نظريّة العوالم الثلاثة

إسماعيل بوزيد

 

يُعدّ المشكل الحاصل بين العقل والمادّة من بين الأسباب التي دفعت بوبر إلى تشييد نظريّة العوالم الثلاثة، وهذا المشكل ليس جديداً، وإنما قديم جدّاً؛ إذ يعود إلى الفلسفة اليونانية، وخاصّة إلى أفلاطون وأرسطو؛ مما يعني أنّ الغاية التي يصبو إليها بوبر من خلال تشييد نظرية العوالم الثلاثة، تتمثل في حل المشكلة القائمة بين العقل والمادّة. ومن ثمّ، فإن الإشكاليّة التي نحاول طرحها هنا، والعمل على حلها هي من قبيل: هل استطاعت نظريّة العوالم الثلاثة التي شيّدها بوبر حل المشكلة القائمة بين العقل والمادّة أم أنها لا زالت صامدة إلى حين ظهور حلول أخرى أكثر جدّة ونجاعة؟

قاد إصرار بوبر على الجانب الموضوعي للمعرفة في منتصف الستينيات إلى وضع نظريّة جديدة حول العوالم الثلاثة، وعن طريق هذه النظريّة يمكن للعقل الإنساني رؤية الجسم المادّي بالمعنى الحرفي للرؤية، حيث تشارك العيون في هذه العمليّة، كما يمكنه أيضا رؤية أو فهم موضوعاً رياضياً أو هندسياً؛ أي رقم أو شكل هندسي. ومن خلال هذه النظريّة، تمكن بوبر من التمييز بين ثلاثة عوالم. وعموماً يمكن صياغة هذا التمييز على الشكل التالي: أولا عالم الموضوعات الماديّة أو الحالات الماديّة، وثانياً عالم حالات الوعي أو الحالات العقليّة، أو عالم الاستعدادات السلوكيّة للفعل، وثالثاً عالم المحتوى الموضوعي للفكر؛ أي عالم الفكر العلمي والفكر الشعري والأعمال الفنيّة[1].

يُفضل بوبر أن يسمي هذه العوالم الثلاثة بـ العالم 1، العالم 2، والعالم 3، وقد كان فريغو أحيانا يسمي العالم 3 بالعالم الثالث. ولعل السبب الذي جعل بوبر يختار مصطلح عالم 1، عالم 2، وعالم 3، يتمثل في كون هذه العوالم محايدة. لقد كان بوبر يطلق على العالم 3 لفظ العالم الثالث، إلا أنه غير رأيه فيما بعد، بفضل نصيحة أحد زملائه. وهذا ما يؤكده بنفسه إذ يقول: "لقد سمّيت العالم الثالث بالعالم رقم 3 نتيجة لنصيحة قدّمها لي جون إكسلز، وكنت قبلها أطلق عليه العالم الثالث"[2].

يَعتبر بوبر بأن مصطلحات العالم 1، العالم 2، والعالم 3، قد اختيرت بصفة إراديّة عديمة الطعم واعتباطية. لكن هناك سبب تاريخي لترقيمها 1، 2، 3، لأنه يبدو أن العالم الفيزيقي (العالم 1) قد وجد قبل عالم الإحساسات الحيويّة (العالم 2). ويفترض بوبر أن العالم 3 يبدأ فقط مع تطور اللغة الإنسانيّة التي يختص بها الإنسان وحده، فنحن نأخذ المعرفة الإنسانيّة المصاغة بواسطة اللغة كما لو كانت الخاصيّة أو الميزة الأكثر خصوصيّة وتميزاً للعالم 3[3]. فهذا الأخير، يضم كائنات نموذجيّة من قبيل الكتب، المجلات، وخاصّة إذا تطورت وناقشت نظريّة معيّنة. وبطبيعة الحال، فإنّ الشكل المادّي للكتاب ليس له أهميّة، وحتى الوجود المادّي للكتاب لا ينقص من وجود العالم 3.

تمكن بوبر من تشييد نظريته في العوالم الثلاثة، مُسوّغا لنفسه من خلال معيار تمييزه بين العلم والعلم الزائف

يُقرّ بوبر بأن ترتيب هذه العوالم: العالم 1، العالم 2، العالم 3، كما تشير هذه الأرقام يُناظر عمرها. فتبعاً للوضع الحالي لمعرفتنا الحسيّة، فإن الجزء غير الحي من العالم 1 هو الأكثر قِدَماً، يليه الجزء الحي من العالم 1، ومعه في نفس الوقت أو بعده بفترة يأتي العالم 2؛ أي عالم الخبرات. وبعد ذلك، ومع قدوم البشر يأتي العالم 3، عالم المنتجات الذهنية؛ أي العالم الذي يسميه الأنثروبولوجيون الثقافة[4].

يَنقسم العالم 1؛ أي العالم المادي إلى أجسام حيّة وأجسام غير حيّة، والذي يحمل أيضا حالات وأحداث مثل: الإجهاد، الحركات، القوى، ومجالات القوى. ولدينا العالم 2، عالم الخبرات الواعيّة وأيضاً اللاواعيّة. أما العالم 3، فيضم المنتجات الموضوعيّة للذهن البشري؛ أي منتجات الجزء البشري من العالم 2[5]. وبعبارة أدق، يتكون العالم 1[6] من الموضوعات التي نختبرها، مثل الطاولات، الأشجار، الحيوانات، الكواكب، وغيرهم من الموضوعات الأخرى. وفي المقابل يضم العالم 2 جميع خبراتنا النفسية، من أهمها نجد: حالات العقل، المشاعر، الرغبات، الذكريات، والعواطف. وباقي الموضوعات لا تنتمي إلى هذين العالمين، على سبيل المثال، الكلمات، الكتب، السمفونيات، القوانين، الأرقام، المثلثات، إلى جانب المشاكل والنظريات والحجج، وإنما تنتمي إلى العالم 3.

يُعدّ العالم 1 الأسهل من حيث التصنيف، لأنه يضم الموضوعات الملموسة والماديّة، من قبيل حقول القوة القابلة للرصد، فهذه الحقول قابلة للقياس الفيزيائي. ويؤكد بوبر أن العالم المادي أو العالم 1، يشكل النموذج المعياري للواقع أو الوجود[7]. حسب بوبر، فإن موضوعات العالم 1 موضوعيّة، لأن سكانها من الممكن أن يكونوا من ذوي الخبرة، كما أنها مستقلة، لأن وجودها لا يعتمد علينا. أما مكونات العالم 2 ذاتيّة، لأنه لا يمكن لنا تجربة الحالات العقليّة لشخص معين، كما أنها ليست مستقلة، لأن وجود حالات عقليّة يعتمد أساسا على وجود العقل الذي يختبرها. في حين أن موضوعات العالم 3 غير ماديّة، بالرغم من أنها في بعض الأحيان تكون موجودة في صورة ماديّة كما هو الحال مع الكتب والموسيقى، وعلى عكس سكان العالم 2 غير الموضوعيين، فإن مكونات العالم 3 موضوعيّة.

إذا كان شخص ما يُفكر في وضع هذه العوالم الثلاثة، فإن بوبر يُفكر في أسئلة، من قبيل ما إذا كانت هذه العوالم موجودة بالفعل أم لا، وما إذا كان العالم 3 أصغر أو أقل من العالم 2، وربما العالم 2 أصغر أو أقل من العالم 1[8]. من هنا، يتضح أن مسألة تمييز هذه العوالم الثلاثة عن بعضها البعض تحظى بأهميّة كبيرة. وسنحاول وضع تمييز واضح بين هذه العوالم الثلاثة على النحو التالي:

ــ العالم 1 أو عالم الموضوعات الماديّة: الطاولات، الكراسي، الحيوانات، الكواكب، والأشجار. ويشكل العالم 1 هنا موضوع المعرفة.

ــ العالم 2 أو عالم الخبرات الواعيّة والباطنيّة: الحالات العقليّة، المشاعر، والذكريات. ويُمثل العالم 2 هنا المقاربة الذاتيّة لفهم موضوعات العالم.

ــ العالم 3 أو عالم المحتويات الموضوعيّة للفكر: الكتب، النظريات، والأعمال الفنيّة. ويمثل العالم 3 هنا المقاربة الموضوعيّة لفهم موضوعات العالم.

من خلال هذا التمييز، نلاحظ أن بوبر يضع العالم الذاتي؛ أي عالم الوعي الإنساني بين عالم الأشياء الماديّة وعالم المحتويات الموضوعيّة للفكر، بمعنى بين العالم 1 والعالم 3 يقع العالم 2، الذي يَضم حالات الوعي واللاوعي أو الحالات الذهنيّة. وحسب بوبر، فإن هذه الطريقة تحظى بأهمية كبيرة، لأنها تصف وتبين العلاقة بين العوالم الثلاثة، حيث يقع العالم 2 بين العالم 1 والعالم 3[9]، مما يعني أن العالم 2 يقوم بدور الوساطة[10] بين العالم 1 والعالم 3، ومن خلاله يتفاعل العالم 1 مع العالم 3.

ظهر العالم 3 من خلال إبداع الإنسان، لأن العالم 3 يَشمل كل إبداعات الإنسان بمختلف أنواعها. وفي هذا الصدد يقول بوبر: "فمع ظهور الإنسان تجلت في اعتقادي إبداعيّة العالم، لأن الإنسان أبدع عالماً موضوعياً جديداً، ذلك هو عالم منتجات العقل البشري"[11]. ولعل وجود الأعمال الفنيّة (مثل الشعر والرسم والموسيقى)، والأعمال العلميّة العظيمة والمبدعة (مثل النظريات العلمية) في العالم 3 دليل على إبداعيّة الإنسان الخلاقة، ومعها إبداعيّة العالم الذي خلق الإنسان.

اتخذ بوبر من الفلسفة التعدديّة[12] التي يُرجعها إلى أفلاطون، نقطة الانطلاق في تفكيره في العوالم الثلاثة، بالرغم من أنه ليس أفلاطونياً ولا هغيلياً، وفي هذه الفلسفة التعدديّة يتكون العالم من ثلاثة عوالم فرعيّة متميزة فيما بينها[13]. ولكن المشكل المطروح في هذه الفلسفة التعدديّة، يتمثل في العلاقة بين هذه العوالم الثلاثة، وبالتالي يمكن لنا طرح التساؤل التالي: ما هي العلاقات الممكنة بين هذه العوالم الثلاثة؟

يَعتبر بوبر بأن العلاقة الكامنة بين العوالم الثلاثة هي التي تسمح للعالم 1 والعالم 2 بالتفاعل فيما بينهما، وكذلك تسمح للعالم 2 بالتفاعل مع العالم 3. وهكذا يتضح أن العالم 2 يتفاعل مع كل من العالمين الآخرين، مما يعني أن العالم 1 يتفاعل مع العالم 2 بكيفية مباشرة، كما أن العالم 2 يتفاعل مع العالم 3 بطريقة مباشرة. على سبيل المثال، حينما نشعر بالألم نبتعد عن السبب الذي كان وراء الألم، وحركتنا الماديّة هذه ناتجة عن التفاعل بين العالم 1 والعالم 3، وعندما نقرأ نصّاً ونقبل أو نرفض ما يقوله، تنتج عملياتنا هذه عن التفاعل الحاصل بين العالم 2 والعالم 3[14].

ولكن لا يمكن للعالم 1 والعالم 3 التفاعل بشكل مباشر إلا من خلال العالم 2؛ أي لا يستطيع العالم 1 التفاعل مع العالم 3 من دون وجود وساطة التي تتمثل في العالم 2، عالم الخبرات الذاتيّة أو الشخصيّة[15]. على سبيل المثال، حينما نقرأ كتاباً، وخاصة كتاب الطهي، ونتابع محتواه حتى النهاية، ومن ثم نَخبز كعكة، فإنّ تصرفاتنا هذه هي نتاج لتفاعل كل من العالم 1، العالم 2، العالم 3. ومن خلال هذه الكيفيّة يتمكن العالم 1 من التفاعل مع العالم 3 بشكل غير مباشر من خلال العقل الإنساني، الذي يمثله العالم 2، لأنه أثناء خبز الكعكة يمكن للعقل (العالم 2) أن يستأنف نظريّة (العالم 3) من أجل تعديل بعض المواد (العالم 1). ولكن العالم 1 والعالم 2 يمكن أن يمارسا سيطرة حاسمة على موضوعات العالم 3، لأننا بعد تذوق الكعكة، يمكننا أن نُقرر ما إذا كان علينا تعديل الوصفة، وبأية طريقة سنعدلها.

يُؤسس العقل علاقة غير مباشرة بين العالم 1 والعالم 3، وهذه العلاقة في غاية الأهميّة، إذ بدونها لا يمكن أن يكون هناك أي اتصال بين هذين العالمين[16]. ولا يمكن أن ننكر أن العالم 3 من النظريات الرياضيّة والعلميّة له تأثيراً كبيراً على العالم 1، وهذا التأثير يتم على سبيل المثال، من خلال تدخل التقنيين الذين يقومون بتغييرات في العالم 1 عن طريق تطبيق نتائج مُعيّنة من هذه النظريات؛ أي نظريات العالم 3.

يُمكن لنا أن نحقق أشياء عظيمة في جل المجالات، إذا ما استطعنا التعامل مع العقل بوصفه عضوا، يتم استخدامه من أجل فهم وإدراك موضوعات العالم 3، وخلق نوع من التفاعل بين العالم 1 والعالم 3. وهذا ما يقرّه بوبر إذ يقول: "إن فرضيّتي هي أنه في يوم ما سنحدث ثورة في علم النفس، من خلال التعامل مع العقل الإنساني، باعتباره عضوا، يتم استعماله للتفاعل مع موضوعات العالم 3 من أجل فهمها والمساهمة في تطويرها وتحريكها، وكذلك من أجل خلق تفاعل مع العالم 1"[17]. وما يمكن أن نستشفه من هذا المنطوق أن العقل؛ أي العالم 2، وظيفته الأساسيّة تتمثل في فهم وتطوير موضوعات العالم 3، والعمل على إحداث تفاعل بين العالم 1 والعالم 3.

يرى بوبر بأنه ليس فقط كلا من العالم 1 المادي والعالم 2 السيكولوجي واقعيان[18]، حيث يحتويان على كل المنتجات الماديّة للذهن البشري، من قبيل العربات، فرشاة الأسنان، والتماثيل، وإنما حتى المنتجات الذهنيّة التي لا تنتمي إلى العالم 1 أو العالم 2، هي الأخرى واقعيّة. مما يعني هذا أنّ بوبر يرى أن العالم 3 يَضم سُكاناُ غير ماديين ومهمين جدّاً، مثل المشاكل والنظريات[19].

يُقرّ بوبر بأنّ سكان العالم 3 ليسوا موجودين فحسب، وإنما يتفاعلون بشكل متبادل، حيث يمكن أن نبدع موضوعاً في العالم 3، حينما نأخذ موضوعاً في العالم 2 ونوضحه ببعض الوسائل والآليات، من بينها: اللغة، الفيلم، والقطعة الموسيقيّة التي يمكن للآخرين فهمها[20]. ومن خلال هذه الطريقة يمكن تناول الموضوعات الفكريّة كما لو كانت شيئا، حيث يمكن وضع تلك الموضوعات أمامنا ودراستها وتغييرها وتفكيكها، ورؤية مكوناتها، وفي بعض الأحيان نصحح تلك الموضوعات؛ لأنّ موضوعات العالم 3 من الممكن أن تكون خاطئة، ولذلك يجب تصحيحها حتى يتمكنوا المشتغلون بهذه الموضوعات من العمل بشكل صحيح. وبالتالي، فإنّ تدخلنا في العالم 3 لا يتوقف فقط عند حدود المساهمة، وإنما يتجاوزها إلى تصويب الأخطاء الموجودة، وكذلك العمل على تحسين مساهماتنا المقدّمة.

يُمثل العالم 3 في نظر بوبر نتاج العقل الإنساني، لأننا نحن من أبدع موضوعات العالم 3، وهذه الموضوعات لديها قوانينها التي تحدث عواقب غير مقصودة وغير متوقعة، فهي مجرد مثال لقاعدة أكثر عمومية، وتلك القاعدة مضمونها أن كل أعمالنا لها مثل هذه النتائج[21]. وهكذا ينظر بوبر إلى العالم 3 على أنّه نتاج للنشاط الإنساني، وبعبارة أدق، إن كل موضوعات العالم 3 من مشاكل ونظريات وحجج نقديّة هي نتاج لتطور اللغة الإنسانيّة، وهذا التطور تكون له انعكاسات كبيرة علينا، انعكاسات أكبر من تلك الانعكاسات الكامنة في بيئتنا.

إنّ بوبر تمكن من اكتشاف وصياغة نظريّة العوالم الثلاثة التي تستند أساساً إلى موقف تعددي جديد، موقف رافض للواحديّة والثنائيّة

يُؤكد بوبر بأنّ العالم 3 حقيقي وواقعي، حيث يقول في هذا الصدد: "إنّ أشياء العالم 3 أشياء واقعية، ليس فقط في تجسداتها الماديّة الخاصّة بالعالم 1، بل أيضا في جوانبها الخاصّة بالعالم 3. فهي بوصفها أشياء العالم 3 قد تدفع الناس إلى أن ينتجوا موضوعات أخرى للعالم 3، ويمارسوا بذلك تأثيراً على العالم 1، والتفاعل مع العالم 1، حتى التفاعل غير المباشر، أعتبره حجة حاسمة لتسمية الشيء واقعيا"[22].

وقد يعترض شخص ما على هذا التحليل الذي قدمه بوبر، بالقول إن كل ما هو متضمن هنا أي في العالم 3 هو موضوعات العالم 1، بمعنى أن موضوعات العالم 3 ما هي إلى تجسّدات العالم 1[23]. لكن بوبر يردّ على هذا الاعتراض بالقول: "إن الكتب تنتمي إلى العالم 1، إلا أن مُحتواها ينتمي بالطبع إلى العالم 3، بمعنى أنه إذا صدرت طبعتان مختلفتان لكتاب أوقليدس العناصر، فإنهما معاً ينتميان للعالم 1 للمدى الذي هما طبعتان مختلفان، إلا أنهما ينتميان إلى للعالم 3 للمدى الذي لهما نفس المحتوى"[24].

ومن الواضح أن ما يُسميه بوبر بالعالم 3 له علاقة كبيرة مع كل من النظريّة الأفلاطونيّة للصور والأفكار[25]، والنظريّة الهيغليّة للروح الموضوعيّة، ولكن نظريّة بوبر تختلف اختلافاً جِذريّاً في بعض النقاط الأساسيّة، عن تلك النقاط الموجودة لدى أفلاطون وهيغيل. كما أن هناك علاقة قويّة بين نظريّة بوبر، ونظريّة عالم القضايا في ذاتها والحقائق في ذاتها التي صاغها بولزانو، وبالرغم من ذلك، فإن نظريّة بوبر تختلف عن نظريّة بولزانو في بعض النقاط الأساسية. وتبقى نظريّة فريغو هي النموذج الأقرب إلى نظريّة بوبر. وهذا ما يؤكده بوبر إذ يقول: "إنّ محتوى الفكر الموضوعي للعالم الذي صاغه فريغو شبيه بعالمي 3"[26].

حسب بوبر يمكن النظر إلى موضوعات العالم 3 كلها على أنها خالدة، كما اعتبر أفلاطون بأن عالمه من الصّور والأفكار خالد. ولتحقيق هذا المغزى، نحتاج فقط لأن نفترض أننا لم نخترع نظريّة أبداً، ولكننا نكتشفها دائما. وعلى هذا الأساس، سيكون لدينا العالم 3 خالداً، وموجوداً قبل أن تظهر الحياة، وبعد كل شيء ستختفي الحياة؛ أي عالم يكتشفه الإنسان هنا أو هناك من خلال اكتشافه لبعض القطع الصغيرة.

وبالرغم من أن بوبر أقرّ بموضوعيّة العالم 3 واستقلاليّة العالم 3، إلا أنه لا ينكر أن أصل هذه النظريات ذات طبيعة ذاتيّة[27]. فضلا عن أن جل منتوجات العقل الإنساني التي يضعها بوبر في العالم 3 ظلت محتفظة بذاتها؛ أي ظلت محتفظة بنسبتها إلى العالم 2. على سبيل المثال، لا تذكر نظريّة النسبيّة إلى مع أينشتاين، ولا يذكر قانون الجاذبيّة إلا مع نيوتن، ولا يذكر ثابت H إلا مع ماكس بلانك، ثم لا يذكر بوبر الرسالة المنطقيّة والفلسفيّة إلا ويشير إلى فيجنشتاين، كما لا يذكر البرج العالي الموجود في باريس إلا ويذكر المهندس الفرنسي إيفل الذي أنشأه، وكذلك لا يذكر بوبر الفيزياء الكهرومغناطيسيّة إلا ويذكر بجانبها ماكسويل. مما يعني هذا أن موضوعات العالم 3 لا تستمد هويّتها إلا من ذاتيات العالم 2.

يجب الإشارة هنا إلى فكرة أساسيّة، مفادها أنّ ماكس بلانك قد سبق بوبر في القول بنظريّة العوالم الثلاثة مع وجود بعض الاختلافات، فحسب نظريّة بلانك هناك أولا العالم الخارجي الواقعي والموضوعي، بمصطلحات بوبر العالم 1. وهناك ثانياً عالم إحساساتنا وإدراكاتنا التجريبيّة التي نستدل بها على العالم الخارجي، يُشابه إلى حد ما العالم 2، لكن مع وجود اختلاف. وهناك ثالثاً عالم الفيزياء؛ أي الصورة التي تقدمها لنا الفيزياء عن العالم، بمعنى العالم الذي شيّده العقل الإنساني، وهذا العالم قريب بعض الشيء من العالم 3 الذي أسسه بوبر[28].

وعلى الرغم من كل الاعتراضات التي وجهت صوب نظريّة العوالم الثلاثة، وخاصّة العالم 3[29]، فقد تمكن بوبر من تشييد نظريته في العوالم الثلاثة، مُسوّغا لنفسه من خلال معيار تمييزه بين العلم والعلم الزائف، تناول هذا الموضوع مُعتبراً إياه تأملا ميتافيزيقياً غير قابل للتكذيب أو الدحض، مسلماً بذلك بالطابع الميتافيزيقي للعوالم الثلاثة. وفي هذا الصدد يقول: "هذه العوالم الثلاثة لا تنتمي إلى العلم، بمعنى العلم الطبيعي، إنها تنتمي إلى ميدان يحتاج إلى إعطائه اسماً مختلفاً لنقل الميتافيزيقا"[30]. ولم يعتبر بوبر نفسه أنه يتحدث علميّاً، فهو بالفعل عرف أن أطروحته التي شيّدها في جل كتبه مركبة، لأنها تظهر في غير ما من مرة كأطروحة ميتافيزيقيّة غير قابلة للتكذيب، وليس كأطروحة علميّة محضة. ومع ذلك، فهي مهمّة جدّاً للعلم، لأنها توضح أن النظريّة ليست موضوعاً سيكولوجياً محضاً، ولكنها موضوعاً عليماً قابلا للنقاش من حيث كونها تنتمي للعالم 3.

حاصل القول، إنّ بوبر تمكن من اكتشاف وصياغة نظريّة العوالم الثلاثة التي تستند أساساً إلى موقف تعددي جديد، موقف رافض للواحديّة والثنائيّة. ولذلك، يُرجع بوبر أصول هذه النظريّة إلى كافة الفلاسفة التعدديين، من قبيل أفلاطون وهيجل ولايبنتز، فكل هؤلاء الفلاسفة يقولون بوجود عالم غير عالمي المادّة والعقل، مثل العالم 3 الذي شيّده بوبر. ومن خلال هذه النظريّة تمكن بوبر من حل مشكلة العقل والمادّة، حيث أتى بمكون ثالث يربط بينهما سماه العالم 3، ومن ثمّ تحل تلك المشكلة القديمة القائمة بين العقل والمادّة. وهنا تكمن فرادة وجدة بوبر، كونه تمكن من حل تلك المشكلة التي استعصت على العديد من الفلاسفة ابتداء بأفلاطون وصولا إلى هيغل، وبالتالي لم تعد هناك مشكلة بين العقل والمادّة.

[1] Karl Popper, La connaissance Objective, Une Approche Évolutionniste, Jean-Jacques Rosat, Flammarion, France, 1991, p. 181

[2] كارل بوبر، الحياة بأسرها حلول لمشاكل، بهاء درويش، مكتبة المعارف الإسكندرية، بدون سنة نشر، ص. 82

[3] لخضر مذبوح، فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بيروت، الطبعة الأولى، 2009، ص. 181

[4] كارل بوبر، بحثا عن عالم أفضل، أحمد مستجير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، ص. 21

[5] المرجع نفسه، ص. 19

[6] يجب الإشارة هنا إلى أنّ بوبر لم يستخدم كلمة عالم لتعني العالم أو الكون بشموليته، وإنما استخدم كلمة عالم بمعنى أجزاء من هذا العالم.

[7] Sylvain Barrette, Essai Philosophique sur Le plaidoyer de Karl Popper sur L’indéterminisme et sa Thèse sur La falsification, Université du Québec, Mémoire Présenté à l’Université du Québec à Trois-Rivières, Comme Exigence Partielle de La maitrise En Philosophie, Avril, 2003, p. 76

[8] Karl Popper, Unended Quest: An Intellectual Autobiography, Routledge, Taylor and Francis e-Library, New York, 2005, p. 211

[9] Karl Popper, La connaissance Objective, Une Approche Évolutionniste, op, cit, pp. 247-248

[10] يعتبر بوبر بأن الوساطة التي يقوم بها العقل بين سكان العالم 1 وسكان العالم 3 تؤثّر فينا، وتشكّل حياتنا الواعيّة واللاواعيّة.

[11] كارل بوبر، النفس ودماغها، عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2012، ص. 38

[12] هناك بعض الفلاسفة قدموا تعدديّة حقيقيّة، حيث قالوا بوجود عالم 3 إلى جانب العقل والمادة؛ أي الأشياء الماديّة والعمليّات العقليّة، بما فيها الواعيّة واللاواعيّة. ومن بين هؤلاء الفلاسفة نجد أفلاطون والرواقيين، وبعض الفلاسفة المعاصرين، مثل لايبنتيز ويولزانو وفريغو، ولكن هيغل لا يمكن إدخاله ضمن هذه المجموعة؛ لأنه جسّد اتجاهات واحديّة قويّة، على الرغم من كثرة حديثه في غير ما من مرة عن عقل موضوعي وروح.

[13] Karl Popper, La connaissance objective, Une Approche Évolutionniste, op. cit, pp. 246-247

[14] Stefano Gattei, Karl Popper’s Philosophy of Science: Rationality Without Foundations, Routledge, Taylor and Francis Group, New York London, 2009, p. 58

[15] Renée Bouveresse, Le rationalisme Critique de Karl Popper, Deuxième édition, Librairie Philosophie J. VRIN, Paris, 1981, p. 113

[16] Karl Popper, La connaissance Objective, Une Approche Évolutionniste, op, cit, p. 248

[17] Ibid. p. 249

[18] حسب بوبر هناك بعض الفلاسفة، وخاصة من يطلق عليهم اسم الماديون، يعتبرون أن العالم 1 وحده فقط واقعي، ثمّ هناك بعض الفلاسفة يعتبرون أن العالم 2 وحده فقط واقعي، وهؤلاء الفلاسفة هم من يطلق عليهم اسم اللاماديون، بل الأكثر من ذلك هناك بعض الفيزيائيين الذين كانوا ولا يزالون من معارضي المادية. ويعدّ إرنست ماخ من أشهر هؤلاء الفلاسفة الفيزيائيين، حيث كان يعتبر أن انطباعاتنا هي وحدها الواقعيّة، وكان هذا الفيزيائي ذو نظر عميق إلا أن طريقته في حلّ الصعوبات الكامنة في نظريّة المادة، كانت تعتمد أساسا على افتراض عدم وجود المادة، كما أنه ظلّ مصرّا على عدم وجود ذرّات وجزئيات، وأن هذه التراكيب العقليّة ليست ضروريّة، بل قد تكون مُغلطة.

[19] كارل بوبر، بحثا عن عالم أفضل، سبق ذكره، ص ص. 20-21

[20] Stefano Gattei, Karl Popper’s Philosophy of science: Rationality Without Foundations, op. cit, p, 57

[21] Karl Popper, Unended Quest: An Intellectual Autobiography, op. cit, p. 217

[22] كارل بوبر، النفس ودماغها، سبق ذكره، ص. 75

[23] إنّ تجسدات العالم 3، قادت جون إكسلز إلى الخلط بين العالم 3 والعالم 1، الشيء الذي جعل بوبر يطلق على الشّق المتجسّد المخزون من العالم 3 العالم 1، ليتضمن بذلك المكتبات، الكتب، وناطحات السحاب، وغيرها من الموضوعات الأخرى. مما يعني هذا أنّ هناك علاقة تضمّن بين العالم 1 والعالم 3، ولكن بالرغم من ذلك، فإن العالمين متمايزان عن بعضهما البعض. على سبيل المثال، إنّ الكتاب ينتمي للعالم 1، ولكن مضمون هذا الكتاب من حيث كونه يتضمن نظريات معينة، ينتمي إلى العالم 3

[24] كارل بوبر، الحياة بأسرها حلول لمشاكل، سبق ذكره، ص. 111

[25] غالبا ما تتمّ مقارنة العالم 3 لبوبر مع عالم الصّور والأفكار الأفلاطوني، لكن هناك اختلافات مهمة جدا بين هذين العالمين، وإدراكنا لهذه الاختلافات سيجعلنا أكثر وعيا بالعالم 3 كما طوره بوبر. ومن أهمّ هذه الاختلافات نذكر: إن العالم الأفلاطوني المثالي هو متعالي، وغير قابل للتصرف، وكذلك إلهي. في حين أن العالم 3 البوبري يتم تشييده من قبل الإنسان، ولهذا فهو عالم إنساني، يضمّ النظريات، وأفكار جديدة يتم بلورتها وصياغتها، ويمكن أن يحتوي على أفكار ونظريات خاطئة على نحو مشابه.

[26] Karl Popper, La connaissance Objective, Une Approche Évolutionniste, op, cit, p. 181

[27] Allen Leblanc, La genèse, Les fondements et Les enjeux du Rationalisme Critique de Karl Popper, Mémoire Présenté à La faculté de Théologie, D’éthique et de Philosophie, Université de Sherbrooke, National Library of canada, Août 1997, p. 68

[28] كريم موسى، فلسفة العلم: من العقلانية إلى العقلانية، سبق ذكره، ص. 191

[29] إضافة إلى الماديين واللاماديين هناك أيضا من يطلق عليهم اسم الثنائيين، الذين يقرون بأن العالم 1 والعالم 2 مرئيان واقعيان، ولكنهم يحتاطون من العالم 3 على الأقل بالمعنى الذي قصده بوبر.

[30] لخضر مذبوح، فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر، سبق ذكره، ص. 182

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB%D8%A9-6249

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك