السلطة والقضايا والمسؤولية في المجال الإسلامي

السلطة والقضايا والمسؤولية في المجال الإسلامي
عبداللطيف الهرماسي*

تمثل إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة وبين السلطات الدينية والسلطات السياسية في عمومها إحدى المسائل الشائكة بالنسبة للمعرفة في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية. وتتخذ عند معالجتها في الإطار الثقافي والتاريخي للإسلام أبعاداً تتجاوز الهمّ المعرفي الصّرف، فتصبح محلاً لتضارب الآراء عند الباحثين والجدل الساخن في صفوف النخب المثقفة، وشأناً للرأي العام يتعاطى معه بحماسة وانفعال. ولعل من أبرز الأسباب لذلك تعدّد وتشابك الرهانات المحيطة بهذه القضية. فعلى الصعيد المعرفي لا يتعلق الأمر فقط بإدراك واقع معقد أو بالترجيح بين فرضيات علمية مختلفة أو صياغة مفاهيم ملائمة، بل يتجاوز ذلك من جهة إلى تأثر الكثير من الطروحات بالحسّ المشترك والأفكار الشائعة وأشكال اليقين الاجتماعي لدى الجماعات الثقافية والدينية المختلفة، ومن بينها جمهور المسلمين، ومن جهة ثانية إلى الضغوط التي تمارسها القوالب الفكرية الجاهزة وفي صدارتها القراءة السائدة لتاريخ العلاقات المذكورة كما صاغتها العلوم الاجتماعية في الغرب. ولم تكن هذه القراءة المركزية الغربية لتتحوّل إلى مصدر للاضطراب الفكري في صفوف نخب المجتمعات الإسلامية لولا أنها فرضت نفسها كأنموذج مهيمن في سياق واقع السيطرة التي يمارسها الغرب كمركز لإنتاج المعرفة. ومع ذلك فالرهان ليس معرفياً وحسب: إذ لا يخفى أن المجادلات التي يثيرها موضوع الدين والسياسة -حتى عندما تتخذ صيغة التعارض بين أطروحات علمية- إنما تتأثر بخلفيات إيديولوجية وسياسية متباينة، وتوظَّف في خدمة مشاريع مجتمعية ومنظورات حضارية مختلفة.

ضمن هذا الإطار يمكن أن نفهم، ليس فقط السهولة التي ينساق بها الكثير من أصحاب الرأي إلى رؤية علاقة الديني بالسياسي في المجال الإسلامي وفقاً للنماذج أو بالأحرى القوالب الفكرية الشائعة -الأصيلة منها والوافدة-، وإنما كذلك الصعوبة التي يجدها المثقف الجاد أو الباحث الأكاديمي المهتم بالموضوعية العلمية في التخلص من أسر تلك النماذج. ومن منطلق الوعي بهذه المزالق ونتائجها السلبية على كل من المعرفة والفعل الاجتماعي، نطرح مقاربتنا لعلاقة السلطة الدينية بالسلطة السياسية والحقل الديني بالحقل السياسي في الإسلام. لاشك أن هذه الإشكالية معقدة ومتشعبّة، تتطلب بحثاً واسعاً ليس هذا محله. لذلك سيقتصر مقالنا على دائرة الإسلام السنّي وعلى الحقبة ما قبل الحديثة، كما سيختص بتناول طرف واحد من ضمن مكونات الهيئة الدينية متمثلاً في فئة العلماء، وهي الأولى من حيث الظهور التاريخي، دون المتصوّفة وشيوخ الطرق.

1- بعض المنطلقات النظرية والمنهجية:

تقتضي دراسة إشكاليتنا من منظور علم الاجتماع التاريخي الاستناد إلى أرضية نظرية ومنهجية وجهاز مفهومي يمثلان إطاراً للإجابة عن أسئلتنا حول الشروط الاجتماعية التاريخية لمأسسة الدين الإسلامي وأشكال المأسسة في الإسلام وآليات إنتاج فئة رجال الدين، وكذلك الآليات التي كانت هذه الفئة تقوم بمقتضاها بإعادة إنتاج النسق الديني، وأشكال التمفصل بين حقل الدين وحقل السياسة، وبين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة، وبين العلماء والحكام، والعوامل التي شكلت سلوك مختلف الأطراف والدوافع التي حركتها. بيد أن المجال المتاح لا يسمح بالتطرق إلى مختلف محاور هذه الإشكالية ولا بالتوقف عند مختلف منطلقاتنا النظرية والمنهجية، وعليه فقد اخترنا التركيز على بعض جوانب الموضوع دون غيرها والاقتصار على معالجة بعض المفاهيم المحورية. وارتأينا لذلك مناقشة الشروط العلمية لاستخدام مفهوم "المصلحة الدينية" مع طرح مختصر لمسألة العلاقة بين الديني والسياسي على صعيدي النظرية والمقاربة الاجتماعية – التاريخية.

1-1– تكمن الحاجة لإدراج مفهوم "المصلحة الدينية" في أنه يتيح لنا الاقتراب من الدوافع التي توجّه أو تحكم سلوك رجال الدين. وفي قضية الحال، مواقفهم إزاء الدولة وأصحابها، شريطة أن يكون التعريف مناسباً لموضوعه وأن يقوم على تحديد سليم لما يميّز الحقل الديني ويعطيه استقلاليته، وكذلك للعلاقة التي يمكن أن تربطه بالإيديولوجيا. ويقتضي هذا الهاجس التعاطي النقدي مع أطروحات بعض المدارس التي ازدهرت سوقها في الثلث الأخير من القرن العشرين، نخص منها بالذكر المقاربة البنيوية التوليدية لعالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيار بورديو، وهي مقاربة لا تكمن أهميتها فقط في تماسكها وطموحها إلى الشمول، ولا في الحظوة التي لقيتها لدى الأجيال الجديدة من أخصائيّي وطلبة علم الاجتماع، وإنما كذلك فيما تشترك فيه مع اتجاهات أخرى: أي اختيار الدراسة "الموضوعانية" و"الخارجية" للظواهر والقوى الدينية على المقاربة التفهمية لبواعث الفاعلين.

يستند استخدام بيار بورديو لمقولة المصلحة إلى مسلمة سوسيولوجية وضرورة معرفية. فأما المسّلمة فهي "مبدأ السبب الكافي" الذي يعني أن الفاعلين الاجتماعيين لا يتصرفون دون سبب، والسبّب هو المصلحة التي يجدونها في ذلك. وأما الضرورة المعرفية فهي إحداث القطيعة مع "الرؤية السحرية والخادعة والساذجة للسلوكات البشرية وإخضاعها لنمط الفهم والتفسير العلمي"(1). على هذا الأساس يقترح بورديو نظرية في المصلحة الدينية تشكل قراءته "التوليفية" الخاصة لمساهمات كل من كارل ماركس وماكس فيبر وأميل دوركايم، فيعرّف المصلحة الدينية بأنها الفائدة التي تجدها جماعة أو طبقة في أنموذج محدّد من الممارسة أو الاعتقاد الديني وبالخصوص في إنتاج وإعادة إنتاج ونشر واستهلاك أنموذج معّين من خيرات الخلاص". لا تقف هذه الصيغة ذات الأصل الفيبري على طبيعة أو مضمون المصلحة الدينية، إلا أن بورديو ما يلبث أن يقرّر لها مضموناً متأت مباشرة من الفكر الماركسي، وذلك عندما يربط هذه المصلحة بوظيفـة اجتماعية محدّدة هي تبرير الواقع الاجتماعي القائم على التفاوت الطبقي(2)، وبحصره الدين في وظيفة التبرير يتجاهل وظائفه الأساسية الأخرى بما فيها تحقيق الأمن النفسي من خلال تقديم إجابات عن الأسئلة الوجودية، وما أثبته دوركايم من دور الدين في إنتاج مثل وقيم تجسّد الضمير الجمعي وتحقق التماسك والدمج الاجتماعي، وكذلك وظيفته في تأسيس الانتماء إلى جماعة ذات هوية ثقافية واحدة.

ولا يكتفي بورديو بهذا النمط من اختزال مفهوم المصلحة الدينية ووظائف الدين. فرغم استفادته من مقترحات ماكس فيبر حول أهمية عنصر "العمل الديني" الذي ينجزه المنتجون والناطقون المتخصصون الذين لهم سلطة الإجابة على الحاجيات الدينية، وحول علاقة هذا العمل الديني بالنشأة التاريخية للهيئات الدينية ونزوع هؤلاء الأخصائيين إلى الانغلاق ضمن مرجعية مكتفية ذاتياً من المعرفة الدينية التراكمية(3) – نجده يرفض ما يعتبره انزلاقاً فيبرياً إلى وهم "الاستقلالية المطلقة للخطاب الديني" ويقترح بديلاً لذلك "استقلالية نسبية" قوامها ربط الوظائف الاجتماعية للدين بكل من "بنية الانقسام الطبقي وبنية تقسيم العمل الديني"، مع التأكيد بأن هذه الأخيرة تنتظم وفقاً لموقعين متقاطبين يعكس أوّلهما أنساق التصوّرات والممارسات المسوّغة للهيمنة الطبقية، وثانيهما الأنساق التي تكمن وظيفتها في الاعتراف بشرعية تلك الهيمنة(4).

يهدف تحليل بورديو إلى إبراز وظيفة الدين في إعادة إنتاج الأنظمة الاجتماعية بما تضمنته من تصوّرات وقيم وظِّفت تاريخياً للحفاظ على امتيازات الطبقات السائدة وإقناع الفئات المضطهدة بأن أوضاعها من تدبير إله حكيم. والوقوف على هذه الحقيقة أمر مهمّ على أن لا يقود إلى التوقّف عندها، ومن ثم إلى تجاهل الطابع المفتوح بل التناقضي للمدونات المقدسة، وإمكانية تأويلها في أكثر من تجاه. لذلك تؤدي قراءة بورديو المتحيّزة لوظائف الدين إلى إغفال مقصود للبعد الأهمّ في سوسيولوجيا فيبر الدينية وهو نظريته حول الدين كعامل تغيّر اجتماعي وما اقترحه من نماذج مثالية تشمل الشخصيات والحركات الإلهامية (الكاريزمية) التي يحركها رفض الواقع والثورة على السائد، إلى جانب الشخصيات والمؤسسات التي تدفعها وظيفتها إلى الحفاظ على التقليد. إن رفض بورديو الاعتراف بما يميّز الأنساق الدينية عن الأنساق الإيديولوجية التي تتمحور حول وظيفة التبرير، وكذلك تجاهله لدلالات ولوزن الاختلافات العقائدية والمذهبية داخل الدين الواحد، وللعوامل المسهمة في تحوّلها إلى تقاليد يلتزم بها رجال الدين والمؤمنون – كل ذلك يقوده إلى إعطاء المصلحة الدينية مضموناً أحادي الجانب، واختزال التصوّرات الدينية إلى مجرّد "إيديولوجيا دينية لا تؤمن دورها الديني في التعبئة إلا بمقدار ما تكون المصلحة الدينية التي تحدّدها مخفية عن الذين ينتجونها أو الذين يتلقونها"(5).

ومن المهم أن نشير إلى التطوّر الذي طرأ على مقاربة بورديو للحقل الديني بين السبعينات والثمانينات، والذي تمثل في استبدال القراءة "السياسوية" بنظرية عامة لاقتصاد الممارسات، واقتراحه "علماً قادراً على معالجة كل الممارسات بما فيها الرمزية والتي تريد أن تتعالى عن المصلحة وعن الاقتصاد" بوصفها ممارسات تخضع مع ذلك لمنطق اقتصادي، وتكون "موجّهة نحو الربح الأقصى المادي أو الرمزي"(6). يؤكد بورديو في نسقه النظري المعدّل أن لكل الحقول الاجتماعية، العلمية والفنية والدينية والسياسية...إلخ شكلاً مخصوصاً من المصلحة، حتى وإن لم تكن سوى "مصلحة رمزية". وفي هذا الإطار تندرج تحليلاته حول تبادل الخيرات الرمزية وتطبيقاتها على المؤسسة الدينية: إذ يرى أنه لا يمكن صدور فعل ما لم تكن ثمّة مصلحة في فعله، حتى ولو كان هذا الفعل موجّها نحو الخير والفضيلة والتضحية والقداسة.

هكذا يريد بورديو رفع التحدّي الذي يمثله الحسّ المشترك والرؤية الساذجة التي تتجاهل إستراتيجية الفاعلين في رفض الإفصاح عن حقيقة دوافعهم وممارساتهم. والباحث الاجتماعي لا يسعه إلا أن يشاركه في رفض اعتباطية الأفعال وضرورة تفسيرها بأسباب معقولة. وبالمقابل فإنه لا يمكن لنا مجاراته عندما يعطي صبغة عامة وكونية لمسلّمته النفعية. فهذه المسلّمة تبدو لنا عاجزة عن تفسير العديد من نماذج الأفعال التي تحرّكها العقيدة أو أخلاقية الإيثار وروح التضحية أو الإحساس بالواجب. وإذا كان لا مجال لتنزيه سائر المتدّينين ورجال الدين عن متابعة أرباح مادية أو رمزية، فهل يصحّ اعتبار كل ما يفعلونه معتقدين أنه في سبيل الله أو لإرضاء الضمير – محض خداع للنفس وللغير أو شكلاً من أشكال النفاق الاجتماعي كما يذهب إلى ذلك بورديو؟ ولنفرض أن من يضحّي بماله أو حريته أو حياته إنما يقوم بفعله أملاً في مرضاة الله وطمعاً في جنته، فما هي المصداقية العلمية والقيمة السوسيولوجية لإخضاع هذه الدوافع الميتافيزيقية إلى مفاهيم "الربح الرمزي" و"الرأسمال الرمزي"...إلخ، والحال أن هذه المفاهيم مقترحة أصلا لتحليل الممارسات والرهانات الدنيوية؟ ليس هذا بالجدل النظري المجرّد، إنه في محلّ القلب من إشكاليتنا وسعينا لفهم بعض الدوافع التي وجهت مواقف علماء الدين من الدولة وسياستها ومن أصحاب السلطان السياسي وتصرفاتهم. إن فرضية المصلحة حاضرة في مقالنا هذا وفي مجمل قراءتنا السوسيولوجية للموروث الديني ولسلوك النخب الدينية عبر التاريخ الإسلامي، وكذلك الأمر بالنسبة لفرضية بورديو حول "تحوّل الرساميل" وترجمتنا لها في احتمال تحوّل الرأسمال الديني إلى رأسمال سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. بيد أننا نتعامل مع هذه الفرضيات كعناصر لإستراتيجية ممكنة ضمن استراتيجيات وتوجهات متعدّدة مفتوحة أمام رجال الدين، وليس كقاعدة عامة تفرض "المنطق الاقتصادي" كمفتاح صالح لمعالجة جميع الحالات. لقد عرف التاريخ الإسلامي منذ فترة مبكرة -وبشكل متزايد- ظاهرة استخدام المعرفة أو المكانة الدينية كمورد في التنافس على التأثير السياسي أو تحصيل ومراكمة الثروة. بيد أن هذا السلوك مهما اتسع نطاقه لم يشكل حالة عامة، إذ نجد في القطب المقابل علماء وزهاداً ومتصوّفة نذروا حياتهم لله والمجتمع، فمنهم من اختار نهج التقشف والتعبّد، ومنهم من صبر على الفقر ورفض بيع ذمته، ومنهم من تعرّض للاضطهاد وحتى الموت في سبيل مثل يتعلق بها أو مواقف أصدع بها. فكيف يمكن للمسلّمة النفعية أو لفرضية تحوّل الرساميل أن تفسّر أعمالهم وتضحياتهم؟ وما هي الشرعية العلمية لـ "موضوعية" تدّعي أنهم كانوا يفعلون شيئاً غير الذي كانوا يفعلونه ويعيشونه كحقيقة ذاتية؟

ولا ينبغي أن تفهم ملاحظاتنا النقدية على المقاربة السياسوية أو الاقتصادوية لمفهوم المصلحة الدينية ولسلوك رجال الدين كمحاولة لنفي الروابط بين المصلحة الدينية والمصالح الدنيوية والعلاقات التي تصل الدين بالسياسة والاقتصاد. فغرضنا لا يعدو نقد النظريات التي تتذرّع بالضرورة المنهجية والمتطلبات العلمية لاختزال واقع معقد وتعددي. والمهم أن الاعتراف بما يميّز الدين عن الحقول الاجتماعية الأخرى وبما تتسم به وظائفه من تنوع هو الذي يعطي المصداقية العلمية لدراسة علاقته بالشروط الاجتماعية المتغيّرة وأوجه استخداماته الاجتماعية.

1-2– إلى جانب المسألة النظرية المتعلقة بدوافع الفاعلين من رجال الدين، من المفيد أن نشير إلى بعض المشكلات التي تطرحها علاقة المجال الديني بالمجال السياسي. لقد ركزت العلوم الاجتماعية خلال مرحلة طويلة على تحديد الحيز الخاص بكل منهما. وما يستخلص من إسهاماتها هو أن الدين عبارة عن نسق رمزي ينتج عن دخول الإنسان في علاقة مع قوة متعالية، محورها إعطاء معنى لوجود الإنسان في الكون. بينما تمثل السياسة نسقاً من علاقات القوة المادية ينظم التعايش والنزاع والهيمنة. وبوسعنا التعبير عن ذلك بالقول: إن مبدأ التقسيم الديني هو العلاقة (فوبشري/بشري) والتي تجد ترجمتها في العلاقة (مقدّس/دنيوي)، بينما يكمن مبدأ التقسيم السياسي في العلاقة (إمرة/طاعة) والتي تتجسّد في العلاقة (حكام/محكومين). وهذا التمييز بين المفهومين والمبدأين ضروري للمعرفة العلمية ومهم لتفادي الخلط المقصود أو غير المقصود، لكنه لا يعني أننا إزاء عالمين منفصلين في الواقع.

يكمن أساس العلاقة بين الدين والسياسة في تأسيس الصلة الاجتماعية بالذات. فالإنسان كائن سياسي بقدر ما هو كائن ديني(7). إلا أن العلوم الاجتماعية "اكتشفت" العلاقة بين الاثنين في الغالب على مستوى "غايات" السياسة التي تنتمي، على خلاف "الأهداف" إلى مجال سياسي كالدين والأخلاق...إلخ، وكذلك على مستوى حاجة الهيمنة السياسية لإيمان الناس بشرعيتها والموافقة على الحقيقة التي تمثلها. وتتمثل مشكلة هذه الرؤية التي عبّر عنها "ماكس فيبر" في نظريته حول الهيمنة الشرعية كما عبّرت عنها مقولة "التبرير" الماركسية – في أنها تفترض علاقة "خارجية" بين الظاهرتين السياسية والدينية، وهي نظرة وثيقة الصلة بطغيان الوضعية في العلوم الاجتماعية المتخصصّة واهتمامها برسم "الحدود" بين المجالات أو الفصل بينها، متناسية أن البشر طوال تاريخهم لم يقوموا بفصل كهذا، وأنهم أعطوا تعبيرات دينية للوظائف التي تؤديها السلطة ولعلاقات القوة التي تفرزها. إن مفكراً مثل "كلود لوفور"، وهو يثير هذه القضية، يذهب إلى القول: بأن المطلوب ليس البحث عن محل "السياسي" في المجتمع، بما أن فكرة "المجتمع" ذاتها تتضمن الإحالة إلى تعريفه السياسي. وبالمثل فإن الفصل بين ما هو "اجتماعي" وما ليس كذلك، إذا طرحناه كأمر واقعي، يقودنا إلى الاستقالة أمام الفرضية الوضعية: فتجربة التعايش بين البشر لا تنفصل عن تجربتهم للعالم، للمرئي واللاّمرئي، كما أن التمييز بين الحقيقة والخطأ، وبين الخير والشر، وبين العدل والظلم، لا يهم فقط علاقات البشر في حياتهم الاجتماعية. ولذلك يتضمن تبلور المجتمع السياسي سؤالاً حول الكون والكينونة(8).

إن التداخل بين الديني والسياسي، وهو الذي صبغ تجربة البشرية لآلاف السنين قبل أن تضعه الحداثة الغربية موضع التساؤل، كان أيضا من الظواهر التي أكد عليها جورج بالاندييه في دراسته لعلاقة الدين بالسلطة. فالمقدّس حاضر دوماً في صلب السلطة، "وبواسطة هذا الأخير يدرك المجتمع كوحدة وكنظام وكديمومة". ولئن كان الدين قد اشتغل كأداة للسلطة السياسية التي يحصل أن تسيطر على المقدّس تماما، فإن "المقدّس يمتلك من جهته إستراتيجيته الخاصة للحدّ من السلطة. كما أن للدين وسائله المقدّسة لكبح تجاوزات السلطة السياسية وإنتاج التجديد الديني أو المعارضة الجذرية "(9).

إذا انتقلنا من صعيد النظرية العامة إلى تحليل السياقات التاريخية المختلفة، وفيما يهمّ الفضاء الإسلامي، نلاحظ أن إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة وبين الدين والدولة مازالت مثاراً لجدل حاد. يجد هذا الجدل بعضاً من أسبابه في واقع معقد يتأبّى على النماذج التبسيطية، كما يعود إلى التعارض بين مقاربتين ساهمتا في تعتيم الرؤية، نقصد بذلك من جهة الموقف المتمسك بمنظور كوني مزعوم، لا يعدو في حقيقته أن يكون قراءة أحادية وغير تاريخية لتجارب الغرب المسيحي المتعددّة يتمّ إسقاطها على الواقع الإسلامي دون اعتبار لما يتسم به من خصوصيات، ومن جهة ثانية الموقف النابع من منظور سكوني أو "جوهري" للموروث الإسلامي والذي يدّعي التعالي على التاريخ الملموس لعلاقات الدين بالدولة. وهذا يعني أن العقبات أمام تجلية المسألة المطروحة تعود بدرجة أو بأخرى إلى موقفين مسبقين يتمثل أولهما في تبنّي الإيديولوجية العلمانية المتطرفة أو اللائكية في صيغتها الماركسية أو الفرنسية، وثانيهما في المعاداة الأصولية لعلمانية تختلط الأفهام حول دلالتها وصورها التاريخية المتعدّدة.

ليس من الغريب أن تقود هذه المسبقات الإيديولوجية إلى قراءات تعسفية للتاريخ. وتقدّم الاختلافات حول طبيعة التنظيمات والمؤسسات التي رأت النور على يد النبي محمـد -صلى الله عليه وسلم- (أو الخلفاء الراشدين من بعده) مثالاً على تحوّل مسألة تهم علم التاريخ أو علم الاجتماع التاريخي إلى موضوع للصراع الإيديولوجي. من ذلك ما نلاحظه من نزعة لدى المبشرين بالفكرة العلمانية للاعتراض على فرضية إنشاء دولة أو حتى نواة دولة من طرف النبي، واعتبارهم مؤسسة الخلافة منذ عهد الراشدين سلطاناً دنيوياً محضاً تمّ اقتناصه بقوة العصبيات والحفاظ عليه عبر استراتيجيات السيطرة، بحيث يتجاهلون أهمية تأثير الرمزية الدينية على مواقف المسلمين ويختزلون علاقة الدين بالدولة في استخدامه المصلحي كأداة لتسويغ الهيمنة. وبعبارة أخرى يتصرف هؤلاء وكأن القبول بفرضية إنشاء دولة المدينة أو بفكرة التداخل الديني والسياسي في عهد الخلافة الراشدة أو بعدها – يشكل حجّة تخدم خصومهم ويتعيّن بالتالي نسفها، حتى إن اقتضى الأمر الدفاع عن قراءة مبتورة للتاريخ. وفي الشق المقابل، ينزع رجال الدين والمثقفون الأصوليون إلى تفسير أعمال النبي باعتبارات دينية محضة أو ينزّهون الصحابة والخلفاء الراشدين عن المطامح ونزاعات المصالح أو يؤكدون على الرباط الذي لا ينفصم بين الدين والدولة وعلى أن السياسة جزء عضوي من الدين وتابع له، واضعين نصب أعينهم إسلاماً مثالياً ومتعالياً على الواقع.

وفي تقديرنا أنه لا يمكن الخروج بنتيجة مثمرة إذا بقينا نتساءل عمّ إذا كان "الإسلام" قد فصل أو مزج بين الدين والسياسة، والدين والدولة، وعمّ إذا كان مخالفاً أو مطابقاً للنموذج "المسيحي" المفترض. فهذا النقاش الذي ينطلق من التسليم بوجود "طبيعة" أو "جوهر" كامن في هذا النسق الديني أو ذاك ومحدّد لعلاقته بالنسق السياسي ومستقل عن أية سياقات ومؤثرات تاريخية، لا مكان له في حوارات نخب مثقفة عازمة على تحمّل مسؤوليتها الفكرية. ولا يعني ذلك نفياً لجانب الخصوصية في الأديان والثقافات وهو بعد يمكن التمسك به حتى داخل الدين الواحد بل الطائفة الواحدة، إلا أن إدراك الخصوصيات لا ينبغي أن يتخذ مركبا لإحلال القوالب الفكرية الجاهزة محل التاريخ الملموس. إن التحرّر من أسر المعالجات الإيديولوجية يقتضي النظر إلى المنظومة الدينية بعلاقة بسياقاتها الاجتماعية التاريخية وهي علاقة لا نفهمها في اتجاه واحد، بل ضمن رؤية جدلية لروابط كل من الوحي والتجربة النبوية التأسيسية بالتاريخ. وهذا يعني أيضا أن معطى الوحي ومعطى السيرة النبوية لا يكفيان على أهميتهما القصوى- لتحديد الصيرورة التاريخية لحدث تدشيني لم يلبث أن تحوّل من صعيد "المثـال" و"الفكـرة" و"النموذج" إلى صعيد الواقع بكل ملابساته وتناقضاته، وفي مقدمتها التوتر المستمر بين فكرة الجماعة الموحّدة في الإيمان، المرتبطة بالعروة الوثقى، وبين نزاع المصالح والصراع من أجل السلطة ومن أجل الحقيقة.

ولأن المجال لا يسمح بالتبسّط في عرض مختلف الفرضيات النظرية التي تستند إليها قراءتنا، بما فيها الفرضيات المتعلقة بالمقدّس وصيغ علاقته بالدنيوي، فإننا نستسمح القارئ بتلخيص وجهة نظرنا، وفحواها أنه لم يوجد في الإسلام التاريخي تطابق أو خلط أو فصل في المطلق بين الديني والسياسي، وبين الدين والدولة، مثله في ذلك مثل المسيحية التاريخية. فمن ناحية كانت هيمنة الرؤية الدينية للكون حتى نهاية المرحلة الوسيطة تحول دون الفصل الفعلي بين المجالين، ولذلك لم تقدم المسيحية في أوائل عهدها على مفاصلة الدولة إلا لكون هذه الأخيرة وثنية وتمارس الاضطهاد بحقها. في هذا الإطار يمكن أن نفهم قولة المسيح "أعط لله ما لله ولقيصر ما لقيصر"، وكذلك ما أعلنه من أن مملكته ليست في هذه الدنيا. وبالمقابل أصبح الاستمرار في الفصل غير ذي معنى منذ اعتنق حكام الإمبراطورية الرومانية الشرقية دعوة المسيح، وشهدت المسيحية التاريخية صيغاً عدة من تمفصل المجالين تراوحت بين احتكار أباطرة بيزنطة للسلطتين الزمنية والروحية، بناء على القدسية التي أسبغت عليهم، والبحث عن توازن صعب وتقسيم للسلطات بين الكنيسة والدولة في عهد الإمبراطورية الكارولنجية بالغرب، وامتداد سلطة البابا إلى المجال الزمني- السياسي إثر انحلال تلك الإمبراطورية. وعندما ظهرت فكرة "الفصل" أو "التمييز" من جديد، وبمبادرة من الدولة هذه المرّة، فقد حصل ذلك في سياق تاريخي جديد، سياق الثورات السياسية والفكرية والاقتصادية التي شكلت حركة الحداثة الغربية وترادفت مع سيرورة العلمنة وتراجع نفوذ الكنيسة، ولكن من دون أن يتخذ "الفصل" ذلك الشكل المطلق الذي كثيراً ما يُنسب إليه كما يدل على ذلك اختلاف النموذج الفرنسي عن النماذج التي أخذت بها الأقطار البروتستانتية.

أما بالنسبة للإسلام فإن البعد الروحي والأخلاقي الذي اقتصرت عليه الدعوة في المرحلة المكيّة ما لبث أن تزاوج إثر هجرة الرسول مع بعد دنيوي سياسي. ومن الممكن الافتراض بأن مؤازرة الأنصار لمحمّد -صلى الله عليه وسلم-، على خلفية التنافس بين المدينة ومكة، وفي غياب دولة مركزية وقهرية، أتاحت مجالاً لإضافة البُعد التشريعي والسياسي من أجل تأطير وتنظيم التعايش بين مكوّنات المجتمع الجديد، وكذلك علاقات الجماعة المسلمة الناشئة بخصومها وحلفائها، وبذلك أمكن لمحمّد أن يجمع بين الدعوة إلى عقيدة وشريعة جديدتين وتأسيس نواة دولة. ومنذ تلك الفترة شهد الإسلام التاريخي صوراً مختلفة من تمفصل الديني والسياسي والدين والدولة، لم يحل فيها واقع التداخل دون ظهور صيغ مختلفة من تمايز السلطات والصلاحيات، وذلك قبل أن يشهد أول محاولة لفك الارتباط بين المؤسستين على عهد كمال أتاتورك.

ضمن هذا الإطار العام، نتطرق إلى إشكاليتنا الخاصة بحدودها التي سبقت الإشارة إليها، ونقترح معالجتها من زاويتين، تتناول أولاهما علاقات المؤسستين والنخبتين الدينية والسياسية، وتهتم الثانية بعلاقة الديني بالسياسي.

2- النخبة العالمة والنخبة الحاكمة: التضامن، التنافس والتنازع

2-1- نشأت المؤسسة الدينية الإسلامية من أجل ضمان الاستمرارية، أي مواصلة نشر الدين بين الناس وتحقيق التزامهم بعقيدته وأخلاقياته وشريعته، بما يتطلبه ذلك من دعوة وتعليم، ومن ضبط للنص المقدّس وحفظه والاشتغال عليه فهماً وتفسيراً وتنزيلاً على الوقائع المستجدة والحالات المتغيّرة. ومن بلورة لوسائل الحجاج والمنافحة عن العقيدة أو المذهب، وباختصار ما يسميه ماكس فيبر بعقلنة الديانة. من المهم في هذا الصدد أن نلاحظ أن مصطلح "المؤسسة" لا يستتبع بالضرورة وجود تنظيم ظاهر للمهام، على الأقل في المراحل الأولى حيث تسود العفوية في النشاط الديني ولكن مهما كان مبدأ تساوي المؤمنين أمام الله حاضرا -وحتى في غياب طبقة متخصصة في شؤون العبادة أو محتكرة للأسرار الدينية- فإنه لا مناص من ظهور فئة رجال الدين ومن ظهور الحد الأدنى من المراتبيات وتقسيم العمل بمجرد الانتقال من حالة "الطائفة" الصغيرة إلى جماعة مؤمنة متنامية العدد.

على أن اهتمامنا يتجه بالتحديد إلى فئة العلماء أو الفقهاء بالمعنى الواسع للكلمة، أي النخبة المكونة من أكثر المسلمين دراية بالدين، والمشتغلة بعلومه، في مجتمع يطالب كل من بلغ سنّ التمييز بأن يعرف "المعلوم من الدين بالضرورة" وأن يكون قادراً على فهم خطاب الشارع. ونحن نتحدث عن النخبة العالمة كفئة واحدة بغض النظر عن الأصول الاجتماعية لعناصرها والأوساط الطبقية أو الإثنية التي ترتبط بها وموقعها من النسق السياسي القائم. فمن الجائز، بل من المفترض أن يكون للمنشأ الاجتماعي ولثقافة الوسط العائلي – بما في ذلك الانتماء العقدي والمذهبي – تأثير على سير العلماء ومواقفهم وعلاقتهم بجهاز الدولة وبالفئة الحاكمة. ولكن مهما كانت عوامل الائتلاف أو الاختلاف والانقسام في صفوف العلماء، فإن صفتهم كفئة اجتماعية محدّدة تتأتى من موقعهم المخصوص ضمن النسق الاجتماعي – الثقافي الإسلامي، أي كونهم يحتلون داخل هذا النسق الشامل موقع القيادة لعملية إعادة إنتاج وتجديد العقائد والممارسات الدينية وإنتاج أو تلبية الحاجة إلى تطبيق قواعد الشريعة وأحكامها على الأوضاع المتغيّرة. وهم يحتلون هذا الموقع بموجب الكفاءة المعترف بها لهم اجتماعيا، ومنها يستمدون مكانتهم كسلطة مأذونة.

لم تكن الحياة الاجتماعية والدينية للجماعة المسلمة في بداية أمرها تتطلب إلا الحدّ الأدنى من تمايز الوظائف والصلاحيات. فالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كان يؤم المسلمين في صلاتهم ويفقههم في شؤون الدين ويقضي بينهم في نزاعاتهم، ولم يعّين بعض القضاة إلا مع انتشار الدعوة في أقاليم الجزيرة العربية. وعلى نفس الدرب سار الخلفاء الراشدون من بعده بمساعدة من باقي الصحابة. بيد أن التوسّع المتسارع لدار الإسلام وتنامي صفوف المنضمين إلى حضيرته خلق طلباً متزايداً على تعلّم الدين والفتوى والقضاء وقاد مركز الخلافة إلى تفويض المزيد من صلاحياته، فبرز سلك القضاة وكلّف محتسبون بمراقبة المعاملات والسلوك العمومي للمسلمين، فيما بقيت الوظيفة الاجتماعية للتعليم والإفتاء حرّة وطوعية إلى مرحلة متأخرة. فالقاضي أو المحتسب موظف لدى الدولة، أما أئمة المساجد وأهل الفتوى والمدرسون - وكثير منهم أنتجوا في علوم الحديث والتفسير والفقه وأصوله وعلم الكلام – فمتطوعون ينشطون في سبيل الله أو في سبيل الشهرة العلمية أو الاعتبار الاجتماعي أو من أجل ذلك كلّه، والمحتاج من بينهم يحصل على مساعدات من أهل البرّ أو من بيت مال المسلمين، وفي مرحلة لاحقة من موارد الأوقاف.

هكذا نلاحظ كيف بقي المجتمع المسلم خلال مرحلة طويلة من تاريخه ينتج مؤسساته وكفاءاته الدينية بعيداً عن التدخل المباشر للدولة، باستثناء التعيين في بعض الخطط. ولعلّ أولى التغيّرات التي طرأت على هذا الوضع تمثلت في بروز البيوتات العلمية التي كثيراً ما تحوّلت إلى أرستقراطية دينية توارث أبناؤها مناصب القضاء والتدريس بالتحالف مع السلطة السياسية، وخاصة في ظهور المدارس السلطانية في ظل حكم الأتراك السلاجقة ومأسسة منصب قاضي القضاة في المشرق وقاضي الجماعة في المغرب. وبذلك توصلت سلطة الدولة إلى ربط قسم لا يستهان به من العلماء بمصالحها ووضعه في صفها مقابل ما يناله من التقدير الرسمي والمكافآت المادية.

لقد تبوأ العلماء منذ ظهور التمايز بينهم وبين الأمراء مكانة مركزية في حياة المجتمع المسلم وشكلوا بحكم تميّزهم كحملة للعلوم الدينية، وأحيانا كشخصيات تمثل القدوة ونموذج السلوك الإسلامي المثالي- واسطة بين النص المقدّس وجمهور المؤمنين، وهو موقع عيّن لهم جملة من الوظائف الاجتماعية تتمثل في ما يلي:

§ الوظيفة الروحية والعبادية من غرس الإيمان وتعاليم الدين والسهر على إقامة شعائره والعمل بفرائضه.

§ وظيفة التعليم والإرشاد والإنتاج في مختلف فروع المعرفة الدينية.

§ الوظيفة التشريعية متمثلة في استنباط الأحكام الشرعية التي يحتاجها المسلمون والتي شملت كل مجالات الحياة: الخاصة منها والعامة، الدينية والدنيوية.

§ وظيفة القضاء وكفالة مصالح الأيتام والقصر والأرامل والمطلقات.

§ وظيفة الاحتساب ومراقبة الأخلاق العامة.

§ وظيفة نصح الحكّام وتقديم المشورة باعتبارهم ممثلين للمجتمع ومن أهل الحلّ والعقد.

ورغم التقلّبات التي أحاطت بممارسة الوظيفة الأخيرة، وهي التي تمس بالسلطان السياسي، يظهر في الجملة أن النخبة العالمة كانت تتمتع بنفوذ واسع. فكيف تعاملت هذه السلطة الدينية والأخلاقية مع سلطة الدولة؟

2-2- لعلنا نجد منطلقا للإجابة عن هذا السؤال في الواقعة المزدوجة والمتمثلة من جهة في أن الجماعة المسلمة تشكلت كجماعة دينية سياسية قبل تبلور مؤسسة الدولة التي بقيت على حالة جنينية طيلة حياة النبي والخلفاء الراشدين، ومن جهة ثانية في أن هذه الدولة التي تم بناؤها الفعلي على عهد بني أمية برزت كقوة قهرية ومستقلة عن المجتمع. لقد فرضت الدولة في ظرف وجيز منطقها الخاص والمصالح الخاصة للعصبية الممسكة بها، ولم يغيّر سعيها لكسب رضا الجماعة شيئا ممّا تعانيه من عجز في الشرعية. وبالمقابل، فرغم هزال رأسمال الثقة الذي كانت "تتمتع" به لدى ممثلي هذه الجماعة من أصحاب الدين، فقد انتهى هؤلاء إلى اعتبارها ضرورية للدنيا والدين أي للقيام على شؤون المسلمين وضمان وحدتهم وتطبيق الشريعة وتوسيع مجال سيادة الإسلام. وهذه النتيجة وجدت صياغتها لدى فقهاء السلف وأرباب المذاهب الفقهية في التنصيص على مبدأين متلازمين: واجب نصب الإمام وواجب طاعته.

ما هي العوامل أو المبرّرات التي جعلت من هذه المفارقة أمراً ممكنا؟

كان التحوّل بعد الخلافة الراشدة إلى الملك ذي الأساليب والتنظيم المختلف علامة على وضع جديد لم تعد فيه البواعث الروحية هي الحافز الوحيد أو المسيطر، بل تركت المجال لاعتبار المصالح الدنيوية، ومن ثم للتعايش الذي لا يخلو من توترات ونزاعات بين متطلبات الآخرة ومتطلبات الدنيا، وبين مصلحة الجماعة ومصالح العصبيات أو الأفراد، وبين منطق الدين ومنطق الدولة. والواقع أن بوادر التغيّر ظهرت منذ أواخر المرحلة النبوية، وتمثلت بالخصوص في تنامي دور الغنيمة في التعبئة للجهاد، ودخول الكثير من القبائل تحت راية الدين الجديد وسلطة النبي دون المرور بحالة من الاختبار، أي بمرحلة استبطان لروح الدعوة والتشبّع بتعاليم العقيدة والصبر على المكروه والتضحيات على غرار ما حصل مع المهاجرين والأنصار، ممّا يجوز معه الافتراض بأن الطموح إلى المشاركة في الغنيمة كان له دور هام في انخراط تلك القبائل. وقد لاحظ محمد عابد الجابري في هذا الصدد أنه "لئن ربطت قلّة تحرّكها بنشر الرسالة، فإن الغالبية العظمى كانت تتحرّك بدافع الغنيمة أساسا"(10). والمعلوم أيضا أن الموارد الرئيسية للدولة والمجتمع الإسلاميين تمثلت في الغنائم، ثم مع توقف الفتوحات في جزية الرؤوس وخراج الأراضي المفتوحة، وأن أهمية هذا الاقتصاد التوزيعي بالنسبة للعرب، والتي استدعت بلورة فقه العطاء والخراج(11)، كانت من أبرز محركات الصراع الذي هزّ أركان دولة الخلافة الراشدة. وعلى العموم فإن الإسلام لم يكن ليشذ عن باقي الثورات: إذ لا مناص من أن تدخل مرحلة من المأسسة وتغلّب نزعات المحافظة ومنطق المصلحة على الروح الثورية وعوامل الغليان والعناصر التي تتمسّك بإعلاء روح الرسالة ومثلها العليا. هذه المرحلة دخلها الإسلام في عهد عثمان وكانت الفتنة الكبرى حصيلة التصادم بين الاتجاهين. وقد أفرزت هذه الفتنة إلى جانب الفرق الدينية السياسية ملكاً يستند إلى قوة العصبية والتشريك في المنافع، حتى وإن سعى إلى تبرير سيطرته بتأويل جبري للعقيدة الإسلامية. إلا أن ظهور المجال السياسي(12) وفرض مقتضياته على حساب الدين ومقاصده لم يؤد إلى الانفصال بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة. ولهذه الواقعة في تقديرنا ثلاثة أسباب:

الأول: أن الدين لم يؤسس مجتمعاً مسلماً وحسب بل أسس لهذا المجتمع دولة، وعليه فقد بقي الدين أساساً لشرعية هذه الدولة ومحدّداً ولو جزئياً لأهدافها.

الثاني: أن المؤسسة الدينية لدى الجماعات المحافظة، الذين قبلوا بسلطة هذه الدولة اختياراً أو اضطراراً، لم تتشكل كتنظيم ديني بيروقراطي على مستوى تسييره الداخلي ومستقل عن الدولة سواء على مستوى الوظائف التي يؤديها أو على مستوى توفير الموارد اللازمة لاشتغاله، كما كان حال الكنيسة الكاثوليكية مثلا. لقد لاحظنا أن سلك القضاء المنتدب من بين رجال الدين معيّن من طرف السلطة السياسية، وهو ما جعله معرّضا لتدخلاتها. من جهة ثانية فإن موارد المؤسسة الدينية، بما فيها المتأتية من أهل الخير ومن الأوقاف -عند وجودها- لم تكن كافية دائماً لحاجات تطوّر هذه المؤسسة، وفي مقدمتها بناء المدارس والإنفاق على المدرسين والطلاب. فهذا الوضع جعل الدين في حاجة لرعاية الدولة ووفر لأصحاب السلطان فرصة الغنم السياسي ممّا يجودون به على أهل العلم والتقوى.

أما العامل الثالث فتمثل في لزوم سلطة الدولة لتطبيق الشريعة، وقد عبّر ابن تيمية عن هذه الضرورة التاريخية بقوله: "إن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتمّ ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصرة المظلوم وإقامة الحدود، لا تتمّ إلا بالقوة والإمارة "(13). لقد قبل التيّار الرئيسي داخل الجماعة المسلمة، ولو على مضض، بقيام الخلافة الوراثية مقابل سهر السلطة السياسية على توفير الأمن وتطبيق الشرع. ذلك أن تسيير شؤون المجتمع المسلم وحل نزاعاته الداخلية من جهة، وحركية نشر الإسلام بما تدرّه من موارد وما تفرضه من ترتيب التعامل مع أهل الزمن ومع القوى الأجنبية من جهة ثانية -كانا يفترضان بناء الدولة، ولما كانت إقامة دولة دينية أو دولة –كنيسة أمراً غير وارد لغياب ما يشبه التنظيم الكنسي أو السلطة الدينية المعصومة والاحتكارية في الإسلام السني، فقد آل الأمر إلى سلطة "مدنية"، أي سلطة غير دينية وإن كانت مسلمة، تخدم وتنظم شؤون الدين إلى جانب تنظيم المصالح الدنيوية.

وبالفعل فإن الدولة التي تشكلت إثر الحرب الأهلية تجاوزاً لحالة اللاّتمايز بين الديني والدنيوي، وتجسيداً لبروز المجال السياسي بأهدافه ووسائله الخاصة، لـم يكـن بوسعها أن تتحرك دون إعلان وفائها للرسالة والتزامها بالديـن. وعلى حدّ تعبيـر برهان غليون كانت هذه الدولة الإسلامية "لا لأنها تتطابق في بنيتها وأهدافها وطرق ممارستها للحكم مع نموذج أقرّه الدين، وإنما فقط بمعنى أنها كانت دولة المسلمين كجماعة سياسية... فهي إسلامية من حيث هوية الجماعة والانتماء التاريخي والشارات العامة، وليس من حيث المبدأ والغاية"(14). لهذه الأسباب تمثلت التسوية بالنسبة لأهل السنّة في الصيغة المختلطة للإمامة أو الخلافة: فهي رئاسة سياسية دينية تفرضها متطلبات إدارة شؤون الأمة، ولكنها ليست من أركان الدين، أي شيئاً متعلقاً بالإيمان، خلافاً لما ذهب إليه الشيعة. وقد شكل الحل المتمثل في لزوم نصب أمير للمؤمنين ولزوم طاعته أساساً للحفاظ على وحدة كل من السلطة والمجتمع. إلا أنه لم يلبث أن طرح المشكلة المزدوجة لحدود السلطة والطاعة ولمكانة رجال الدين في المنظومة التي كانت بصدد البناء.

لقد كان نظام الطاعة في الإسلام محل تأويلات مختلفة لدى الأطراف المتنافسة أو المتنازعة حول الحقيقة وحول السلطة. فالآية (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ما انفكت تشكل موضوع تجاذب بخصوص الطرف المقصود بـ "أولي الأمر". ولم يكن من الصدفة أن تضطرب تفسيرات السلف – أو التفسيرات المنسوبة لهم – لهذه الآية. يقول ابن قيم الجوزية: "قال عبد الله بن عباس في إحدى الروايتين عنه وجابر بن عبد الله والحسن البصري... أولي الأمر هم العلماء، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل. وقال أبو هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى... هم الأمراء. وهي الرواية الثانية عن أحمد"(15). مهما يكن من أمر، فقد فسَّر كبار الأئمة هذه الآية في اتجاه يخدم مصالح الأمراء أو على الأقل يبدو كذلك، وذلك عندما أكدوا على وجوب طاعة الإمام ولو كان فاجراً أو ظالماً. ففي رأي مالك أن "الصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه، لما فيه من استبدال الخوف بالأمن" وأن "إهراق الدماء والفساد أعظم من الصبر على جوره وفسقه، والأصول تشهد والعقل والدين أن أقوى المكروهين أولى بالترك"(16). كما أن ابن حنبل، على ما لحقه من الأذى أثناء محنته في عهدي المأمون والمعتصم لم يفتأ يردّد "السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين، البر والفاجر"، وعلى غرار الأئمة الأوائل ردّد كبار الفقهاء هذا الموقف، ومنهم الغزالي وكذلك ابن تيمية الذي استشهد بالمأثور "ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان"(17).

لا تسمح سِيَر أئمة المذاهب وكبار الفقهاء المعروفين باستقلالهم عن السلطة السياسية، ممن دافعوا عن هذا الرأي، بنسبة موقفهم هذا إلى غايات نفعية، سواء كانت فردية أو متعلقة بالمصلحة الفئوية، حتى وإن تم توظيفه لتلك الأغراض من قبل بعض القطاعات. لقد تعلق الأمر بخصوص أئمة السلف ومن سار على نهجهم بموقف "مبدئي" لا يخضع للعبة الترهيب والترغيب، ويستمد مبرّراته من ابتغاء مصلحتين تتعاليان على كل الحسابات الأخرى: الحفاظ على وحدة الجماعة والحيلولة دون انقسامها إلى أطراف متصارعة على الحكم، وهذا هو درس الفتنة الكبرى، وكذلك عدم تعطيل أداء الشعائر وحكم الشريعة باعتباره رمزاً لاستمرار العمل بالدين. فهذه الاعتبارات كانت وراء اقتناع الفقهاء بضرورة تضافر جهود السلطتين الدينية والسياسية والتضامن بين الشريعة والسيف لمقاومة نزعة الفوضى التي تهددّ كليات الدين – وهي في عرفهم حفظ النسل وحفظ العقل وحفظ النفس وحفظ المال وحفظ الدين – وتهدّد بالتالي النظام الإسلامي ككل.

على أن بوسعنا أن نقرأ في هذا التوجه المؤكد على تضامن السلطتين نسقاً إيديولوجياً بكل معنى الكلمة، بما أنه يحجب واقع التنافس على السيادة والاختلاف حول الصلاحيات بين رجال الدين ورجال الدولة ولا يبرز إلا مقتضيات التعاضد والتآزر بينهما لإدارة شؤون الجماعة في نطاق الالتزام بشريعة الإسلام. ولعل من أبرز التعبيرات على هذه الإيديولوجية ما نجده لدى أبا حامد الغزالي. كان هذا الأخير في آن واحد العالم الرسمي المعتمد من قبل المؤسسة السياسية السنّية والناطق المأذون باسم المؤسسة الدينية السنّية وذلك للدفاع عن المصالح الرمزية المتكاملة لكليهما. وقد عبّر الغزالي عن هذا الترابط المصيري بقوله "الملك والدين توأمان. فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع"، وكذلك قوله "إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع"(18). فالتبعية هنا متبادلة، وتعكس حاجة متبادلة. إلا أن هذا التأكيد العام لا ينجح تماما في إخفاء طموح الفقيه إلى السيادة، حتى وإن كانت الوقائع تعارضه، وذلك عندما يجعل الغزالي من الفقيه مرشد السلطان: "فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسّط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات. وكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم لتنتظم بهم أمورهم في الدنيا"(19).

2-3- لقد كانت مقولة طاعة الإمام ولو كان جائراً مصدراً للكثير من الالتباس حتى اعتبرها بعض الباحثين تبريراً لتجاوزات الحكام وتجسيداً لعلاقة إذعان وتبعية. ولا مراء في أن فئة رجال الدين أنتجت نموذج العالم الذي يستقوي بالسلطة أو يضع نفسه في خدمتها أو يرضخ لضغوطها، وأن هذا الصنف وظَّف مقولة الطاعة في اتجاهات شتى منها تبرير ضعفه واستقالته، ومنها خدمة مذهبه واختياراته العقدية، ومنها دفع ثمن ما يحصله من خطط وامتيازات، ومنها تحويل الرأسمال العلمي والديني إلى رأسمال مادي واجتماعي. بيد أنه سيكون من الخطأ تعميم هذه الصورة على مجمل الهيئة الدينية التي أفرزت – إلى جانب الجناح الديني لنخبة الدولة وبيروقراطيتها – فصيلاً من العلماء المستقلين والذين كثيراً ما دفعوا ثمن مواقفهم المستقلة. لا ينبغي أن ننسى أن كبار الأئمة تشبثوا بموقفهم المبدئي من مسألة طاعة السلطان المسلم ولو كان عاصياً، رغم ما لحق بالعديد منهم من التعسّف. فقد ضُرب الإمام أبو حنيفة بالسوط ومات في السجن بسبب عدم استجابته لأمر الخليفة المنصور في تولي القضاء، وقيل بسبب موالاته لأهل البيت. وضُرب الإمام مالك بالسياط من طرف عامل المنصور على المدينة لرفضه سحب ما قاله عن عدم جواز طلاق المكره وما حدث من قياس الناس عليه بعدم جواز بيعة المكره. وضُرب الإمام الشافعي وكان مهدّداً بالقتل بتهمة موالاة العلويين. وسُجن الإمام ابن حنبل وضُرب بالسياط بسبب ما يبدو وكأنه مسألة كلامية محضة(20).

ولعلّ أبرز ما يجسّد انقسام العلماء حول العلاقة بالسلطة السياسية وأسلوب التعاطي مع الخيارات العقدية والمذهبية الرسمية أو السائدة – أن بعض كبار العلماء من المذكورين ومن غيرهم وجدوا أنفسهم في مواجهة هيئة دينية رسمية من القضاة المكلفين باستجوابهم ومحاكمتهم. ففي مواقف الشخصيات الدينية التي أرادت أن تجسّد السلوك الإسلامي المثالي وأن تكون قدوة للأجيال من بعدها يمكن أن نقرأ رهاناً ضمنياً على غاية الأهمية مداره تثبيت التمايز بين السلطتين السياسية والدينية. فقولهم بوجوب طاعة الحكام فيما يأمرون به ممّا يتعلق بإدارة شؤون الدنيا وحراسة الدين من حيث تطبيق أحكامه وانتظام شعائره – لا ينفصل عن رفضهم لتدخل أصحاب الدولة في قضايا العقيدة وما يتعلق بالفتاوي الشرعية، باعتبار ذلك شأنا للأمة وعلمائها. ومن وراء ذلك نقـرأ أيضـا رفضاً لعلاقة تبعية تجعل من رجل الدين خادماً لأغراض السلطان. لقد اعتبـر الفضل شلق بخصوص هذه المسألة أن "الاعتقاد الشائع لدى الكثيرين بأن فقهاء السنّة ورجال الدين عموماً ليسوا إلا أتباعاً للدولة ويخضعون بخنوع لرغباتها هو اعتقاد مجحف بحق هؤلاء" وأن الفقهاء كانوا "يمثلون فكرة الجماعة في مواجهة الدولة"(21). ونحن نميل إلى الأخذ بهذا الرأي، لكن مع تنسيـبه، فحرص العلماء من أهل القدوة على فكرة الجماعة ووحدتها كان الباعث الرئيسي في تأكيدهم على وحدة السلطة واستقرارها. وهذا لا يمنع من الإقرار بأن الكثير من الفقهاء من الملتحمين أو الملتصقين بالطبقة السائدة وبجهاز الحكم قد خلطوا بين مصالحهم الخاصة أو مصالح الأوساط الحاكمة وبين مصالح الأمة والدين.

لاشك أن الدوافع التي كانت تقود أئمة السلف والعلماء من أهل القدوة لم تكن كافية لإزالة كل لبس، وأنها وظِّفت تاريخياً في ترسيخ "ثقافة سياسية" تسوغ الاستبداد. ولعل هؤلاء القادة الدينيين لم يستسلموا لمتطلبات هاجس الأمن والدفاع عن النظام الاجتماعي الإسلامي وحسب، بل استبطنوا كذلك الأمر الواقع المتمثل في تعاقب سلطات قهرية لا تتردّد في استخدام الوسائل الاستثنائية لقمع معارضيها والثائرين عليها، ومن ضمنهم أصحاب الدين. وقد اعتبر محمد أركون في هذا الصدد أن "الآية التي تنص على إطاعة من يمتلكون زمام الأمر يمكن لها أن تفسّر إمّا بمعنى السيادة وإمّا بمعنى السلطة السياسية" وأنه "من الواضح تاريخياً أن ضغوط هذه الأخيرة كانت هي الغالبة"(22). ومع ذلك تتعيّن الملاحظة بأن هؤلاء الذين أعطوا الأولوية للإجماع والوحدة والاستقرار على مقاومة الحيف والظلم، ورفضوا تحمّل مسؤولية الثورة على المتجبّرين ومواجهة تجاوزات السلطة السياسية بأسلحة "السيادة الدينية" قد سطّروا حدّاً لسلطان الحاكم وهو أن "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وهو شرط غائم وقابل لا محالة لأكثر من تأويل، إلا أنه يسمح بالحط الرمزي من مكانة الأمراء والرفع من شأن العلماء بصفتهم "ورثة الأنبياء"(23).

بيد أن هذا الخطاب الساعي إلى إعادة ترتيب السلطات السياسية بما يجعل من العلماء سيادة ثالثة بعد الله والنبي ويعطيهم حق الرقابة على أفعال الأمراء، بقي خطاباً معيارياً يتعلق بالمثال المرتجى والذي كان الواقع ينأى عنه أكثر فأكثر. وبالتالي يمكن إدراكه كمحاولة للسباحة عكس التيّار. ففي الواقع كان تنامي حاجة المؤسسة الدينية للدعم المادي من قبل السلطات الحاكمة قد تضافر مع إستراتيجية هذه الأخيرة في استعمال تأثير رجال الدين لمصلحتها، ومع التحوّلات التي شهدت صعود القيادات العسكرية المملوكية والتركية وفرض سلطانها على جزء كبير من البلاد العربية والإسلامية – لينال بصورة متزايدة من استقلالية المؤسسة الدينية عن النخبة الحاكمة، وليغذي أسباب ضعفها وتبعيتها ويحدّ من قدرة العلماء على محاسبة الحكام.

ومن أجل الوقوف على التناقض الذي عاشه عالم الإسلام بين المثال الذي يرنو إليه العلماء والواقع الكاسح لسلطوية الحكام وتعسّفهم يكفي أن نشير إلى مآل الواجب الديني المتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي كان يمثل في نظر الهيئة العالمة مبدأ مكمّلا لواجب الطاعة. يجعل النسق الديني الإسلامي من ذلك الواجب إحدى مهام الإمام بصفته مسؤولاً عن حراسة الدين. بيد أن تكاثر سلاطين الجور ضاعف من مسؤولية العلماء وخاصة في مجال الاحتساب على الحكّام وقلّص في الوقت نفسه من حظوظهم في إنجاز هذه المهمة. لقد وضع أبو حامد الغزالي للاحتساب سلماً من خمس درجات أولاها التعريف، وثانيتها النهي بالوعظ والنصح، وثالثتها السبّ والتعنيف بالقول الغليظ، ورابعتها المنع بالقهر، وخامستها التخويف والتهديد ومباشرة الضرب، ولكنه يضع حدّا لهذه الممارسة عندما يتعلق الأمر بالسلاطين معتبراً أن "الجائز من ذلك اثنان من درجات الاحتساب: التعريف والوعظ، أما المنع والقهر فذلك يحرّك الفتنة ويهيّج الشرّ... وأما التخشين في القول كقوله يا ظالم يا من لا يخاف الله فذلك إن كان يحرّك فتنة لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه"(24).

يعكس موقف الغزالي هذا وعي الفقيه باختلال موازين القوة بين السلطان المادي والسلطان الروحي والأخلاقي وتقلص الهامش المتاح لهذا الأخير في القيام بوظيفة إسداء النصيحة، وهي الصيغة الوحيدة المقبولة سياسياً. فالقاعدة التي وضعها والمعبّرة عن الموقف العام للفقهاء، تؤكد على وجوب توخي الحذر في نصح حكام أصبح التجبّر يمنعهم من سماع ما كان يقبل به الخلفاء الأوائل، وهي تؤشر أيضا على سوء الظن بالدولة القائمة وابتعاد أهلها عن السلوك الإسلامي النموذجي في خشية الله والإحسان والالتزام بمكارم الأخلاق. لقد حال النظام الإرثي الاستبدادي عبر التاريخ الإسلامي، وخاصة في مراحل استشراء التعسّف، دون تشكل العلماء والمؤسسة الدينية السنّية عامة كسلطة مضادة فاعلة وقادرة على كبح جموح السلطة السياسية. لكن هذا العامل على أهميته ما كان لينتج هذه الآثار لو لم يقترن بانعدام ما يشبه التنظيم الديني. لقد بقيت سلطة رجال الدين لمرحلة طويلة مشتتة ومرتبطة في الغالب بالإشعاع الفردي. لم تتخذ المؤسسة العالمة السنّية شكل تنظيم ممركز ومستقل في تحصيل موارده، خلافـاً لما شهدته طوائف أو ديانات أخرى. وهذا الوضع حال بالتأكيد دون تشكل سلطة دينية تحتكر الحقيقة وتنازع المجتمع في مصادر عيشه، ولكنه بالمقابل جعل من رجال الدين ككل جسماً رخواً قابلاً للضغط والاختراق.

2-4- ولعل إحساس الفقهاء بالعجز عن تغير مجرى الأحداث كان وراء التغييرات التي دخلت على شروط الإمامة وعزّزت البُعد التبريري في نظرية الخلافة. كان الإمام الشافعي قد قدم صياغة لهذه الشروط تأخذ بالاعتبار ضمان الاستمرارية وإدماج المعطيات الطارئة بالقياس إلى ما كان عليه الوضع في عهد الخلافة الراشدة. فقد اعتبر أن الإمامة تكون في قريش وأن على الخليفة أن يكون عادلاً، ولا فرق أن يتولى منصبه بالسيف أو بالرضا. ثم جاء ابن حنبل فأيّد قوله بحصر الخلافة في قريش، وجوّز خلافة من تغلب ورضي به الناس واعتبر طاعته واجبة. كان شرط القرشية من باب تسجيل الأمر الواقع حتى وإن استجاب لرغبة العرب في الاختصاص بأعلى منصب في نظام الأمة. وفي هذه المسألة كما في غيرها لم يجد الفقهاء صعوبة في العثور على أحاديث منسوبة للنبي. وإلى جانب القرشية اشترطوا توافر العلم الذي يؤدي إلى الاجتهاد ويسمح بمراقبة أحكام القضاة، والعدالة أي الاستقامة الأخلاقية والدينية، والتغلب بالسيف بما يقتضيه من معرفة بشؤون الحرب والصرامة في إقامة الحدود. ثم بدأ الفقهاء يتنازلون عن الشروط الأولى واحداً فواحدا. فمع ظهور الفجور بين الخلفاء وارتقاء من لم يصل درجة الاجتهاد إلى سدّة الحكم لم يعد من الممكن التمسك بشرطي العدالة والعلم. وبذلك برز دور القوة والتغلب، خاصة مع ظهور إمارة الاستيلاء واستبداد القيادات البويهية والسلجوقية بالسلطة الفعلية.

راح الاتجاه السائد داخل الفقهاء يسجل هذا الأمر الواقع ويقنّنه، على غرار الماوردي الذي عرّف إمارة الاستيلاء بأنها تلك التي يستولي فيها الأمير "بالقوة على بلاد يقلّده الخليفة إمارتها فيكـون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير. والخليفة بإذنـه منفذا لأحكام الدين". لا ينكر الماوردي أن الوضع الذي أحال الخلافة القرشية إلى سلطة شكلية يمثل خروجاً عن "عرف التقليد المطلق" ولكنه يجوّزه كحالة اضطرارية لما فيه من "حفظ للقوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية"(25). وممّا يزيد في أهمية عملية التسويغ هذه أن أمراء الاستيلاء لم يقتصروا على التحكم في الشأن السياسي والإداري، بل تدخلوا كذلك في تسيير المؤسسة الدينية كتعيين أئمة الجمعة وفرض الدعوة لأنفسهم بالمساجد، على حساب وظيفة الخليفة.

لقد قارن بعض الباحثين هذا الموقف الذي كان يشترك فيه فقهاء كبـار مثـل أبو يعلى الفراء بكتابات فقهاء آخرين ظهروا في نفس المرحلة، أي في القرن الخامس للهجرة، ومنهم السرخسي والشيرازي الذين بلورا فقهاً مغايراً يرفض تبرير كل ما يصدر عن الحكومات(26). لكن إذا صحّ أن الماوردي سعى إلى توفير الاستقرار لأي حكومة قائمة، ألا يجوز القول أيضا إنه حاول أن يحفظ للخلافة مكانتها الرمزية عند المسلمين؟

3- الدين والسياسة: نزاع الصلاحيات وتداخل الحقول

يقودنا التحليل السابق إلى طرح مشكلتي وحدة السلطة/تعدّد السلطات ونزاع الصلاحيات بين الحكام والعلماء. ولإدراك المحاذير المحيطة بتناول هاتين المسألتين عبر مفاهيم القدماء وأدواتهم الفكرية يكفي أن نستشهد بالنص التالي لابن خلدون حول وظيفة مؤسسة الإمامة وعلاقتها بالخطط الدينية. يعرّف ابن خلدون الخلافة بأنها "نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا. فصاحب الشرع متصرّف في الأمرين: أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها، وأما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري". وبعد أن يلاحظ ما يختـص بـه التصرّف الديني للمنصب الخلافي، ولو كان ملكاً، من خطط ومراتـب، يضيف ما يلـي: " أعلم أن الخطط الدينية الشرعية كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، وكأنها الإمام الكبير والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرّفها في سائر أحوال الملّة الدينية والدنيوية"(27). فهذا النص رغم صدوره عن مفكر نقدي ومعروف بقدرته على التمييز، لم يخرج عن الفكر السائد وهو يحيل إلى تصرّف الإمام في سائر الشؤون الدينية والدنيوية. هل نستنتج منه أن الخلفاء والأمراء والسلاطين كانوا يتمتعون بسلطة كاملة في المجالين. وأنه كان يسعهم ادعاء حق السيادة الدينية بنجاح؟

من رأينا أنه ينبغي أن نقرأ هذا النص كتأكيد لنظرية وحدة السلطة أي على نظرية الإمامة كرئاسة عامة لجماعة سياسية دينية. لقد شدّد كل الفقهاء السنّة على مبدأ عموم السلطان المعترف به للخليفة وما يتيحه من الصلاحيات. ففي مقارنة عقدها شهاب الدين القرافي بين المفتي و "الحاكم" (القاضي) والإمام الأعظم يقول: "إن الإمام نسبته إليهما كنسبة الكل لجزئه والمركب لبعضه، فإن للإمام أن يقضي وأن يفتي وله أيضا جمع الجيوش وإنشاء الحروب وحوز الأموال وصرفها في مصارفها وتولية الولاة وقتل الطغاة وهي أمور كثيرة تختص به"(28).

بيد أن هذا التأكيد على وحدة السلطة وشمول صلاحيات السلطان لم يلغ سيرورة التمايز الفعلي للوظائف وظهور صيغ مختلفة لتمفصل السلطتين الدينية والسياسية سواء في أعلى الهرم أو في المراتب التي تقع دونه. ففي عهد الخلفاء الراشدين، ورغم الاندماج التام بين المجالين الديني والسياسي، لم يكن هؤلاء ينفردون بسلطة دينية عن باقي الصحابة. ولم يكن تعاملهم مع الشأن الديني، من تفسير للعقيدة وفتوى وقضاء، مرتبطاً بصلاحيات يحتكرها الخليفة وإنما يصدر عنهم بوصفهم من كبار الصحابة وأقربهم إلى النبي. لقد ظهرت البوادر الأولى للتمايز بين السلطتين الدينية والسياسية مع بروز فئة القراء ثم تبلورت مع انفراد بني أمية بوظيفة الإمارة وتركهم الفقه لغيرهم. يتحدث الفضل شلق بصدد ذلك المنعطف عن "انفصال المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية وعلى رأسها الخليفة"(29). ولعل الدقة تقتضي الحديث عن تمايز في الوظائف والبنى اتخذ في العصر الأموي شكل الانفصال، ثم تراجعت حدّته بعد العهد العباسي الأول، واتخذ صيغة جديدة عند ظهور أزمة الخلافة العباسية واستيلاء العصبيات المقاتلة على السلطان السياسي مقابل ترك الدين للخليفة والفقهاء. وعلى إثر انهيار الخلافة تبلور في ظل الأيوبيين والمماليك تقسيم للعمل ظهرت بموجبه بيروقراطية دينية تتمثل في مؤسسة قاضي القضاة المنظمة على أساس مذهبي، والتي يعين السلطان من يتولاها. وفي عهد السلاطين العثمانيين أصبحت المؤسسة الدينية، وهي على المذهب الحنفي، عبارة عن تنظيم بيروقراطي متكامل يرأسه شيخ الإسلام الخاضع بدوره للخليفة. ورغم كل هذه التطوّرات والمتغيّرات، فإن ثمة عنصراً ثابتاً: فطوال الحقبة الطويلة التي تلت الخلافة الراشدة، وبمقتضى اتفاق ضمني لم يكن للخلفاء أو السلاطين بصفتهم هذه أن يتصدوا لتأويل العقيدة أو للفتوى الشرعية باعتبارها من اختصاص العلماء.

إلا أن هذا التقسيم العملي للصلاحيات لم يحل دون وجود دوائر متنازع عليها وحالات من التجاوز. وفي مقدمة المؤسسات التي كانت محل تنافس مؤسسة التعزير. والتعزير هو الحكم في المعاصي أي المخالفات للدين مما ليس فيه حدّ شرعي ولا كفارة. وقد صنّفها الفقهاء إلى جناية في حق الله كأكل ما حرّمه وإفطار رمضان بغير عذر وترك الصلاة في رأي الجمهور. وجناية في حق العباد كسرقة ما دون النصاب والسرقة من غير حرز وخيانة الأمانة والرشوة. ومع أن الفقهاء تركوا للحكام مبدئيا أمر تقرير نوع التعزير من توبيخ أو ضرب أو حبس، وكذلك تحديد مقدار العقوبة، إلا أنهم كثيرا ما تدخلوا لبيان مقادير العقوبات وتحديد الحالات التي يشرع فيها الحبس وهي ثمانية مواضع، أكد القرافي أنه لا يجوز الحكم بالسجن في ما عداها(30). وبصفة عامة فقد كان هامش الحرية التي يتمتع بها السلطان في تصنيف المخالفات أو الجنايات وتقرير عقوبتها وكذلك قرار تنفيذ العقوبة أو تعليقها أو العفو فيها مجالا للتنازع بين الطرفين. كما أشار ابن خلدون إلى جانب من وظيفة الشرطة يتعلق بالجنايات التي ليس فيها حدّ شرعي وبالقصاص، ذاكراً أنه نصب لذلك حيث ذهبت الخلافة "حاكم يحكم فيها بموجب السياسية دون مراجعة الأحكام الشرعية(31). ولم يخل مجال العقيدة هو الآخر من صور التجاذب. حصل أول نزاع بهذا الشأن عندما آخذ القراء عثمان بن عفان على اعتماده نسخة رسمية ووحيدة من القرآن ورفض ما عداها. ثم كان ما هو معروف من تدخل المأمون والمعتصم والواثق لفرض الاعتزال كحقيقة رسمية. وفي هذه القضية لم يرفض ابن حنبل ومؤيدوه قول المعتزلة بخلق القرآن وحسب، بل رفضوا مع ذلك ما ادعاه الخليفة لنفسه من حق التدخل في مسائل العقيدة. ومع أفول نجم المعتزلة منع الخليفة القادر الدعاية لمذهبهم وجعل من الأشعرية عقيدة رسمية. وفي بلاد المغرب بلغ تدخل الدولة في الشأن العقائدي أوجه مع أمراء المرابطين الذين ذهبوا بطلب من الفقهاء إلى حد تحريم كتب أبو حامد الغزالي. ولم تكن هذه التدخلات وهذه النزاعات لتقع إلا بسبب التداخل الأصلي الذي يتيحه الإسلام بين الحقلين الديني والسياسي.

على صعيد ثان تجدر الملاحظة بأن توزيع الصلاحيات بين رجال الدين ورجال الدولة لم يكن يتطابق مع ثنائية الديني/الدنيوي أو الروحي/الزمني. ففي الواقع، ومثلما سبق أن لاحظنا، لم تكن السلطة الدينية في الإسلام سلطة روحية محضة. إن الوظائف المتنوعة التي مارستها والتي تجاوزت مهمة الإرشاد الديني والقيام على الشعائر إلى ممارسة القضاء وتدريس الآداب والعلوم كافة والاحتساب على الرعية والحكام وإنتاج الفقه، أي التشريع في كافة المجالات التي تهم المسلم من عائلة ومعاملة اقتصادية وإرث وأكل وشرب ولباس وعلاقات بشرية وتدبير سياسي ومالية حكومية...إلخ. كل ذلك يدل بوضوح على أن اهتمامات سلطات رجال الدين كانت تغطي كل الشؤون الدنيوية باستثناء الممارسة المباشرة للحكم. وبالمقابل فإن السلطة السياسية لم تكن "زمنية" محضة: فالإمام ومن يمثل سلطانه السياسي كالعامل أو الوالي هو الذي يقود صلاة الجمعة أو يعيّن من ينوبه فيها، وهو مسؤول أيضا عن العمل بأحكام الشريعة وضمان أداء الشعائر والدفاع عن عقيدة الإسلام ومباشرة الجهاد.

ولعل هذه الصورة اللانمطية من وحدة السلطة على مستوى القمة وتداخل الصلاحيات والحدود المتحركة لتميّز السلطات فيما دون ذلك كانت أحد الأسباب في تذبذب باحثين كبار بين محاولة استيعاب هذا الواقع المركب وأسر القوالب الفكرية الجاهزة. ولنذكر مشروع محمد أركون مثالاً على ذلك.

ماذا نجد لدى أركون فيما يتعلق بالإشكالية الخاصة لعلاقة الديني بالسياسي؟ الواقع أننا نجد عنده عدّة مواقف تتراوح بين الحدّين المتمثلين بمقولة الخلط ومقولة الفصل. فأحيانا نراه يحاول الوصول إلى إدراك مطابق للواقع التاريخي، ولكنه في حالات أخرى، وهو بصدد نقد القراءة الأصولية والقراءة الاستشراقية التي تصور الإسلام في هيئة الدين الذي "لا يفرّق بين الروحي والزمني" – يضحّي بمقتضيات الموضوعية لفائدة قناعاته الشخصية العلمانية فيحاول أن يثبت العكس تماماً أي الطابع الزمني للسلطة في الإسلام. هكذا يدافع أركون حيناً عن فرضية الخلط فيقول: "إن الغرب والإسلام قد عرفا ممارسات مؤسساتية متعارضة تتمثل في حالة الغرب بالفصل القليل أو الكبير بين الذرى الدينية والذرى السياسية، وفي حالة الإسلام بالخلط بين هذه الذرا"(32). وفي معرض تعليقه على صلاحيات الخليفة في السهر على كليانية الوحي وتطبيق الشريعة، يستنتج واقع "تداخل السلطة الزمنية بالسلطة الروحية" ويزيد على ذلك بأن هذا الأمر "ليس شيئاً خاصاً بالإسلام وإنما هو إحدى الخصائص الأساسية لكل الفضاء العقلي القروسطي. فاليهودية والمسيحية قد شهدتا الشيء ذاته"(33) وفي صيغة ثالثة يذهب أركون إلى أبعد من ذلك عندما يؤكد أن "التمييز بين الروحي والزمني لم يتحقق كلياً في يوم من الأيام، وأن تداخلهما لا يزال مستمراً حتى في بلد ذي تراث علماني عريق كفرنسا"(34). ولكن أركون، في نفس الفصل من نفس الكتاب أحيانا، يطلع علينا بقراءة مناقضة للنظريات السابقة، إما جزئياً أو كلياً. فتارة يطرح الفرضية التي مفادها أن "السلطة على مدار التاريخ الإسلامي كله كانت سلطة زمنية مضبوطة من قبل السيادة الدينية"(35)، وطوراً يعكس الاتجاه بمائة وثمانين درجة ليقول عن "سلطة الخلفاء السنّة كما الخلفاء الشيعة" إنها: "خلافة زمنية صرفة كما بيّن ذلك علي عبد الرازق"(36)!!!

كيف نفسر هذا التذبذب؟ هل يتعلق الأمر بحيرة وتردّد أمام واقع مزدوج بل معقد من التداخل والخلط والتمايز والانفصال؟ الأرجح لدينا أن أركون يحاول الاقتراب من الواقع التاريخي فيطرح فرضية التداخل، ولكنه يخاف من أن تدرك هذه السمة كصفة جوهرية للإسلام وخاصية ملازمة له، كما يتخوّف من نتائجها على مشروعه الخاص فيتجه إلى نقضها: ذلك أن أركون متشبع بالفكرة المتمثلة في أن علمنة المجتمعات الإسلامية ممكنة ومطروحة على جدول الأعمال، وأيسر طريق إلى ذلك هو الدفاع عن فرضية الطابع الزمني للسلطة في التاريخ الإسلامي، حتى وإن اقتضى الأمر الانقلاب على الصيغة "الأولى" التي قبل بها نفس الباحث والسخرية من الذين "يردّدون كالببغاوات أن الإسلام يخلط بين الوحي والزمني"(37).

إن موقفنا من هذه القضية هو الاحتراز من الأفكار المسبقة والتعميمات المخلة. وقراءتنا للتاريخ والاجتماع الديني والسياسي الإسلامي تقودنا إلى القول بأن العلاقة بين الديني والسياسي اتخذت صيغاً مختلفة، ولكن هذه الصيغ تراوحت جميعها بين اختلاط المجالات والوظائف وطغيان اللاتمايز على مستوى المؤسسة كما في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء الراشدين، والتمايز الذي لا يلغي التداخل كما في العهود اللاحقة. بل يمكن القول إن خط التطوّر العام اتسم بالانتقال من نموذج الالتحام والتمازج إلى نموذج التمايز في نطاق التداخل، وذلك في علاقة بالتحوّل من مجتمع تسوده البداوة وتصنعه البنى القبلية ضعيفة التمايز وإيديولوجية المساواة إلى مجتمع مركب يكرّس الفوارق والمراتب الاجتماعية ويعرف التخصص والبيروقراطية.

يبقى أن نتساءل عن انعكاسات هذه السيرورة على مستوى الفكر السياسي والاجتماعي. على هذا الصعيد يمكن القول بأن عدة عوامل منها تزايد تعقيد التركيبة الاجتماعية، والتوترات التي لا مناص منها بين مقتضيات الدين ومتطلبات المصالح الدنيوية، والتنافس والنزاع بين رجال الدين والحكام، وظهور السلطات على حساب مؤسسة الخلافة – قد تضافرت لتجعل من السياسة موضوعا مستقلاً للتفكير والكتابة. واللافت للنظر أن هذه الكتابات لم تبق حبيسة دائرة السياسة الشرعية كما نظّر لها ابن تيمية وسعى إلى إلزام الأمراء باتباعها. فقد ظهر لدى الأدباء والفقهاء تصوّر للسياسة لا يستند إلى معطيات الشرع وإن لم يطرح نفسه في معارضته. من ذلك التمييز الذي أقامه المقريزي بين حكم الشريعة التي هي "ما شرّع الله من الدين وأمر به" وحكم السياسة بصفتها "القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال"(38). والأهم هو إسهام عبد الرحمن بن خلدون. فهذا الأخير لم يكن من غرضه صياغة سياسة مثالية بديلة على غرار ما يقدمه الفلاسفة والفقهاء، بل إنشاء علم للعمران البشري والاجتماع الإنساني تحتل الظواهر السياسية مكانة مركزية فيه. وقد أوضح أن دراسته للعصبية والملك تنطلق من فهم طبائع العمران وليس من وجهة نظر الشرع. وبذلك أمكن له تقديم تصنيفه لنماذج السلطة وهي الملك الطبيعي، والملك السياسي بنوعيه، والخلافة.

لكن التطوّر الذي أفضى إلى الإقرار بوجود ممارسات أو نظم أو معايير سياسية مستقلة عن الشريعة وعن المعايير الدينية لم يؤد إلى التنظير لاستقلالية السياسي عن الديني أو الدعوة إلى الفصل بينهما. ومثلما لاحظ عياض بن عاشور، فإن الوعي السياسي في الإسلام لم يعرف ما يشبه معركة اللائكية كما عرفها الغربيون، وذلك رغم وجود أدبيات سياسية دنيوية: "فالدين كان دائماً بمثابة الإطار المرجعي، سواء بشكل صريح أو ضمني. ووجود سياسة لا تستند إلى الوحي لم يغيّر شيئاً في ذلك. إن هذه المشكلة لم تظهر في العالم الإسلامي إلا مع القرن العشرين، بعد الحرب العالمية الأولى وإلغاء الخلافة العثمانية"(39).

*************

الهوامش

*) باحث وأكاديمي من تونس.

1- Pierre Bourdieu: Un acte désintéressé est-il possible ?, in Raisons pratiques , Paris, Seuil, 1994, p.149-151

2- Pierre Bourdieu: Genèse et structure du champ religieux , Revue française de sociologie , T.22, 1971, pp:311-312

3- Ibid, pp:299-300,304.

4 - Ibidem, p.315.

5 - Ibidem, pp:316-317.

6 - Pierre Bourdieu: Le sens pratique, Paris, Minuit, 1980, p.209.

7 - Julien Freund: L’essence du politique , Paris, Sirey, 1965, p.32.

8 - Claude Lefort: Permanence du théologico-politique , in: Le temps de la reflexion-1981. Paris, Gallimard, 1981, pp:22-24

9- الأنتروبولوجيا السياسية، ترجمة جورج أبي صالح، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1986م، ص37-38، 95-96.

10- عابد الجابري، العقل السياسي العربي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1990م، ص 18.

11- الفضل شلق، الأمة والدولة: جدليات الجماعة والسلطة في المجال الإسلامي، بيروت، دار المنتخب العربي، ص 224-226.

12- العقل السياسي العربي، مرجع سابق، ص 253-254.

13- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، الجزائر، الزهراء للنشر والتوزيع، 1990م، ص169-170.

14- نقد السياسة: الدولة والدين، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1991م، ص 67.

15- ابن تيمية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، بيروت، المكتبة العصرية، 1987، ج 1، ص 10.

16- عن محمد أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، القاهرة، دار الفكر العربي، ب.ت. ج1، ص 105.

17- السياسة الشرعية...، مرجع سابق، ص 170.

18- أبو حامد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، بيروت، دار الهلال، 1993م، ص 254-256.

19- عن محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، مرجع سابق، ج 2، ص 26.

20- عبد العزيز البدري، الإسلام بين العلماء والحكّام، الجزائر، دار الأمة، ب.ت.، ص 152-208.

21- الأمة والدولة، مرجع سابق، ص 37.

22- تاريخ الفكر العربي الإسلامي، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1986م، ص 191-192.

23- إعلام الموقعين، مرجع سابق، ص 10.

24- الغزالي، إحياء علوم الدين، القاهرة، كتاب الشعب، ب.ت.، ج 7، ص 202.

25- الماوردي، الأحكام السلطانية، بيروت، دار الكتب العلمية، 1978م، ص 39.

26- نورمان كولدر: "صلاة الجمعة ونظرية السلطة عند الفقهاء"، مجلة الاجتهاد
عدد 12، 1991م، ص 165.

27- ابن خلدون، المقدمة، تونس، الدار التونسية للنشر، 1989م، ج 1، ص 273-274.

28- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرّفات القاضي والإمام، القاهرة، مطبعة الأنوار، 1938م، ص 6-7.

29- الأمة والدولة، مرجع سابق، ص 36.

30- وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق، دار الفكر، ط 4، 1997م، ج 7، ص 5591-5603.

31- المقدمة، مرجع سابق، ص 277-278.

32- تاريخ الفكر العربي الإسلامي، مرجع سابق، ص 267.

33- الإسلام: الأخلاق والسياسة، بيروت، مركز الإنماء العربي، 1986م، ص 179.

34- تاريخ ا لفكر العربي الإسلامي، مرجع سابق، ص 285.

35- المرجع السابق، ص 281.

36- المرجع السابق، ص 281-282.

37- المرجع السابق، ص 287.

38- أحمد المقريزي: كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، ب.ت.، ج2، ص 220.

39 - Yadh ben Achour: Structure de la pensée politique islamique classique, in « Pouvoirs » n°12,1980, p.19

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=190

الأكثر مشاركة في الفيس بوك