلسطينية تحمل قدرًا هائلًا من الرمزية والدلالات المكثفة التي تجعلها حاضرة دومًا في الوجدان والعقل؛ مما يجعلها قضية مركزية سياسيًّا واجتماعيًّا وتربويًّا. ومن هنا يأتي اهتمام بعض الدول بتدريس القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي لطلاب التعليم العام، وبخاصة في دول بعيدة جغرافيا؛ مثل: بريطانيا وأميركا، كما سيأتي بيانه بعد قليل في الدراسات السابقة.

من مجموع ما سبق جاءت فكرة هذه الدراسة التي تتمحور حول تحليل صورة الصراع العربي الإسرائيلي، وفحص مكونات الخطاب اللغوي التربوي التي يتضمنها كتاب في المنهج الدراسي في بريطانيا يحمل عنوانًا لافتًا، وهو (الصراع العربي الإسرائيلي The Arab- Israeli Conflict). ولعله من المثير للدهشة أن يُخصص كتاب كامل لتدريس الطلاب البريطانيين هذه القضية، مع أنها قد تبدو قضية هامشية لهم ولمن في سنهم (الكتاب يدرس لفئة عمرية من سن 14 إلى 16)؛ بل إننا حين ندقق النظر نجد أن أصحاب الشأن (وهم العرب والمسلمون) لا يخصصون كتابًا كاملًا لهذه القضية في كتبهم المدرسية مع مركزيتها في وجدانهم وفكرهم، حيث يكتفى بتدريسها بوصفها موضوعًا داخل مواد العلوم الاجتماعية! وإذا كانت (المعرفة دهشة) كما يقول الفلاسفة؛ أي أن الدهشة أحد مصادر الحفز إلى المعرفة، فقد وجد الباحث نفسه مشدودًا معرفيًّا ونفسيًّا ووجدانيًّا لمقاربة هذا الكتاب وقضيته بالتحليل والدرس العلميين. إضافة إلى ما سبق، فإن قضية الصراع العربي الإسرائيلي تعد إحدى القضايا الإشكالية في علاقة العالم العربي والغربي؛ لذا فإنه من المهم دراسة التنشئة التربوية السياسية للطلاب تجاهها. وقد جاء اختيار بريطانيا تحديدًا؛ لأنها تعدّ واحدة من أهم الدول الغربية التي لها احتكاك مباشر بالعرب والمسلمين منذ الحقبة الاستعمارية حتى اليوم؛ بل إنها المسؤول الأكبر عن المأساة الفلسطينية كما هو ثابت تاريخيًّا.

مشكلة الدراسة وسؤالها المركزي

يشتكي العالم الغربي، وتحديدًا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، من تحيز الكتب الدراسية في بعض الدول العربية والإسلامية ضده، وأنها تنتج (بما تتضمنه من أفكار ورؤى وتصورات) جيلًا مبرمَجًا ذا تربية سياسية منحازة تحث على الكراهية، ويرون كذلك أن تلك الكتب تقدم صورة عدائية ومشوهة للآخر الغربي من خلال اشتمالها على خطاب فكري وتربوي إقصائي ومنطوٍ على ذاته الحضارية والدينية؛ مما يهيأ لانتشار بذور التطرف في نفوس الطلاب، وفقًا لمزاعمهم. وقد أعقب هذه الشكوى حملات مستمرة على المناهج والكتب الدراسية في العالم العربي والإسلامي موظفةً اتهامات وادعاءات باطلة في معظمها. وفي خضم هذه الاتهامات والحملات طُرح عدد من الأسئلة المعاكسة حول صورة العرب والمسلمين وقضاياهم فيها، وبشكل خاص قضية الصراع العربي الإسرائيلي، بوصفها قضية أساسية في صياغة الذهنية الغربية السياسية والاجتماعية والوجدانية تجاه العرب والمسلمين، وما هي المكونات الفكرية والثقافية للخطاب التربوي لها؟ وهل هذه المكونات تتسق مع البنى الفلسفية والحضارية والدينية التي ينبثق منها المجتمع الغربي؟

من هنا انبثقت مشكلة هذه الدراسة التي تحلل صورة الصراع العربي الإسرائيلي في كتاب دراسي في بريطانيا، عنوانه: (الصراع العربي الإسرائيلي The Arab- Israeli Conflict)، ومقاربة مستويات الخطاب اللغوي التربوي، والرسائل الضمنية والمشفرة المبثوثة فيه. ويمكن القول بشكل أكثر تحديدًا: إن مشكلة الدراسة تتمثل في السؤال المركزي الآتي:

س: ما أهم مكونات الجهاز المفاهيمي للخطاب اللغوي التربوي في كتاب (الصراع العربي الإسرائيلي The Arab- Israeli Conflict) في المنهج الدراسي البريطاني؟

منهجية الدراسة وإجراءاتها

توظف هذه الدراسة منهج تحليل الخطاب Discourse Analysis، وهو منهج بحثي تحليلي نوعي (كيفي)، وتعود جذوره الأولى إلى الدراسات اللغوية والأدبية والفكرية، وقد تزايد في السنوات الأخيرة الاهتمام بتوظيف مقولات تحليل الخطاب وأدواته المنهجية في البحث في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية والتربوية؛ أي أنه أصبح منهجًا بحثيًّا منفتحًا على مختلف العلوم بما يوفره من تقنيات وأدوات منهجية وعلمية يمكن استثمارها وتطبيقها في شتى التخصصات والحقول المعرفية، حيث يشهد هذا العصر المعلوماتي تداخلًا وتشابكًا بين مختلف العلوم، وبخاصة ما يتعلق بتطوير تطبيقات المناهج والأساليب والأدوات والمقولات العلمية والمنهجية-البحثية ( Ward, 1997).

وتتسم منهجية تحليل الخطاب بانفتاحها على مجموعة من المصادر والمرجعيات في العلوم السياسية واللغوية والفلسفية بل والتاريخية؛ أي أنها توظف المعطيات والإنجازات النظرية التطبيقية لهذه العلوم. كما أنها تهتم بتفكيك العناصر المؤسسة لبنية الخطاب (أي خطاب) سعيًا نحو إعادة بنائها من جديد بما يسمح برؤية الكليات التي ينتظمها ذلك الخطاب، وذلك باستثمار آليات القراءة التأويلية من أجل كشف وتشخيص عيوب الخطاب، وبيان تناقضاته البنيوية الهيكلية، وفحص المنطق المفاهيمي الداخلي الذي يحكمه، وفضح المقولات والأنساق المضمرة التي يحملها الخطاب، أو بتعبير أكثر تجريدًا (ما سكت عنه النص)، وهو يشمل ما يتضمنه محتوى الخطاب من اتجاهات إيجابية أو سلبية أو محايدة نحو ظاهرة أو قيمة ما (العقيلي، 2004). وتبدو أهمية استخدام منهجية تحليل الخطاب في تركيزها على الأنساق المضمرة، وبخاصة عندما يكون التحليل هنا لخطاب لغوي تربوي تاريخي قد يتضمن قدرًا هائلًا من الرموز والإشارات والإحالات والأنساق المضمرة ذات الحمولات التاريخية والدينية والاجتماعية، بحيث يشكل مهمازًا مهمًّا في تشكيل هوية وعقل ووجدان المتلقين الذين هم من الناشئة والأطفال الصغار بشكل لا واعي؛ بل إن الخطاب التربوي أخطر أنواع الخطابات سواء من حيث المحتوى أو كيفية التقديم (روبول، 2002).

ويؤكد (Zeeman et al., 2002) أن التوظيفات المعاصرة لمنهجية تحليل الخطاب في البحث التربوي قدمت إضافات ثمينة وجديدة للعلوم التربوية؛ سواء فيما يتصل بإثراء الأساليب البحثية أو تماسك وأصالة النتائج التي تبنى عليها، وذلك من خلال التركيز على الأسلوب الكيفي النوعي في عملية التحليل.

الخلفية النظرية للدراسة والدراسات السابقة

الصورة النمطية: المفهوم وكيفية التشكل

يعد والتر ليبمان أول من استخدم مصطلح الصورة الذهنية النمطية (Stereotype ) حيث أوضح في كتابه (الرأي العام) أن الإنسان يتعلم أن يرى بذهنه القسم الأعظم من العالم الذي لا يستطيع أن يراه أبدًا، أو أن يلمسه، أو يشمه، أو يسمعه، أو يتذكره، بحيث يصنع تدريجيًّا لنفسه وداخل ذهنه صورة يمكن الاعتماد عليها عن العالم الذي لا يستطيع الوصول إليه. وأوضح ليبمان أن عملية التنميط تتضمن وسائل تنظم الصور، وانطباعات ثابتة ومبسَّطة، وملامح بارزة منتقاة لتمثل الكل (خضور، 2002). وينقل (ابن سعيد، 2000) أن ليبمان استخدم مصطلح الصورة النمطية ليصف ميل الإنسان إلى اختزال المعلومات والمدركات، ووضع الناس والأفكار والأحداث في قوالب عامة مريحة؛ من أجل فهم أسهل.

ويؤكد (خضور، 2002) أن الأدبيات لا تميز بدقة مفاهيم:(الصورة النمطية Stereotype)، من التحامل (الحكم المسبق Prejudice )، والصورة (الانطباعية الذهنية Image). وقد انتشر مفهوم الصورة الذهنية في الخمسينيات، وبخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، ليعبّر عن منزلة أو هالة (Aura) الفرد أو الحزب أو البلد في الحياة العامة. ويعرف قاموس وبستر المشهور الصورة الذهنية بأنها «مفهوم عقلي شائع بين أفراد جماعة معينة يشير إلى اتجاه هذه الجماعة الأساسي نحو شخص معين، أو نظام ما، أو طبقة بعينها، أو جنس بعينه، أو فلسفة سياسية، أو قومية معينة». ويخلص (خضور، 2002) إلى أن الصورة الذهنية هي مجموعة الأحكام والتصورات والأحكام والانطباعات القديمة المتوارثة والجديدة المستحدثة، الإيجابية منها والسلبية، التي يأخذها شخص (أو جماعة أو مجتمع) عن آخر، ويستخدمها منطلقًا وأساسًا لتقييمه لهذا الشخص، أو ذلك المجتمع، وتحديد موقفه وسلوكه إزاءه.

ويرى (حطب، 1996) أن الصورة الذهنية النمطية تجسيد لواقع فكري معين، ولها مقدرة كبيرة على تقنين الفكرة، فهي القالب الذي تُصَب ضمنه، ويحفظها من الضياع، ويُسهِّل انتشارها. وعندما تتشكل الصورة تصبح بحد ذاتها منطلقًا لعمليات فكرية جديدة تُضاف إلى الصورة، فتبلورها. ويشير (أبو زيد, 1997) إلى أن بنية الصورة الذهنية تتشكل لدى الإنسان تجاه شخص أو شعب معين من ثلاثة عناصر:

1. مجموعة الصفات المعرفية التي يستطيع أن يدرك بها ذلك الشخص أو الشعب بطريقة عقلانية.

2. العنصر العاطفي المتعلق بالميل لذلك الشخص أو الشعب أو النفور منه.

3. السلوك المتمثل في مجموعة من الاستجابات العملية تجاه ذلك الشخص أو الشعب الذي يرى الفرد ملاءمتها له وفقًا للصفات التي أدركها في ذهنه.

صورة الصراع العربي الإسرائيلي في الغرب

لا تختلف الصورة النمطية للقضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي في الأدبيات الغربية عن إطارها العام ومكونها الأساسي والمتمثل في صورة العرب والمسلمين، حيث تنتشر في تلك الأدبيات صور نمطية سلبية، فعلى سبيل المثال: أجرت الباحثة عدوية حلمي (نقلًا عن خضور، 2002) رسالة دكتوراه في جامعة «كنت» بالولايات المتحدة الأميركية حول تحليل مضمون الكتب المدرسية لطلاب المدارس الابتدائية؛ بهدف معرفة الشخصية العربية والإسرائيلية الموجودة فيها. وأظهر البحث وجود تحيّزٍ واضح لصالح إسرائيل وضد العرب، حيث تؤكد هذه الكتب أنه عندما عاد اليهود إلى فلسطين وجدوا أن الأرض ما زالت كما هي عليه في أيام أجدادهم الأوائل. وتُصوِّر إسرائيل على أنها أرض غنية بشجاعة شعبها، رغم أنها تعد أصغر دولة في الشرق الأوسط، لكنها أهم دولة. وتُصوِّر العرب على أنهم شعوب متخلفة في كافة أوجه حياتهم، ولم يحققوا أي تقدم منذ 400 سنة. أما اليهود فعندما أتوا إلى فلسطين تحوَّلت إلى جنة متقدمة في الفن المعماري والحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وفي إطار بحث صورة العرب والمسلمين في الكتب الدراسية الأميركية أنجز القزاز (Al-Qazzaz, 1975) دراسةً مطولة حلّل فيها محتويات ستة وثلاثين كتابًا مدرسيًّا للعلوم الاجتماعية مقررة للتدريس في المدارس الابتدائية والمتوسطة في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة وفي غيرها من الولايات خلال السنة الدراسية 1974 – 1975م. وقد ركز القزاز في فحصه لهذه الكتب على مجموعة من مستويات التحليل؛ منها: الصور والخرائط، والنعوت المستعملة لوصف العرب، ونقل معلومات غير صحيحة أو مشوهة أو زائفة، وإغفال الكلام التلطفي أو المعلومات المخفّفة التي قد تعطي صورة إيجابية عن العرب. وقد قام كذلك، لدعم نتائج تحليله، بإجراء مقابلات مع قرابة عشرين معلمًا من معلمي المدارس الابتدائية والمتوسطة في منطقة سكرمنتو لتقرير طرائق التدريس والمواد التكميلية المستعملة، وللحصول كذلك على تقويمات لكيفية معالجة أمور العرب في الكتب المنهجية المدرسية. وجد القزاز في تمحيصه لصورة الإسلام كما رسمت في هذه الكتب أنها صورة مشوهة للعقيدة الإسلامية، تفرط في تأكيدها على طبيعة الإسلام العنيفة والمولعة بالقتال. أما العرب، فيجري تصويرهم كشعب بدوي يعيش في صحراء واسعة، ويستخدم الجمل كوسيلة وحيدة لمواصلاته. وهؤلاء الأعراب البدو، بطبيعة الحال، شغوفون بالغزو والنهب والسلب. وهم يقاتلون بعضهم بعضًا من أجل المراعي الجيدة ويسلبون المسافرين الذين يقطعون الصحراء. وأقرب شيء إلى قلوبهم صهوات الجياد العربية الرائعة السرعة للاشتراك في قتال، يحدوهم أمل بسلب القوافل.

ويرى القزاز أن هذا المفهوم السيئ المتعمد لا يعدو أن يكون تسويغًا لتأبيد بعض الأساطير الصهيونية التي تزعم أن الصهاينة «قد جعلوا الصحراء تزهر»، وتأبيد مثل هذه الأساطير يتغلغل في جميع هذه الكتب المنهجية.كما تؤكد تلك الكتب على أن فلسطين أرض خالية، والعدد القليل من الناس الذين يعيشون فيها هم كسالى بدائيون، على العكس من الإسرائيليين الذين هم أناس يقومون عن طريق التفكير الواسع الخيال والتخطيط الدقيق والعمل الشاق من أجل إيجاد حقول خصبة من الأرض اليباب الصحراوية والمستنقعات. وفي سبيل بناء صورة خرافية أسطورية للنجاح والتفوق الإسرائيليين، تزعم تلك الكتب أنه لم يحدث أبدًا أن عمل شعب بجهد أكبر، ضد معوقات عظيمة، لإعادة بناء أرض أمست ميتة وقفراء بسبب قرون من الإهمال، كما عمل شعب إسرائيل. لكن هذا الشعب يواجه التحدي ببصيرة وقوة، وإنه بمساعدة العلم الحديث يحول الأرض القاحلة والخالية إلى أمة منتجة تزخر بالنشاط.

وفي دراسة لأبي لبن (Abu-Laban,1975) لتحليل محتوى الكتب المنهجية المقررة في مدارس يوم الأحد البروتستانتية والمستعملة في منهجين (محافظين) ومنهجين (متحررين)، وذلك لمعرفة كيفية تناول شعوب الشرق الأوسط فيها، وجد أبو لبن فيها من التحيّز والتغرّض ما وجده القزاز، فعلى الرغم من أن الطوائف المتحررة هي أقل خضوعًا للدوغما (التعصب) الدينية من الطوائف الأصولية، فإن كتب هذه الطوائف تتناول العرب بشكل غير تحبيذي وبدرجات مختلفة، كما أنها تنظر إلى اليهود بصفتهم (شعب الله المختار)، وإلى فلسطين بصفتها (أرض الميعاد)، وإلى الإسلام بصفته ديانة غريبة وأدنى شأنًا.

وأجرى بري (Perry, 1975) من جامعة ولاية إنديانا تحليلًا لعشرين كتابًا منهجيًّا يستعمل للتدريس في المدارس المتوسطة والثانوية، اتضح أنه يعزز الصور الكاذبة وسوء العرض والمعلومات المتحيزة عن الإسلام والعرب ونزاع الشرق الأوسط. وقد وجد بري أن تناول الإسلام في هذه الكتب يراوح بين الدقة واستخدام مادة مشوشة وغير مهضومة بشكل صحيح. فعلى سبيل المثال، من المعتاد أن تجد في تلك الكتب وصفًا للقرآن على أنه محض مجموعة لكتابات النبي محمد. ويقدم الإسلام أحيانًا، وبدرجات متفاوتة، على أنه ديانة غير متسامحة Intolerant.

والتصور الخطير الذي يعزّز في هذه الكتب هو أن العرب بدو بصورة غالبة. ويشدد المؤلفون كل التشديد على الجانب المادي من الصحراء والجمل والبداوة، وينشرون عددًا غير متناسب من الصور عن هذه الأمور. ووجد بري أن أغلبية الكتب، عند ذكرها للنزاع العربي الإسرائيلي، غيرُ منصفة في تناولها للفلسطينيين واللاجئين منهم (هذا إذا ذكرت الكتب وجود هؤلاء)، لكنها تقدم صورة تحبيذية عن اليهود؛ فهم الذين يعملون بإخلاص، وبمهارة، وبسعة خيال، وقوة شعور بالهدف. إضافة إلى إن «الإرهاب» كما يقول بري هو وصمة تستعمل في هذه الكتب للإشارة إلى نشاط «منظمة رجال العصابات» الفلسطينية.

كما أجرى العبدالكريم (2003) بحثًا درس فيه الصراع العربي الإسرائيلي في المناهج الأميركية من خلال كتاب (تأريخ العالم: روابط للحاضر) وخلص فيه إلى أن الكتاب قد عرض موضوع الصراع العربي الإسرائيلي بشكل منحاز إلى الدولة اليهودية، أسهب فيه بالحديث عن اليهود، وأجمل فيه الكلام بشكل مخلّ عن العرب والفلسطينيين. ولم يكن موضوعيًّا في تقديم وجهتي النظر للجانبين، بل كان منحازًا لوجهة النظر اليهودية، من خلال نوعية وكمية المعلومات المقدمة. وقد حاول المؤلفان، فيما يظهر، التأثير في حكم القارئ بشكل غير مباشر بتقديم معلومات مكثفة في جانب، وإخفاء أخرى مهمة في الجانب الآخر. وعليه فلا يمكن للدارس الأميركي -أو القارئ- تكوين موقف سليم مبني على معلومة صحيحة، بل من الواضح أن المعلومات قُدِّمت بشكل يوحي بتعاطف قوي مع الموقف الإسرائيلي.

وفي العصر الحديث أسهم الإعلام الغربي (وخصوصًا البريطاني) بدور مؤثر في صياغة صورة مشوهة ومقولبة عن العرب والمسلمين. فعلى سبيل المثال، أجرى (ساري، 1988) بحثًا علميًّا على شكل رسالة دكتوراه تحت عنوان: (صورة العرب في الصحافة البريطانية)، توصَّل فيها إلى أن تغطية الصحف البريطانية للأحداث الرئيسة في الشرق الأوسط تعكس النسق القيمي الاستعلائي الإنجليزي، وأن الصحف البريطانية، وهي تعكس استمرارية الروح الاستشراقية، وتنقل الصورة التي وضعها المستشرقون، إنما وزنت تلك الأحداث بميزان المصالح البريطانية. وعكست الصحف البريطانية، على الرغم من أنها ذات مواقف مختلفة في التحرير ولها قراء مختلفون، تحيزًا ثقافيًّا واستعلاءً عرقيًّا في نشر أحداث الوطن العربي. ويشير ساري إلى أن بعض الصحف البريطانية تحيز لصالح إسرائيل حين تناول الصراع العربي الإسرائيلي؛ فمثلًا يصور الزعماء الإسرائيليون بوصفهم زعماء منطقيين وساسة ناجحين؛ بينما الزعماء العرب متعصبون وغير راغبين في السلام، كما تصور إسرائيل بوصفها دولة صغيرة باسلة، تقاتل من أجل بقائها، وهي دولة غربية الطراز وديمقراطية وسط محيط عربي استبدادي ومتخلف، يسعى لتدمير إسرائيل.

ولعله من المناسب أن نختم هذا الاستعراض الموجز للدراسات التي تناولت صورة الصراع العربي الإسرائيلي بدراسة مطولة وحديثة نسبيًّا تتسم بقدر من الموضوعية أعدّها باحث إسرائيلي (بوديه، 2006) حول الصراع العربي الإسرائيلي في كتب التاريخ المدرسية الإسرائيلية من عام 1948 إلى 2000م، وقد أظهرت الدراسة أن هناك دورًا سلبيًّا كبيرًا لمناهج ومضامين التعليم العبرية في إذكاء وتكريس حالة العداء والصراع مع العرب منذ بدايته، وقد ساهمت تلك الرؤية المنحرفة في منع السلام مع العرب. وقال الباحث اليهودي إيلي بوديه: إن المشهد الذي تراءى له من خلال مراجعة كتب التاريخ والكتب المدرسية طيلة نصف قرن (1948-2000م) لا يبعث على السرور. وعلل الباحث ذلك بكون الصور السلبية ونطاق التضليل حيال العرب مثلت رؤية طاغية في كتب التدريس الإسرائيلية التي وصفها بـ(المنحرفة).

ويميّز بوديه بين ثلاث مراحل في قضية تقييم جهاز التعليم حيال الصراع: الأولى مرحلة الطفولة (1920- 1967م)، والثانية مرحلة المراهقة (1967م حتى منتصف ثمانينيات القرن العشرين)، والثالثة مرحلة البلوغ (منذ منتصف الثمانينيات حتى عام 2000م)، وهو العام الذي أعقبته تغييرات سياسية عميقة انعكست سلبًا على مضامين المناهج وأولوياتها بشكل كبير يستوجب مزيدًا من الدرس والمتابعة. وأشار إلى أن الكتب الإسرائيلية سيما في المدتين الأوليين انشغلت بتعميق القيم الصهيونية ورعاية الأساطير والتمجيد بأبطالها ضمن صهر المهاجرين في بوتقة وذاكرة جماعية واحدة. ولفت إلى أن تلك الكتب وصفت الصراع بطريقة تبسيطية أحادية الأبعاد ومشبعة بعدم الدقة إلى حد التشويه. وأوضح الباحث أن هذه الكتب سعت لشيطنة العرب وتجريدهم من إنسانيتهم؛ ما أدى إلى ترسيخ صورة نمطية لدى الإسرائيليين الذين ظهروا دائمًا بصورة الغربيين المتحضرين صانعي السلام مقابل صورة العرب (الخونة والعدوانيين والمتخلفين والمجرمين والخاطفين والقذرين والمبادرين دومًا بالتدمير). وأشار بوديه إلى أنه رغم زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات -بل بسببها- دعا بعض المسؤولين وعملوا من أجل تعميق القيم الصهيونية على حساب ثقافة السلام. واقتبس من كلام لوزير التعليم السابق زبولون هامر قوله: إن (السلام مع العرب يهدد إسرائيل المهزوزة ويستلزم تحصين الناشئة بتقوية الوعي الصهيوني). وأضاف الباحث أن الإسرائيليين كانوا يعرفون عن الإسكندينافيين أكثر مما يعرفونه عن جيرانهم العرب، وهو ما ساهم في تعقيد الصراع، كما ساعد في خلق أرضية سوغت استخدام القوة ضد العرب. ونوّه إلى أن 1.4% فقط من الوقت المحدد للتاريخ في المدرسة الإسرائيلية قد خصص للتاريخ العربي، لافتا إلى موافقته على رأي باحثين أجانب بأن اليهود نقلوا صورة الأغيار من الشتات إلى إسرائيل، وسلطوها على العرب بشكل خاطئ. ونوّه الكاتب إلى أن إسرائيل أفرطت في استخدام تدريس التاريخ لتشكيل ذاكرة الأمة الجمعية ودعمها، وأضاف أنه تمت تعبئة جهاز التعليم وشحنه بمهمة تحديد المعلومات التي يجب على التلميذ أن يتذكرها.

وفيما يتصل بالصور النمطية، أشار الباحث إلى تحسن ملحوظ طرأ على كتب التاريخ التعليمية كنتيجة لإرهاصات حربي 1967م و1973م، واتفاقية السلام مع مصر، وازدياد ثقة إسرائيل بذاتها وبأمنها وانفتاحها، إضافة إلى رواج توجهات أكثر لبرالية في أوساط الأكاديميين والمثقفين. ومع ذلك فقد شدد على أن التغييرات الإيجابية ظلت تنطوي على تصريحات متحاملة وأوصاف نمطية وانحياز وإن كانت بحلة أكثر تهذيبًا. وأضاف أن (الرسائل السلبية الضمنية على أية حال قد تكون أخطر من الرسائل العلنية، إلى جانب استمرار محاولات إسكات الماضي وتصويره بانتقائية كبيرة). وكان مؤلف مقدمة الكتاب الناقد أنطوان شلحت محرر الشؤون الإسرائيلية أشار إلى أن السنوات التي تلت عام 2000م قد شهدت انكفاء في التطور الإيجابي وصعودًا يمينيًّا متطرفًا إلى رأس هرم جهاز التعليم في إسرائيل, بعد تسلم ليمور لفنات من حزب الليكود حقيبة التعليم.

وينبه الباحث إلى أن مضامين كتب التاريخ المعمول بها في إسرائيل، رغم التغييرات، تشكل برهانًا آخر بأن الصراع حول الرواية التاريخية داخل المجتمع الإسرائيلي لم ينته بعد. واقتبس الباحث آراء باحثين تربويين بارزين أكدوا الدور البارز لكتب تعليم الإسرائيليين في تصعيد الصراع وإعاقة أي تغير جذري في وجهة نظرهم عن العرب. وأشار بوديه إلى أن تصحيح الأخطاء غير كافٍ، منوّهًا إلى أهمية توسيع دراسة تاريخ العرب وثقافتهم ولغتهم بدقة وموضوعية.

مقدمة وصفية حول الكتاب المحلّل

سوف يخصص هذا الجزء لتقديم وصف شامل ومختصر للكتاب المحلل. وهذه النبذة الوصفية تتعلق بالمعلومات الأولية عن الكتاب، والجوانب الشكلية والفنية له، وأخيرًا تقديم وصف وتصنيف للموضوع العام للكتاب. وفيما يتصل بالمعلومات الأولية والجوانب الشكلية والفنية والموضوعية للكتاب المحلّل، فإنها سوف تعرضها كما يأتي:

1. عنوان الكتاب: The Arab-Israeli Conflict, وهو ما يمكن ترجمته بـ(الصراع العربي الإسرائيلي)

2. المؤلف: Tony McAleavy

3. الناشر: Cambridge University Press

4. سنة النشر: 2003م

5. المرحلة الدراسية للكتاب: المرحلة الأساسية الرابعة Key Stage 4، التي تبدأ بحسب النظام التعليمي البريطاني من سن 14 إلى 16

6. السنة الدراسية التي ألف لها الكتاب: 10-11

7. عدد فصول (أو وحدات) الكتاب: 16

8. عدد صفحات الكتاب: 64

9. الموضوع العام للكتاب: الصراع العربي – الإسرائيلي

ينقسم الكتاب قسمين، الأول منهما عنوانه: (نشوء الدولة اليهودية)، ويتضمن ثماني وحدات، تتناول خلفية تاريخية لليهود، تذكر أن لهم دورًا كبيرًا في تاريخ فلسطين منذ قرون عدة، بل حتى قبل ميلاد المسيح، كما أن فلسطين أرض لليهود بمقتضى وعد إلهي؛ إذ ينصّ المؤلف على أن الكتاب المقدس يشير إلى أن الرب اختار اليهود بوصفهم شعبه المختار، وأعطاهم أرض إسرائيل. ثم يعرض هذا القسم الاضطهاد الذي مر به اليهود من العصر القديم إلى العصر الحاضر، ثم الحديث عن صعود الحركة الصهيونية، ومذابح الهولوكوست في العهد النازي في ألمانيا، وعلاقة كل ذلك بتأسيس دولة إسرائيل. ويتحدث الكتاب بعد ذلك عن الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل، وأسباب نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، مرورًا بأزمة قناة السويس وغزو إسرائيل لسيناء، وتدخل القوات البريطانية والفرنسية بجانب إسرائيل.

أما القسم الثاني من الكتاب فعنوانه: (الصراع العربي الإسرائيلي منذ عام 1967م) ويتضمن ثماني وحدات، تبدأ بالحديث عن حرب الأيام الستة، وكيف أن القوات الإسرائيلية أذلت الدول العربية المجاورة لها، واحتلت أراضًا واسعة من مصر والأردن وسوريا، كما أن كثيرًا من الفلسطينيين أصبحوا تحت حكم إسرائيل. ويشير الكتاب إلى أثر تصرفات جمال عبدالناصر وتهديداته ضد إسرائيل في قيام الحرب. ثم ينتقل الكتاب للحديث عن حرب أكتوبر عام 1973م التي فاجأت الحكومة والشعب في إسرائيل، وما أعقب تلك الحرب من عروض للسلام تقدم بها السادات من أجل استعادة سيناء، وإعادة فتح قناة السويس. يعقب ذلك حديث عن نشأة منظمة التحرير الفلسطينية، وانتقالها بين بعض الدول العربية مثل الأردن ولبنان، ومدى التغير في سياساتها. ثم عرض معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وزيارة السادات القدس، ثم غزو إسرائيل لبنان عام 1982م. ثم يعرض المؤلف الانقسامات السياسية في المجتمع الإسرائيلي الصغير في سكانه تجاه الأسلوب المناسب لإدارة الدولة بين عدد من الأحزاب السياسية، ويشير بعد ذلك إلى علاقة إسرائيل مع القوى العظمى في العالم، وبخاصة أميركا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ويتحدث الكتاب في النهاية عن اتفاقية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين عام 1993، وما أعقبها من أحداث، ويشير الكتاب إلى انبثاق الانتفاضة الفلسطينية ونتائجها المتمثلة في خلق حالة من التعاطف العالمي مع الفلسطينيين؛ مما حدا الداعم الأكبر لإسرائيل: أميركا، على الضغط عليها لتسوية النزاع مع الفلسطينيين.

نتائج الدراسة ومناقشتها وتحليلها

مكونات الجهاز المفاهيمي للخطاب اللغوي التربوي في الكتاب:

من أجل بناء رؤية تحليلية متماسكة وشاملة لنتائج الدراسة، فإن مناقشتها وتحليلها سوف تكون متمحورةً في الإجابة عن السؤال المركزي للدراسة، وهو: ما أهم مكونات الجهاز المفاهيمي للخطاب اللغوي التربوي في كتاب: (الصراع العربي الإسرائيلي The Arab- Israeli Conflict) في المنهج الدراسي البريطاني؟ مع الأخذ في الاعتبار في أثناء عملية التحليل ما يتضمنه هذا السؤال الكبير من أسئلة فرعية تتعلق بالقيم والأفكار والاتجاهات المبثوثة في الكتاب، وتحليل الدلالات السياسية والتاريخية والحضارية للصراع العربي الإسرائيلي التي يوحي بها الكتاب، وفحص مدى ارتباط مفاهيم الكتاب وصوره الذهنية بالمعطيات الواقعية التاريخية والسياسية للصراع العربي الإسرائيلي؛ حيث لا يمكن الفصل بين هذه الأسئلة فصلًا كاملًا باعتبارها مندرجة بالضرورة تحت السؤال المركزي السابق. كما أن معالجة هذه الأسئلة الفرعية تحت مظلة السؤال المركزي للدراسة بوصفها كلًّا واحدًا سيمنح القارئ والمحلل معًا مجالًا أوسع لرؤية تكاملية وبنيوية لمكونات الجهاز المفاهيمي للخطاب اللغوي التربوي للكتاب في إطاره الشامل.

ولأغراض منهجية وتنظيمية، فإن عرض نتائج الدراسة وتحليلها سيكون وفقًا لبعدين/ محورين انتهت إليهما إجراءات وعمليات التحليل النوعي الاستقرائي وفقًا لمنهجية تحليل الخطاب. وهذان البعدان هما: البعد القومي، والبعد الحضاري, ويندرج تحت كل بُعْد ثلاثة مكونات رئيسة، مع التركيز على الموضوعات الرئيسة themes التي انتظمت في الكتاب؛ إذ تكاد تشكل هذه الموضوعات معظم ما يمكن أن يسمى بـ( مكونات الهيكل المفاهيمي والقيمي) الذي أنتجه الخطاب اللغوي التربوي بكافة تجلياته المختلفة.

لقد أظهر توظيف منهجية تحليل الخطاب في الدراسة أن من أهم مكونات الجهاز المفاهيمي للخطاب اللغوي التربوي في الكتاب المحلل ما يأتي:

أولًا- البعد القومي

صورة-الصراع-العربي-الإسرائيلي-٢1- تصوير فلسطين بوصفها أرضًا لليهود في الأصل

من أهم الأفكار المركزية التي تنتظم الكتاب تصوير فلسطين بأنها أرض لليهود منذ فجر التاريخ، أما العرب والمسلمون فهم طارؤون عليها وقد دخلوها في صورة غزاة. ويحاول الكتاب أن يوحي إلى قارئه من تلاميذ ناشئين وغيرهم إلى أن العلاقة بين اليهود وفلسطين مستمرة وطويلة وقديمة حتى يبدوا كأنهما متلازمان أو وجهان لعملة واحدة، وهذه الرسالة مبثوثة في الكتاب بشكل واضح بدءًا من العناوين وانتهاءً بالنصوص والفقرات ذاتها. ولعل من الأمثلة على ذلك عنوان الوحدة الثانية ص 8 وهو (فلسطين واليهود: من عصر الكتاب المقدس إلى العصر الحديث Palestine and the Jews- from biblical to modern times)، وتلح هذه الوحدة على التأكيد على الحق التاريخي لليهود في فلسطين، وأنهم لعبوا دورًا مهمًّا في تاريخ فلسطين لقرون طويلة حتى قبل ميلاد المسيح؛ بل إنهم بلغوا قمة المجد والقوة تحت عهد الملكيْنِ داود وسليمان (وهنا إشارة إلى مدى عراقة وقدم الوجود اليهودي في فلسطين وحكمه لها حتى إنه سابق للميلاد نفسه بقرون طويلة). يقول المؤلف في ص 8 ما يأتي:

«The Jewish people played an important part in the history of Palestine for many centuries before the birth of Christ… Under the kings David and Solomon, the Jews reached a peak of power in the 10th century before Christ»

وفي خضم هذا الإلحاح في التأكيد على قدم اليهود في فلسطين منذ ما قبل الميلاد؛ مما يعزز فكرة أن ما يفعله اليهود اليوم في فلسطين لا يتجاوز كونه استعادة لحق طبيعي لهم تسنده الوقائع والأحداث التاريخية القديمة قدم التاريخ نفسه. أقول: في خضم كل ذلك، وفي موازاته، يمعن الكتاب في تهميش الوجود العربي والإسلامي في فلسطين؛ إذ يشير المؤلف إلى أن ذلك الوجود لم يبدأ إلا في القرن السابع الميلادي حين فُتحت (أو غزيت) فلسطين من العرب أتباع النبي محمد الذين جاؤوا بدين جديد هو الإسلام، ولغة جديدة هي العربية. كما أن هذا الغزو العربي قاد إلى إيجاد العرب الفلسطينيين. وفي أثناء العصور الوسطى أصبح في فلسطين أغلبية مسلمة تتحدث العربية. يقول النص الإنجليزي الأصلي في الكتاب ما يأتي:

«In the seventh century, Palestine was conquered by the Arab followers of the Prophet Muhammad. They brought a new religion- Islam- and a new language- Arabic… The Arab conquest led to the creation of the Arab Palestinian people. During the Middle Ages, Palestine had an Arabic- speaking Muslim majority».

وقد يكون الغرض من ذلك تمرير رسالة ضمنية مضمونها أن العرب والمسلمين طارئون على أرض فلسطين حين مقارنتهم باليهود، وبخاصة إذا عرفنا أن هذه المعلومة الواردة في الكتاب جاءت مباشرة بعد التأكيد على مدى عراقة الوجود اليهودي فيها، وكأن المؤلف هنا يعقد -ضمنيًّا- مقارنة بين اليهود والعرب والمسلمين، وأيهما أحق تاريخيًّا بفلسطين، ومن ثم محاولة إنزال هذه الأحداث التاريخية وتطبيقها على عالم اليوم وتوظيفها سياسيًّا لتسويغ احتلال اليهود لفلسطين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإشارة إلى أن الوجود العربي في فلسطين ناتج عن الفتح أو الغزو العربي الإسلامي لها يوحي إلى المتلقي أو القارئ أن فلسطين كانت خالية من الجنس العربي والإسلامي، وأنهم لم يسكنوها إلا بعد القرن السابع بعد الميلاد؛ أي أنها ليست بلادهم الأصلية، إنما هي لليهود الذين عاشوا فيها قبل ميلاد المسيح. إضافة إلى ذلك، فإن وصف دخول العرب والمسلمين لفلسطين بأنه (فتح أو غزو) يخلف لدى القارئ انطباعًا سلبيًّا عن العرب والمسلمين ويشكك في مدى شرعية وجودهم فيها.

2- أرض فلسطين بوصفها حقًّا إلهيًّا لليهود

لا يكتفي الكتاب بتصوير فلسطين على أنها أرض لليهود بمقتضى (الحق التاريخي) وأسبقية وجودهم فيها منذ ما قبل ميلاد المسيح بقرون، وبلوغهم أوج قوتهم في القرن العاشر قبل الميلاد كما مرّ قبل قليل، لكنه يضيف إلى ذلك أمرًا آخر وهو ما يمكن تسميته بـ(الحق الإلهي)؛ أي توظيف الرموز والإشارات والأساطير الدينية في تدعيم الزعم بأحقية اليهود في أرض فلسطين، وكأنها حق وقدر إلهي لا مناص منه لهم، بل يجب العمل على تحقيقه تنفيذًا للإرادة الإلهية، وغير خافٍ ما في هذا الاستثمار الذكي للأساطير الدينية من محاولة لإضفاء هالة من القداسة والطهر على المزاعم اليهودية في فلسطين، وترسيخها في الوعي الغربي (وبخاصة الناشئة) بوصفها حتمية دينية مقدسة لا يجوز حتى مناقشتها. ومن الأمثلة على ذلك أن المؤلف يضع عنوانًا ص 8 بخط عريض ولون مختلف عن بقية العناوين والنصوص الأخرى يقول فيه صراحةً عند الحديث عن علاقة اليهود بفلسطين: (أرض المنحة الإلهية A God- given land?). ثم يأتي تحت هذا العنوان ما يشير إلى أن تاريخ اليهود في فلسطين والروايات الإسرائيلية حول تلك الحقب التاريخية قد أُخبِر بها في الكتاب المقدس. وهذه الرواية اليهودية تصف كيف أن الله اصطفى اليهود بوصفهم شعبه المختار ومنحهم أرض إسرائيل. يقول النص الإنجليزي في الكتاب ص 8 ما يأتي:

«The Jewish version of this period is told in the Bible. It describes how God chose the Jews as his special people and gave them the land of Israel».

وهنا محاولة لتمرير رسالة ضمنية؛ لتحويل الروايات اليهودية حول فلسطين من محض كونها مزاعم وروايات تاريخية تقبل الجدل والمناقشة وربما الدحض إلى مسلمات دينية تجد أساسها المقدس واليقيني في الكتاب المقدس. أضف إلى ذلك أن النص (وبمرجعية دينية) على أن الله تعالى قد اصطفى اليهود بوصفهم شعبه المختار يتضمن مسكوتًا عنه، وهو الإيحاء بدونية الأجناس الأخرى، وهم العرب والمسلمون في السياق العام للكتاب الذي يتناول قضية الصراع العربي الإسرائيلي.

3- التعاطف مع اليهود والمبالغة في تصوير اضطهادهم على مر العصور

يتجاوز الكتاب حدود المعقولية والمقبولية في إظهار التعاطف مع اليهود من خلال المبالغة في التتبع التاريخي الصارم لكل ما تعرض له اليهود من مظالم، حتى ليبدو تاريخهم للقارئ الخالي الذهن كأنه مسلسل طويل لا نهاية له من الاضطهاد والتشرد والعذابات؛ بل إن الكتاب يقدم ما يصفه بـ( اضطهاد اليهود) بوصفه شيئًا أسطوريًّا خرافيًّا عابرًا للزمان والمكان كمحددين للوجود الإنساني. والدليل على ذلك أن المؤلف يستعرض بشكل مسهب اضطهادهم زمانيًّا بدءًا من العصور الرومانية وانتهاءً بالوقت الحاضر وعبر العالم كله مكانيًّا، ومن مختلف الأجناس والإمبراطوريات. ويوظف الكتاب عددًا من الآليات والوسائل اللفظية (سواء في العناوين أو متن الفقرات) وغير اللفظية من صور ورسوم، من ذلك مثلًا ما جاء في ص 9 العنوان الآتي في سياق الحديث عن اليهود (الشعب المضطهد A persecuted people)، وتحت هذا العنوان يقرر الكتاب أنه منذ العصور الرومانية كان اليهود منتشرين ومبعثرين حول العالم. وخلال العصور الوسطى، كان التمركز اليهودي الأكبر في أوربا الغربية، وقد هوجم اليهود مرارًا من السكان النصارى المحليين، حيث طوردوا من إنجلترا عام 1290م، ومن فرنسا 1394م، ومن إسبانيا 1492م. يقول النص الإنجليزي في الكتاب ص 9 ما يأتي:

«Since Roman times, the Jewish people have been scattered all over the world. During the Middle Ages, the greatest concentration of Jewish people was in western Europe. The European Jews were repeatedly attacked by local Christians. Jews were expelled from England in 1290, from France in 1394, and from Spain in 1492».

وفيما يتصل باستخدام الرسوم والنقوش في تعزيز فكرة اضطهاد اليهود على مر التاريخ، تحتل رسمة ملونة ومخرجة بشكل جذاب قرابة نصف صفحة كاملة (ص 8) تصور تحطيم الرومان لمعبد يهودي عام 70م، حيث كتب عليها الجملة الآتية:

This 17th – century painting shows the destruction by the Romans of the Jewish temple in AD 70.

والشيء نفسه يتكرر ص 9، حيث يوجد نقش يعود إلى القرن التاسع عشر، يصور المذابح التي تعرض لها اليهود في العصور الوسطى في ستراسبورغ. وقد علق على هذا النقش بالجملة الآتية:

This 19th – century engraving shows a medieval massacre of Jews in Strasbourg.

ولا يفوت المؤلف أن يتحدث باستفاضة كبيرة عن مذابح الهولوكوست التي تعرض لها اليهود على يد النازية في ألمانيا؛ إذ يفرد الكتاب أربع صفحات كاملة من 15 إلى 18 للحديث عنها، وتصوير مدى هولها وبشاعتها راصدًا استجابات قادة الصهيونية وبريطانيا وأميركا لها. ويوغل الكتاب في بناء صورة مأساوية لما لاقاه اليهود في ألمانيا الهتلرية، فهم قد اضطهدوا في أساليب كثيرة؛ إذ حرموا من الجنسية الألمانية، ومنعوا من الزواج من غير اليهود، وخلال ليلة واحدة في شهر نوفمبر عام 1938م حطمت كافة المعابد اليهودية في ألمانيا كلها. ومع نشوب الحرب العالمية عام 1939م طوق الجيش الألماني قرى يهودية وقتل سكانها، كما قرر النازيون عام 1942م قتل اليهود في ألمانيا والأراضي التي احتلتها ألمانيا. وسِيقَ اليهود إلى مخيمات الإبادة لقتلهم. وعند نهاية الحرب عام 1945م وصل القتلى اليهود قرابة ستة ملايين، وحُطِّمت مجتمعات يهودية كبيرة في وسط أوربا وغربها. ما سبق كان عرضًا مختصرًا لبعض الأفكار والفقرات التي تضمنها الكتاب ص 16، ومن نصوصها الإنجليزية ما يأتي:

«After Hitler came to power in 1938, Jews in Germany were discriminated against in many ways. They were deprived of German citizenship and not allowed to marry non-Jews. During one night in November 1938, synagogues were destroyed all over the country…the Jews of many villages were rounded up and shot. …leading Nazis met together and decided to kill the Jewish population of Germany and German-occupied territory. Jews were taken to extermination camps to be murdered. By the end of the war in 1945, about six million Jews had been murdered and the large Jewish communities of central and eastern Europe had been destroyed».

ومع الاعتذار عن هذه النقولات الطويلة إلا أنها ضرورية لبيان مدى التعاطف الكبير الذي يفيض به الكتاب مع اليهود. ولعل الدليل على ذلك أن المؤلف لا يسلك الأسلوب نفسه مع المذابح والجرائم البشعة التي قامات بها العصابات الصهيونية ضد الفلسطينيين، وهي هولوكوست أخرى يرتكبها اليهود. كما أن هذه المذابح التي اقترفها اليهود ضد الفلسطينيين لا تقدم بذات العرض العاطفي المؤثر الذي قدم من خلاله اضطهاد اليهود، وقد يكون هذا جزءًا من التهميش والدونية التي يعرض بواسطتها التاريخ والقضية العربية والإسلامية في هذا الكتاب، وهو ما سوف يكون مدار الحديث في الفقرة القادمة.

صورة-الصراع-العربي-الإسرائيلي-١

ثانيًا- البعد الحضاري

1- هامشية العرب والمسلمين في مقابل مركزية اليهود

التحليل الدقيق للأفكار والمفاهيم ومستويات الخطاب التي تنتظم الكتاب يشي بما يكشف عن هامشية العرب والمسلمين تاريخًا وحضارةً وقضيةً، وذلك في مقابل مركزية اليهود وتفوقهم في عراقة التاريخ وعدالة قضيتهم وأحقيتهم بفلسطين. وإذا ما حاولنا أن نتجاوز (ظاهر النص) إلى (ما لم يقله النص)؛ أي إذا واصلنا الحفر المعرفي للبنى العميقة للخطاب المتضمن في النصوص المشكلة للكتاب، فإنه يمكن أن ننتهي إلى الظواهر الدلالية الآتية:

1- تقدم نصوص الكتاب عرضًا تاريخيًّا مفصلًا لليهود في العالم عامة، وفي فلسطين خاصة؛ إذ تخصص الوحدة الثانية كلها للحديث عن تاريخ اليهود فيها، وأنهم سكنوها، وبنوا فيها مملكة قوية منذ قرون طويلة قبل ميلاد المسيح، وربما يعزز هذا التخصيص والاهتمام مفهوم (التميز التاريخي) لليهود. وتخصص الوحدة الثالثة للتفصيل في صعود الحركة الصهيونية بوصفها أيديولوجيا سياسية ناجحة، ولعل في ذلك رسالة ضمنية تبين مفهوم (التميز السياسي) لليهود أيضًا. أما العرب والمسلمون وتاريخهم وحضارتهم فتسكت النصوص عنها سكوتًا مطبقًا، وكأنهم لم يكونوا شيئًا مذكورًا، رغم ما يملكونه من تاريخ عريق وحضارة أصيلة. وبما أن الكتاب يبحث في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، فإن الموضوعية والإنصاف يقتضيان أن يعالج الكتاب القضايا التاريخية والحضارية المتعلقة بكل طرف بشكل متوازن لا أن يميز طرف على حساب.

2- التركيز على الخصوصية الدينية لارتباط اليهود بأرض فلسطين، وبأنهم جنس فوق بقية الأجناس البشرية الأخرى فهم (شعب الله المختار) الذين اختارهم الله ومنحهم أرض إسرائيل.

3- الإيحاء بتفوق العقلية السياسية اليهودية وقدرتها على تأسيس الصهيونية التي استطاعت أن تجمع شتات اليهود وتقيم دولة إسرائيل محققةً بذلك حلم اليهود في العودة إلى فلسطين. ومما يؤيد ذلك أن الكتاب ينقل ص 15 أن كثيرًا من القادة الإسرائيليين يرون أن السبب الوحيد لتأسيس دولة إسرائيل هو صعود الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، وليس الاعتداءات النازية على اليهود. ويتصل بذلك ما يشير إليه المؤلف ص 18 و19 من قدرة اليهود على استثمار الهولوكوست في صياغة الرأي العام الغربي في بريطانيا وأميركا بحيث أصبح مؤيدًا لإسرائيل.

4- تصوير إسرائيل بوصفها دولة صغيرة محاطة بعدد من أعدائها المجاورين لها من العرب والمسلمين، ومع ذلك فقد انتصرت عليهم وأذلتهم في حروبها معهم؛ بل إن ثلاث دول عربية (مصر والأردن وسوريا) قد خسرت أراضي كبيرة في حرب الأيام الستة عام 1967م بما فيها البقية الباقية من أرض فلسطين. أما حرب 1973م، فعلى الرغم من أن إسرائيل هوجمت على حين غرة إذ كانوا يحتفلون بيوم العبور ومعظم القطاعات العسكرية والحربية كانت غير مستعدة- فإن إسرائيل تمكنت من الانتصار في النهاية، وكانت عازمة على مواصلة الحرب لولا الضغط الأميركي المكثف عليها لوقفها ص 34 و35.

2- تسطيح القضايا الرئيسة في الصراع العربي الإسرائيلي

صورة-الصراع-العربي-الإسرائيلي-٣يقدم الكتاب أحيانًا تناولًا مخلًّا بالموضوعية عند عرضه لبعض القضايا المركزية في الصراع بين الطرفين، وربما يؤدي هذا التسطيح في التناول إلى تمييع القضية الأساسية؛ مما ينتج عنه إيصال رسائل ليست غير دقيقة فقط؛ بل إنها مضلِّلة للقارئ تخدم الطرف اليهودي. صحيح أن المؤلف يعرض وجهة نظر الطرفين: العربي والإسرائيلي في الأعم الأغلب، وهو ما يجب أن نقرره بكل صدق وأمانة؛ لكن الإشكالية تنبع من الأسلوب والكيفية التي تقدم بهما حجج كل طرف، فعلى سبيل المثال تكون الحجج الداعمة لوجهة النظر الإسرائيلية أكثر من تلك الداعمة لوجهة النظر العربية. هذا أولًا، وثانيًا أن بعض المصادر التي تستقى منها الحجج ذات مرجعيات علمية وأكاديمية (أستاذ للتاريخ في جامعة أكسفورد) ص 55، أو قادة ومفكرون صهيونيون لامعون لأي يهودي (هرتزل) ص 11، أو زعماء سياسيون ناجحون (جولدا مائيرا وإسحاق شامير) ص 25. ولا شك أن مثل هذه المرجعيات المتنوعة ذات الوزن الثقيل لا تؤثر فقط في طبيعة الحجة المقدمة وتماسكها وقوتها فقط، إنما تمتد لتؤثر بشكل كبير في نفسيات المتلقين لها؛ مما يمنحها مصداقية أكبر لديهم لكونها صادرة من أساتذة وباحثين أو قادة ومفكرين أو زعماء سياسيين، وهنا مكمن الخطر. أما مصادر الحجج الفلسطينية فهي لا تعدو أن تكون صحيفة مغمورة في أحد مخيمات اللاجئين، أو شخصية فلسطينية خاملة الذكر، أو راديو إحدى الدول العربية الفقيرة ص 23 و22، ومن ثم فإن تأثير هذه الحجج في أذهان المتلقين لها ومدى اقتناعهم بها قد يكون ضعيفًا؛ لأن مثل تلك المصادر تفتقد الجاذبية، وربما المشروعية للحديث، والقدرة على التأثير والإقناع.

ومن الأمثلة على تسطيح القضايا الجوهرية في الصراع العربي الإسرائيلي وتمييعها أن الكتاب يعرض لقضية اللاجئين الفلسطينيين مفرغةً من بعدها الإنساني ومجردةً من كل ما بها من فظاعة، مع أنه لم يفعل الشيء نفسه عندما تناول ما مر به اليهود من محن وتهجير. كما أنه يقدم هذه القضية الإنسانية الكبيرة بأسلوب يخفف كثيرًا من حدتها، حيث يوحي بأنها قضية تتعدد فيها الآراء ولها أسباب كثيرة، ويسهب في عرض مقولات متعددة تثبت أن القادة الصهيونيين الأوائل لم يقصدوا تهجير الفلسطينيين، وأنهم يؤمنون بإمكانية التعايش معهم ص 21. ويورد المؤلف ص 25 عرضًا مكثفًا لوجهة نظر المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين حيال مشكلة اللاجئين من حيث إنها مشكلة عربية، فإسرائيل لم تخلقها إنما العرب هم الذين بدءوا الحرب، ورفضوا قرار التقسيم. كما أن إسرائيل استقبلت 600 ألف يهودي عربي من العراق والمغرب بين عامي 1948 و1972م، ومن ثم فإنه يمكن للعرب أن يفعلوا الشيء نفسه مع اللاجئين الفلسطينيين. أضف إلى ذلك أن القادة العرب يتعمدون عدم حل هذه المشكلة؛ لاستخدامها في الدعاية السياسية ضد إسرائيل، والثروة النفطية العربية قادرة على حلها منذ زمن طويل.

والحق أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين لا تحتاج إلى كل هذا الجدل الطويل من الكتاب، فهي ناتجة بالدرجة الأولى عن مذابح دير ياسين وعصابات الهاجانا، كما أشار إلى ذلك المؤلف، لكن من طرف خفي، وبإخراج متواضع، وخط صغير جدًّا، وذلك بخلاف إخراجه لوجهة نظر المسؤولين الإسرائيليين السابقة، التي كانت بعنوان كبير وعلى شكل نقاط مركزة وبخط بارز.

3- التحيز في الاستخدام اللغوي والتناول النقدي

تختفي الموضوعية من الكتاب في الاستخدام اللغوي والعرض النقدي للمفاهيم والقضايا التي تعالجها النصوص، ويمكن توضيح هذه الفكرة في النقاط الآتية:

1- يكثر استخدام الأفعال السلبية في السياق اللغوي الخاص بالعرب؛ مثل: هزموا، دمروا، أذلوا، احتلوا، رفضوا، تجاهلوا…أما السياق اللغوي الخاص باليهود فهو يندرج تحت المعجم الدلالي الإيجابي والإنتاجي؛ مثل: انتصروا، بنوا، أسسوا، استقبلوا، أنشؤوا، نظموا، نشطوا، سيطروا، إضافة إلى صفات التعدد والتنوع التي يوصفون بها.

2- تغيب النبرة النقدية عندما يتعلق الأمر بالحديث عن إسرائيل واليهود وما يرتكبونه في حق الفلسطينيين منذ عقود؛ إذ يكتفي الكتاب بالعرض السردي الوصفي العام من دون أي انتقاد أو لوم.

3- التأييد المباشر وغير المباشر لإقامة دولة إسرائيل، وتأسيس المشروعية التاريخية والدينية لها، مع الإهمال الكامل للمسألة الفلسطينية، وعدم الإشارة إلى شرعيتها وبداية معاناتها. وعندما جاء على ذكر وعد بلفور لم يذكر له أي علاقة بالمشكلة الفلسطينية، إنما عرضه من خلال اليهود والمصالح البريطانية، حينما نجح اليهودي وايزمان في إقناع بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين؛ إذ أقنع بلفور مجلس الوزراء البريطاني بهذه الفكرة التي سوف تساعدها في كسب الحرب العالمية الأولى، وتسحب أميركا للوقوف معها ص 12.

4- محاولة الربط بين المسيحية واليهودية؛ مما يوحي بأن اليهود قريبون للمسيحيين وهم مستحقون للدعم بناءً على ذلك؛ إذ ينص الكتاب ص 8 على أن النبي عيسى عليه السلام الذي توفي عام 29م كان يهوديًّا كما كان أتباعه الأوائل كذلك.

توصيات الدراسة

بناءً على نتائج الدراسة يمكن تلخيص أهم التوصيات التي انتهت إليها الدراسة على النحو الآتي:

1. ضرورة تفعيل نتائج هذه الدراسة، وذلك من خلال بناء خطة إستراتيجية جادة لتغيير الصور النمطية حول مسائل وقضايا الصراع العربي الإسرائيلي، بحيث تعمل على مسارين متوازيين: مسار قصير المدى، ومسار طويل المدى، والإفادة من بعض المناخات الإيجابية في المجتمع البريطاني، وبخاصة مجال الحريات، والحقوق المدنية، والانخراط في الفعاليات الاجتماعية والتربوية والسياسية.

2. العمل على تحسين الصورة الداخلية والواقعية للعرب والمسلمين، وتحديدًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي؛ لأن صورتنا لدى الغرب انعكاس في بعض جوانبها لواقع العرب والمسلمين المؤسف، الذي ينطوي على بعض المظاهر السلبية؛ مثل: الاستبداد السياسي، والتنازع والتشرذم، والفساد، وغياب حقوق الإنسان، وقمع الرأي الآخر، كما يشير إلى ذلك ابن سعيد (2000).

3. أهمية توظيف (إستراتيجية نقد الذات) ومراجعتها واكتشاف مكامن الضعف والقصور في المشروع النهضوي العربي، واستيعاب الدروس المستفادة من الإخفاقات التي مرت بها التجربة العربية والإسلامية المعاصرة، بحيث يجري بناء مشروع عربي جديد وطموح في كافة مستوياته الاجتماعية والسياسية والثقافية؛ مما يساعد على إنتاج صورة زاهية للعرب، وبخاصة فيما يتصل بالتعامل مع قضيتهم الكبرى: فلسطين.

4. الاتصال بالناشرين البريطانيين لتوضيح وجهات النظر العربية والإسلامية في الجوانب السلبية التي تضمنها كتاب (الصراع العربي الإسرائيلي The Arab- Israeli Conflict) في المنهج البريطاني. وذلك من أجل توفير المعلومات والبيانات التي تعكس الواقع الصحيح تاريخيًّا وسياسيًّا لخلفيات هذا الصراع.

5. التنسيق مع الجالية العربية والإسلامية في بريطانيا لبذل الجهود العملية والمناسبة لتعديل وجهات النظر المتحيزة، والصور النمطية حول قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، وخلق مجالات متعددة ومسارات متنوعة للحركة والنشاط المؤثر في القنوات التربوية والإعلامية.

6. تزويد مراكز البحث التربوية والثقافية في بريطانيا بنسخ من هذه الدراسة وغيرها، وفتح فرص للحوار الهادئ والبناء الذي يقوم على الحقائق والأرقام والمعطيات التاريخية والسياسية الموثقة.

7. إجراء دراسات أخرى من خلال توظيف منهجية تحليل الخطاب على كتب دراسية بريطانية أخرى تنتمي إلى علوم متنوعة؛ مثل: كتب العلوم اللغوية والاجتماعية والدينية؛ لتتبع مكونات الجهاز المفاهيمي وصورة العرب والمسلمين فيها، وفحص كيفية تناول الصراع العربي الإسرائيلي بامتداداته وتنوعاته المختلفة.

8. إجراء دراسات تهدف إلى تتبع مصادر تشكيل صورة العرب والمسلمين وقضاياهم الرئيسة، وبخاصة القضية الفلسطينية في المناهج الدراسية البريطانية.

9. إجراء مزيد من الدراسات التحليلية لصورة العرب والمسلمين عامة، وقضية الصراع العربي الإسرائيلي خاصة في بلدان غربية أخرى؛ لمعرفة مدى اتفاق أو اختلاف الصورة في مناهج تلك الدول، ومحاولة المقارنة بينها.

 ———————————————————

المراجع

أولًا- المراجع العربية

أبو زيد، فاروق. (1997م). دور الإعلام في التقارب الثقافي والحضاري في الشراكة الأوربية المتوسطية، المجلة المصرية لبحوث الاتصال، عدد (1) يناير.

بشارة، عزمي. (2009م). أن تكون عربيًّا في أيامنا. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1.

ابن سعيد، أحمد بن راشد. (2000م). قولبة الآخر: قصة التشويه الحضاري والاغتيال الإعلامي للمسلم والعربي. عمان: (د. نم).

بوديه، إيلي. (2006م). الصراع العربي الإسرائيلي في كتب التاريخ المدرسية الإسرائيلية 1948-2000م. ترجمة: وليد أبو بكر. فلسطين: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، (مدارم).

حطب، زهير، تظهير الصورة وتوضيح الذات، الفكر العربي، عدد (84)، 1996م.

خضور، أديب. (2002م). صورة العرب في الإعلام الغربي. دمشق: المكتبة الإعلامية.

روبول، أوليفي. (2002م). لغة التربية: تحليل الخطاب البيداغوجي. ترجمة: عمر أوكان. المغرب: إفريقيا الشرق.

ساري، حلمي. (1988م). صورة العرب في الصحافة البريطانية: دراسة اجتماعية للثبات والتغير في مجمل الصورة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

العبدالكريم، راشد. (2003م). الصراع العربي الإسرائيلي في المناهج الأميركية: كتاب (تأريخ العالم: روابط للحاضر History of the World: Connections to Today) نموذجًا. بحث مقدم لندوة بناء المناهج: الأسس والمنطلقات، كلية التربية- جامعة الملك سعود.

العقيلي، عبدالمحسن. (2004م). الخطاب التربوي- التاريخي في كتاب عوالم القرون الوسطى: دراسة تحليلية نقدية. منشور في مركز بحوث كلية التربية- جامعة الملك سعود، رقم الإصدار (233).

ثانيًا: المراجع الأجنبية

Abu Laban, B. and Faith, Z (Eds.م). (1975). Arabs in American: Myths and Realities, AAUG Monograph Series, on.5 (Wilmette , Ill.: Medina University Press Internationalم).

Al-Qazzaz, A. (1975). Images of the Arab in American Social Science Textbooks, in Baha Abu-Laban and Faith T. Zeadey (Eds.), Arabs in American: Myths and Realities, AAUG Monograph Series, on.5 (Wilmette , Ill.: Medina University Press Internationalم).

Perry, G. (1975). Treatment of the Middle East in American High School Textbooks. Journal of Palestine Studies, vol. 4, no. 3, Spring.

Ward, G. (1997). Postmodernism. Illinois. Teach Yourself Books.

Zeeman, L., Poggenpoel, M., Myburgh, C., & Van Der Linde, N. (2002). An introduction to a postmodern approach to educational research: discourse analysis. Education, 123 (1), pp. 96-103.