حفريات المواطنة: إستعارات الهويَّة في الخطاب السياسي

سامي عبد العال

 

الهويّة، مواطنة الاستعارة

في وجود التزاوج بين البعدين: المفهومي والاستعاري، اللذين يتداخلان عبر المواطنة، يبزغ ما هو” سياسي ” political باعتباره ردماً للهوة بينهما. ألم يمارس السياسيون الأفعال والمواقف بصيغة ” كان ” المستقبلية، مثلما أظهرت؟! أي أنَّ العبارات تحمل شيئاً إنجازياً على صعيد المعنى المفترض لكن دون تحقُق. وتدخل السياسة في صميم اللعبة من باب المنع التاريخي لفكرة المواطنة والتطلع إليها. لقد غدا ديدنُها في المجتمعات الأدنى ديمقراطية تفويت الفرصة تلو الفرصة لبناء حياة مشتركة خارج المصالح الخاصة.

إنَّ السياسية كفن للهيمنة هي تأجيل ضمني، هي تقنين لأية حقوق ممنوحة للمواطن بما هو كذلك. لا لشيء إلاَّ لكون المواطنة مفتوحة بدرجة تسمح باستيفاء دلالتها على نحو عام. وهي كعيش مشترك تفترض كون المواطن له كافة الحقوق في الإنسانية المفتوحة بأدق تفاصيل حياته. وليس أكثر رعباً للسياسيين من كائن يتطلع لمكانة عامة فاهماً ما يحدث هناك على ذات المستوى. كما أنَّ الردم يأتي عبر وسيط ثالث بخلاف المفهوم والاستعارة. إنَّه وسيط الممارسة الحياتية. وأيضاً ليس هناك شيء أكثر غموضاً وتفلتاً من تجسيد الاستعارة في أشكال عينية.

وبالتالي فالردمَ الضمني داخل الأنظمة الاستبدادية، يمثل مضاعفةً للانتقاص من المواطنةِ، فوق ما هي عليه مُطبِقاً انحراف الكلمةِ عليها مرةً تاليةً. إنَّه تضاعف الوضع المشوَّه بالنسبة للمواطن حين يفقد مكانته، وينغرس وجوده في الوضع الآسن المقرر له، والذي لا يجد مخرجاً منه. ولاسيما مع  التداخل العنيف عبر التخطيط المسبق الذي يشمل الوطن والهوية. وبذلك يجتر التكوين الثلاثي (المواطن – الوطن – الهوية) نفسه من أي منفذ للالتقاء بمعانٍ دائريةٍ حول السلطة. وكثيراً ما تأتي  دلالة العمل السياسي معبرةً بأسلوبٍ أو بآخر عن إبقاء الحال على ما هو عليه. والأسطورة في أحد أشكالها هي مضاعفة صورة العالم والحقيقة والتاريخ فوق النظام العام[1].

إنَّ الخطابُ السياسيُ لا يحقق شيئاً في مضمارٍ كهذا سوى التضاعف الآسن الذي يكرسه. فهو يحاول إضفاء مشروعيةٍ على ممارساته، تكاد تخرج من بين الألفاظ والكلمات. وفي الوقت عينه يقول إنَّها معبرةٌ عن الضمان وراء صفة الحقيقة في كونه مستعاراً، أي ينشأ  الضمان متحولاً عن ضماناتٍ أخرى ليست متوافرة إلاَّ كلاماً. وبالتالي فالخطاب يُموضِّع كل العناصر ( الموطن / الوطن / الهوية ) في فضائه، كما لو كان ممتلئاً بمطلق التاريخ. إنَّ الاستراتيجية السياسية بهذا الحال، والتي تدفع  بوقوف الأساطير في خلفيتها، تشبه الوظائف الإبداعية للأفكار والممارسات. لكنها تكّون وعياً محدوداً بتبرير أوضاع المواطنة كما هي.

ذلك يعطي السياسةَ الضوء الأخضر لخلق حالة من الأسطرة المتواصلة التي تغطي الواقع المشوَّه. فالحاكم الديكتاتور يكاد يحجب الوطن بمجمله، كما أنَّه يملأ الفراغ بمزيد من الوعود التي لا تنتهي. وتتحول الدولة إلى عجلة استبدادية أشبه ما تكون بالعجلات الحربية في العصور الغابرة إذ تدهس كل أحلام المواطنين في حياة كريمة وحقوق عادلة. لدرجة أن المجال العام يتحول إلى ” بِرْكّةٍ سياسية ” مُوحِلة لا يجد الإنسانُ مفرَّاً من التوحل المتواصل في قعرها. هذا إذا حالفه الحظ في مجرد القدرة على الوقوف رأساً.

إنَ الدولة العربية – مثلاً-  بمجمل أشكالها مازالت قائمةً على هذه المياه الراكدة. وليس ثمة نظام يذهب وآخر يجيء إلاَّ ويزيد التَّوحُل سوءاً. ولتكن المواطنة هي أخر ما يفكر فيها الحاكم بالنسبة لأي إنسان حتى على الصعيد الفردي. لأنَّ الكلمة التي ستقف في طريقه إلى نفسه هي الدولة.

الدولة هي الاستعارة الأكبر في تاريخ العرب التي تلتهم كافة الاستعارات الأخرى وتفرزها في شكل هيمنة محكمة الإغلاق والتَّوحُش. لم يكفها أنَّها استولت على مكانة الإله في ذهنية مواطنيها بل أخذت وظيفة الشيطان كذلك. التلصص، التمحك، الهسهسة، التلاعب بالحياة، الاستيلاء على الأقدار، قضم الحريات، زيادة النعرات العرقية والطائفية، سرقة الوعي، تزييف الزمن، إدارة الفراغ، قتل الفكر، تقنين الغذاء، الاستيلاء على الرموز، سياسات الأفقار، توطئة الأجساد وتصويرها وحتى إلباسها كما تريد….جميعها معطيات تمتزج بها حواشي الدولة العربية حتى النخاع.

ولعلَّ هذا ما يجعل بعض التعبيرات عن المواطنةِ غارقة في أثيرٍ أسطوريٍ لا يتوانى عن التشكل. ولئن عدَّه القارئُ أثيراً بعيدَ المنالِ، فهو أقرب إليه مما يتصور، بمجرد أن ينزع الأقنعة البلاغية عن وجه الخطاب الغالب، ويحلل الكلمات والجمل مع ما يماثلها في الواقع. وعليه فقد نال الاعتراف المفترض له سلفاً لكنه اعتراف بلا قيمة. وسواء أكان هذا المماثل للواقع أحداثاً أم شخوصاً أم أفكاراً، فهي أشياء قابلة للاستعادة دون المواجهة المباشرةِ، إن لم يكن بالتفاصيل الجزئية، فباستخدام الطابع العام للحياة الاجتماعية القائم على التشابه، الذي ولِدت فيه تلك المُمَاثِلاّت كمحاولةٍ للتكرارِ.

هناك وصف قريب لذلك يأتي في السياق الإجمالي: أنَّ التاريخَ يعيدُ نفسه، ويؤكد وجوده بمحاولة الخطاب السياسي التوغل في عمق الفعل الاجتماعي الكلي، على أساس هويةٍ حاضرةٍ، إذ يجيز التكتلُ باسمها ظهوراً يُعتد به. ولئن اعتنينا هنا بإبراز طبيعتها، فالأمر يرجع إلي قدرة الخطاب على تنشيط التراكم التاريخي الذي حل  محل الهوية في إطار الأيديولوجيا. السؤال الوارد منطقياً: من أين تنفذ الأسطورة إلي الخطابِ السياسيِ. وبالتالي تصطحبُ معها محتويات الاستعارة والهوية؟!

من أجل الاستجابة لمعطى الاستفهام، يجب التنويه بأنَّ المواطنةَ، إذا ما ذُكِرت، كانت موضوعاً لعبارات الفاعلية ضمن الأنظمة السياسية والاجتماعية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. بل كثيراً ما جرت كموضوعٍ بحسب الدفع نحو إعادة التعرفِ عليها وإطلاق تأكيداتٍ لا تُملّ من تسميتها مرات. بينما هي في العموم موجودة، إذا ما تناولناها بمعنى ما نفياً أو إثباتاً، تماشياً مع إمكانيةِ الانتقالِ من نقطة إلي أخرى على الخريطة الحياتية. حتى أن عبارات تأكيد أهمية المواطنة تنتشر في الخطابات القانونية والاجتماعية والفكرية، على قاعدة أنَّ ترديد اشتقاقات الكلمة ( مواطنية، مواطن، موطنون…) كفيل بإعطائها ظلال عملية.

لكن رغم ذلك يعدُّ مفهوم الفاعلية بصدد المواطنة مُحاطاً بالغموضِ. وهو غموض مقصود لكونه يعبرُ عن قيودٍ غير مرئيةٍ. لذلك الأسئلةُ المهمةُ هي كالتالي: هل يتم تفعيل المواطنة في إطار بعينه؟ ما هي آليات تأسيس نظام الفاعلية هذا في ظل حياة شائكة ومتطلبات ملحة ؟ أهناك حقيقة يمكن إمساكها داخل المواطنة، كي يجري تحديدها كموضوعٍ رئيس؟ أين يذهبُ الجانبُ الاستعاري المتأصل بالطريقة السالفة؟

تثار الأسئلةُ بالنسبة لأشد الصيغ وضوحاً، التي تكفل حدود التكوين الثلاثي للمواطنة على تباين الأنظمة السياسية إزاء الموقف منها. وهي أنظمة قد تلح علي ضرورة صيانة حقوق مواطنيها. وإلاَّ لماذا تعدُّ الحقوق باستمرار ضائعة بالنسبة لفئات اجتماعية، وواسعة لدرجة الإفاضة بالنسبة لفئات أخرى؟! النتيجة أنَّ المواطنة ترتهن بالممارسة النسبية بقدر ارتباطها بمعطيات سياسية تخص مجتمعاً دون غيره من جهة. ومن جهة أخرى يوجد هناك من يمسك بها في ظلام الاستبداد محركاً خيوط الأوضاع بحسب قبضة السلطة ورجالها.

الأمر الذي يرسم علامات استفهام تالية: هل فاعلية المواطنة أداة سياسية – اجتماعية أم محتوى بذات الوضع؟ هل تعد الفاعلية تجارب نقدية، كما يُقال عادةً في الخطابِ السياسيِ إنَّه من  الضروري وجود الشفافية والمصارحة، مع ما تحملانه هاتان الكلمتان من متعلقاتٍ لاهوتيةٍ. وبخاصة الاعتراف بالذنب والاستتابة، ومع ما تنجران إليه من دائريةٍ فارغةٍ، حين يتمركز الخطاب حول ذاته بوصفه قوةً مهيمنةً؟ هل الفاعلية شروط تفترض تكرار ثوابت التكوين الثلاثي ( الوطن – المواطن- الهوية )، لتجسد المواطنة، أم أنَّ هناك ممارسات جديدة في طريق هذا التكوين بمعناه المقرر من قبل؟

إن فاعليةَ المواطنةِ لا تتحددُ في إجابةٍ معينةٍ، ولا تنفرد باستفهامٍ دون آخر، لكن على أدنى تقدير تقرب الوصول إلى المعرفة بالجوهر النوعي للمواطنة. وتؤكد على أن هناك تكشفاً عملياً له، وطريقةً في ظهور الواقع حيث تُطرّح الملابسات للتوضيح. لتقترح حينئذ أن جوهر المواطنة ليس ثابتاً في ذاته، وليس شيئاً محتوماً بكيانه بوصفه اجتماعياً أو سياسياً أو قانونياً، كما لو أنه شيء مطلق. بيد أن المواطنة تتحدد على الدوام بغيرها من جوانب الحقوق( دون نقصان). أي لابد أن تخرج للممارسة بكافة المظاهر السياسية والاجتماعية والفكرية التي ينالها الآخر (ونحن كذلك بوصفنا آخر). وهي مظاهر لا تنفصل عن تاريخِها، إنها بالنهاية أفعال متبادلة داخل مجموع إنساني له الحقوق وعليه الواجبات ذاتها.

إذ بدون عمليات فهم وممارسة تاريخية للمواطنة، يستحيل التحدث عن أية فاعلية سياسية لها. وبخاصة أنها فاعلية تجري كما عرفنا ضمن مشاركةٍ بينيةٍ action- inter بين أفراد المجتمع. حينئذ ما الذي يجعل مفهوماً معيناً للمواطنة عملاً مثمراً على صعيدٍ واقعٍي؟! هنا قد يُشار إلي كون الصعيد الواقعي ملموساً، في حين قد تختفي حياله الخلفيات التاريخية، فكيف نتحدث عن الماضي؟

لعلَّ اعتقاداً كهذا لا يُنّحِي جوهر المواطنة جانباً فقط، إنما يدفع قضاياها إلي زاويةٍ ضيقةٍ. وفوق ذلك يستبطنه قول يبدو وجيهاً فحواه: أنَّ الواقع ملموس بدليل التحدث عنه، بينما الخلفيات التاريخية غير حاضرةٍ. لذلك يجب التذكير رداً على ذلك بأنَّ التاريخَ أكثر واقعيةً من الواقعي ذاته. فضمن المواطنةِ لا ينفصل الواقعيُ عن التاريخيِ، الاثنان يتجادلان دون توقف. ويتعذر رسم حد لهذا الفصل المتعسف بينهما في بعض الأحايين. وليست صيغ القوانين والحقوق التي تُعطى للمواطن كإنسان بقاطعةٍ بينهما على هذا المنوالِ.

وليس أدل على ذلك من أنَّ هناك إشارةً تتكرر في مناقشات قضايا المواطنة، تقول: إنَّه لابد من الحفاظ على المكتسبات التاريخية للمواطن. والهويات في ذلك تعد أطراً تعمل على تدعيم أنماط الخيال، ثم إكسابها جسداً سياسياً واجتماعياً. ويظل المواطنون يحشرون داخل هذه الأجساد، جرياً مع الأدوار الوظيفية في ضوء نيل بعض الحقوق المتناثرة هنا أو هنالك.

لا يعني ذلك أنْ تأتي المواطنة تاريخياً بكامل محتواها. هي ابتداءً بلا محتوى خاص كأنها مادة يومية، فهي ليست موضوعاً لذاتها. وليست وظيفة كدلالة العمل. ولكن ما إنْ تتحقق حتى تستهدف الامتلاء بأفعالٍ تاليةٍ بصيغة الجمع. ولا تنتهي إلاَّ وتطلب المزيد منها بمقدار توائم الحياة والثقافة عبر كامل الممارسات السياسية والاجتماعية. وذلك بمقدار ما تفترضه بالمثل مدونات الحقوق أو القوانين من التمسك بالوجود الرمزي لمضامينها. لدرجة القول إنَّ طبيعة المجتمع كمجتمع لا تتأتي دون الاعتناء التاريخي بالحق الجمعي في الوجود معاً لكل أفراده. وجود يدفع المواطن إلي النظر تجاه نفسه (مواطنياً ) من نافذة الآخرين، لأنَّه يولد من خلالهم، وبواسطة حقوقهم والتزاماتهم، وما ينبغي أنْ يكونوا عليه مادام يفي هو بما يجب أن يكونه. إذا نقبنا عن تاريخية التكوين الثلاثي( الوطن، المواطن، الهوية )، فقد نعرف حالة المواطنة، حيث تتجلى أواصر الحياة العامة في جميع القطاعات.

إنَّ الحياة العامة وبخاصة في المجتمعات العربية علي الرغم من أنشطتها  وتداعياتها الصاخبة، إلاَّ أنَّها لا تبرُز ولا تظهر باستمرار، إنما تترسب في التضاعيف والخلفيات. لتتسرب مع  الكلمات والمصطلحات السياسية، حتى لتبدو ظلاً، بيد أنها منشأ ونسيج مغايران للتكوينات التي تُفرز على ضوئهما، ولاسيما التكوينات السياسية( الأحزاب، المؤسسات، النقابات ). بحيث أدت على سبيل المثال إلى ظهور ازدواجية طافية بين الحكام والمحكومين، بين النخب والناس العاديين، بين رجال السلطة والمهمشين. ازدواجية تلحُ من خلال جمع طرفيها على التجاوز لأي واقع. وليس التجاوز قلباً للأوضاع لكنه إثارة لإمكانية مختلفة هي الحقوق. لذلك يقول دوركايم عن الأفراد، سواء أكانوا مواطنين عاديين أم ضمن أدوار أخرى، هم نتاج الحياة العامة، مع ذلك يمثلون حالات فائضة أكثر بكثيرٍ عن المحددات التي تضبط إيقاعها[2].

هؤلاء الأفراد، فضلاً عن أنَّهم لا يرتضون بما هو قائم، يعلنون احتياجاتهم الضرورية التي تتجاوز الوجود المُسَيسّ لأغراض خاصة. وإنْ كان الأخيرُ محدوداً بأفقٍ راهن، فالتجاوز ينشأ عن قدرةٍ الإنسان علي جعل ظروفه مادةً للتغيير. وبذات القدرة هناك الواقع الافتراضي غير القابل للتأثير إلاَّ بشروطٍ نوعيةٍ. ولأنَّ المواطنةَ بهذا الاتجاه هي تراكم الأدوار المتجددة بمنطق تاريخية التكوين الثلاثي إذ أنَّ الأدوار تتجسد في ممارسات مختلفة، فكذلك يصب هذا المنطق في الفاعلية ويلخصها، بسبب إمكانيات التغيير التي تقترحها حالة المواطن، سواء أكانت هامشية أم رئيسة.

وإذا كان ذلك كذلك، فالفاعلية تمثل حركةً للتاريخ نحو شيءٍّ ما، التاريخ الذي استغرق وقتاً بصيغة ” كان”. وهو ذاته الذي يُظْهِر الفروق بين حالةٍ وأخرى. حيث يدفع المواطن للمطالبة بحقوقهِ، ولإثارة علامات استفهام كلما رأى عدم القدرة على أخذها. من هنا لو نلاحظ فإن مفهوم الفاعلية الغائبة ينتقل تدريجياً – أثناء تحولات المواطنة – إلي مفهوم للوعي[3].

والوعي إنْ كان يقظاً، لابد أنْ يطرح أفكاره عبر سياق المشكلات التي تواجهه. لأنَّه يناقش مشكلات السياسة ويُصفِي حضورها المثقل من جهة الإدراك بكل محدداته سلباً أو إيجاباً. فالسمة الأساسية للوعي هو قدرته على النقد واتاحة البدائل. إنَّ الإرادة الجمعية دوماً إرادة نقد. ومن هنا يصعب فصل الوعي عن  تحولات المواطنة، فبالرغم من تفلته من التاريخ- مثلاً – حين نعي حقيقة المواطنة بوصفها نوعاً من التجاوز نحو الأفضل، إلاَّ أنَّ تلك الحقيقة تبرز المواطنة أمام إدراك مختلف يسعى المجتمع إليه، لأنَّ المواطنين كائنات تاريخية.

فلو نظرنا إلى المواطن الآن في العصر الكوني الراهن، فإنَّ حالته السياسة تتسع نحو مزيد من الحقوق إذ تأثر بانفتاح العالم وتماهي الحدود والقارات نتيجة ثورة الاتصالات وتلاقي الإنسانية عبر الواقع الافتراضي وشبكات التواصل الاجتماعي. و يبدو أنَّ العالم ليس قرية صغيرة وحسب، لكنه كذلك نبض كوني يوحد البشر جميعاً وينضج إحساسهم نحو أهداف كبرى يسعون إلى تحقيقها في الحياة.

وإذا كان التاريخ تحيزاً وخصوصيةً، فالخطاب السياسي يستغل شرعيته في الهيمنة عليه واستعماله لرسالته. وتنشأ بالتالي هوية مرصودة لمعانيهِ. وعلى هؤلاء المواطنين – هكذا تدفع السلطة مواطنيها- أن يبحثوا عن أنفسهم، عن هويتهم  كضمانٍ لوجودهم، وسيجدون هوياتهم ارتباطاً بهذه المعاني. أي سيعثرون على تأريخهم. طالما أنَّ الخطاب السياسي يسدد إليهم أرصدة الهوية المفقودة، برغم رصدها على هيئة خيالٍ يتحتم عليهم أنْ يجسدونه!!

وفي أية مرحلة من مراحل ممارسة المواطنة، تلهث السلطة لتسميته( أي الخيال ) أيديولوجياً تبعاً لدرجة الخضوع لها. وإذ يفعل المواطن بحسب املاءات هيمنة الخطاب، يجد الخيالَّ هوياً بخلاف ما ينتظره أو يريده. وهذا ما يتيح القول بأنَّ الهوية تكون اختياراً حتى التمرد ولو كانت معروفةً قبلاً. وأنَّ المواطنة إرث من تحولات وصور تتخلق في الواقع / التاريخ. هي في حالة تغاير باستمرار.

ما يطاله الخطاب السياسي بالاستعارات( الجارية حول المواطنة ) سيطاله من ثم بمفاهيم تاريخية، حيث تَعلّق بها أساطير حول الوطن والمواطن والهوية. فلو كانت الأساطير جارية حول الحاكمِ أو الدولةِ أو السلطةِ، فإنها تباشر عملها عبر تحولات حالة المواطن. لأن المطلوب من الأخير الامتثال والخنوع دوماً حسبما يراد منه وأن يسير في كنف صناعة المشهد العام.

هكذا يعتقد ليفي شتراوس أنَّه في المجتمعات الحديثة قد حل التاريخ محل الميثولوجيا بذات الطريقة. وأنَّه يقوم بنفس الوظيفة. لقد كانت أهداف الميثولوجيا، في المجتمعات غير الكتابية، والتي لا تُوجَد لديها أشكال الأرشيف أو المحفوظات، أن تضمن كون المستقبل شديد الصلة بالحاضر. أمَّا بالنسبة لعصرنا، فيجب أنْ يكون المستقبلُ مختلفاً، إنْ لم يكن أكثر اختلافاً عن الحاضرِ. ويعتمد بعض الاختلاف بالطبع على التفضيلات السياسية والأنظمة الخاصة بها، لكن مع ذلك فإن الثغرة الموجودة في عقولنا إلي حدٍ ما بين الميثولوجيا والتاريخ يمكن اختراقها من جهة دراسة مصادر التاريخ المختلفة، وإدراكها ليس بحسبانها منفصلةً تماماً عن الميثولوجيا، إنما كاستمرارٍ لها[4].

ومادام الخطابُ السياسيُ يعتمدُ علي تقريبِ المستقبلِ، ووضعه أمام ناظري المتلقي، فأصالةَ التفكيرِ الأسطوري أنَّه يؤدي دور التفكير التصوري عن طريق استخدام صورٍ مستعارةٍ من الخبرةِ، ووضعها في حالةِ نشاطٍ[5]، هذا ما يستبطن محاولات الخطاب السياسي، أيديولوجيته، أبجدياته البلاغية، بشأن بناء أيقونات موازية لما يجعل الخبرة أشد ارتباطاً بحقائق جارية. وكأنه يقول يجب على المواطن أن يتوقع ما يُعطّى له، وعليه أن ينفذه أو يتقمصه دون تفكير، وحالما تتضام تفاصيل هذا الخطاب، يجري دفع الحقائق كي تسكن التنظيمات واللوائح السياسية في أشكالٍ مقننةِ الحدوثِ.

المهم أنْ يشغل وضع كهذا خيالاً يستبدل محاولةٍ بمحاولة أخرى دون مبادرةٍ منه للرفض أو القبول. فقصص رجال السياسة والأشخاص ذوى السلطة وثيقة العلاقة بهذا التخييل، الذي يكمل الصورة بإكسابها وجوداً مؤثراً، وهي أثناء تأثيرها الدرامي والحكائي تفسر الأوضاع القائمة. وكل الأنظمة المستبدة تصنع نوعاً من السرد الذي لا ينتهي بصدد الانجازات والأعمال. وهي اعمال ربما غير مهمة لكنها تبث دلالتها في سياق تشغيل الجموع. حتى تستطيع تسييس العقل بما يلزمه من التغييب والتوهم. وإذا كانت في معظم الأساطير آلهة وقوى خارقة وكائنات عليا آخذة في التراتب والفعل، فكذلك في المجال السياسي هناك قُوى تغذي أدوارَ الوسطاءِ بين الفئات الاجتماعية والسلطة.

في كلا المجالين لا تُعطِي الأسطورةُ ولا نماذجها أفعالاً ماديةً، بيد أنها تمنحُ الإنسان ” سلطة الوهم “illusion  power of. حيث يشعر الإنسان بأنها قوة تحدد مصير الأشياء الموجودة أمامه. فما بالك بأشياء لا يراها عندما يصبو تجاه الأهداف المراد تحقيقها، ناهيك عن شعورهِ بإمساك الأصلِ الذي تنبثق عنه؟! ومثلما يحاولُ خلقَ أعماله بقوةٍ مستمدةٍ من المصدرِ ذاتهِ، يقدر في الوقت ذات علي تحقيق أفكاره، بمجرد أنْ تمر على خاطره. ومع أنه شتان في العادة بين الواقع والخيال لأنهما مستويان مختلفان، إلاّ أن الأخير يتجاوز واقعاً يصبح نقطةً في محيطه، ويعيد نسجه مرةً أخرى. وبما أن الأسطورة جمعية، فإن سلطة الوهم، التي تطلقها تغدو طوع الإنسان في فرديته، إذ ترتد إليه في صورة كلية، كأنها ما وجدت سوى له.

إنَّ السلطة السياسية تجهض إمكانية احتوائها بإعادة توزيع بعض القوى على المواطنين من باب الخداع، مثل الإعلان عن بعض حقوق المواطن أو الترويج لصورة المواطن بوصفه فاعلاً بالإنابة. أي الإنسان الذي يمتلك بقايا إرادةً حرةً وفقاً لما تنُصُ عليه القوانين. ولكن حين تُصاغ بواسطتها الحقوق، أو إنْ أمست قابَ قوسين أو أدنى من يديهِ، عندئذ ينتشر مجالُ الهويةِ. إذ يعد المواطن محتوماً بما يخدعه ( على نطاق أكبر)، ألاَ وهو الحق في شكلٍ مضاعفٍ باحتمالات التوهم، بينما تُضافُ الهوية في تلك الواقعة إلي ما يجعل الحق وسيلة خداع، أي يحوله إلي عملٍ غير ذات قيمة. ولا أحبذ هنا اعتبار الوهم سلبياً أو ايجابياً، إنما هو آلية ضمنية في عمل الفعل السياسي إزاء المواقف من المواطنة. وربما يتم اللجوء إليه في حدود تكرار يمارسه الخطاب مع استعادة التاريخ لتبرير أهدافه.

وكذلك تبقى” سلطة الوهم ” من متعلقات التوطن بمعنى إثارة الحنين والتعاطف الراجعين نحو الأصلِ، ويمكن تسميتها مشروعية الخيال السياسي في توليد أشكال العيش معاً في مجتمعٍ تحت ضغط النمط العام للاعتقاد. وقد تعبرُ المشروعية عن آفاق التغيير السياسي، بدءاً من الوعي التاريخي بالمواطنة وانتهاءً بتداول السلطة ذاتها. وهناك احتمال كبير أن تستغرق الحياة الاجتماعية بكل ما فيها، حيث يتقرر القول بأن الديمقراطية ليست ديمقراطية إلاَّ لكونها عمليةً تهدم ذاتها بذاتها. بكلمات أخرى إن الديمقراطية نظام يحمل داخله فكرة تجديد نفسه جذرياً دون الخروج منه. بسبب أنَّ هناك انحرافاً سياسياً عن المواطنة التي ينشدها أفراد المجتمع.

هنا تمثل المواطنة لحظة فارقة يزدوج لديها كون الخطاب السياسي متحدثاً بلغة الأسطورة ونبرة الحقيقة جنباً إلي جنب. لحظة  تشويش الحقيقة غير القابلة للوصف، والتي لا تُصدّق من فرط الأسئلة الباحثة عن ماهية المواطن، سواء أكانت ماهية داخل هويةٍ غالبةٍ اجتماعياً، أم ظلت الماهية تنقيباً ( حنيناً /  تذكراً / بحثاً ) عن هوية مفقودة وضائعة وسط الحشدِ. وكلما تحددت معالم الهوية الرائجة بواسطة ممارسات في الظلام، تغيم لحظة الأسطورة مع الحقيقة. هما دائماً لحظتان مختلطتان طالما يمارس الخطاب السياسي إستراتيجية التفكير الاستعاري المعتمد على الخلط لمقاربة المعنى.

من ثم تعد الأساطيرُ السياسيةُ أبنيةً وعمليات إدماج للمتخيل بالواقعي. إنها باختصارٍ ملغزٍ أنظمة دلالية تتكيف مع ذواتها. وريثما تتحين الفرصة لذلك، تُلقِي ظلالها بشكل خاطفٍ على الواقع المعيش، كما لو كانت هي هو. بحكم أنها انتقالات بالحقيقة من وإلي هيمنتها مرة ثانية. إنها بالفعل انتقالات متكتمة لمقايضة الواقع كي يستمر مديناً لها. لدرجة أنَّه عندما يتم تحويل عنصر معين(رأس السلطة مثلاً)، كعنصر مهيمن في السياق العام، يتحتم إعادة تنظيم العناصر الأخرى بما يتفق مع الاستعارة المعبرة عن الهوية. وبالتأكيد يضمن أولوية هويةٍ معينةٍ وانتشار دلالتها بالنسبة لأنحاء المجتمع.

بالتالي تظل وقائع الأساطير السياسية متاحةً لأن تتكرر بدرجة عالية. فنفس “النمط “من الوقائع والاستجابات، نظراً لتكرار الوظيفة، يأخذ أشكالاً هنا أو هناك في آنٍ. علاوة على إمكانية استخدامه مرات عديدة، من أجل تبرير( تفسير)مجموعة من الأحداث المختلفة وإن تباينت السياقات. وذلك يتوقف من جهةٍ على أداء الخطاب السياسي بصدد جعل أيديولوجيته تأسيساً لسواها من أفعال، ثم معاودة ظهوره هنا أو هناك. ليعتمد من جهةٍ أخرى على قدرةِ استعارات الهوية الغالبة أن تستوعب الهويات المغايرة والاستعارات المضادة( كالثعابين تلقُف بعضها بعضاً).

يرجع ذلك برأي شتراوس إلى الطابع المفتوح للتاريخ، إذ يتم ضمانه من خلال وحدةِ الهويةِ. كذلك بواسطة طرقٍ عديدةٍ، يتم بها تنظيم و إعادة تنظيم الخلايا الأسطورية المستخدمة في نسيج الخطاب، أوهي الخلايا المفسرة التي كانت أسطورية في الأصل بمقدار ما تخلع أرديتها البلاغية على الواقع، إذ تُبيِن لنا أنَّه وعبر استخدام نفس المادة، كمادةٍ تندرج تحت مفهوم الميراث المشترك لكل المجموعات وكل أطياف المجتمع، يمكن للمرء النجاح في الوصول إلى تفسيرٍ أصيلٍ لكل منها[6]. وذلك يتوقف على ملاحظة ما هو مشترك في الآليات التي تنتجها.

خاتمـة:

ثمة تشابه في مضامين وآليات الخطاب السياسي إزاء قضايا المواطنة، رغم اختلاف الأنظمة ومرجعياتها. نظراً لأن السياسة تجدد المهمة ( الوسيلة + الغاية) التي كانت تؤديها الأساطير لتشكيل الوعي. النتيجة أنه لا مفرَ من خلق بنيةٍ متماثلةٍ تحيط بالمواطنة ككيان غير مكتمل ومشوه. إنه في كل خطاب من هذا الصنف يحتاج إلى من يعطيه الشرعية العملية. أما معرفة تلك البنية و تحليل مكوناتها و كشف النقاب عن توظيفاتها الفرعية، فأمر في غاية الأهمية لما يصطلح عليه بـ” مواطنةٍ فاعلةٍ “، و رغم أن  بعض الفاعلية ينصرف نحو إعادة النظر والنقد للتشكيلات التي يتأرّخ بها التكوين الثلاثي( الوطن، المواطنة، الهوية )، إلا إنها توجد متواريةً وتحتاج إلي تعريةٍ.

أما أقرب المجالات التي يتجلى خلالها، فهي اللغة، كموطن للممارسات الاستعارية – السياسية. وقد نوَّه رومان ياكبسونJakobson  إلى أنَّ اللغة ” صوت ومعنى” باعتبارهما وجهيها، اللذين يصعب التفرقة بينهما. ولئن كان هناك خطاب يُصاغ فيه هذا الارتباط، فليس أهم من الخطاب السياسي. فالصوت يعلُّو مع مركزية المصدر، الذي ينبثق عنه، فوق هذا يتم سبك الكلمات والجمل في شبكة من العلاقات التعاقبية المرنة، التي تنعقد مع محددات السلطة المهيمنة. وهي محددات تأخذ معالم الأهداف المتماهية مع معاني الخطاب، لتذهب من فورها في اتجاه أو آخر راسمةً تحرك تلك الخطابات، كـ” روبوتات ” آلية تبتلع الدولة ومن عليها، أي تبتلع الوطن والمواطن والهوية.

وإذا كان عنصر المعنى في الأسطورة سائداً، فالسياسة تجعل المعني أدائياً ( براجماتياً). هذا المعنى الذي يتمثل الأهداف النوعية للنظام السياسي، من هنا كانت وضعية التفكير الاستعاري جاريةً ضمن بدائل الخطاب- الحقيقة، وعلى إثرها تُجددّ أنماط الخطاب مع ذاته التي طغت على أية حقيقة. وفي نطاق تلك الأهداف، تدخل الاستعارة من باب الهوية بصيغة متفردة، حيث ترسخ مدلولها وما يترتب عليه.

 

ونظراً لانتقال الهوية واتساعها بالنسبة للمواطن والحاكم والسلطة، وهي أشياء لا تنسلخ حينئذ عن طبيعة اللغة، فاللغةَ كخطابٍ وحدثٍ تاريخيين تجري بدورها كأصلٍ بديلٍ، وتقدم مبررات المواطنة ودعائمها. وربما يتم ذلك للخروج من التكرار و الإلحاح الذين يعملان ببطءٍ في ارتباطِ الكلمات مع بعضها البعض. ولعله في الأثناء لا حيلولةَ دون التقاء الميثولوجيا بالسياسةِ مرةً جديدةً بممارسة التحدث، فإنَّ اللغة تولد تضخيماً لقوى التوهم وتعطيها خلقها المادي. وبذلك فالمواطن، أمام الخطاب السياسي، يغدو جزءاً من عمله وآلياته. أي  يعد موضوعاً كوحدة للمعني الذي يدأب الخطاب على إفرازه أو هضمه أو إدماجه أو إعادة صياغته. وفي حالة لو تمسكنا بهذا الفهم للمواطنة، فإنها ليست أكثر من مصطلح تحويلي transformational term يتضاعف باستمرار مع مصطلحات أخرى، وينتظم في نفس الوقت مع خطابات سياسية للتعبير عن فرض الهيمنة علي واقعٍ مختلفٍ، يبلغ به الاختلاف درجة التناقض إذ تتنافر خلاله الأطراف والقوى[7].

لذلك تقتضي مسألة المواطنة بعض الأشياء:

  1. إعادة قراءة تراث المواطنة قراءة فلسفية نقدية وصارمة، تهتم بالتفاصيل الحياتية التي ترصُد أهم الاختلافات والدلالات في التجارب السياسيةِ الاجتماعيةِ.
  2. يتعذر فصل الخيال عن مفاهيم المواطنة. وبذلك ستكون هنالك مساحة للتفلت السياسي من مقتضياتها. وهذا يتطلب أن يكون النقد نقداً اجتماعياً شاملاً. فطالما أن هنالك خيالاً لعدم نزع الإنسان عن ذاته، فإن تصحيح مساره المختلط بالأساطير يتم بالنقد والمراجعة الدؤوبة.
  3. مع الممارسة التاريخية الاجتماعية، تحمل المواطنة بذورَ الإخلالِ بها. فكثيراً ما تُمسِي “موارطةً “، أي توريط المواطن كفردٍ في نظامٍ سياسيٍ يستعملهُ ويستنفد وجودهُ. والوعي شيء مهم لأنه يحمله على تجاوز هذا الحال.
  4. يمكن الاهتمام النقدي بالصياغات الصورية لمبادئ القوانين والحقوق، من جهة تقليص معاني “ينبغي” و”يجب”، لأنها بمثابة البكتريا الخصبة لنشوء الأسطرة. فكما يوجد هناك مبادئ للمواطنة بصيغةِ: ما ينبغي أن يكون، فكذلك يوجد ما هو خاضع للتحول الأسطوري، أما الخروج من هذه الدائرية، فبفّهم ثقافة المواطنة و بواسطتها فقط، أي عن طريق تاريخها الذي يصحح نفسه بنفسه.
  5. الهوية في ظل المواطنة هي أثر الفعل، وليست مصدراً له، بمعنى أن الحياة على أساس المواطنة هي التي تسهم في تقوية كيان الإنسان، وليس التمايز العرقي أو الديني أو الاجتماعي أو الطبقي.
  6. وضع المواطنة هو وضع المفارقة، ولكن داخل السياق العملي، لكونها تنقل السلطة المهيمنة إلى سلطة فردية، ومع ذلك قابلة للمنح لأي إنسان. ولعل هذا هو مبتدأ فكرة القانون الذي يعطي الحق لكل إنسان، وفي الوقت نفسه لا يمكن السيطرة عليه.
  7. المواطنة حق، وليست وظيفة أو غاية أو وسيلة أو كادر. وهذا ما يحول بين المواطن وبين العسفِ بكيانه. فالكيان أصبح حقوقياً بمنأى عن اعتباره عضوياً أو فئوياً.
  8. ترتهن المواطنة بحقيقة الإنسان، وبالتالي كلما كانت تلك الحقيقة مستندةً إلى أسس عقلانية، يمكن لنا أن نوسع رقعة الحقوق ناهيك عن القدرة على تجاوز المعوقات، بأن يعيد العقل النظر من مرة إلى أخرى في أسسه وما يُسنّد إليها.
  9. لا تنفصل المواطنةُ عن رؤيةٍ للإنسان والمجتمع والكون، وهي تدخل بنا فيما يحفظ الفعل الإنساني من التقلص، وعلى الرغم من إنها ممارسة نسبية مع كل إنسانٍ، إلاَّ أنها أكثر رحابةً مما قد يتصور البعضُ، بفضل وفرة تلك الرؤية، وما تستلزمهُ من أطرٍ وأهدافٍ وآفاقٍ.
  10. إنَّ ممارسةِ الأهدافِ البعيدةِ للمواطنة كالحريةِ، تحقيق إنسانية الإنسان، تؤدي إلى تدعيم الممارسات النوعية بدءاً بنمط الحياة وتوفير الحاجات الأولية و إتاحة الحقوق الأساسية، وليس العكس. لأنَّ إطعام الأفواه، وتغطية الأجساد لن يبني مجتمعاً قائماً على المواطنة دون بناء حريته وإنسانيته في مستوياتها المترامية.
  11. ترتبط المواطنة فلسفياً بمناقشة أسس الحقيقة. و إذا كانت حقوق المواطنة قيد الممارسة أو الحجب، فمن الضروري طرح التصورات والأفكار الآتية معها، وبلورة الخلفيات التي تقع على أثرها، وهي موضوعات لا تخلو من سؤال الحقيقةِ. 

*******

[1]– وليامز، ريموند، الكلمات المفاتيح، ص269.

[2]– Durkheim, Emile, Division of Labour in Society, Translated by George Simpson,The Free Press, Glencoe III, 1947.PP 338 -339.

[3]– إنَّ الوعي لدي جادامر وعي تاريخي، وأية فاعلية، لكي يكون لها أثر، لابد أن تكون حقيقة تاريخية، فالفاعلية ممارسة ( براكسيسpraxis ) practice وعمل، ومع أن الممارسة مجال قد تدخله الكائنات الحية الأخرى بجانب الإنسان على أساس الحياة البيولوجية bios، لكن يتفرد هذا الإنسان بالوعي التاريخي، ومن ثم كل ممارسةٍ إنسانيةٍ هي بالضرورة ذات طابع تاريخي، ذلك الطابع الذي يميز الكائن البشري دون الاحتكام إلي الطبيعة فقط. إن الممارسة تنطوي على الأداء performance والاختيار المسبقprior choice ، وهما سمتان مميزتان للعمل الإنساني.

Hans–Georg Gadamer, Reason in the Age of Science, translated by Frederick G. Lawrence, The MIt Press, Cambridge, Massachusetts, London, England,1981.P.91.

وهاتان السمتان ضروريتان تحديداً للمواطنة، فليست المواطنة في قاعدتها إلاَّ حرية من خلال الأداء الاجتماعي، بينما الاختيار مهم في الأفعال والهوية معاً.

 

[4] – شتراوس، كلود ليفي، الأسطورة والمعنى، ترجمة شاكر عبد الحميد، سلسلة المائة كتاب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق، الطبعة الأولى 1986. ص64.

إن التاريخ يشغل فضاءَ الأسطرة الذي لم يخلو منه مجتمع بشري. ولهذا ما لم ينطو على أساطيرٍ، فإنَّه يتحدث بدلالتِها، ربما يُقال إنَّ التاريخَ أحداث وحقائق مثلما هو شائع، وهذا صحيح، بيد أن حضور الأحداث والحقائق في الوعي الجمعي لا يظل حضوراً خالصاً من فيروسات الخيال التي تزيده أضعافاً مضاعفة، وربما كما في حالات كثيرة تعطيه حبكة وتفاصيل ما كانت لتدخل في إطاره.

[5]– المرجع السابق، ص41.

[6]–  المرجع السابق، ص62.

[7]–  Jameson, Fredric, The Political Unconscious, Narrative as a Socially   Symbolic Act, Methuen, London, 1981.PP.38 -40.

المواطنة تقوم على الاختلاف، وليس التماثل  بين أفراد المجتمع القابل للأدلجة، فهناك فرق بين المواطن الحشد والمواطن الحر، وبين الفاعل بالإنابة والفاعل الحقيقي والذي لا يتفق بالضرورة مع غيره إلا في ممارسة الحق.

*********

المراجع:

 

أولاً: المراجع العربية

  • ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد، لسان العرب، الجزء الثالث عشر، دار صادر، بيروت، لبنان د.ت.
  • الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد، أسرار البلاغة في علم البيان، تحقيق: هـ . ريتر، دار المسيرة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1985.
  • الزمخشري، جاد الله أبي القاسم محمود بن عمر، أساس البلاغة، معجم في اللغة والبلاغة، مكتبة لبنان، بيروت، الطبعة الأولى 1999.

ـ    بارت، رولان، معنى أن تكون مثقفاً، متاهات: نصوص وحوارات في الفلسفة، سلسلة المكتبة الفلسفية،    ترجمة حسونة المصباحي، مراجعة قدامه الملاح، دار المعرفة للنشر، تونس2005.

  • بورديو، بيير، العنف الرمزي ( بحث في أصول علم الاجتماع التربوي )، ترجمة نظير جاهل، المركز                              الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، د.ت.
  • شتراوس، كلود ليفي، الأسطورة والمعنى، ترجمة شاكر عبد الحميد، سلسلة المائة كتاب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق، الطبعة الأولى 1986.
  • دي فونتيت، فرانسوا، العنصرية، ترجمة عاطف علبي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى1999.
  • رولان، ب. و تافيرنييه، ب.، الحماية الدولية لحقوق الإنسان(نصوص ومقتطفات)سلسلة زدني علماً (حقوق)، تعريب: جورجيت الحداد، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1996.
  • مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، الجزء الثاني، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية 1973.
  • وليامز، ريموند، الكلمات المفاتيح: معجم ثقافي ومجتمعي، ترجمة نعمان عثمان، مراجعة محمد بريري، تقديم طلال أسد، سلسلة المشروع القومي للترجمة، العدد( 980 )، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 2005.

 

ثانياً: المراجع الأجنبية.

  • Derrida, Jacques ,The End of Man, in: Margins of Philosophy, translated, with Additional notes by Alan Bass, the University of Chicago Press, 1982.
  • Derrida, Jacques, Of Grammatology, Translated by Gayatary Chakravorty Spivak, The Johns Hopkins University Press, Boltimore and London1974.

–     Durkheim, Emile, Division of Labour in Society, Translated by George Simpson,The Free Press,                                                                          .              Glencoe III, 1947.

  • Durkheim, Emile, Sociology and Philosophy, Translated by D. F. Pocock, the Free Press III, Glencoe, 1953.
  • Gadamer , Hans – Georg , Reason in the Age of Science, translated by Frederick G. Lawrence, The MIt Press, Cambridge, Massachusetts, London, England,1981.

–       Jameson, Fredric, The Political Unconscious, Narrative as a Socially   Symbolic Act, Methuen, .              .        London, 1981.

  • McNeill, William H., The Rise of the West: A history of the human community, A Mentor book, the university of Chicago Press, 1963.
  • Popper, Karl, Tolerance and Intellectual responsibility, Oxford University Press, London, 1987.
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك