تاريخ الاستعمار الغربي و “تقنين ” الشريعة

 
حتى القرن الثامن عشر كانت الغلبة القانونية للشريعة في العالم الإسلامي شرقه وغربه، فما عرف المسلمون طيلة قرون سوى الشريعة نظاما قانونيا يتحاكمون إليه في فض نزاعاتهم وتسيير شئونهم العامة والخاصة، وفي العصر الحديث طرأ متغير جديد كان له أبعد الأثر على وضعية الشريعة ألا وهو الاستعمار الغربي الذي استولى على الهند وإندونيسيا وعدن، وقد لعبت الإدارات الاستعمارية الدور الأكبر في عملية تنحية الشريعة واستبدالها بالقوانين الغربية، وتم ذلك عبر عملية متدرجة استخدمت فيها وسائل مختلفة يمكن التطرق إليها من خلال دراسة نماذج للسياسات القانونية التي اتبعتها الدول الاستعمارية، وسنتوقف هنا النموذج البريطاني في الهند الذي أطاح بمنظومة الشريعة الإسلامية القانونية واستبدلها بما سمي “القانون الأنجلو محمدي” وهو قانون متأثر إلى حد بعيد بالقانون البريطاني.

السياسة القانونية البريطانية في الهند

بدأ الاحتلال البريطاني للهند منذ القرن السابع عشر ولكنه كان بعيدا عن الصفة العسكرية المباشرة، حيث أفلحت شركة الهند الشرقية البريطانية في بسط نفوذها الاقتصادي وأتبعته بتوطيد نفوذها السياسي والعسكري شبه الكامل على البلاد عام 1757، وما أن استتب الوضع بالنسبة لها حتى شرعت في إدخال تعديلات جوهرية على النظام القانوني، فالطموحات الاقتصادية للشركة كانت مرتبطة بإيجاد منظومة قانونية مصممة وموجهة تسمح بخلق سوق اقتصادية مفتوحة والهيمنة عليها، وكذلك كانت الرغبة البريطانية في تقليص التكلفة الاقتصادية اللازمة للسيطرة على البلاد دافعا لها على مضاعفة دور القانون الذي هو أقل كلفة من القوة المسلحة، ويبدو خيارا أكثر تحضرا.

بدأت بريطانيا مرحلة إعادة تشكيل الهند قانونيا منذ عام 1772 حين عين WarrenHastings وارين هاستينغز كأول حاكم عام بريطاني على الهند، وكان ذلك إيذانا بتطبيق ما سمي ب “خطة هاستينغز” التي تألفت من بضع عناصر أهمها؛ تعيين إداريين بريطانيين على رأس الهيئات القضائية، وتنصيب قضاة بريطانيين كمساعدين لهم وكانت مهمتهم استشارة المفتين ورجال الشريعة في القضايا المختلفة، وتعيين جباة الضرائب في منصب قاضي القضاة، وأما قضاة الشرع الذين كانوا يديرون العملية القضائية في المحاكم فكانوا في المرتبة الأخيرة من الترتيب الهرمي الذي وضعه البريطانيون.

ورغم هذه الاجراءات واجهت بريطانيا صعوبات قانونية من نوع آخر كان أبرزها عجزها عن التعامل مع الآراء الفقهية العديدة في المسألة الواحدة، ولذا كان عليها الاستعانة بالأكاديميين الغربيين المختصين بالشريعة لتذليل هذه الصعوبات، وقد لعب المستشرق السير وليم جونز  William Jonesالذي أسس الجمعية الأسيوية وترأسها دورا رئيسا في هذا المجال حيث اقترح على هاستينغز صياغة مدونة قانونية مستمدة من الفقه الإسلامي، وكان المبرر الذي سيق لتبرير هذا العمل هو أن أحكام الشريعة غير مرتبة ضمن أبواب وفصول محددة، وأنها اعتباطية يتعذر تبريرها منطقيا.

ومن أجل تنفيذ هذا الاقتراح لجأت الإدارة البريطانية إلى اتباع سياسة مزدوجة ذات شقين، الأول التعرف على الفقه الإسلامي وترجمة بضع نصوص منه بغرض توظيفها في مشروع تدوين وتقنين الفقه الإسلامي، والثاني الإقصاء التدريجي لأحكام الشريعة الإسلامية وإحلال القانون الانجليزي محلها.

التقنين البريطاني للفقه الإسلامي وتداعياته

وفيما يخص الشق الأول من الواضح أن صعوبات اكتنفت تعامل بريطانيا المباشر مع الفقه الإسلامي بعضها راجع إلى صعوبة مصطلحاته وطابعها الإسلامي الخاص، والبعض الآخر إلى بنيته المركبة التي تجعل منه مدونة قانونية مفتوحة متعددة الآراء، لذا كانت هناك حاجة ماسة إلى ترجمة بعض النصوص الفهية من المذهب الحنفي السائد في الهند، وقد طلب هاستينغز أولا من قاضي القضاة السيد غلام يحيى خان بخاري ترجمة (كتاب الهداية) إلى اللغة الفارسية، تمهيدا لنقله إلى اللغة الإنجليزية، وقام هاملتون بترجمة أجزاء من النص الفارسي إلى اللغة الانجليزية، وفي أوائل القرن التاسع عشر بدأت عملية الترجمة المباشرة إلى الإنجليزية على يد المستشرق وليم جونز الذي ترجم (الفتاوى السراجية)، ثم توالت حركة الترجمة وترجم بابي البيوع والأرض والخراج من (الفتاوى العالمكيرية)، وكتاب (شرائع الإسلام) للحلي من الفقه الشيعي.

وكان الغرض المباشر لهذه الترجمات هو إتاحة نصوص من الشريعة الإسلامية أمام تصرف القضاة البريطانيين الذين كان يخالجهم الشك في نوايا علماء الشريعة الذين يوجهونهم في المسائل الشرعية، من جانب آخر اعتقد البريطانيون أن التعامل المباشر مع النصوص الفقهية سوف يقلص من التعددية الفقهية التي كانت مصدر إرباك شديد بالنسبة لهم.

كانت النصوص المترجمة موجزة بدرجة كافية لأن تكون الأساس الذي اعتمد في تدوين وتقنين الشريعة الإسلامية للمرة الأولى في تاريخها، وخلال عملية التقنين هذه تم اقتطاع حفنة نصوص فقهية وعزلها عن بقية المدونة الفقهية وعن سياقها التأويلي (اللغوي والفقهي) الذي تكرس عبر قرون من عمل الفقهاء، وهو الأمر الذي بات يعني توقفها عن العمل بالطريقة التي كانت تعمل بها حتى ذلك الحين، وبقطع النظر عن الآثار المعرفية لعملية التدوين والتقنين فقد كان لها نتائج واقعية ملموسة:

– أولا: أتاحت للإدارة البريطانية التخلص من الفقهاء والمفتين الذين عملوا في المجال القضائي وشكلوا عموده الفقري، وسمحت بإحلال الموظفين البيروقراطيين محلهم حيث أصبح بمقدورهم التعامل مع مدونة قانونية صلبة لا مجال فيها للتعددية أو الاختيار والترجيح الفقهيين.

– ثانيا: سمحت بإخضاع الشريعة لعملية متواصلة من الإبدال والتغيير بغرض جعلها متشابهة مع القانون الانجليزي.

– ثالثا: قضت على الأعراف المحلية التي كانت متداخلة مع الشريعة، وتتيح لها المرونة الكافية عند التطبيق على مجتمعات عرقية متباينة.

الإقصاء التدريجي لأحكام الشريعة الإسلامية

أما الشق الثاني من السياسة القانونية البريطانية والقاضي بإقصاء أحكام الشريعة تدريجيا وإحلال القانون الانجليزي محلها فقد بدأ منذ وقت مبكر وتحديدا في عام  1772م حين صدر قانون يستبدل عقوبة التعزير والحد في وقائع السرقة بعقوبات أخرى مثل: قتل المتهمين في قراهم وبين ذويهم، وفرض غرامات مالية ضخمة على الفلاحين من أهل القرى، وتسخير أقارب الجناة في العمل لحساب الإدارة البريطانية في مناطق نائية، وهي عقوبات تخل بمبدأ ذاتية العقوبة وكان غرضها التخويف والإرهاب.

ويسترعي الانتباه أن هذا الاستبدال يأتي بعد اعتراف هاستينغز في تقرير رسمي صادر في ذات العام “أنه لا توجد وقائع كثيرة لارتكاب جريمة السرقة مع الجرح والإيذاء للمجني عليهم في المناطق التي يسود فيها الاحتكام لهذه العقوبات – يقصد العقوبات الشرعية-، ونادرا ما تحدث في هذه المناطق حادثة قتل، ويستطيع المسافر أن يتجول في الإقليم دون أن يحمل سلاحا، وله أن ينام مطمئن البال لا يخشى سوى الحيوانات المتوحشة”.

وخلال الفترة من (1790-1861م) حل القانون الانجليزي الوضعي محل القانون الجنائي الإسلامي الذي أصبح أثرا بعد عين بعد أن أطيح بالإجراءات الجنائية المتبعة في إثبات الجناية (منظومة الثبوت الشرعي)، فضلا عن التخلي عن المضمون الإسلامي في مسألة القتل الذي كان يبيح لعصبة القتيل اتخاذ العقوبة سواء أكانت العفو أم الدية أم القصاص بحسب ما يرونه ملائما، وكانت حجة البريطانيين أن تحديد العقوبة وإيقاعها حق حصري للدولة وليس للأفراد، وأن الجناة كثيرا ما كانوا يفلتون بسبب عفو الأقارب أو قبولهم للدية عوضا عن القصاص، وهو ما جعل هاستينغر يصف الشريعة بأنها “تأسست على أكثر المبادئ العقابية تساهلا وعلى مقت إراقة الدماء”.

وبحلول نهاية القرن التاسع عشر كانت القوانين البريطانية قد حلت تدريجيا محل قوانين الشريعة في الهند، عدا قوانين الأسرة وبعض جوانب المعاملات في الممتلكات، ويبدو أن نجاح التجربة البريطانية أغرى القوى الامبريالية على محاكاتها في مستعمراتها، فقد اتبعت كلا من الإدارة الهولندية في إندونيسيا والإدارة الفرنسية في الجزائر ذات السياسة للإطاحة بالشريعة وإحلال القوانين الوضعية محلها.

المصدر: https://islamonline.net/28866

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك