الجذور التاريخية لحركة الاجتهاد في العصر الحديث

 

فرضت مسألة الاجتهاد نفسها على العقل المسلم منذ القرن الثامن عشر تقريبا مع صعود الحداثة الغربية بما تحويه من أفكار ومبادئ تناقض مثيلاتها الإسلامية وبدء الهجمات الاستعمارية على العالم الإسلامي، وكان على العلماء التصدي لهذه التحديات التي تتهدد المنظومة الدينية وتشكك في صلاحيتها وقدرتها على الاستمرار، ولم يكن أمامهم من سبيل سوى البحث عن قابليات التجدد داخل الشريعة حتى تتمكن من مواجهة هذه التحديات، ولذلك طرح سؤال الاجتهاد في البلدان التي واجهت الاستعمار الغربي باكرًا في الهند واليمن ومصر، أما الدولة العثمانية فقد طرح على خلفية التأثر بالأفكار الغربية ومحاولة الافادة منها في تجاوز مأزقها السياسي.

 

فيما يلي سنحاول التطرق إلى أبرز المحاولات الاجتهادية التي ظهرت في الحقبة الباكرة خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ولسنا ندعي حصرها فهذا مما لا يسعه المقام وإنما نرمي إلى التعريف ببعض المحاولات التي اكتسبت أهمية وكان لها أثر على العقل المسلم.

الدهلوي وبعث سؤال الاجتهاد

يعدُ الإمام الدهلوي الهندي (ت: 1167ه/1762م) من أوائل من ناقشوا الأساس النظري لقضية الاجتهاد في العصر الحديث في رسالته (عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد)، وهي رسالة مختصرة في بيان القواعد والضوابط التي تحكم الاجتهاد والتقليد في الفقه الإسلامي.

وضع الدهلوي رسالته في خمسة أبواب؛ وافتتحتها بتعريف المصطلحات الوثيقة بالموضوع كالاجتهاد والمجتهد وشروط الاجتهاد، وبحث مسألة اختلاف المجتهدين وبين أنواعه وأسبابه وانتهى فيها إلى أن “أكثر صور الاجتهاد يكون الحق فيها دائرا في جانبي الاختلاف، وأن في الأمر سعة، وأن اليبس على شيء واحد ونفي المخالف ليس بشيء”.

وتطرق الدهلوي كذلك إلى مسألة التقليد المذهبي وهل يتنافى مع الاجتهاد، وذهب فيها إلى ضرورة الأخذ عن المذاهب الأربعة عدم الخروج عليها بحجة الاجتهاد، ولكنه قيد ذلك بالكف عن العصبية المذهبية، وترك التقليد إن قام دليل على خلافه، ثم ناقش مسألة اختلاف أحوال الناس في الأخذ عن المذاهب وما يجب عليهم في ذلك.

وهكذا يمكن تلخيص رؤية الدهلوي بشأن الاجتهاد في: الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد انطلاقا من المذاهب الفقهية القائمة، وإعادة صياغة العلاقة مع المذاهب بحيث يكون قوامها عدم التعصب لمذهب ما والتخلي عن القدح في المذاهب الأخرى، واتباع الدليل وترك القول المذهبي إن عارض الدليل.

الشوكاني والتحليل الاجتماعي لظاهرة التقليد

وكان من أوائل الداعين لفتح باب الاجتهاد الإمام الشوكاني اليمني (ت: 125ه/1834م) الذي وضع رسالة (القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) واستهدفت تقويض حجج القائلين بحتمية التقليد وعدم جواز الاجتهاد، ولأجل هذا أحصى أدلتهم النصية والعقلية ودحضها الواحدة تلو الأخرى، وبين غاية ما يرجوه علماء الاجتهاد من دعوتهم بقوله “إنا لا نطلب من كل فرد من أفراد العباد رتبة الاجتهاد، بل المطلوب هو أمر دون التقليد، وذلك بأن يكون القائمون بهذه المعايش والقاصرون عن إدراكها وفهمها كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم .

وقد علم كل إنسان أنهم لم يكونوا مقلدين ولا منتسبين إلى فرد من أفراد العلماء، بل كان الجاهل يسأل العالم عن الحكم الشرعي الثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيفتيه به ويرويه له لفظا أو معنى فيعمل بذلك” وهذا أسهل من التقليد فيما يذهب لأن فهم دقائق الرأي أصعب من الوقوف على الرأي.

ويتفرد الشوكاني بتقديمه تحليلا اجتماعيا متكاملا -إلى حد بعيد- لظاهرة التقليد، وهو ما لا نجد له أثرا في المحاولات السابقة عليه أو اللاحقة له، فبين الأساس التاريخي لدعوى التقليد والعوامل التي استندت إليها، وأفاض في تحليل مواقف الفئات المختلفة منها كالعلماء والساسة والعامة، وأتى على ذكر الصعوبات الاجتماعية التي تواجه دعاة الاجتهاد في عصره وعلاقاتهم بالعلماء المقلدين، وبين الآثار السلبية للتقليد على أفراد الأمة وعلى الشريعة.

وخلافا للإمام الدهلوي مال الشوكاني إلى نبذ التقليد المذهبي والخروج على المذاهب الفقهية- ولكنه لم يدع إلى ابتداع قواعد وأدوات فقهية جديدة وطرح الأحكام الشرعية واستبدالها بأحكام أخرى بل لقد التزم بهذه القواعد التي وضعها الأئمة، كما لم يذهب إلى حد الطعن في الائمة واتباعهم- وحجته في نبذ التقليد أن الأئمة لم يطالبوا أحدا باتباعهم ولهم نصوص صريحة في ذلك، وأن فكرة التقليد نشأت بعد وفاتهم بأزمان بعيدة، وأنهم أجمعوا على تقديم النص على آرائهم، وقد استخلص من ذلك أن العمل بالنص وترك أقوال المذاهب هو الموافق للصواب.

السنوسي والعلاقة مع التراث المذهبي

لم يكن شيوخ الأزهر وعلماءه بعيدين عن نقاش الاجتهاد في العالم الإسلامي، وقد وجد هؤلاء أنفسهم في قلب النقاش مع وصول الشيخ محمد بن علي السنوسي (ت:1276ه/1859م) إلى مصر في ثلاثينات القرن التاسع عشر حيث أثار قضية الاجتهاد وعلاقته بالمذهبية الفقهية من خلال كتابه (إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن) الذي حمل بضع إشكالات من قبيل الدعوة إلى نزع المرجعية عن أئمة المذاهب وتلامذتهم وأتباعهم الأوائل، والزعم بعدم جواز تقليدهم لأن ما ذهبوا إليه يحتمل الخطأ والصواب، محتجا بأن “للواحد منهم في المسألة الواحدة أقوالا كثيرة ومرجوعات، وما رجعوا إلا لاعتقاد الخطأ فيما رجعوا عنه”.

وقد قوبلت هذه الفكرة بانتقادات من قبل شيوخ الأزهر حيث انبرى ثلاثة من علمائه البارزين لتفنيدها وهم: حسن العطار شيخ الجامع إذ ذاك ومصطفى البولاقي ومحمد عليش، وجميعهم من المالكية كما السنوسي، وهو ما ينبئ أن أحد أوجه الخلاف كان يدور حول قواعد المذهب وتفسيرها وكيفية تطبيقها على يد من يدعون الانتساب إليه.

كتب الشيخ العطار أولا رسالة حول الاجتهاد والتقليد ربما تكون أول رسالة فقهية يتم تخصيصها لمناقشة الاجتهاد في مصر خلال القرن التاسع عشر، وهي عبارة عن سؤال وجه إليه عن حكم التقليد وهل هو فرض، وما هي حدود الاجتهاد المسموح به وشروطه؟ وفيها فند العطار تفصيلا ادعاء السنوسي أنه يمكن لأي شخص يستطيع الفهم أن يتعامل مع القرآن والحديث مباشرة ويفهم مرادهما على الوجه الصحيح، ويستخرج منهما الأحكام الشرعية دون تقليد لأحد الفقهاء، كما دحض آراءه المخالفة لصحيح المذهب من قبيل جواز الصلاة بضعة فروض بتيمم واحد وكيفية القصر في الصلاة.

أما الشيخ محمد عليش المالكي فقد أجاب عن سؤال مشابه حول وجوب التقليد وهل هو فرض على المكلفين وذهب إلى أن مقولة الاجتهاد التي رفعها السنوسي هي مقولة حق يراد به باطل، لأن العمل بنصوص الوحي له اشتراطات كثيرة لا يستطيعها المكلف العامي لخفاء التأويل وصعوبته، ومن ناحية أخرى فإن “تقليد الأئمة ليس تركا للآيات والأحاديث الصحيحة بل هو عين التمسك بها فإن القرآن ما وصل إلينا إلا بواسطتهم وهم أعلم بناسخه ومنسوخه ومطلقه ومقيده ومجمله ومبينه، فعلى الإنسان أن ينظر أيهما يقدم؛ قول المقلد: قال مالك الراسخ في العلم، أم قول الجهول التارك للتقليد: قال الله وقال رسوله مع عجزه بفهمه القاصر عن ضبط الآية والحديث ووصل السند فضلا عن عجزه عن معرفة ناسخه ومنسوخه ومطلقه ومقيده ومجمله ومبينه وتأويله وسبب نزوله”.

والذي يفهم من عبارة الشيخ عليش أن هجومه لم ينصب على فكرة الاجتهاد وإنما ينصب على مسألتين: الدعوة لترك اجتهادات الأئمة وأتباعهم والقول بإمكانية استنباط أحكام شرعية جديدة تغاير الأحكام التي استنبطوها، وفقدان دعاة الاجتهاد أدواته وشروطه.

وبالجملة تعود جذور الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد إلى القرن الثامن عشر وظهرت بضع محاولات اجتهادية جمعها الإيمان بضرورة بعث الاجتهاد، وإن اختلفت في بيان علاقة الاجتهاد بالمذهب فبينما أصر الدهلوي على إمكانية الاجتهاد من داخل المذهبية الفقهية توسط الشوكاني ومال إلى إمكانية حدوث اجتهاد خارج الإطار المذهبي، على حين تطرف السنوسي ودعا إلى نبذ المذاهب وافترض أن الاجتهاد لا يكون إلا بالخروج عليها.

المصدر: https://islamonline.net/27732

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك