الفن الإسلامي.. وجهة نظر سوسيولوجية

 

السؤال الذي تطرحه هذه المادة محصور في إمكانية قراءة الفن الإسلامي من وجهة نظر سوسيولوجية، بعدما قُدّمت له قراءات تأريخية وجمالية ودينية وزخرفية، كثيرة. بعبارة أخرى قراءته على أنه ممارسة اجتماعية في شروط إنسانية متغيّرة وفي سياق فاعلين (حرفيين) لهم، بالضرورة وضعيات وشروط عمل متعارف عليها، قبولًا أو رفضًا.

من الضروري في السياق الحالي توكيد النقاط التالية:

أولًا: يشدّد العارفون بالفن، وهم يتحدثون عن (الموهبة) و(الخبرة) على أن الممارسة الحرفية، أي اليدوية، هي أصل كل ممارسة جمالية رفيعة. فالفن قبل كل شيء آخر، أو إلى جوار الأمور الأخرى (مثل الموهبة والإبداع والإلهام وما شئنا)، هو سيطرة على حرفة يدوية. إنه حرفة يدوية. فالرسم حرفة تتطلب إتقان مجموعة من العناصر والأدوات. والرسام حرفيّ يتقن العمل على الأصباغ. من هنا لا تفرق الفرنسية للوهلة الأولى، عند النطق بكلمة (peintre)، بين الصبّاغ، الدهّان الذي يمارس عملية صباغة الجدران، والرسّام الفنان، إلا بعد إضافة مفردة أخرى جوارها.

ثانيًا: من هذا الأصل الحرفي الذي تشذب لألف سبب لا مجال للخوض فيها ولعلها معروفة، طلعت جميع القطع المنتجة في الفن الإسلامي أيضًا. وهنا فارق جوهري في وضعية (الحرفي) على السلم الاجتماعي والثقافي والمعياريّ في الحضارة الإسلامية الوسطى مقارنة بالأوربية الوسطى. ثقافة الإسلام لم تبتذل أو تحتقر أو تضع الحرفي في مستوى أدنى من غيره من صُناع الثقافة.

ثالثًا: العمل الحرفيّ، اليدوي بمنتوجاته الرفيعة أو غير الرفيعة، مترسخ ترسُّخًا كبيرًا في التاريخ القديم لمنطقتنا طيلة العصور، من دون أدنى شك. وبهذا السياق التأريخي يتوجب فهم الفن الإسلامي، وليس بأي سياق افتراضي. وفي تقديرنا إن التعريف الممكن من بين تعريفات أخرى للفن الإسلامي هو:

إنه تراكم للتقاليد الحرفية السابقة على ظهور دين الإسلام الذي نزّه وصفّى نهائيًّا صورة الله عن كل تجسيم.

السؤال الذي يتوجب الإجابة عنه في البدء هو: هل منتوجات الفن الإسلامي (أو الذي اصطلحنا على تسميته اليوم بالفن الإسلامي) هي أعمال فنية أم حاجيات objet وظيفية وزخرفية؟ هل تندرج منتوجاته فيما يسمونه (الفنون الكبرى) أم (الفنون الصغرى)؟ ويقصد بالكبرى الرسم والنحت والعمارة، وبالصغرى الحرف اليدوية والمهن الاحترافية كالخزف والنسيج والزجاج وما إلى ذلك. هل هذا التفريق بين كبرى وصغرى هو قاعدة ذهبية لا تقبل النقض في تأريخ الفن؟ البتة. فمنذ مدرسة البوهاوس الشهيرة جرى عدم الاعتراف بهذا التفريق، ووقعت إعادة النظر للفنون الصغرى بصفتها فنًّا بكل بساطة، ومن يومها نحن نعدُّ تصميم الأثاث وصولًا إلى تصميم الأزياء جزءًا حميمًا من الفن التشكيليّ.

تشكّل الوظيفة عنصرًا من العناصر التي يُفرَّق بوساطتها بين (حاجية فنية objet d’art) و(حاجية اعتيادية objet ordinaire). ويتفق المتخصصون عادة على أن (حاجية) معينة إذا ما نقلناها من فضاء إلى فضاء مختلف (من البيت السكني إلى مكان العبادة إلى المتحف، مثلًا) ولم تغير من طبيعة التلقي بشأنها أو لم تغيّر من الإحساس الجمالي بشأنها، وأنها ظلت تمتلك شيئًا خاصًّا بها يُمكّن لغالبية نزلاء البيت أو المعبد أو المتحف التعرف إليه، فإنها والحالة هذه تندرج في نطاق الحاجية الفنية: العمل الفني. أما إذا غيّر الفضاء المنصوبة فيه من طبيعة التعرُّف إليها بذاتها واختلطت مُعْتبَرَةً من أدوات المنزل أو عناصر التبجيل العباديّ أو ذات قيمة متحفية، حسب الفضاء، فمن المشكوك فيه أن تكون عملًا فنيًّا خالصًا. إذا تغيّرت وظيفتها علينا التساؤل حينها فيما إذا كانت قطعة فنية حقًّا.

ثمة اعتراف اليوم أن حاجيات الفن الإسلاميّ تندرج غالبًا في سياق العمل الفني والجماليّ، وذلك رغم أن إحدى السمات الأساسية لها، وهذه أول عناصر القراءة السوسيولوجية، هو التداخل والاندغام بين (الجماليّ) و(الوظيفيّ). هذه طبيعة من طبائع الفن الإسلامي غالبًا، فلا يمكن فصل قيم أعماله الوظيفية عن قيمه الجمالية. خذ سجّادة على سبيل المثال، إنها تقوم كما نعرف بوظيفة محددة، ولكنها في أعمال الفن الإسلامي ليست قطعة ساذجة، إنها قطعة مشغولة جماليًّا وفق الأنساق الأسلوبية المعروفة للفن الإسلاميّ. خذ الأثاث المنزلي، أي أشغال الخشب بجملتها، خذ الخزف الإسلاميّ الذي هو مثال ساطع على هذا التداخل، حتى أبواب المدن العربية القديمة تبرهن على ذلك.

ومن زاوية هذه الوظيفة نفسها، يمكن أن تتباين قطع الفن الإسلاميّ تباينًا جماليًّا ووظيفيًّا من دون أن تفقد تشبثها بأسلوبها المعروف. فالزخرفة الإسلامية يمكن أن تقوم بدور روحانيّ سامٍ عند تزيين النص القرآنيّ، ويمكن ألّا تقوم بهذا الدور في حقل آخر. في حالات أخرى تتأسس هذه القطع على دور تصميميّ مقصود: عندما تتأمل تصميم مقلمة (ثمة مثلًا مقلمة في المتحف المصري هي آية في الجمال كان يستخدمها الكاتب القلقشندي). إن تصميم جميع المقالم المحفوظة اليوم في المتاحف ليست نسخًا متشابهة، بل خضعت إلى تصميمات وأذواق شخصية، ودائمًا وفق مزاج الفن الإسلامي وأسلوبه. لذا يمكن الحديث عَرَضًا عن (فن التصميم) الرفيع في مجمل ممارسات الفن الإسلامي، وهو موضوع يحتاج إلى دراسة منفصلة.

لكننا بالمقابل يمكن أن نتحدث عن اتجاه من الملائم تسميته تصنيعيًّا أو صناعيًّا بمعنى أنه ينطوي على الكثير أو القليل من العادية (صناعة الجرار أو الصينيات النحاسية)، وهي صناعة ذات أفق وظيفي، اجتماعيّ شعبي على أوسع نطاق. لقد حمل الكثير من العلماء والفقهاء والشعراء لقب (الجرّار والخزاف وما يرادفهما) طيلة العصور الإسلامية، وكان أبو العتاهية في بداية حياته يصنع هذه الجرار،وهو ما يعني أن الصناعة حازت شهرة رفيعة واحترامًا، ولعل بعض قطعها لم تكن تصنيعًا محضًا، وكانت من الأعمال الفنية الرفيعة، وهي هذه القطع الموجودة حاليًّا في المتاحف الكبرى. ومن هذا الاتجاه صناعة الأواني النحاسية كما في مشاغل المغرب العربي بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين التي ترد عنها بعض الاستطرادات في كتب التأريخ، ونستشف منها أنها صُنعت في مانيفكتورات، وأنها كانت تجري في أقسام منفصلة متخصصة لكل قطعة أو جزء من الآنية، وأنها كانت تقدم إنتاجًا معياريًّا مُنمَّطًا واسعًا.

من الملائم مرة أخرى، خشية الالتباس، ملاحظة أننا نجد قِطعَ جميعِ هذه الحرفِ والصناعات، الرفيعة والأقل رفعة، مشحونةً بالبلاستيكية والخبرة الجمالية الموضوعة في خدمة وظيفة معينة. لذا فإن تقديم تفسير وحيد للفن الإسلامي، روحاني، مع صحته غالبًا، كما حاول الباحث بوركارت أن يفعل بِحَذاقة ومحبة في كتابه «الفن الإسلامي»، هو أمر قد لا يكون دقيقًا دومًا ويتمحور على تفكير مسبق الصنع، وينطلق من بداهات ثقافية قد لا تشاركها الحضارة الإسلامية من وجوه جوهرية، وبخاصة زاوية (الوضع الاجتماعي) للفنانين والحرفيين على السلم الاجتماعي. فمن جهة، ليس الفن الإسلامي هو فن العمارة فحسب كما يشدد بوركارت ويستثني كل ضرب آخر من ضروبه، وليس هو فقط ما يمكن أن نسميه بالفن التجريديّ أو الزخرفيّ، هو أيضًا فن عمارة الحمّامات والأسواق والخانات والقصور والمنازل السكنية. ومن جهة أخرى يمكن فهم أن الحمولة الاجتماعية للتجريد الإسلاميّ، من ناحية سوسيولوجية، إذا كانت التسامي بمشاعر الناس بشكل أساسي، فليس خطأً القولُ: إن كل منتوجات الفن الإسلامي تتميز ولبعض من هذا السبب بالسمات اللونية والأسلوبية نفسها تقريبًا وهي التي خلقت إجماعًا لدى المؤرخين بأن يضعوا تحت اسم (الفن الإسلاميّ) مواد بالغة التنوع في الملمس ومتباعدة في الجغرافيا والتاريخ. إنه فن يمتلك أسلوبًا نتعرف إليه ولكنه ليس فنًّا تنميطيًّا باردًا.

في السياق السوسيولوحي للفن الإسلاميّ نميّز بشكل أساسيّ بين نزعتين منه:

أولًا: فن عام، أي لعامة الناس public، نستطيع تسميته بالرسميّ، الحكوميّ، كانت الدولة مهتمة بالترويج له في الأماكن العامة مثل: المساجد والمدارس والأضرحة والمقابر والخانات… إلخ. يتسم هذا الفن عادة بأنه فن تجريديّ abstrait؛ ذلك أن العُرف القائم على التعاليم الدينية المتوارثة لديننا الحنيف ترفض أو تكره أو تحرِّم أي رسم مشخّص وهي تدفع بأنها تُسامي مشاعر الناس عبر هذا النمط من التجريدية القائمة على الأشكال الهندسية أو المخططات النباتية.

وفي الحقيقة، نجد مظاهر بارزة لمثل هذه التجريدية منذ تواريخ مبكرة في منطقتنا، في الفن الرافدينيّ والفن المصري، وهما الفنّان الكبيران اللذان يختلط أسلوبهما المميز في الرسم غالبًا بمشخّصات بشرية أو حيوانية. لقد وقع التفنُّن في تمثيل العالم الهندسيّ والنباتيّ في الفن الإسلامي وتجويده حتى صار ميزته الأسلوبية الأبرز، جوار الخط العربي وفن العمارة. قُرئ تجريد فن الإسلام على أنه خاصيته الوحيدة تقريبًا، وفُهم انطلاقًا من مبدأ التوحيد، فلا خالق ولا مصوّر إلا الله سبحانه. لكن وقائع التأريخ تبرهن أن الالتزام بذلك لم يكن يجري كما ينبغي.

وهنا عنصر سوسيولوجي آخر من عناصر الفن الإسلاميّ، يتوجب فهمه وقراءته بصفته واقعة سوسيولوجية، اجتماعية خضعت لما خضعت له المجتمعات الإسلامية طيلة عصورها، بغض النظر عما يعتقد دارسه ومتأمله والباحث فيه، ويؤمن به فقهيًّا ودينيًّا. فمثلما لا يستطيع هذا الباحث نفي وجود مارقين وسفهاء وملاحدة وترويج خمر في التأريخ الإسلاميّ، لا يستطيع نفي وجود العنصر التشخيصي في الفن الإسلاميّ. الباحث الموضوعي يحترم الإيمان الدينيّ والنصوص الفقهية وهو يخوض في الوقائع الأخرى جنبًا لجنب.

ثانيًا: فن مغاير بعض الشيء، وهو فن خاص أو للخواص privé، قد نُطلق عليه بأنه غير رسمي، وهو يتعلق بما كان يقدّم بعيدًا من عيون الجمهور العريض في بلاطات بعض الخلفاء مثلًا، أو يتعلق بما كان يميل إليه القطاعان المثقف والشعبيّ كلاهما. وهو يقوم على تقديم مشاهد رسم خرافيّ أو تاريخي أو فلكلوري أو يوميّ. هذا الفن صريح بتشخيصيته، كما نراه في المنمنمات، وفي حالة فن السيراميك فقد كان يُقدّم أمثلة تصويرية لا تقل أهمية البتة عن الرسم المنجز على حوامل أخرى. إن حجم المرسوم على الخزف كما تأكَّدَ لمؤلف هذه المادة، لا يقل كميًّا بل يتجاوز المرسوم على الحوامل الورقية، أعني المنمنمات، وهو خزف يأتي من جميع أقطار العالم الإسلامي من دون استثناء، حتى إن بعض القطع الخزفية لا يمكن أن تكون مُكرّسة لدور وظيفي وحيد (كالأكل) نظرًا لكثافة وأهمية التشخيصي المرسوم عليها؛ لذا فإن الخزف كان يقوم بدور الحامل support للرسم، مثلما يقوم الجدار أو ورقة المنمنمة.

إن موضوع الحامل يمكن أن يكون عنصرًا مهمًّا من عناصر القراءة السوسيولوجية للفن الإسلامي؟ فما الحامل support؟

حامل الفن -في الرسم خاصة- هو المادة أو الحاجية التي تُنفّذ عليها اللوحة. كان القماش لوقت طويل حامل فن التصوير العالميّ، ويمكن أن يكون الجدار أو الخشب وغيرهما كذلك من الحوامل. يقع الحامل عادة في مواجهة المتلقي (وجهًا لوجه) أو على ركيزة، قاعدة (socle) بالنسبة لفن النحت أو الخزف.

إذا اعتبرنا أبواب المدينة العربية القديمة حوامل (أبواب المغرب العربي واليمن وعُنيزة في المملكة العربية السعودية) وأنها ممارسات فنية خالصة –وهو الاعتبار القائم حاليًّا– فماذا تحمل؟ وكيف يتلقاها المتلقي السائر في دربه في المدينة العتيقة؟ إنها إضافة إلى قيمها الجمالية، مطبوعة بـ«قيم اجتماعية» للساكنين، وهي تعلن طبقاتهم الاجتماعية ورفعة مناصبهم وعلو شأنهم، عبر وفرة الجماليات المنقوشة عليها، وفي المملكة المغربية المرسومة عليها. لا جدال في ذلك بالنسبة للقيم الروحية لأبواب المساجد الكبيرة في العالم الإسلامي.

أما الخزف المنقوش والمُصمَّم بطريقة جمالية تجريدية أو تشخيصية، فهو من الحوامل المنسيّة – ونظن أن بعضه كان يُعرض في المنازل في خزانة زجاجية أو على الحائط لرؤيته مواجهةً، فكان يقوم بدور جماليّ صافٍ: متعة زائر المنزل، وقاطنيه في المقام الأول، وقد بقي الأمر قائمًا لوقت قريب من عصرنا الراهن. ومثل ذلك الخزف المصنوع على هيئات حيوانية، وهناك نماذج كثيرة منه، تجد منها أمثلة في المتحف البريطاني والميتروبوليتان الأميركيّ وبعض متاحف الخليج العربي.

الفن الإسلامي ونظرية المعرفة

لكن أيّ نوع من الحوامل يشكّل رسم فنان مثل يحيى الواسطي؟ تمثل المنمنمة بالطبع حاملًا ورقيًّا، وهي حامل شخصيّ طالما أن المنمنمة هي (حيازة شخصية)، وهنا تتشابه وتتقاطع مع اعتبارات الرسم في قصور الخلافة، بمعنى رسم يتعاطاه الخواص بعيدًا من أعين الجمهور، ربما تحاشيًا لنقده وملاحظاته.

لكن طبيعة الرسم التفصيلي للحياة وشؤونها ومسعى الواسطي لشيء مما نسميه اليوم بالواقعية، قدر ما أسعفته معارف اللحظة و(منظورها)، ونظرًا لحجم منمنماته (x 28 37سم) خاصةً، كل ذلك قد يُخرج منمنماته من السرّ إلى العلن، ومن الخصوصيّ إلى العموميّ، كأن هدفها إشباع الفضول ووضع الرسم تحت تصرف من يريد رؤيته. اليوم يشكّل هذا الحجم نفسه حجمًا ممكنًا للوحة حديثة تُعرض في المتاحف والرواقات الفنية.

هذا النوع من الرسم يقدم (توصيفًا اجتماعيًّا) للحياة، وبفضله نمتلك اليوم تصورات أقرب للدقة للحياة اليومية العباسية، وهناك منمنمة تقدم عملية ولادة لسيدة عباسية، وأخرى لمراسم الدفن وأخرى للباس الرأس (يشابه «الجرّاوية» البغدادية حاليًّا) وما إلى ذلك. محاولات الرسم التشخيصي مسعى للتقرُّب إلى (معرفة) ما بوسائلها التشخيصية. الأكثر من ذلك وجود نمط آخر من الرسم التشخيصيّ من طبيعة أخرى تستهدف المعرفة حصريًّا ألا وهو الرسم ذو الحمولة العلمية: رسم الحيوان في كتب الحيوان، والصيدلة في مصنفات الصيدلة، وعلم الفلك في اختصاصه. قد يفهم بعضٌ هذا الرسمَ بصفته رسمًا توضيحيًّا، ولعل في ذلك بخسًا لحقه نظرًا للتداعيات السالبة لعبارة رسم توضيحي اليوم. يصير الفن الإسلامي بالأحرى في هذا النمط من «الرسم» أداةً موضوعة في خدمة (نظرية المعرفة) التي تقوم على أساس إحصاء وتصنيف وتحليل موجودات الطبيعة. والمثال على ذلك هو (رسالة في الكواكب الثابتة). إن مؤلفها الحسين بن عبدالرحمن بن عمر بن محمد الصوفي كان بدوره رسّامًا كبيرًا في تقديرنا. فهو يعلن مثل الواسطي في نهاية المخطوط أنه هو نفسه من نفَّذ تلك الرسومَ. تكشف رسومه عن فنان يسيطر على أدواته. وفيها ثقة في تحديد الخط الخارجيّ ودقة في تمثيل الحيوانات. إن الطبيعة البلاستيكية لهذه التمثيلات البصرية المرسومة انطلاقًا من نقاط تمثل النجوم ستتبين أكثر فأكثر من دون تلك النقاط ومن دون الملحوظات المكتوبة على أطرافها.

أما كتاب الأعشاب للغافقي (ت عام 1165م)، وعنوانه «كتاب في الأدوية المفردة»، فقد جمع فيه بشكل موجز كتابات ديوسقوريدس وغالين مع مجموعة من تعليقات الصيادلة العرب، ويقال بأنه قد تجاوز «النماذج اليونانية بكثير في اتساع نطاقه ومجاله، وتضمن كثيرًا من العقاقير النباتية التي كانت غير معروفة حتى لديوسقوريدس، وجعل من الغافقي المرجع الأعظم في الصيدلة في العالم الإسلامي في العصور الوسطى. وقد وجد منه إلى الآن أربع نسخ موضحة بالصور من إجمالي تسع نسخ، وترجع أقدمها إلى نحو قرن بعد وفاته، وهي محفوظة في مكتبة أوسلر Osler فى جامعة مكجيل McGill في مونتريال بكندا، تحت رقم 7508». هناك النسخة المصوّرة التي تعود لعام 1582م المحفوظة في متحف الفن الإسلامي في القاهرة تحت رقم (3907).

أما نسخ «عجائب المخلوقات» المتعددة، فقد كانت تفتح لقارئها يوم ذاك، إضافة إلى الغرائبيّ والعجائبيّ الذي كانت تلك اللحظة الثقافية مولعة به، بابًا عريضًا لمعرفة الآخر، المختلف أحيانًا بشكل كبير. كانت تقرّب الآخر بقصد منها أم من دون قصد. من زمن الدولة العثمانية لدينا مخطوطة مرسومة مكرّسة لآلات الطب والتشريح، وهنا ثانية يقوم الرسم (وهو في هذا العمل بدائي بعض الشيء) بتوطين نظرية المعرفة عبر اختصاصه. يتعلق الأمر بمصنَّف شرف الدين صابونجي أوغلي (1385 – 1468م) هو طبيب وجرّاح عثماني. عمل في بيمارستان دار الشفاء في أماصيا، وكان كبيرًا لأطبائها لنحو أربعة عشر عامًا. وهو مرجع جراحيّ مصور يعد من أوائل الأطالس الجراحية في التاريخ، مخطوطته المرسومة ترقى للقرن الخامس عشر الميلادي.

لم يكن هدف هذه الرسوم جماليًّا من دون شك، مع جماليات الكثير منها. لقد كانت تخدم أغراض العلم الصرف. سوى أن لهذه الرسوم استخدامها الاجتماعي كذلك؛ لأن الرسم العلميّ كان يساهم في التطور العام للمجتمع عبر إشاعة وتعميم المعرفة وجعلها في متناول عامة الناس.

من الصعب هنا كما في جميع ممارسات الفن الإسلامي أن نفصل (الوظيفي) عن (الجمالي). هكذا سنرى أنه حتى في فن الخط عبر أكثر منجزاته شكلانية (إذا صح التعبير) وجمالية، كان يتوجب إشهار الحكمة، وظيفته إعلان الحكمة على الملأ، سواء كانت سورة قرآنية أو حديثًا نبويًّا أو قولًا مأثورًا. وبمعنى آخر كان يتوجب عليه، إلى جوار المؤسسات الرسمية الأخرى، أن يُسهم وأن يوثق مفهومات الدين الإسلاميّ.

جهد واعٍ لغرض إعلان التناسب المثاليّ – النسبة الفاضلة

من وجهة نظر علم الاجتماع، فإن (التداخل) الموصوف بين الوظيفيّ والجماليّ كان، في الأغلب الأعم، جهدًا واعيًا من أجل إحلال فكرة (التناسب المثاليّ) وفكرة الهارمونية في النسيج الاجتماعي.

إن أصل هذا التناسب فلسفيّ رياضيّ، واقع في فكرة العدد الذهبيّ (Nombre d’or)، وفيما بعد فيما أطلق عليه «التناسب الربّانيّ» La divine proportion الذي وقع استثماره منذ وقت مبكر في الفنون الجميلة الأوربية.

كان إخوان الصفا يتفقون مليًّا، في القرن العاشر الميلاديّ، على أهمية «الهارمونية المثالية» في الممارسات الاجتماعية وعموم الحياة. وكانوا على هدي تأثرهم بالفكر الإغريقي، يلتقون بالنسبة الفاضلة في علم الهندسة وعلم الموسيقا. يمكن للملاحظ أن يكتشف العلاقة الوثيقة بين علم الهندسة وتنفيذ الزخارف الهندسية الإسلامية. وهو الأمر الذي لم يفت على من تلاهم ممن لم يطّلعوا بالضرورة على الفلسفة والرياضيات اليونانية. كان الإخوان يلتقون بهذا التناسب كذلك في الممارسات الحرفية التي تستدعي وضع الخامات بطريقة متوازنة: في عمل النجّارين وفي صناعة حاجات الاستخدام اليوميّ وفي عملية البناء (العمارة). في رسائلهم ثمة فصل مكرّس للنسبة المثلى أو (النسب الفاضلة) على حد تعبيرهم. تتمحور فكرتهم بالأحرى حول وجود نوع من تناسـبـيـة في الكون كله وفي الفن والصناعات الحرفية بالنتيجة. كان الجسد الآدمي يؤخذ كموديل مثالي لهذه التناسبية انطلاقًا من المفهومة الإغريقية (microcosme أي العالم الطفيف على حد تعبيرهم إزاء الـ macrocosme أي العالم الكبير). إن استنتاجات الإخوان مفيدة لأنها تمسّ مباشرة حقل الفن في حضارة الإسلام. إنهم يقولون لنا التالي:

«ومن أمثال ذلك أيضًا أصباغ المصوّرين، فإنها مختلفة الألوان، متضادّة الشعاع، كالسواد والبياض والخضرة والصفرة وما شاكلها من سائر الألوان، فمتى وضعت هذه الأصباغ بعضها على بعض على النسبة، كانت تلك التصاوير براقة حسنة تلمع، ومتى كان وضعها على غير النسبة كانت مظلمة كدرة غير حسنة». تصورات إخوان الصفا بشأن الفن موضوع عالجناه موسّعًا في أكثر من مكان آخر.

(ملاحظة: فقرات قليلة من هذه المادة، موصولة ببحثنا «الفن الإسلاميّ، أصوله ورهاناته الاجتماعية» وبشكل أقلّ بحثنا عن «النقطة في الفن الإسلامي، والنقطة عند كاندنسكي»، لمن يرغب بالتوسّع في بعض التفاصيل).

المصدر: http://www.alfaisalmag.com/?p=15565

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك