الخلاص في التجربة الدينيّة المسيحيّة: من التاريخ إلى الإيمان

ياسين اليحياوي

 

نحن نعلم أنّه ليس بوسعنا إدراك المقدّس إلاّ عبر تجلّياته التي هي دائما تجلّيات تاريخيّة مشروطة. لكنّ دراسة هذه التجلّيات لا تحيطنا علما، لا بما هو المقدّس، ولا بما تعنيه التجربة الدينية فعليّا“

ميرتشيا إلياده

تُعدّ العديد من الظواهر الدينية، وليدة حدث تاريخي مُعيّن[1]؛ يجري إنتاجها وبلورتها من أجل تفسير هذا الحدث، لتُلفّ بذلك الواقعة التاريخية بحمولة دينية، تجعلها حاضرة بشكل دوري في السلوك الفردي والجماعي، من خلال آليات الاستذكار وإعادة إنتاج المعنى، سواء من عن طريق الميثة أو العقيدة أو الطقس. وقد يكون الحدث محوراً في البنية الذهنية، يُفسر باقي الظواهر الدينية المنضوية تحته، خصوصاً إذا احتفظت به الذاكرة كقصّة ملحمية [Epic] أو مأساوية [Tragic]؛ وذلك من قبيل الأحداث الأخيرة لحياة يسوع، التي أُعطِيَتْ بعُداً كونياً ومُتعالياً على التاريخ، مُكوّنة بذلك أساس عقيدة الخلاص في المسيحية.

يظهر بشكل جليّ حضور البُعد الديني في عملية التأويل، عندما يُصبح حلول المقدّس في التاريخ، سرديةً مشتركة بين جماعة المؤمنين

بحث عن المعنى

يعود تأسيس هذه العقيدة إلى عملية تأويل مُستمرّة لحدث تاريخي من أجل إضفاء المعنى عليه. ذلك أنَّ يسوع، حسب المُتخيّل المسيحي، لم يُصلب بتُهمة التمرّد على الإمبراطورية الرومانية، أو التجذيف خارج الدين اليهودي؛ وإنَّما صُلب لأنَّ الحدث نفسه يُشكل محور المُهمّة التي أراد يسوع إنجازها. والشواهد في ذلك من كتابات آباء الكنيسة الأوائل عديدة ومتفرقة، لكن سأنقل نصا في الكوميديا الإلهية، الذي يُعد خزّانا لثلاثة عشر قرنا من الإرث المسيحي؛ يقول فيه دانتي أليجيري في الأنشودة السابعة من كتاب الفردوس:

"إنَّ ذلك الرجل الذي لم تلده أمٌّ

لعن كل سلالته حينما لعن نفسه

إذ لم تحتمل إرادته عناناً قُصد به خيره

ولذلك، فقد أطرح الجنس البشري وهو عاجز

وغارق في الخطيئة قرونا كثيرة هناك في أسفل

حتى راق كلمة الله (المسيح) أن ينزل

حيث وحَّد في شخصه بفعل محبته الأبدية فحسب

تلك الطبيعة التي كانت قد مضتْ نائيةً عن خالقها (…)

وعلى ذلك فلو قيس العقاب الذي أوقعه الصليب

بالطبيعة التي اتُخذتْ

لما فاقه في ضراوته غيره بمثل هذه العدالة أبداً"[2].

يظهر بشكل جليّ حضور البُعد الديني في عملية التأويل، وذلك عندما يُصبح حلول المقدّس في التاريخ، سرديةً مشتركة بين جماعة المؤمنين؛ ليتحوّل فيما بعد إلى قانون العقيدة، إذ مع القرن الرابع الذي يُعدّ مرحلة اكتمال تطوّر تأويل عقيدة الخلاص، نجد اتحاداً بين الإله والزمن، بعد أن نضجت صورة يسوع الإلهية في وثيقة قانون الإيمان التي عُمّمتْ على المسيحيين بعد مجمع نيقية. ويظل أبرز ما ترتّب على دخول المُقدّس حيز التاريخ، انتقال صلب يسوع، من حدث تاريخي إلى مفهوم ديني مُتجاوز له، مُشكّلا أساس المُعتقد المسيحي في تصوّر علاقة الإنسان بالإله والكون.

على الرغم من مركزية تأويل حدث الصلب ليرمز إلى الخلاص من الخطيئة، وذلك في قانون نيقية ولاهوت الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية؛ إلاّ أنَّ حضوره يظلّ خافتاً في العهد الجديد[3]، إذا ما قورن بنصوص أخرى لا تُبدي أي اهتمام بالخطيئة الأصلية عند الحديث عن مُهمة يسوع أو مفهوم الخلاص، الأمر الذي يُثير إشكالية البحث عن أصول هذا المُعتقد وكيفية إدراجه في قانون الإيمان.

الخلاص من الخطيئة: من الليتورجيا إلى العقيدة

تذهب بعض الدراسات[4] إلى أنّ نصوص العهد الجديد التي تتحدث عن الخلاص وعن طبيعة ومُهمة المسيح، هي نصوص ذات طبيعة ليتورجية؛ تتألف من ابتهالات وترانيم صوفية تُقدَّم أثناء إقامة الطقوس الدينية وتلاوة نصوص العهد الجديد. توجد هذه النصوص في بداية إنجيل يوحنا 1/1-18، وكذلك بداية بعض رسائل بولس كرسالته للعبرانيين ورسالة كولوسي، وأحيانا تكون في بداية موضوعات مُعيّنة كرسالة كورنثوس الأولى 8/6، أو في آخر الرسائل، من قبيل رسالة تيموثاوس الأولى 3/16. إنّ الأخذ بالحُسبان موضع هذه النصوص داخل السِفر، مع استصحاب مُهمة النصوص الليتورجية، يُحيل على إمكانية تسرّب نصوص يهودية إلى العهد الجديد، سواء كانتْ مُقتبسة من نصوص العهد القديم أو من أشعار وترانيم تُتلا في الشعائر الدينية، خصوصاً إذا ما استحضرنا الخلفية اليهودية للجماعات المسيحية المُبكّرة، دون إغفال الأثر الهيلينستي في هذه النصوص.

البُنى العقائدية والأدبية اليهودية، تحضر بشكل لافت في تركيبة عدد من النصوص الليتورجيا المسيحية

فإنجيل يوحنا الذي يعود إلى أواخر القرن الأول ميلادي، جُمع على عدّة مراحل، وكان التوفيق بين الروايات الشفهية المُتداولة في القرن الأول الميلادي يُشكّل مرحلة بداية الجمع، ثم تلته مرحلة ثانية من التبشير داخل جماعة مسيحية من أفسس، لها لاهوتها الخاص المتأثر بالفكر الهيلينستي، وبمعية شخص بارز في هذه الجماعة تحدّدتْ طريقة التعليم والتبشير، ولعل هذا ما يُفسر إقحام مُقدمة الإنجيل، ذات الطبيعة الليتورجية الهيلينستية، التي تُليتْ في البداية كترانيم مُمهِّدةً لقراءة الإنجيل والنصوص الدينية؛ لتُدمج بعدها في متن إنجيل يوحنا[5]؛ هذه الفرضية يُمكن تطبيقها على كتابات بولس، التي دُوِّنتْ بداية كرسائل لجماعات مسيحية وكنائس مُتفرقة، بهدف التعليم والتبشير؛ ومن غير المُستبعد أيضا، أن تكون النصوص الليتورجية بشأن مفهوم الخلاص من الخطيئة، قد أضيفتْ إلى رسائل بولس، بالطريقة نفسها التي أضيفتْ إلى مُقدّمة إنجيل يوحنا.

أما فيما يخص تأثر الجماعات المسيحية الأولى بالأدب اليهودي، فليس واضحاً أنَّ النصوص اليهودية في العهد القديم قد انتقلت بشكل حرفي إلى العهد الجديد؛ غير أنَّ البُنى العقائدية والأدبية اليهودية، تحضر بشكل لافت في تركيبة عدد من النصوص الليتورجيا المسيحية، إذ تُظهر مُقارنات أولية للصيغة الأدبية لنص سفر الأمثال 8/22-36، مع مقدّمة إنجيل يوحنا 1/1-18 تشابهاً في تصوّر سفر الأمثال لأورشليم مع تصوّر نصّ يوحنا لطبيعة ومُهمّة يسوع.

ولم تكن نصوص الحكمة في العهد القديم وحدها حاضرة في تشكّل مُتخيّل المسيحيين الأوائل لطبيعة ومُهمة يسوع، إذ يُمكن الوقوف على مصادر أخرى تُظهر صلتها الوثيقة بنصوص العهد الجديد، وتحديداً نصوص يهودية تعود لـ"فيلون الإسكندري" (ت. 54 م) وسفر الحكمة لسليمان. ويظل تأثير يهود الشتات أكثر وضوحاً في مُقدمة إنجيل يوحنا مقارنة مع باقي النصوص الليتورجية، وذلك من خلال أول نص في المُقدمة المُستهل بـ: "في البدء كانت الكلمة" [يوحنا 1/1]، فكاتب هذا الإنجيل -سواء تعلق الأمر بشخص واحد أو بعملية تدوين تراكمية لجماعة أفسس- هو الوحيد من استعمل مُصطلح "كلمة" في سائر أسفار العهد الجديد القانونية؛ ونجد هذا الاستعمال بمعناه اللغوي والعقائدي حاضراً في فكر فيلون الإسكندري، الذي اعتقد بوجود وُسطاء بين الإله والناس، جاعلا من أقنون الكلمة إحداها[6].

ليس هناك ما يُشير إلى أنّ فيلون الإسكندري هو مُبدع لاهوت الكلمة، "الوسيط" بين الإله والناس، فقد كان مُتأثراً بالأفلاطونية[7]، وإليهم يُعزى تشكّل اللوغوس "الكلمة" الذي يعمل كوسيط بين الخالق والمخلوقات، مانِحِين إياه القُدرة على الاتصال مع المؤمنين من خلال إنزال الرحمة والنعمة عليهم. ولأوغسطينوس (ت. 430م) اقتباس في كتابه الاعترافات، يحكي فيه أنّه وجد مفهوم "الكلمة" في كتابات الأفلاطونيين، يقول فيه: "وهناك وجدتُ [أي في كُتب الأفلاطونيين المُحدثين]... أنّ المبدأ هو الكلمة، وأنّ الكلمة كان عند الله، وأن الكلمة كان الله، وأنّ الكلمة لم ينبثق لا من جسد الإنسان ... وإنما من الله"[8]. وعلى الرغم من أنَّ هذا المفهوم لم يكن فيلون إلاّ متأثراً به، إلاّ أنّه يظلّ أحد فلاسفة الأفلاطونية البارزين في القرن الأول ميلادي، الذي احتفظ بيهوديته واستطاع تكييفها مع الفلسفة الهيلينستية وتحديداً الأفلاطونية. وقد كان لكتاباته نفوذ كبير على الجماعات المسيحية التي استقرت في الاسكندرية[9]، والتي بدورها كان لها تأثير في تطوّر اللاهوت المسيحي. في حين تذهب دراسات أخرى[10] إلى أنّ النصوص الليتورجية التي تحدثتْ عن ميثة المُخلّص والخطيئة، انتقلت إلى المسيحيين الأوائل من خلال الفكر اليهودي المتأثّر بالديانات الأخرى وليس بالفلسفة الأفلاطونية.

وعلى الرغم من أن مفهوم الوسيط "الكلمة" ذو الطبيعة الإلهية، لم تكن مهامّه كمُخَلِّص واضحة المعالم عند فليون[11]، إلا أنّ اللاهوت المسيحي استطاع دمج "الكلمة" مع آلام الصلب وقصّة القيامة، ليتحوّل بذلك يسوع نفسه إلى كلمة المخلّص من الخطيئة.

وإذا كان تعريف الخطيئة قد تغيرتْ دلالته مع إدراج فكرة الصلب والقيامة، ثم الاعتقاد بالوساطة متمثلة في جعل يسوع هو الكلمة، فإنَّ نصوص العهد القديم لا تُشير للمعنى نفسه، ناهيك عن كون فكرة الخطيئة الأصلية قد شهدتْ تطوّراً على مرّ الزمن، إلى أن جعلها أوغسطين من أساسيات الإيمان المسيحي، بعد أن قدَّم تأويله الخاصّ لقصّة سقوط آدم وحواء.

 

بيبليوغرافيا

إميل برهييه، تاريخ الفلسفة: الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، ط 2 (بيروت: دار الطليعة، 1988).

دانتي أليجييري، الكوميديا الإلهية: النشيد الثالث الفردوس، ترجمة حسن عثمان (القاهرة: دار المعارف بمصر، 1968)

Bart Ehrman, The New Testament: A Historical Introduction to the Early Christian Writings (Oxford: Oxford University Press, 1997).

Cox R. Ronald, By the Same Word: Creation and Salvation in Hellenistic Judaism and Early Christianity (Berlin, Boston: De Gruyter, 2007).

Dillon M. John, The Middle Platonists: 80 B.C. to A.D. 220 (New York: Cornell University Press, 1996).

Frank Moore Cross, Canaanite Myth and Hebrew Epic: Essays in the History of Religion of Israel (Cambridge: Harvard University Press, 1973).

Johansen Karsten Friis, A History of Ancient Philosophy: From the Beginnings to Augustine ([London]: Routledge, 2012), p. 538.

Lebreton Jules, Histoire du dogme de la trinité: des origines à saint Augustin (Paris: G. Beauchesne, 1910).

Saint Augustine, Confessions (Peabody: Hendrickson Publishers, 2011).

Sanders T. Jack, The New Testament Christological Hymns: Their Historical Religious Background, (Cambridge: Cambridge University Press, 2004).

Wilken Robert Louis, Aspects of Wisdom in Judaism and Early Christianity (Notre Dame: University of Notre Dame Press, 1975).

[1]- Frank Moore Cross, Canaanite Myth and Hebrew Epic: Essays in the History of Religion of Israel (Cambridge: Harvard University Press, 1973), p. 87.

[2]- دانتي أليجييري، الكوميديا الإلهية: النشيد الثالث الفردوس، ترجمة حسن عثمان (القاهرة: دار المعارف بمصر، 1968) ص 158-159.

[3]- متى 26/28؛ رومية 3/24-25؛ رومية 10/9-10؛ كورنثوس الأولى 2/2؛ وغيرها.

[4]- منذ بداية القرن الماضي، بذل العلماء والمُتخصصون جُهدا كبيرا لدراسة النصوص الليتورجية للجماعات المسيحية المُبكرة، وقد جرى التركيز بشكل كبير على نصوص في العهد الجديد تتحدث عن طبيعة ومُهمة المسيح: يوحنا 1/1-18؛ فيليبي 2/6-11؛ أفسس 1/15-20؛ العبرانيين 1/2-4؛ رسالة بطرس الأولى 2/14-16، 3/18-22. من أبرز هذه الدراسات التي تتعرض للموضوع وأيضا للدراسات حوله نجد:

Wilken Robert Louis, Aspects of Wisdom in Judaism and Early Christianity (Notre Dame: University of Notre Dame Press, 1975).

Sanders T. Jack, The New Testament Christological Hymns: Their Historical Religious Background, (Cambridge: Cambridge University Press, 2004).

[5]- يُرجح بارث إيرمان تأثر مقدمة إنجيل يوحنا بالأدب الهيليني، مُؤكداً أنّ هذه النصوص الأولى من الإنجيل ما هي إلاّ توطئة لقصّة المسيح، ومن عادة السير والقصص حول أبطال الأساطير اليونانية أن تُستفتح بسرد أهم المناقب للشخصية المحورية، وهو ما نجده حاضراً في يوحنا 1/1-18، يُنظر:

Bart Ehrman, The New Testament: A Historical Introduction to the Early Christian Writings (Oxford: Oxford University Press, 1997), p. 143

[6]- Dillon M. John, The Middle Platonists: 80 B.C. to A.D. 220 (New York: Cornell University Press, 1996), p. 158-159; Le breton Jules, Histoire du dogme de la trinité: des origines à saint Augustin (Paris: G. Beauchesne, 1910), tome. 1, p. 183

إميل برهييه، تاريخ الفلسفة: الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، ط 2 (بيروت: دار الطليعة، 1988)، ج 2، ص 227-228

[7]- تحديداً Middle Platonic، ولم أقف حسب اطلاعي على ترجمة عربية لهذا المُصطلح.

[8]- Saint Augustine, Confessions (Peabody: Hendrickson Publishers, 2011), p. 126

[9]- Johansen Karsten Friis, A History of Ancient Philosophy: From the Beginnings to Augustine ([London]: Routledge, 2012), p. 538

[10]- Cf: Cox R. Ronald, By the Same Word: Creation and Salvation in Hellenistic Judaism and Early Christianity (Berlin, Boston: De Gruyter, 2007), p. 6

[11]- يقول أوغسطين في الاعترافات، تتمة للنص السالف الذكر: "لكني لم أقرأ لديهم أنّ الكلمة صار جسداً وحل بيننا...، إنه خفض نفسه بنفسه باتخاذه صورة عبد، وأنه أذل نفسه بنفسه بالتزامه طريق الطاعة حتى الموت وحتى الموت على الصليب". يُنظر: Augustine, Confessions, p. 126

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D8%B5-%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك