سيميائية الخطاب الإعلامي الشفهي وأثره الاستقطابي إبّان ثورات "الربيع العربي"

عاصم طلعت محمّد

 

لعبت البرامج الحوارية التلفازية إبّان ما أطلق عليه "ثورات الربيع العربي" دورا تعبويا لا يمكن إغفاله؛ لما له من قدرة توجيهية استقطابية، دفعت مقدميها إلى التنافس من أجل تحقيق أكبر نسبة متابعة من خلال خلق روح من التآزر الجمعي الذي يدعم نموا مجتمعيا اتصاليا متينا لا ينشأ عبر التواصل التلقائي، ولكن يتم استغلاله من خلال القوة الناعمة الممثلة في الإعلام المرئي.

وبالنظر إلى المسح الميداني للبرامج الحوارية بمصر؛ نجد مما لا يدع مجالا للشك أن الخطاب الإعلامي اتخذ من الشفهية آلية إمتاعية قادرة على الجذب، وأخرى إقناعيه قادرة على التوجيه؛ الأمر الذي تجاوز مبتغاه بتشجيع العوام والمهمشين على الاقتراب من التابوهات المحرمة في السالف والممثلة في المشاركات السياسية والتشريعية، وقد بدا ذلك من خلال انحياز الإعلام إلى متابعة التطورات الثورية المتلاحقة في الشارع المصري، واتخاذها ذريعة لتوجيه القوة الفئوية إلى سلك مسارات أيديولوجية آلت إلى تغيرات سياسية وتطورات اجتماعية تتوافق مع الإفرازات الإثنوغرافية الجديدة؛ الأمر الذي بات محيرا لأصحاب الفكر النخبوي حيال انحراف لغة الاتصال الإعلامي عن مسارها التقليدي الكلاسيكي إلى الخطاب العامي الشعبوي([1])، ليكون ذلك الانحياز أحد الروافد الكاشفة عن مدى الهوة الفارقة بين الشفهية والكتابية في بيئة آثرت الثقافة الشفهية على الكتابية منذ بزوغ نجم حضارتها.

وعلى الرغم من عزوف الباحثين والدارسين عن التنقيب في التراث الشعبي الشفهي مقابل الأدب الرسمي النخبوي إلا في إشارات عابرة عبر الكتب ورصد أخبار الطبقات الشعبية البسيطة؛ لطرافتها والتندر بها ودفع الملل على نحو ما كان يسوقه الجاحظ من أخبار الحمقى والمغفلين والمجانين دون التطرق إلى قوتها الناعمة في التوجيه والاستقطاب؛ فإن "ثورات الربيع العربي" جاءت آذنة بخطاب إعلامي جديد يصبو في أحد مقاصده إلى تحقيق عنصر التسلية والإمتاع للمتلقي في إطار احتضان القيم الإنسانية العالية([2])، من خلال التعبير باللغة المحكية المعنية بالحميمي المقصور على الذات أو على المجموعة التي يمكن أن تشكل الذات([3]). فحين نضع الكلام في سياقه، نجد أن المراد احتضان جمهور المتلقين، فالتعبير الشفهي مثلا أهم ما فيه الصدق والبعد عن التصنع والافتعال، بل هو نابع من تجارب شعورية للمحيط الاجتماعي الذي نشأ فيه([4])؛ الأمر الذي لم يعول عليه السلطات السياسية إبّان الفترة الزمنية محل الدراسة وتلقفتها القوى الثورية ذات التأييد الشعبي عبر خطابات وسمت بالهشاشة السياسية، رغم قبول العوام لها، لما لها من قدرة على دغدغة مشاعر البسطاء، وتقديم حلول بسيطة تهاجم من خلالها المؤسسات، فبدت في مخيال الشعوب راعيا رسميا لحقوق ومتطلبات الثوار، الأمر الذي تلقفته "الأقنية الفضائية" مستبدلة الخطاب الإعلامي النخبوي بالخطاب الإعلامي الشفهي الجديد كبديل حواري يتفق والظرفية الزمنية والمكانية للحدث.

جاءت "ثورات الربيع العربي" آذنة بخطاب إعلامي جديد يصبو في أحد مقاصده إلى تحقيق عنصر التسلية والإمتاع للمتلقي في إطار احتضان القيم الإنسانية العالية

(الأيديولوجية الإعلامية في مصر إبّان ثورات الربيع العربي)

أفرزت الثورات العربية حديثا العديد من التوجهات الإعلامية المتخذة من الشفهية فرس الرهان للتواصل مع المتلقين على اختلاف توجهاتهم وميولهم وتباين ثقافتهم.

وسوف تحاول الدراسة الكشف عن جاذبية الخطاب الإعلامي أوان ما سمي "بثورات الربيع العربي" في مصر من خلال الاستعانة ببعض النماذج الحوارية الممثلة لتوجه أيديولوجي أو فصيل سياسي بعينه، وتحليل المضمون المقدم من خلال منهج سيميائي([5]) قادر على كشف بعض الدلالات المضمرة وتعقب أبعادها التي ساهمت في تطور العملية الثورية وروافدها في الخطاب الإعلامي، الذي اتخذ مسلكين؛ أحدهما مناصر للتيار المدني، والآخر مناصر للتيار الديني، ولم يك ذلك التصنيف لونا من ألوان اختلاق التصانيف الواهية أو شكلا من أشكال افتعال أزمات واهية، بل هي حقيقة واضحة بدت ملامحها تتشكل صراحة أمام الرئيس المعزول "محمد مرسي" في أول لقاء مع الإعلاميين في الاتحادية، حينما صدّر أحد ممثلي القنوات الإعلامية الإسلامية وتحديدا ممثل قناة الرحمة الدكتور/ عاطف عبد الرشيد مخاطبا الرئيس المعزول: "يا ريس الإعلام الإسلامي..."؛ ليقاطع وائل الإبراشي ممثلا عن الإعلام المدني: "أنتم هتكفرونا؟!"

لتكون هذه المخاصمة الشفهية آذنة بالكشف عن حقيقة الصراع المستتر، القائم بين الرافد الإعلامي المدني ونظيره الإسلامي.

أولا: نموذج للخطاب الإعلامي المدني

واكبت البرامج الحوارية الأحداث الثورية بالتزام تيمات (موضوعات نموذجية) معينة تكرر عبر الأقنية الفضائية؛ في إطار من التوافق الأيديولوجي والسياسي مع توجهها الإعلامي.

والحقيقة التاريخية تؤكد على تناسب الظرفية بشقيها مع استخدام التراكيب الشفهية تناسبا طرديا؛ فلا نكاد نرى نصا شفهيا في بيئة ما وأوان بعينه إلا وتشابه في بنيته السردية واللغوية مع النصوص الأخرى المستخدمة، لأن المسير لآلياتها الضمير الجمعي الممارس لها؛ الأمر ذاته الذي أوقع العديد من الباحثين والدارسين في متاهات المناداة بقضية انتحال الشعر الجاهلي الذي اتسم استهلالاته الشعرية بالنمط الثابت الذي لم يحد عنه شعراء عصره؛ غافلين الممارسة الشفهية في إطارها الظرفي، والتي اعتمدت المقدمة الطللية توجها لاشعوريا جمعيا للعربي القديم، الإشكالية ذاتها التي تجلت ملامحها فيما هو آن من خلال إكثار الإعلاميين من استخدام صيغ شفهية بعينها من شأنها أن تسهل على المستمع مهمة الحفظ والترداد لمقاصد أيديولوجية تبناها الخطاب الإعلامي المدني، والتي حامت حول موضوعات بعينها تدور في فلك مطياف (المؤامرة الغربية، الطرف الثالث والتمويل الغربي) وتطورت بتلاحق الأحداث بعبارات (التمويل القطري، السعي القطري نحو تحقيق ريادة عربية جديدة، الطموح التركي في استعادة الخلافة التركية، الأمل الذي يراود مخيال "أردوغان" نحو استعادة خلافة تركية جديدة)

وفي ذلك لجأ الإعلاميون إلى الميل للتراكم في الأفكار بدل تحليلها، عبر توظيف لغوي ييسر تولد العبارات بنمط منطقي من خلال عطف الجمل بعضها على بعض بدلا من تداخلها؛ حتى يغلب – الإعلامي - الحوائل التقعيدية الكتابية منها والشفهية، فتأتي الأفكار بسيطة متتالية بدلا من أن تكون الفكرة مركبة من مجموعة أفكار تستعمل كحيل إقناعية، ويمكن التمثيل لذلك من خلال الممارسة الشفهية لكل إعلامي على حدة بحسب الآلية الشفهية الأكثر استخداما في برنامجه:

(التصاعد القولي التسلسلي)

لجأت "لميس الحديدي" إلى بعض الآليات الحوارية الشفهية – في أغلب استهلالاتها الخطابية - التي من شأنها المساعدة على حفظ الكلام والسير بالفكرة العامة إلى كلام شفهي محال في الذهن إلى مشاهد شاخصة تسير في ذهن المتلقي في اتجاه واحد وأداته (التصاعد القولي التسلسلي)، وهو أن تبتدئ كل عبارة بالكلمة أو بالصيغة التي تبتدئ بها العبارة السالفة، وهذا ما يلجأ إليه الحواري خاصة في العرض المطول لقضية جدلية حوارية؛ بدت فيه (لميس الحديدي) منحازة إلى التحضير والإعداد المسبق، والشاهد على ذلك حلقتها الحوارية المتزامنة مع الاحتفالات بثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي اتخذت منها منبرا تعبويا يهدف إلى الاستقطاب المناهض للتوجه الإخواني الساقط شعبيا([6])، مؤكدة أن ما تم إنجازه ثوريا كان بيد الشعب، على الرغم من تشويه الثورة بتسيد جماعة الإخوان المسلمين على سدة الحكم في مصر، مؤكدة أن يد الإخوان لم يكن لها دور في تحريك القوى الثورية إبّان هذه الفترة؛ معتمدة في ذلك على الآلية الشفهية الممثلة في (التصاعد القولي) الذي جعل من الأفكار المتولدة نصا متماسكا يتكون من وحدات عنقودية موجزة تتصاعد بلفظة واحدة([7])، يسهم ذلك في خدمة التوجه الأيديولوجي التي تبنته وعمدت على إبرازه للمتلقي:

ففي معرض قولها: "صحيح إن اللي قاموا بالثورة ليس كلهم من الأطهار"

"صحيح إنها اتسرقت"

"صحيح إن الإخوان دخلوا وإدروا إنهم يستغلوا الشباب وبعضهم كان نقي، لكن ما نقدرش ننكر إن الملايين نزلوا في الشارع طلبا (للعيش وللحرية والعدالة الاجتماعية)"

اعتمدت الإعلامية على (تصاعد قولي) يبتدئ بكلمة "صحيح" لتتضافر تلك الوحدات العنقودية المتصاعدة لفظيا للتأكيد على تصوير جماعة الإخوان المسلمين في الضمير الجمعي بأنها الجماعة الراغبة في النيل من استقرار مصر، وما نادت به من إعلاء للقيم الإسلامية ليس له محل من الإعراب، والحقيقة تكمن في تحالف أعضائها مع الشيطان طريد الجنة ومخلد النار؛ معتمدة في ذلك على التسلسل اللفظي المتصاعد والمتغلب على عنصر النسيان، مخاطبة اللاشعور الجمعي من خلال التزام سيمات لغوية وغير لغوية تستدعي ما هو فائت من أحداث مصورة داخل أطر منفرة للمتلقي من تلك الجماعة المتزعمة.

التلاعب اللفظي

تتوقف جاذبية الخطاب الشفهي على قدرة المتكلم على استكشاف الألفاظ المحالة إلى إنتاج دلالات اتفق عليها الضمير الجمعي لممارسيها، وبفضل هذا الذكاء الاجتماعي استطاعت اللغة الشفهية أن تسلك ملفوظات هي عبارة عن تراكيب وجيزة ذات تميز فونولوجي ودلالي، ترسخ هذه الملفوظات بعد عهد من العهود كالرموز الخطية، كالأمثال الشعبية، التي تعد من أقوى العوامل التي صانت اللغة الشفهية من الاندثار، بل ودفعت إلى (التلاعب اللفظي) الذي يؤثره المتلقي الممارس للثقافة الشفهية والواعي بالدلالة الهامشية المصاحبة لتلعب دورا فعالا في الإشارة إلى دلالات لم ينطق بها المتكلم غير أنها مفهومة ومتداولة للمتلقي الممارس للغة.

كما أثرت الإحالات اللفظية القائمة على الطرّفة والفكاهة في قطاع كبير من المتلقين وخاصة من يميل منهم إلى التراث الريفي، ليتلقف الإعلامي "توفيق عكاشة" تلك الخاصية اللغوية - سالفة الذكر - مؤثرا في قطاع بعينه من خلال التماس مع اللاشعور الشعبي عبر برنامجه الحواري، معظما من التراث الشعبي باعتباره آلية تواصلية تفرد بها عن أقرانه في إطار من الفكاهة بلهجة عامية ساهمت في عرضه لقضايا وهموم الناس عبر تفجير السخرية بما يتفق وثقافة وميول متلقيه؛ وقد بدا ذلك الأمر من خلال تهكمه – توفيق عكاشة - على دولة قطر التي ساهمت في تدعيم قوى الإرهاب في مصر؛ مشيرا إلى أن القائمين على سدة الحكم في قطر مختلون عقليا ويتوارثهم في الحكم المنحرفون فكريا؛ مؤكدا على مدى الهوة العدائية القائمة بين قطر الدويلة المشجعة للإرهاب والتطرف في المنطقة ومصر؛ بغية التعبئة النفسية الشعبية الساعية إلى تعميق كراهية الرافد الفكري والثقافي الوافد من قطر أمام حالة الإصلاح المؤسساتي في مصر([8])؛ فالتلاعب اللفظي المحيل إلى دلالات مرادة، كان الآلية الشفهية المختارة من خلال الانحياز للتراث الشعبي الذي يعد مرجعية أخلاقية عرفية عند قطاع كبير من المتلقين في القرى والأحياء الشعبية قليلة الممارسة الكتابية النخبوية.

ويمكن الاستشهاد بإحدى الحلقات الحوارية لبرنامجه، والذي صدّر حديثه فيه بالدعوة إلى إنشاء مستشفى للأمراض العقلية في قطر لمعالجة القائمين على سدة الحكم بها، والذي أخذ عدة مناحي:

ففي معرض التهكم على أمير قطر الأب قال:

"أنت فاكر يا فيل يا أبو شنب لما جتلك بواسير..."

جاءت الألفاظ الشفهية حاملة لدلالات هامشية تحط من شأن كبير الدولة (العائل)؛ وهذا ما يدفع المتلقي للنظر إلى قطر بعين الاستهانة بعد أن ذكر كبيرها بما لا يصح أن يذكر به أي كبير، مخاطبا اللاشعور الجمعي والموروث الثقافي الريفي عند المتلقي من خلال التأكيد على ضآلة تلك الدويلة التي يهان كبيرها.

وفي معرض التهكم على سيدة الدولة الأولى، قال:

"و بعدين ...موزة لما تيجي تسألها: أنت يا موزة عملتي أربعتاشر عملية تجميل تقولك لاء!"

"لما تيجي تقول لابنها: يا بني أنت دخلت مستشفى الأمراض العقلية، مركز للصحة النفسية في إنجلترا؛ يقولك: ما حصلش!"

بناء سردي شفهي ذو صبغة ريفية مصرية حُمل بدلالات تخاطب اللاشعور الجمعي للمتلقي المستهدف استمالة واستقطابا من خلال تقاطع الجندر في ظلال موروث ثقافي شعبي؛ يحط من مكانة المرأة محل الكلام – بحسب الثقافة العشائرية - في بيئة ألفت توقير المرأة وتنصيبها مكانة مقدسة شريطة محافظة المرأة ذاتها على تلك المكانة المعطاة إياها في إطار العرف والتقاليد المتوجين لها.

فالحكاية الحوارية المستخدمة دفعت اللاشعور عند المتلقي للنظر إلى قطر وكأنها العدو الذي يصبو إلى النيل من مصر؛ دافعا المتلقي إلى المشاركة الوجدانية بعد التصديق اللاشعوري والانحياز للتوجه الأيديولوجي المروج له في برنامجه الحواري.

صدمة الانتباه:

وقد تمتد الإحالة اللفظية إلى استخدام بعض الألفاظ التي تقع في ضمير المتلقي كالصدمة لعدم اعتياده سماعها عبر شاشات التلفاز، والتي قد تتناسب وجلال الموقف الذي سيقت فيه، كما جاء في خطاب الإعلامي "عمرو أديب" الذي انحاز في خطابه الشفهي إلى (التلاعب الصوتي)([9]) من أجل إضفاء الحيوية على المنطوق عبر توظيف صوتي منغم يمكن الاصطلاح عليه "بما هو وراء اللغة" تمثل في تحميل الألفاظ دلالات هامشية غير مسرودة، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال تعرضه في برنامجه الحواري إبّان تحقيق ثورة الخامس والعشرين من يناير مأربها الأكبر في عزل النظام الحاكم الذي ترأسه محمد حسني مبارك([10]):

ففي معرض بيان المفارقة الاجتماعية بين السالف وما هو مأمول من الثورة، استعاد – عمرو أديب - ما هو ماضٍ في ذاكرة اللاشعور الجمعي لدى السواد الأعظم من المصريين آنها، منتقلا إلى سرد مظلمة شخصية واقعة عليه ذاته وأسرته بغية استعطاف العديد من المشاهدين بتمثل صوتي يسير على تنغيم ثابت يحمل دلالة الإذلال والوقوع تحت سطوة القهر والظلم، ليعاود (التلاعب الصوتي) ارتفاعا بلفظة خارجة، حينما قال:

- "كان الناس بيضّربوا أُدام أمهاتهم ومراتتهم بالجزم، وبالبراطيش، كانوا بيتخوزؤوا ..."

- "يخصوا شعب بأكمله"

عبارات لفظية جاءت صادمة لانتباه المتلقي عبر مدلول لفظي خارج؛ ضَمَنَ لنصه البقاء في ذهن المتلقي، رغم تأثيرات النسيان الملازمة للظرفية المكانية والزمنية.

ومن ثم يتجلى للرائي مزية الشفهية المعتمدة على العفوية، والتي تفرض على المتكلم أن تكون مراجعاته ملموسة ولا تتقيد باستعمال الإنشاءات الرفيعة والمعقدة، وقاموسه الأساسي قائم على الكلمات ذات الوظيفة الانتباهية phatique function، غرضها الاتصال الشفهي بين المتكلم والمستمع للخطاب؛ معتمدا على ما يحضره من مفردات كثيرة الاستعمال لا يتكلفها، وهذا التصحيح أو الترقيع كما سماه ليفي – ستراوس Bricolage من سمات الفكر البدائي([11])، الذي يعد الأقدر على الوصول إلى نتائج جيدة غير منتظرة.

ولم يك ذلك التقارب السردي القائم على الخطاب "الإعلامي المدني" أمرا غريبا بل بديهيا، جاء نتاج ممارسة شفهية مناصرة لمبدأ أيديولوجي اتفق مع متطلبات وميول اللاشعور الجمعي للمتلقين الذين آمنوا بفكرة مناهضة النظام المنحل – التيار الديني - وما بقى له من فلول، تخلى فيه الإعلامي المدني عن دوره الناقل للأحداث إلى الدور التعبوي؛ كاشفا فيه النقاب عن دهاء الآخر الممثل في (الفساد، المؤامرة القطرية، وصراع البقاء على الهوية المصرية التي تتلاشى أمام تصاعد الهوية الإخوانية والمؤيدة من الدولة العثمانية ومطيافها الزائف) من خلال الاستعانة بآليات شفهية تستهدف المتلقي استقطابا؛ وحشده كقوة جمعية مناصرة.

ثانيا: نموذج للخطاب الإعلامي الديني

سارت البرامج الحوارية للإعلام الديني على نفس النهج الدعوي الذي تبناه فكر الإسلام السياسي المنحاز إلى الشفهية آلية استقطابية تواصلية مع المتلقين، والذي أتى ثماره في العقود السالفة، رغم التوجه القمعي المحاط به اجتماعيا وسياسيا؛ اعتمد فيه على الاستهلال الترغيبي المقرون بما "وراء اللغة" من تلاعب صوتي وإشارات جسدية تتفق والثقافة الإثنوغرافية المصرية، الأمر الذي يدفع بالمتكلم إلى حتمية الاعتماد على الجمع ما بين الفصحى والعامية؛ توافقا مع المادة الدينية المستدعاة في خطابه الدعوي وتوافقا مع ثقافة المتلقي الشفهية التي تميل إلى العامية وممارساتها، الأمر الذي يحتم ضرورة الاعتماد على منهجية تواصلية حجاجيه تعظم من الجانب الإقناعي.

وعلى هذا يمكن الاستعانة بنموذج إعلامي ديني، يبين الآليات الشفهية الجاذبة:

أولاها: السلّم الحجاجي

وفيه يلجأ الحواري الممثل للتيار الديني إلى الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، والتي تنزل في ضمير المخاطب مقام الحجة والبرهان المسلم بها، فضلا عن كونها آلية حافزة تذكر المستخدم بما توصل إليه من نتائج، وقد تجلى ذلك من خلال المسح الميداني لبرنامج خالد عبد الله)[12]) المذاع يوم الاثنين 16 من ربيع الأول 1434 هـ الموافق 28 يناير 2013م، إبّان مدّ حالة الطوارئ القائمة في مصر، والذي ارتكز فيه - الحواري - على محاولة استمالة العديد من المشاهدين إلى حالة الاستنفار من الممارسات الإعلامية الموالية للتيار المدني؛ في إطار محاولة لإبراز مساوئه وإلباسه عباءة الشيطان بمناهضته للتوجه الإسلامي وشريعته، مداعبا اللاشعور الجمعي للمتلقّي ذي المرجعية الدينية؛ الأمر الذي برر للحواري الدعاء على الإعلام المدني:

ففي معرض دعاء خالد عبد الله؛ قائلا: "....اللهم إنك تعلم أنهم يكرهون دينك، ويعادون دينك ويعادون نبيك، بل ويحبون الكافرين على المؤمنين، بل ويقولون على الكافرين أهدى من الذين آمنوا سبيلا ...."

يتجلى للرائي استعانته بعبارة مقتبسة من النص القرآني المبارك وبخاصة سورة النساء الآية (51) والتي نزلت في ضمير المتلقين ذوي المرجعية الدينية منزلة الحجة والبرهان الأعلى الذي انتهى إليه الإعلامي في سلّمه الحجاجي المتدرج بالأدلة والشواهد المستدعاة من النص القرآني؛ للبرهنة على أنّ ما توصل إليه - الحواري - من نتائج مؤيدة بتأييد كلام الخالق، وباتت نتائجه فريضة سماوية واجبة النفاذ؛ الأمر الذي أهله إلى استبدال دوره الإعلامي بالدور الوعظي في نهاية سلمه الحجاجي.

ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال استعانته بدعاء يناشد فيه المتلقي بالتأمين على ما يقول كما هو معتاد في ختام المجالس الدينية، بيد أن اللافت للنظر أن الدعاء قد تضمن توجهات سياسية داعية إلى ترسيخ اليقين في ضمير المتلقي والمشاهد بأن المقاصد الإعلامية المدنية باطلة ترنو إلى القضاء على الإسلام وشريعته، ففي معرض قوله:

"...اللهم عليك بإعلام المسيح الدجّال، عليك بأبي لهب الإعلام، وأبي جهل الإعلام، وأم جميل الإعلام، ورويبضة الإعلام..."

اعتمد إحالات لفظية تصبو نحو شخوص حاولت التنكيل بالإسلام والمسلمين حين بزوغه، ليشيع بشاعة متابعة الإعلاميين المناصرين للتوجه المدني في مقابل التيار الإسلامي، باعتبارهم مشيعين للفوضى وداعين إلى التقتيل بين أبناء الأمة الإسلامية؛ مستشهدا بمداخلاتهم الهاتفية عبر برامجهم التى وصفها بأنها يندى لها جبين الحيوان قبل جبين الإنسان – على حد قوله – مؤكدا أن الإعلام المدني كاره لدين الإسلام ولدعوة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم -، فيدفع اللاشعور عند المتلقي وكأنه يرى في شاشة التلفاز كيف يعاد تاريخ المسلمين الأوائل بما فيه من مناهضة وبما قابله من فداء واستشهاد من أجل إعلاء كلمة الإسلام.

ثانيها: الجمع بين الفصحى والعامية

ومن خلال التطرق إلى النموذج السالف ذاته، بدا للإعلامي خالد عبد الله دور بارز في صياغة الخطاب الإعلامي بسرد يمزج فيه بين الفصحى والعامية، تلك الآلية التي وسمت التيار الإعلامي الديني بمصر، فليس ثمة شيء يستخدمه المحاور خارج العقل، لأن المنطوق الشفهي يكون قد تلاشى بمجرد أن ينطق به، ومن ثم يكون على العقل أن يتحرك إلى الأمام بشكل متحفظ، قريبا من بؤرة الانتباه بالكثير مما تناوله قبلا، ذلك أن الإطناب (بصياغة مختلفة) يجعل كلا من المتكلم والسامع على الخط بشكل مؤكد([13])، لذلك نجده يستعين ببعض العبارات العامية وألفاظها حتى لا ينفصل فكريا وشعوريا عن المتلقي المستهدف توجيها واستقطابا.

تكمن أهمية الخطاب الإعلامي في بيان مدى الهوة الفارقة بين الخطاب الشفهي والمكتوب، بعد أن ثبت في آن انحياز الميول والرغبات الجمعية إلى الأول على الثاني.

وبالتدقيق في الخطاب الشفهي للإعلامي – خالد عبد الله – يجد المتأمل جمعا بين نمطين شفهيين:

أولهما: فصيح الألفاظ ذات المرجعية الدينية في ظاهرها، حاملة في الباطن توجها سياسيا تثويريا يؤجج في ضمير المستمع الرغبة في مناصرة الإسلام والشريعة.

ثانيها: اللهجة العامية التي تمكنه من التوجه صوب مناهضة الإعلام المدني الغريم بسرد شفهي عامي يتفق وثقافة السواد الأعظم؛ ضامنا فيه مداعبة اللاشعور الجمعي على اختلاف وتفاوت ثقافة المتلقين في ما بينهم، والممثل لوجهين:

أحدها: فيما هو راسخ وأصيل ثقافي، ممثلا في الثقافة العامية (الأولية).

وثانيها: ما هو وافد مكتسب - الفصيح النخبوي - إثر التطور الاجتماعي والثقافي الملازم للظرفية الزمنية والمكانية للمتلقي.

وفي ذلك يمكن الاستعانة بذات المصدر الصوتي السالف الذي تم التهكم فيه على الإعلامي "وائل الأبراشي" الذي نال وابلا من الدعوات التي ترسخ في ضمير المتلقي اليقين بأنه من المارقين عن الشريعة الإسلامية والمناهضين لأصولها وفروعها على السواء؛ حينما استضاف أحد أمناء الشرطة المنادين بتجهيز جيش جديد مناهض للسلطة الدينية المتسيدة للمشهد السلطوي في مصر بالشرعية الانتخابية، ثم اللعب على الجانب العقدي والأخلاقي الممارس في الثقافة المصرية بإحالة القضية من خلال التدرج الحجاجي إلى خلاف عقدي لا سياسي، الأمر الذي أهله إلى الاستعانة بالصدمات الانتباهية والممثلة في الألفاظ الخارجة المستعان بها والمسربلة بالثوب الإسلامي، مثل: (مخنثو الإسلام، الرويبضة) والتي من شأنها المساهمة في تأجيج الكراهية لكل ما هو غير ديني، بل غير إخواني.

النتائج:

تكمن أهمية الخطاب الإعلامي في بيان مدى الهوة الفارقة بين الخطاب الشفهي والمكتوب، بعد أن ثبت في آن انحياز الميول والرغبات الجمعية إلى الأول على الثاني.

أكدت الممارسة الشفهية على قدرتها الاستقطابية التوجيهية؛ لما لها من مزية توقيفية تمكنها من مسايرة التغيرات الظرفية، والتي من شأنها أن تبرر نمو العديد من الظواهر الاجتماعية الحديثة، مثل التوجهات (الشعبوية، التثويرية، والإرهابية) التي غلبت في ممارساتها التواصلية الصوت وممارساته على العقل وتأملاته التقدمية.

التوصية:

ضرورة النظر إلى درس الشفهية، باعتباره علما له أصوله التقعيدية بديلا عن النظرة التراثية الفلكلورية.

 

المراجع

أولا: الكتب العربية

عبد الجليل مرتاض، اللغة والتواصل، اقترابات لسانية للتواصلين الشفهي والكتابي دار هومة الجزائر 2000

وجيه فانوس، مخاطبات من الضفة الأخرى من النقد الأدبي، اتحاد الكتاب اللبنانيين، ط 1، بيروت 2001

ولتر أونج، الشفاهية والكتابية، ترجمة: د.حسن البناعز الدين، مراجعة د.محمد عصفور، عالم المعارف، 182، الكويت.

ثانيا: الدراسات العربية

نبيل عبد الفتاح – دراسة بعنوان: "هذا كلام نظري"، موقع التحرير الإلكتروني، بتاريخ 20/4/2017

ثالثا: المصادر الأجنبية

Claude Levi-stauss: Social Anthropology and History, by J.H.Bell and J.R.VON STURMER-ÉDITIONS, 1970

Oswald Ducrot/ Tzvetan Todorov.Dictionnaire encyclopedique des sciences du langage. Seuil.Paris- ÉDITIONS, 1972

Youcef Nacib. Eléments sur la tradition orale. Ed SNED Alger 1981

رابعا: المواقع الإلكترونية

lang.alamontada.com/t2-topic

حامسا: الوسائط المرئية الإلكترونية

www.youtube.com/watch?v=YnEHOIkYjFc

www.youtube.com/watch?v=ccd7Vqyfsbk

www.youtube.com/watch?v=Ep5o4HiMsa0

www.youtube.com/watch?v=VSZXUVfIlvw

[1]- نبيل عبد الفتاح - دراسة بعنوان: "هذا كلام نظري"، موقع التحرير الإلكتروني، بتاريخ 20/4/2017

[2]- عبد الجليل مرتاض، اللغة والتواصل، اقترابات لسانية للتواصلين الشفهي والكتابي دار هومة الجزائر 2000، ص 123

[3]- وجيه فانوس، مخاطبات من الضفة الاخرى من النقد الأدبي، اتحاد الكتاب اللبنانيين، ط 1، بيروت 2001، ص 180                                 

[4] -Youcef Nacib.Elements sur la tradition orale Ed SNED Alger 1981 p.8

[5]- تُجْمع عدة كتابات ومعاجم لغوية وسيميائية على أن السيميائية هي ذلك العلم الذي يُعْنَى بدراسة العلامات. وبهذا عرفها "فرديناند دي سوسير"، و"جورج مونان"، و"كريستيان ميتز"، و"تزفيتان تودوروف"، و"جوليان غريماص"، و"جون دوبوا"، و"رولان بارث"، وآخرون. ويبدو أن تعريف "مونان" أوفى هذه التعريفات وأجودها، إذ يحدد السيميولوجيا بأنها "العلم العام الذي يدرس كل أنساق العلامات (أو الرموز) التي بفضلها يتحقق التواصل بين الناس" نقلا عن:

lang.alamontada.com/t2-topic

[6]- الرابط: www.youtube.com/watch?v=YnEHOIkYjFc

[7]- Oswald Ducrot/ Tzvetan Todorov.Dictionnaire encyclopedique des sciences du langage. seuil.Paris, 1970. p.417

[8]- الرابط: www.youtube.com/watch?v=ccd7Vqyfsbk

[9]- من المميزات التي احتفظت بها اللغة الشفهية أنها تكون غالبا مرفقة بالبنية ما فوق المقطعية Suprasegment التي تمكن المتكلم من التهدج باللفظ والتبرم على هامش التنغيم الصوتي أحيانا، محاذاة مع ممارسة غير لغوية فيما هو معروف "بما وراء اللغة" من إشارات جسدية يحيل ما هو غير لغوي وشعوري إلى ما هو مدرك ومحسوس، هذه الملكه تؤدي مظاهر تعبيرية متنوعة، وتفتقر إليها الكتابية المتصفة بالجمود، ويقصد بها مجمل الظروف التي جرى داخلها الفعل الكلامي، وتضم المحيط الفيزيائي المادي والاجتماعي الذي نطق فيه الكلام، كما تضم الصورة التي شكلها السامعون عن طرق لحظة تفوهه بالخطاب.

[10]- الرابط: www.youtube.com/watch?v=Ep5o4HiMsa0

[11] -Claude Levi-stauss: Social Anthropology and History, by J.H.Bell and J.R.VON STURMER, 1972. p26

[12]- الرابط: www.youtube.com/watch?v=VSZXUVfIlvw

[13]- ولتر أونج، الشفاهية والكتابية، ترجمة: د.حسن البنا عز الدين، مراجعة د. محمد عصفور، عالم المعارف، 182، الكويت، ص ص 98، 99

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%B3%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A7%D8%A6%D...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك