الرحمة في الدين والأخلاق

 
الرحمة حاضرة في القرآن الكريم في ثلاثمائة وأربعين آية، وحاضرة في الحديث النبوي في مواضع كثيرة، وفي سيرة النبي،صلى الله عليه وسلم، ورغم هذا الحضور النصي الكثيف إلا أنها لم تحظ بالعناية المطلوبة درسا واستمدادا وتخلقا ورؤية، فمن النادر أن تجد كتابا اختص بها، فالرحمة عند المتكلمين لم تكن لها الأولوية لانصراف اهتمامهم إلى العدل الإلهي، وفي علم الأخلاق كان الاهتمام بالإحسان والمعروف، وفي السياسة كانت أخلاق الاستبداد تتسرب إلى نسيج السلطة طاردة الرحمة، التي اعتبرها الوزير العباسي “محمد بن عبد الملك الزيات “خور في الطبيعة”، وجاء المفسرون فربط بعضهم بين الرحمة والعمل الصالح، فلا يستحق الرحمة إلا من يعمل الصالحات، وجاء مفسرو الشيعة فقدموا الولاء لآل البيت باعتباره اعتقادا على العمل الصالح، أما الصوفية فسبقت المحبةُ عندهم الرحمة، فالجميع اعترف بالرحمة لكنه جعلها في موضع متأخر في منظومة القيم الإسلامية والمفاهيم القرآنية، فكانت الرحمة بمثابة الوسيلة والوسيط لمفاهيم وقيم أخرى.

وفي محاولة لإعادة موضعة الرحمة في الرؤية الإسلامية ومنظومة القيم جاء العدد (62) خريف 2018 من مجلة “التفاهم” العمانية، ليقدم ملفا يحوي أكثر من عشر دراسات ومقالات، نظرا للحاجة لتجديد الدين من خلال إعادة النظر إلى مفاهيمه وقيمه الكبرى والمركزية، والرحمة مدخل رئيس لتحقيق التماسك الاجتماعي من خلال بناء المجتمعات المتراحمة، ومدخل لصياغة علاقة المسلمين بغيرهم في هذا العالم، وطريق لبناء ثقافة التعايش، وركز العدد على ثلاث محاور رئيسية هي: الرحمة وموقعها في القرآن والإسلام، والرحمة باعتبارها شبكة علاقات بين الناس، والرحمة في الأديان.

الرحمة.. انفعال وفعل

الرحمة في الرؤية القرآنية هي: انفعال وفعل معا، فهي رقة وتعاطف وشفقة مع تعاون وإحسان وفعل للخيرات، فلابد أن تتجاوز الرحمة حيز الشعور لتتجسد في الواقع لتغييره للأفضل، لذا تحارب الرؤية الإسلامية القسوة، وتبحث عن منابعها لتجففها، وذلك من خلال إقامة علاقات تراحمية وخلق تنمية مستدامة تطرد القسوة من المجتمع.

وقد أحصى البعض للرحمة ثلاثة عشر وجها  في القرآن الكريم، فجاءت الرحمة بمعنى: المطر، والنبوة، والعافية وسعة العيش، والنصر، والعصمة، والجنة، وهي أوجه تنصرف إلى معنى النعم التي تفضل بها الخالق على الإنسان، والتي لابد أن تُقابل بالشكر، والسعي لحفظها وعدم تبديدها وهدرها أو إفسادها، كذلك لابد من تحديث الرحمة من خلال اكتشاف السبل لتتوالد، فمثلا ماء المطر الذي أشار القرآن أنه رحمة، يجب ألا يُبدد ولكن يُخزن ويستخدم في الزراعة وتوليد الكهرباء التي تساهم في تخفيف حدة العوز في المجتمع، وبالتالي تحولت رحمة المطر إلى مشاريع لرحمة المجتمع والفقراء والمساكين.

ويمكن النظر إلى نوعين من الرحمة الإلهية: الأولى: رحمة هي في أساسها هبه من الخالق سبحانه وتعالى يتحصل عليها الإنسان ابتداءا بلا أي عمل، مثل: الإيجاد، والإمداد بأسباب الحياة، أما الثانية: فهي رحمة استحقاق لا يتحصل عليها الإنسان إلى من خلال جهد، ومن سبل استنزال الرحمة الإلهية: الإيمان، والانصات للقرآن الكريم، والطاعة لله ورسوله، والاستغفار، والصبر، والدعاء، والصلاح، والإنفاق في سبيل الله.

ويمكن تقسيم الرحمات الإلهية إلى:

رحمات كونية: مثل: توفير أسباب الحياة على الأرض من إنزال الماء وتمهيد الأرض وتذليل كثير من الحيوانات.

رحمات حياتية: وهي تلك الرحمات التي يُغيث بها الله الناس والأفراد، مثل التزكية، وحفظ النفس من الأمر بالسوء، والتمكين في الأرض، وكشف الضر، وعدم تعجيل العقوبة لمستحقيها، والذرية الصالحة، وعدم تضييع أبناء الصالحين.

رحمات الهداية: وتتجلى في هداية البشر للإيمان والعمل الصالح من إرسال الرسل وإنزال الكتب.

 

رحمات تشريعية: فمقاصد التشريع الإسلامي غايتها الرحمة بالإنسان، قال تعالى:”يريد الله بكم اليسر”[1]، كما أن التكليف مرتبط بالاستطاعة، قال تعالى:”لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”[2]، وبناء على ذلك يضم القرآن أشكالا من الرحمة في تشريعاته وتكليفاته، ومنها: التخفيف، والرخصة في العبادات للمرض أو السفر أو عدم القدرة .

ولكن كيف يحول المجتمع تلك الرحمة الإلهية إلى سلوك وقيم يتعايش من خلالها الناس؟

يمكن تحقيق ذلك من خلال مسارين، أولهما: تكليف الإنسان لأخيه الإنسان يجب أن يتسم بالرحمة، وتظهر الحاجة إلى هذا المسار في العلاقات الزوجية، والعمل، إذ لابد للمؤسسات وأرباب العمل من مراعاة الرحمة في تكليفاتهم، وثانيهما: خاص بالعلماء والمفتين والمجتهدين في ضرورة البعد عن الغلو والتعسير والتشدد.

مجتمعات التراحم

سعت الرحمة في الخبرة الحضارية الإسلامية للتعبير عن نفسها في مشاريع تخفف عن الناس قسوة الحياة، وتخلق بيئة للتراحم، حتى في حال غياب قيم الشريعة عن أروقة السلطة والحكم والمجال السياسي، جرى تفعيل الرحمة في المجال الاجتماعي، وتعد قيم التراحم والتكافل من القيم المنبثقة من مفهوم الرحمة، وهي من القيم التي اهتمت بها الشريعة وجعلتها أساسا للعلاقات بين أبناء المجتمع.

وتجلى الجانب المادي للرحمة في الحضارة الإسلامية في عدد من النظم العملية، أهمها: الزكاة، والوقف، فالزكاة أول مكونات النسق التراحمي، وللفقهاء اجتهادات عظيمة في فقه الزكاة تكشف عن حقيقة الرحمة في الرؤية والتشريع الإسلامي، أما الوقف فالحكمة من تشريع سنته هو أن يسد ما تعجز الزكاة عن الوفاء به، فهو نظام يتكامل مع الزكاة، لذا وصف العلماء الوقف بأنه من “مكارم الأخلاق”، وهو نظام تراحمي يتسم بدرجة عالية من الاستقرار والاستمرار، وظل ينمو في المجتمع الإسلامي طوال تاريخه، وكانت الأراضي الزراعية على وجه الخصوص، والتي كانت تعد أهم مصادر الثروة لقرون طويلة، هي أهم ما أوقفه ذوو الرحمة، وتميزت أراضى كثير من الأوقاف بأنها كانت الأعلى خصوبة والأكثر انتاجية، وهو ما كفل قدرا من الحماية والرحمة بالفقراء والمساكين أمام تقلبات الزمن من خلال توفير مورد اقتصادي غير ناضب لرعايتهم، وظهرت فتاوى تكشف عن حقيقة الرحمة في نظام الوقف، حيث “قرر الفقهاء أنه في سنة المجاعة والمخمصة، لا يحل بأي شكل استبقاء الأرض المرصودة للوقف دون استفادة منها، وإنما يجب بيع الأرض المحبوسة على الفقراء مراعاة لأولويات الضرورة، ولأن استبقاء أنفسهم وعدم الإفراط في هلاكهم أفضل عند الله، وأقرب للطريق المثلى من بقاء الأرض بعد هلاكهم أو موتهم”[3].

ومن الوقفيات الشهرية في التاريخ الإسلامي، وقفيات السلطان العثماني محمد الفاتح، والتي بلغت (1828) وقفية، منها (1345) عقارا، و(222) وقفية نقدية لتقديم قروض تنموية لتمكين الفقراء من الالتحاق بسوق العمل والانتاج، وجاء اهتمام الفاتح بالوقف بعد سنوات من استقرار دولته وانتصاراته، حيث كان الفاتح في بداية حكمه غير مهتم بالأقاف، بل إنه أخضع أكثر من عشرين ألف قرية من قرى الأوقاف للدولة ليحصل على ضرائبها لدعم حملاته العسكرية، لكنه عاد بعد ثماني سنوات من حكمه واهتم بالأقاف وتوسع فيها لدورها التراحمي في المجتمع.

كانت فكرة التراحم تسيطر على الواقفين، ففي بعض البلدان التي كان يسود فيها المذهب المالكي، كبلاد المغرب، كان الواقفون يرغبون في أن تكون وقفياتهم على المذهب الحنفي حرصا منهم على تخفيف القيود التي يفرضها المذهب المالكي على الوقف، والتي يشترط فيها حيازة العين الموقوفة في يد الواقف، وقبول الموقوف عليهم لأن يكونوا من مستحقيه، وهما شرطان يتسمان بالصعوبة، لذا كان الواقفون تتملكهم الرحمة بالفقراء والمحتاجين فيخالفون مذهبهم حتى يستفيد الفقراء من الوقف.

وقد اشتمل الملف على دراسات أخرى، منها:”الرحمة في السيرة النبوية وتطبيقاتها الاجتماعية” و”الدين والرحمة في اليهودية والبوذية” و”الرحمة في الديانة المسيحية: أنموذج أغسطين” و”الرحمة والرضا لدى الصوفية” و”الرحمة من منظور الاقتصاد الاسلامي” ودراسة للمستشرقة الألمانية “أنجليكا نويفرت” بعنوان “مفاهيم الرحمة وأصولها القرآنية”.


[1] البقرة:185
[2] البقرة:286
[3] وردت هذه الفتوى في كتاب “النوازل الجامعة” للفقيه أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي المتوفى (914هـ)

المصدر: https://islamonline.net/29917

الأكثر مشاركة في الفيس بوك