في مدح المثقّف

لحسن أوزين

 

الدخان يتصاعد حينا بقوة جنونية في اللّهب الحارق، وفي مرّات كثيرة كان يتمايل بشكل أقرب إلى الترنح بفعل الرياح السكرانة بنشوة المحرقة المجنونة الّتي كانت تلتهم أغلب كتب الفكر العربي الحديث والمعاصر. الشّباب فرادى وجماعات يهجمون، بحماس غاضب عنيف لا يخلو من تفجّر العدوانيّة المكبوتة، على كلّ المكتبات العربية. وبفرح عارم يقذفون بكلّ ما تكفّلت الكثير من الأقلام بنسخه أو كتابته.  في لوحة حيّة ساخرة وباعثة على الغثيان بدا المثقف العربي عاريا، خارج جنّة خلده لما يسمّى المكانة الاعتباريّة، وهو يسترق النّظر إلى هذا الكرنفال المسعور بوقع الكارثة.

ما هذا العود الأبديّ للسقوط والهزيمة كما لو أنّ ذاكرتنا مثقوبة، لا تقوى على عيش حسّ المأساة حتّى نتمكّن من تمزيق دفاتر الهزيمة: النّكبة، النّكسة وكلّ المآسي القديمة والجديدة للاستعمار والاستبداد، وما بينهما من برزخ التوحّش والظلاميّة الدينيّة الكريهة؟ لم  كلّ منصّات الثقافة العربية بمختلف أشكال خطابات مفكّريها وسياسييها وأحزابها وما تبقى من مزق أبي سعدية المسمّاة بالمجتمع المدني، هشة كالهشيم وهي عاجزة عن استجماع الوقفة والنظر الى هذا المقدار الهائل من الهدر في حياة الشعوب، وهي تترنح تحت ضربات موجعة لوكلاء الاستعمار الجديد في تفويت نجاح التغيير والانتقال الديمقراطي، أو وهي تذبح من الوريد الى الوريد بمختلف الأسلحة البدائية والحديثة في عالم الجريمة والتّصفية المروعة؟

هكذا إذن تحوّل الوطن إلى مجرّد ممرّات آمنة للهروب والتشرد، أو للاختيار بين الأمن والفتنة والحرب الأهلية، وفي أجمل الظروف إلى سجن صغير مسيّج برهاب عالم الإرهاب والجريمة والاعتداءات السافرة وهي تنطّ على الحبل القذر لهاجس الأمن والأمان؟ وفي أحسن الأحوال صار الوطن مجرّد قارب حقير في قعره عشرات الأبواب تؤدّي إلى انتظار جودو الأمل، ومحطات للجوء والموت أو للمنفى إن حالفك تجريب حظّك مع سمك القرش مافيا الهجرة للتهريب البشري.

كم أنت عار أيها المفكر، عار أيها المثقف وعاجز كما لو أنّك الوجه الآخر للنكسة والهزيمة. من لقاء لآخر، من مؤتمر لآخر، من معارضة لأخرى.. من حكومة لأخرى …، والأعناق تشرئب إليك وأنت تتخلى عن كراسي النبوءات التي كنت تزفرها في مدرجات الجامعة والبحث العلمي الرصين، كما تخليت عن كراساتك القديمة في التنوير والعقل والعقلانية والنهضة وشتم الاستبداد والامبريالية او نقدهما بنوع من التنصّل من كلّ مسؤولية تجاه هذا الخراب الأقرب إلى التسونامي النازي في إبادة البشر وحرق الأرض وغدر الثورات وقتل براعم الربيع اليافع الذي تجرّأ على إعلان ولادته في عزّ الشتاء الديني الرهيب، وفي وقت كان اليسار، المتحصّن وراء متاريس جبّة سورة الكهف للأب الواحد والحزب الوحيد والزعيم الخالد والأمين العام الذي لا تأخذ سنة ولا نوم، يهذي بما تبقى  من خرق سورة ما العمل؟ هكذا وضعت كلّ الشعب في سلّة الأنظمة الديمقراطية الغربية، حفظها الله من أساطير بداوة قبائلنا المتوحشة كما قال الاستشراق السعيد، وعلى رأسها زعيمة الحرية أمريكا. بهذه البلادة الحديثة في التاريخ تخلّيت عن كلّ شيء دفعة واحدة وعقدت أملك على التدخل الإنساني لحماية الثورات من الإبادة والجريمة كأنك لا تعرف أن مصالح النهب الاقتصادي لا تهمّه المعايير الأخلاقية والإنسانية. وفي الأخير اختزلت كل القصة في التخلّف الديني والحريات الفردية دون أن تنتبه إلى التركيب الاجتماعي المعقد لما يحدث على ارض بنى الصراعات الاجتماعية السياسية وما تتطلبه من حلول من طبيعتها بعيدا عن عقلية المهرب للأسئلة السياسية بالعقل الثقافوي.

أكثر من نصف قرن من التضحيات الجسام، من الدم الغالي للشهداء واغتصاب العمر في سجون القهر والاستبداد، والقيل والقال عن تطوّر التعليم وإصلاحه، وحديث الكتب عن الكتب، والتمرد والنقد والنقض والاحتجاج على استبطان الشعوب للذل والخنوع…، والآن، تتصرف أيها الحكيم بحرفية التوسط الإيديولوجي لخدمة الشعب بطريقة درجة الصفر للسياسة، كأن شيئا لم يكن. هكذا انطلت عليك حكاية الآيات الشيطانية لآلهة التدخل الإنساني آملا أن تشاركك ملائكة الديمقراطية لأصدقاء الشعوب بدل أخذ دم النصوص من أرض الوطن وهو يمزّق ويوزّع في أروقة الأمم.

ما أحقرك كنت مجرد بيدق على رقعة اللعبة لم تعرف فيها الصديق من العدو، الحليف من تجار النهب والجرائم ضدّ الإنسانية. كنت عاجزا عن فهم المواقف الموضوعية المطلوب إنجازها، وكيفية تدبير مصير أرواح شعوب وأوطان على فوهة بركان المحرقة. لم تكن خبيرا في السياسة كما عودتنا الشاشات العربية، ولا محللا سياسيا، ولا استراتيجيا في رؤى التفكير، ولا مفكرا بلغة الراهن، أو عالما بأسرار من أين تؤكل كتف المرحلة.

بين احتلالين كنت مجرّد إوزّة تتبختر في مشيتها وأنت ترى شرق المتوسط من غربه إلى شرقه يتقاسمه أمراء الحرب الجدد للدول المتقدمة، من الغرب انبعث الإقطاع العسكري معلنا مزيدا من التفتيت السياسي لحق السيادة (في ليبيا، العراق، سوريا، اليمن… كأننا في زمن انتشار ظاهرة كثرة الحصون للمدن المسورة) واضعا في أيدي الطغاة التمثيل السياسي لاقتسام كلفة الحماية في الهيمنة والسيطرة ضد إرهاب صنعوه لغرض في نفس يعقوب: لجم التغيير وإفشال الثورات. ومن الشرق تم إحياء فاشية الإمبراطورية القيصرية التي تأخذ بمنهج الوحدات السياسية الكبرى للغزو البدويّ العنيف. فما الذي تبقّى لك غير أن تنصت لنبض الأرض وما يعتمل في داخلها من تحولات.

المصدر: https://www.alawan.org/2018/11/28/%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AF%D8%AD-%D8%A7...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك