الظواهر المتناقضة لاقتصاديات السوق*

الظواهر المتناقضة لاقتصاديات السوق*

مراجعة: حسين ديب**

أَمي تشوا باحثةٌ أميركيةٌ من أصل كوري، وهي تشغل اليوم منصب أستاذ السياسات بكلية القانون بجامعة ييل، الولايات المتحدة. وهي تنشغل منذ عشر سنواتٍ بتحليل آثار العولمة في المدى الأوسع. ومع أنها تركّز على المسائل الاقتصادية؛ لكنها تدرس العلائق والمشكلات والتناقضات بين الظواهر المختلفة في هذا العالم الذي يتكون تدريجياً في أعقاب الحرب الباردة.

الكتاب الذي بين أيدينا ثلاثة أقسام، ويقع كلُّ قسمٍ في عدة فصول. وأطروحته الأساسية أنّ "العولمة الاقتصادية" أو اقتصاد السوق الحرة، أظهر تناقُضاتٍ بين الرأسمالية الجديدة، والرأسماليين الجدد من ناحية، والديمقراطية القائمة على الانتخابات والأكثريات من جهةٍ ثانية. وتبدأ الباحثةُ بوضع أُطروحتها موضع البحث والفحص على مستوى المناطق والقارات. فتتحدث في الفصل الأول من القسم الأول عن السيطرة الاقتصادية للأقليات الصينية في جنوب شرق آسيا. ثم في الفصل الثاني عن سيطرة "البيض" ذوي الأصول الأوروبية على الثورات في أميركا اللاتينية – فالسيطرة اليهودية على السوق في روسيا في حقبة ما بعد الشيوعية. وتضرب مثلاً في فصلٍ آخر على دور الأقليات الإثنية بأفريقيا الرأسمالية واقتصاد السوق من خلال السيطرة المالية لأقلية الإيبو في الكاميرون.

هل هذه الظواهر جديدة؟ الباحثة ترى أنّ بعضَ ذلك جديد، وبعضها الآخر قديم؛ لكنه لم يظهر إلاّ عندما سادت أفكار الديمقراطية أو السيطرة السياسية للأكثريات، مع اقتران ذلك بأيديولوجيا اقتصاد السوق، أو بمعنىً آخر مصير الولايات المتحدة وأوروبا لاعتبار أنّ اقتصاديات السوق الحرة هي التي تقتضي ديمقراطية المشاركة الانتخابية الشاملة، أو أنّ الديمقراطية لا يمكن أن تستتبَّ إلاّ مع اقترانها باقتصاديات السوق. وقد ضرب الأوروبيون والأميركيون أنفسَهم مثلاً لذلك؛ حيث تسودُ في بلدانهم الأسواق الحرة واقتصادياتها، مع وجود الديمقراطيات العريقة. وقد أرادوا –ونجحوا في ذلك بشكلٍ جزئي حتى الآن- تصدير هذه الثُنائية السائدة لديهم إلى العالم. بيد أنّ الذي ظهر حتى الآن حدوث ظواهر مقلقة نتيجةً لهذا الارتباط الظاهر، بين اقتصاديات السوق، وديمقراطيات الانتخابات؛ وبخاصةٍ في المجتمعات السياسية الجديدة.

في القسم الثاني من الدراسة(عالمٌ تشتعل فيه النيران) حلّلت المؤلِّفة الظواهر التي رصدتْها في فصول القسم الأول. ففي البلدان الرأسمالية القديمة، هناك ارتباطٌ غير ظاهرٍ دائماً بين الرأسمالية الكبيرة، والأُسَر والأقليات ذات الخلفيات المعينة. وقد أدَّى ذلك إلى أحقادٍ ومشكلات استغلتها الأنظمة السياسية الديكتاتورية أحياناً من مثل ما حدث لليهود بألمانيا، والذين زعم هتلر أنهم كانوا يسيطرون على مقدرات ألمانيا الاقتصادية، ويسودون في صنع السياسات بالمعنى العميق. وما كان ذلك مقصوراً في حقبة ما قبل الحرب الباردة على بلدانٍ أوروبية أو الولايات المتحدة وكندا؛ بل ظهر أيضاً في بلدانٍ أسيوية مثل تايلاند، وأُخرى أميركية مثل البرازيل والأرجنتين وفنزويلا بأميركا اللاتينية. لكنّ الأمر تفاقَم في الثمانينات والتسعينات عندما تصاعدت موجة نشر ديمقراطية الانتخابات، بحيث كانت الانتخابات تجيء بأكثرياتٍ سياسيةٍ، وقادة شعبويين من ضمن الغالبية السائدة في المجتمع، وهؤلاء يجدون أنفسهم في تناقُضٍ مع الطبقة/ الأقلية، المسيطرة على الاقتصاد. وفي حالاتٍ كهذه كانت "الأكثريات" السياسية تشعر بالاستغلال من جانب الأقلية الاقتصادية، فينتشر التوتر، وتتصاعد الكراهية، والتي تؤدي إلى اضطراباتٍ واضطهادات وظواهر غير معهودة. ففي يوغوسلافيا السابقة ظهر ميلوسفيتش وتزعم تياراً قومياً متطرفاً، اضطهد الكروات الذين اعتبرهم مستغلّين للأكثرية. وفي روسيا ما بعد الشيوعية عمد الرئيس الروسي الحالي لضرب بعض رؤوس الأقلية اليهودية، باعتبار أنهم سيطروا من خلال أيديولوجيا السوق الحرة، على الاقتصاد الروسي، الذي ساد فيه القطاع الخاصّ في الحقبة الديمقراطية. وفي إسرائيل تنتشر الكراهية الإثنية بين الأقلية اليهودية المسيطرة اقتصادياً وسياسياً(الإشكنازيم - يهود أوروبا) من جانب السفارديم (الأكثرية من اليهود الشرقيين)؛ بحيث يبرز قادةٌ سياسيون من الأكثرية في الانتخابات، يتناحرون مع المؤسسة الاقتصادية السياسية السائدة.

هل هذا الأمر: التناقض بين الرأسمالية الجديدة والديمقراطية قَدَرٌ لا مفرَّ منه؟ أي أنّ الديمقراطية تتناقضُ مع التنمية؟! أمي تشُوا لا ترى ذلك، وإن لم تستطع أن تنفيه تماماً. ففي الاقتصادين الصيني والهندي الناميان، ظهرت من بين "العامة" قياداتٌ ونُخَبٌ ناجحة، لكنّ المثقفين والبارزين تكنولوجياً واقتصادياً يأتون غالباً من فئاتٍ أرستقراطية وأقلوية بمعنىً من المعاني؛ وفي الهند أكثر مما في الصين. ويرجعُ ذلك إلى أنّ المخظوظين هؤلاء، توافرتْ لهم ظروفٌ تعليميةٌ في اقتصاديات المنافسة، وما أمكنَ للعامة وفقراء الأكثريات أن يحققوا اختراقاتٍ كبيرة، وبخاصةٍ في مجتمعات أميركا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا الناهضة. ولا ترى أمي تشوا حلاًّ لذلك إلا بشروطٍ معينةٍ وفي المدى الطويل: الشرط الأول أن تظلَّ الدولة قويةً بحيث تتدخل للضبط والتصويب، وأن يستمّر التعليم العامّ والراقي مُتاحاً للجميع وبدرجاتٍ متساوية(مبدأ تكافؤ الفُرَص) بحيث لا تظهر الحساسيات بين مَنْ تُتاحُ لهم الفرصة ومن لا تُتاح، وأن تظلَّ العمليةُ السياسيةُ الديمقراطية نظيفةً بقدْر الإمكان بحيث لا يصلُ الشعبويون والتهييجيون فقط، وأن يكون هناك تصحيحٌ ومتوازنٌ على المستوى العالمي بحيث لا يتعمد الأميركيون والأوروبيون التركيز على إحداث الاختلال في علاقاتهم الاقتصادية والأسواق في الرأسماليات والديمقراطيات الجديدة.

ومع ذلك فإنّ أمي تشُوا تعود في الفصلين الأخيرين من القسم الثالث من كتابها إلى المدى العالمي الأَوسع فتذكر الولايات المتحدة باعتبارها مجتمعاً للثراء والرفاه والسيطرة الأقلوية، في مواجهة العالَم الكبير في آسيا وأفريقيا والعالَم الإسلامي الفقير، الذي تنتشر فيه الكراهيةُ ضدَّها باعتبارها أقليةً سائدة اقتصادياً وسياسياً وهي ترى أنّ الأمور نسْبية؛ لكنّ الولايات المتحدة ينبغي أن تخضع على المستوى العالمي للشروط نفسها التي سبق ذكرُها من أجل التهدئة والضبط والتوازُن والتصحيح، حتى لا تظهر الديمقراطية الأكبر في العالم بمظهر المستغِلّ باسم الحرية والنمو والفُرَص المنقطعة النظير.

ولا تتعرض المؤلّفة للمنطقة العربية، ومنطقة الخليج إلاّ في إشاراتٍ خفيفةٍ ومتفرقة. لكنّ الواضح من الكتاب أنّ منطقة الخليج تتعرض لتحدياتٍ من خلال التطورات الداخلية، والأكثر من خلال العلاقة بالمحيط الأقرب الأوسع. فهناك التدفقات المالية الكبيرة التي زادت من حدَّة التحولات. وهناك الأكثريات غير الوطنية في الأسواق الجديدة باستثناء السعودية وعُمان. وهناك الانفتاح السياسي التدريجي الجديد والذي قد يؤدي إلى ظواهر وتناقُضات تُشبه ما حدث في بعض البلدان الأسيوية وبلدان أميركا اللاتينية. إذ تظهر في الأسواق الخليجية أقلياتٌ وطنيةٌ أو متوطنة، تسُودُ في الاقتصاد، ويشجّع ظهورُها أو بروزُها على انتشار الحساسيات ضدَّها من جانب الأكثرية الشعبية الوطنية. ويذكر المراقبون نوعين من أنواع النُخَب التي تبرز وتسود بالتدريج: النُخَب المتوطّنةُ قبل عقود، والأخرى الواردة مع الشركات الكبرى والتي اجتذبتها التدفقات المالية الكبيرة نتيجة اقتصاديات النفط، وظهور المجتمعات الاستهلاكية. ولا علاجَ لهذه الظواهر الجديدة بشكلٍ كامل؛ لكنّ المؤلِّفة تعودُ لذكر الدور الضابط والقوي والمُوازن للدولة من جهة، ومن ضمنه الدفْع باتجاه العناية بأن تظلَّ الأكثريات الوطنية متمتعةً بمبدأ تكافؤ الفُرَص، والتأهل الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ بحيث لا تكون هناك أسبابٌ قويةٌ لبروز الحساسيات الدينية أو الإثنية أو السياسية.

كتاب أمي تشُوا شديد الأهمية في مجال فهم التأثيرات التي تتعرض لها مجتمعاتُنا في عصر التحولات الكبرى هذه. وقد تبدو بعضُ تفاصيل أطروحتها راديكاليةً بعض الشيء أو واحدية المنحى؛ لكنّ الدراسة ذاتها تستحقُّ التأمُّل والاعتبار.

*********************

*) مراجعة لكتاب أمي تشُوا: عالمٌ تشتعل فيه النار، كيف يشجع استيراد ديمقراطية السوق على الكراهية الإثنية واللاستقرار العالمي. يناير 2003م، 340 صفحة مع الفهارس.

**) كاتب من لبنان.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=229

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك