المعايير الناقصة والمغلوطة في محاكمة التاريخ

 
التاريخ بكل تأكيد لا تصنعه الملائكة، وإنما هو صناعة بشرية بأحداثه ومواقفه ورواياته وتدويناته وتحليلاته واستنتاجاته ومصادره، إلا ما ورد منه بآية قرآنية أو حديث صحيح.

هذه المقدمة -التي ينبغي ألا نختلف فيها- تفتح باباً واسعاً لنقد التاريخ وتحليله وتمييز أشخاصه وأحداثه، ولكنها في الوقت ذاته تؤكّد أن نقدنا هذا لا يصل إلى درجة إصدار الأحكام القطعية، لأن المعلومات التي نستند إليها لا يمكن أن تكتسب الموثوقية الكافية لإصدار الحكم، ذلك أننا نتعامل مع روايات ولا نتعامل مع أحداث ووقائع مشهودة، وهذه الروايات تخضع بكل تأكيد لمزاج الراوي وموقفه الديني أو السياسي ومدى استجابته للضغوط الخارجية، وها نحن اليوم نرى الأحداث المعاصرة بأم أعيننا ثم نقرأها بعد قليل بروايات مختلفة ومتناقضة، فكيف بالأحداث التي مرّت عليها القرون!

أذكّر هنا أن الحديث النبويّ الشريف -وهو المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم- قد تعرّض لحملة من عمليات الوضع والتدليس والخلط، بحيث إنه احتاج إلى جهود غير تقليدية لتمحيصه، وما زلنا إلى اليوم نختلف في صحة هذا الحديث أو ذاك، ونختلف كذلك في معناه ومغزاه، فكيف بالروايات التاريخية التي تعرضت لضغط كبير من التجاذبات والخلافات والتوجهات المتصارعة والمتشابكة، إضافة إلى حملات التشويه والتضليل وصناعة الخرافات والأكاذيب، التي تقوم بها جهات مشبوهة ومعادية لهذا الدين وأهله، ومن ذلك مثلاً خرافة كسر عمر بن الخطاب لضلع السيدة فاطمة، وبحضور زوجها علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين- وهي أكذوبة يقصد منها النيل من عليّ، كما يقصد بها النيل من عمر، ومن ثم النيل من ذلك الجيل كله، الذي هو قدوة كل الأجيال والمثل الأعلى لهم.

أقرأ مثلاً في صحيح البخاري شكوى أهل الكوفة من سعد بن أبي وقّاص، لأنه لا يحسن الصلاة! حتى قال فيه قائلهم: «لا يقسم بالسويّة، ولا يعدل في القضيّة»!، فإذا كان هؤلاء ثبت في الصحاح أنهم تجرؤوا على مثل سعد، مع أنه هو من أدخلهم في الإسلام، وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنة، ومن السابقين السابقين، فكيف بهم إذا حدّثوك عن معاوية بن أبي سفيان أو عمرو بن العاص؟! مع ملاحظة أن الطعن فيهما إنما هو طعن في الخلفاء الراشدين وفي مبدأ الشورى نفسه، فمعاوية مثلاً لم يأتِ بانقلاب عسكري، ولا بمساعدة أو دعم من جهة خارجية، بل ولّاه الخلفاء الراشدون على الشام، وكذلك عمرو بن العاص الذي ولّاه الراشدون على مصر، وإذا كان الخلفاء الراشدون لا يتجاوزون الشورى فيقيناً أنهم قد عيّنوا هذين القائدين بمشورة بقية الصحابة، ثم إنه من المعروف والمؤكّد ولاء أهل الشام لمعاوية ومحبتهم له، وكذلك أهل مصر بالنسبة لعمرو، وهذا يعني أن ولايتهما منبثقة بالأساس من شرعية الخلفاء الراشدين أنفسهم، ومنسجمة كذلك مع إرادة الجماهير في الشام ومصر، ومن ثم كان الطعن في ولايتهما طعناً لازماً لمؤسسة الخلافة الراشدة ولمبدأ الشورى نفسه، أما إذا كان مستند الطاعنين ما حصل فيما بعد في مرحلة الفتنة، فهذا ينبغي أن يخضع لمعايير واضحة ومنضبطة.

من الغريب جداً أن “المتنورين” بروح العصر وقيمه وثقافته، يجعلون معيار الحكم على تلك المرحلة معياراً مستنداً بالأساس إلى روح “القداسة” أو قداسة “الروح”، فمرة يحدّثونك عن جريمة الخروج على الإمام علي، بمحاكمة أحادية الجانب، مستندة بالأساس إلى حالة من التقديس لشخص علي -رضي الله عنه- ومرة يحدثونك عن الانحراف الروحي، حيث تحولت الخلافة من سمتها الروحي القائم على الزهد والتقشّف إلى ملك عضوض يقوم على الترف وحب الدنيا.

ولمناقشة هذين المعيارين، أحثّ القارئ المنصف أن يتمعن أولاً في هذه الآية الشريفة: “قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرّد من قوارير”، فهذا الصرح الذي أدهش ملكة من ملوك الدنيا حتى إنها حسبته بحيرة ماء، وما درت أنه مبنيّ من الزجاج، كان جزءاً من قصر نبيّ الله سليمان -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- وما أظن أن معاوية ولا غيره من الأمويين أو العباسيين قد بنى مثله، وهذه الآية تجعلنا نجزم أن سمت الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- في الزهد والتقشّف كان سمتاً منبثقاً من طبيعتهم وبيئتهم التي نشؤوا فيها، وليس شرطاً من شروط الحكم الرشيد، فلا يطلب من الحاكم المسلم أن ينام على الرمل أو يحلب الشاة أو يلبس المرقّعات، خاصة بعد أن رأينا أن هذا الزهد قد سهّل على الأعداء المتربصين الوصول إلى مركز القيادة في الأمة، فتم قتل الخلفاء الثلاثة «عمر وعثمان وعلي” بأسهل الممكن، وكادت الأمة كلها أن تذهب وتنتهي، بينما لم يتمكن أولئك من الوصول إلى أي خليفة أموي أو عباسي، فبأي منهج علمي أو سياسي أو إداري يتم إغفال هذه الحقائق، ويُكتفى بمحاكمة التاريخ بمعيار الزهد والورع ونقاوة الروح، وكأن الإسلام يدعو إلى حكم ديني مقدّس، يرأسه قديسون وليس بشراً مثل بقية البشر.

أما الحديث، فقد روى البخاري في صحيحه حواراً بين العباس وعلي حول خلافة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا نصّه: ” أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- خرج من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أصبح بحمد الله بارئاً، فأخذ بيده عباس بن عبدالمطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سوف يُتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبدالمطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلنسأله فيمن هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا، فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده”.

إن هذه الرواية تكمّل لنا الصورة المعبّرة بشكل عادل ومتوازن عن طبيعة ذلك العصر ونظرته للحكم والحاكم، وكيف أن الحكم الوراثي السلالي ما زال جزءاً من الثقافة العامة، فالصحابة -رضي الله عنهم- لم يخرجوا عن بيئتهم، ولم ينسلخوا من بشريتهم، وإن كانوا متفاوتين في فضلهم ومكانتهم.

المصدر: https://islamonline.net/28680

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك