محرّمات في الحوار المذهبي!

جعفر فضل الله

 

يشغل الحوار المذهبي حيّزًا مهمًّا من الخطاب الدّيني، وذلك طبيعي ضمن الظروف الحاليّة التي جرى فيها استثمار الانتماء والشعور المذهبيّين في الصّراع السّياسي الذي بلغ حدًّا منقطع النّظير، حيث تداعيات الصّراع أصبحت مرتبطة بإيجاد تغييرات جيوسياسيّة وديمغرافيّة على مساحة العالم العربي والإسلامي.

وسائل الإعلام المتخصِّصة بالجانب المذهبي، فضلًا عن منابر المساجد والنّوادي الثقافية الدينية، تلعب دورًا خطيرًا في هذا المضمار، ولا سيّما أَنَّه، وللمرّة الأولى، يتمّ ضخٌّ كمّيّ ونوعيّ لتراكم ١٤٠٠ سنة من حوارات وجدليّات وشائعات وافتراءات بين المذاهب دفعةً واحدةً، إلى الجماهير الذين لا يملكون الأدوات ولا الوقت الكافي للتدقيق فيما يُعرَض عليهم، ولا لتحديد ما هو الأساسي والهامشي في القضايا المطروحة؛ كلّ ذلك بهدف إدخال الأفراد والجماعات المذهبيّة في حالة من الإثارة الغرائزية والانفعالية، بما يمهِّد الطريق لاستثمارها في خطط موضوعة سلفًا.  

ما نحاوله في هذه المقالة، هو تسليط الضّوء على جملة من الخطوط الحمر الّتي ينبغي على الجماهير المتلقّية والمتأثّرة بالخطاب المذهبي أن تعيه، لكيلا تكون عرضةً للاستغلال من حيث لا تدري من قبل جهات متطرّفة، أو حتّى أجهزة مخابرات لدول، يمكن أن تقف خلف هذه الوسيلة الإعلاميّة أو تلك، أو حتّى خلف هذا المنبر أو ذاك. والخطاب إنَّما يتوجَّه إلى الجماهير، لأنّنا ندرك أنَّ توجيه الخطاب إلى تلك الوسائل والجهات هو جهد ضائع في الهواء؛ لأنَّ طبيعة العقارب والأفاعي هي اللّسع واللّدغ؛ فلا يُطلَب منها ترك طبيعتها، وإنّما توضع العوائق أمام تأثيراتها ما أمكن ذلك.

أوّلًا: فقدان المقاربة السوسيولوجيّة

يسهل كثيرًا رؤية أنَّ العنوان المُعطى للطرف الآخر في أيّ حوار أو جدل مذهبيّ، هو عنوان (الشيعة) و(السنّة)؛ فيقال الشّيعة يعتقدون بكذا، والشّيعة يمارسون كذا، والشّيعة يتبعون هذه الجهة، وفي الطرف المقابل، نجد التوجّه عينَه: السنّة يعتقدون بكذا، ويمارسون كذا ويتبعون هذا الطّرف أو هذه الجهة... وهكذا، في عمليّة تعميمٍ لأقوال أو لأفعالٍ لكلّ من ينطبق عليه عنوان الشيعة أو السنّة.

ولكنَّ هذا الأمر غير صحيح؛ لأنّ المجتمعات الشيعيّة والسنّية هي مجتمعات مترامية الامتداد جغرافيًّا، ولكلّ مجتمع خصوصيّاته التاريخيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة وما إلى ذلك، وهذا في حدّ ذاته عاملٌ مهمّ - من الناحية السوسيولوجيّة - لرؤية تمايزات قد تصل الفروقات فيما بينها إلى ١٨٠ درجة بين الشيعة أنفسهم والسنّة أنفسهم.

وهذه نقطة مهمَّة لا بدَّ لنا من الوقوف عندها بشيء من التّبسيط، لنقول:

ما ينسب إلى الشّيعة أو السنّة اليوم الاعتقاد به عمومًا، هو نتاج شخصيّات علميّة وقياديّة عاشت في التاريخ أو في الواقع المعاصر، وهذه الشخصيّات أنتجت أفكارها ضمن ما رأته أنّه الحقيقة، وبعضُها غيّر وجهة نظره تبعًا لتغيّر المعطيات بالنّسبة إليه، ولذلك وجدنا لكثيرٍ من العلماء رأيين أو ثلاثة أو أكثر، تبعًا للمرحلة الزمنيّة والمكان اللّذين يفتي في ظرفهما؛ فما كان يفتي به الإمام الشّافعي في العراق، هو غير ما أفتى به في مصر، وعندما يستعرض تلامذة أبي حنيفة آراءه، نجد نقلًا لفتاوى مختلفة، تبعًا لما أدركه كلّ تلميذٍ من كلامه أو فهمه منه. وكذلك ما يفتي به المفيد أو الطّوسي في مرحلة ما، هو غيره في مرحلة أخرى؛ والّذي أفتى به الإمام الخميني مثلًا قبل قيام الدّولة الإسلاميّة في إيران، هو غير ما أفتى به بعد قيامها. هذا لا يعني أنَّ الحقّ تعدّد هنا وهناك، بل يعني أنَّ الحقَّ الذي ارتكزت القناعة فيه إلى معطيات معيّنة في زمانٍ أو مكانٍ ما، تغيّرت القناعة به عندما توفّرت معطيات جديدة لم تكن سابقة، أو - بتعبير آخر - فهم العالِمِ للحقّ تغيّر، أمَّا الحقّ نفسه، فهو في عالم الواقع ثابتٌ لا يتغيّر.

من المفردات المستخدمة بشدَّة اليوم على وسائل الإعلام، أنَّ الشيعة يسبّون الصّحابة، وأنّهم يهتكون حرمة أمَّهات المؤمنين، وما إلى ذلك، وكأنَّ بناءهم العقديّ قائمٌ على ذلك!

ولو نزلنا إلى طبيعة التنوّع الموجود في المجتمع الشّيعي نفسه، لوجدنا أنَّ هناك مجموعات، أو حتّى مجتمعات، تعيش لونًا من ألوان التطرّف في تمثّلها لكلّ ألوان حياتها، وفي أمور أخرى غير الشأن الديني حتّى! ومن الطبيعي أن ينسحب هذا التطرّف على طريقة تعبيرها عن التزامها، لا في انتمائها المذهبي الإسلامي فحسب، وإنّما نجد ذلك في انتماء تلك المجتمعات إلى أيّ دينٍ، وقد وجدنا مثل ذلك في المسيحيّة، عندما تحيي بعض الشّعوب ذكرى الجمعة العظيمة، حيث يصلب بعض النّاس أنفسهم بالمسامير، وبعضُهُم يلبسُ الأشواكَ إكليلًا يُدمي رأسه، بل نجد ذلك في أمور لا علاقة لها بطقوس الأديان، ويُقال إنّه في الأسكيمو، يقوم المسنّون بدفن أنفسهم في الجبل الجليديّ، إلى أن يتمّ تجميدهم أو يموتوا جوعًا، باعتبار ذلك وسيلة للخروج بكرامة دون أن يصبح المسنّ عبئًا على أسرته، وبعض الطوائف في شمال الهند، تشرب دماء الجماجم، وتأكل لحوم البشر الميتة والعائمة في نهر الغانج، وذلك باعتقاد أنَّ ذلك سيمكّنهم من الخلود والحصول على قوّة خارقة للطّبيعة، وبعض الجماعات في أستراليا تكسر أسنان الرّجل الذي يصل إلى سنّ البلوغ، وما إلى ذلك ممّا يكاد لا يُعدّ ولا يُحصى في الشعوب والجماعات حول العالم.. وهذا ميدان خصبٌ لعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، حيث تتمّ دراسة خصائص الشّعوب وعاداتها وتقاليدها. ومن بديهيّات العلم اليوم، أنّه لا يمكن تنميط الشّعوب بنمطٍ واحدٍ، حتى وإن جمعهم انتماء معيّن، ديني أو غير ديني.  

وبناءً على ذلك، يمكن القول إنَّ الشّيعة والسنّة ليسا مكوّنين عقدييّن تجريديّين نسبةً إلى الواقع والحياة، وإنما كلٌّ منهما مكوِّن اجتماعيّ له واقعه وخصوصيّاته الّتي تتنوّع بتنوّع المجتمعات والأعراق والزّمان والمكان بوجه عامّ، ولا يصحّ التّعميم فيه في قولِ عالمٍ أو علماء أو حقبة معيَّنة، أو حتّى لحال إجماعٍ تشكَّلَ في فترة ما؛ لأنَّ الاجتهاد المتحرّك يفسح في المجال حتّى لاعتبار الإجماع غير حجَّة، ولا قيمة له في الدّلالة بمجرّده على متبنّيات المذهب، وهذا حاصلٌ فعلًا.

العادات والتّقاليد لها سياقات

وعلى هذا الأساس، لا بدَّ من دراسة العادات والتقاليد التي يعبّر من خلالها الشّيعة أو السنّة عن التزامهم الديني على امتداد مساحة وجودهما، ودراسة الخصوصيّات التي تطبع تلك الشّعوب في تمثُّلها لأمور حياتها وطرق عيشها إلى جانب ذلك، وهذا ما ينبغي أن يشكِّل قاعدةً للكفّ عن التّنميط المذهبي في تعبير الخطاب الدّيني نفسه، فضلًا عن الإعلام، عن الشّيعة أو السنّة على امتداد مساحة وجودهما على هذه الأرض.

نعم، هذا لا يعني بتاتًا إعدام النقاش العقدي للعادات والتقاليد، فهذا أمرٌ مطلوبٌ دائمًا، وهو جزءٌ لا يتجزّأ من عملية تطوّر المجتمعات نفسها، وإصلاح التصوّرات لدى الشعوب عن نفسها وعن الحياة والعالم، ولكنَّ أيّ نقاش عقديّ، لا يمكن أن يكون سببًا في تغيير تلك العادات والتّقاليد، فالموضوع هنا بالغ التّعقيد، والنقاش العقديّ دوره أن يسلّط الضّوء على مدى ارتباط هذه العادات بالأصول الفكرية للدين أو المذهب أو الانتماء، ولا يكفي وحده لجعل الناس تترك عاداتٍ أو تقاليد متجذّرة لمئات السنين، أصبحت - بالممارسة - أقوى من النصوص الدينيّة ذاتها، والاعتداء عليها يمثّل اعتداءً على دين الجماعة وانتمائها بنظر أتباعها.

نعم، إعلان الانفصام العقدي بين الأصول العقديّة وتلك العادات والتقاليد، لا بدَّ من أن يتحرّك ضمن خطّةٍ للتّغيير، تلحظ البنى الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وما إلى ذلك لأيّ مجتمع، وتعمل على إدخال كثيرٍ من العناصر التي تصبّ في لحظةٍ ما في تقبّل ذلك الانفصال، وعدم اعتبار التخلّي عن عادةٍ ما تخلّيًا عن الانتماء أو الهويّة، كما هو حاصلٌ لدى كثير من الذهنيّات!

إنّ التطبير (إدماء الرّؤوس في عاشوراء) لهو واحدةٌ من المصاديق الجليّة في هذا الموضوع، ولو قمنا بعمليّة بحث على مواقع غوغل (Google) عن الشيعة وعاشوراء، لطالعتك مئات الصور عن التطبير قبل أيّ شَيْءٍ آخر، في الوقت الّذي نعرف أنّ الجماعة الشيعيّة ليست واحدةً في هذا المجال، وَأنَّ المجتمعات التي تأخذ بها لها خصوصيّاتها الثقافيّة والنفسيّة والتاريخيّة، وفي مساحة ضيّقة واقعيًّا، ولكنَّها واسعة إعلاميًّا، من قبل الممارِسين لها - وهم غالبًا من أصحاب الخطاب الحادّ والإقصائيّ للآخر - ومن قبل الذين يمارسون تأكيد صورة نمطيّة في الإعلام خارج إطار الانتماء المذهبي.

إنَّ المقاربة الفكريّة، العقديّة والشرعيّة، للتّطبير، أفضت بكلّ وضوح إلى أنّها سلوكٌ لا ارتباط له بعقيدة أو بنصّ شرعيّ أو بتوجّه فكريّ في التّعبير عن القيمة الّتي تختزنها عاشوراء، ومع وجود جدلٍ من قبل جهات دينيّة حول الموضوع، حتّى إنَّ بعض الجهات تعتبره أمرًا راجحًا ومستحبًّا، إِلَّا أنّ تلك الجهات تذعن إلى أنّه أمرٌ خارج عن التوجيه الشرعي الأصلي (أحاديث النبي(ص) وأهل بيته)، ولكنّ عدم وقوفها موقفًا سلبيًّا يشير إلى استحكام تلك العادة في بعض المجتمعات، بما فرض مراعاتها على الجهات الدينيّة القياديّة نفسها، إذا لم نقل إنَّ استحكام العادة أثّر في طريقة المقاربة العلميّة للمسألة لدى بعض تلك الجهات، فجعلها تُخضع المسألة لبعض الأدلة العامَّة جدًّا، والتي لا علاقة لها بمسألة التطبير إلا بتأويلات بعيدة وغير صحيحة، وتضرب عرض الحائط كلّ التأثيرات السلبيّة التي يتحدث عنها الآخرون لتلك العادات في قضية عاشوراء ونظرة الناس إليها.

لسنا هنا في مقام جدلٍ فقهيّ حول هذا الموضوع بالذات، وإنما لنُشير إلى أنَّ إلغاء تلك العادة من المجتمع، لا يقتصر فقط على المقاربة الفكريّة، وإنما يحتاج - مع ذلك - إلى تغيير عوامل أخرى في المجتمع، وهو يتطلَّب زيادةً في منسوب التعليم والوعي لدى الجماهير، إضافةً إلى إيجاد البدائل التي تحظى بالترويج الفكري والشّرعي (لأنَّ بعض البدائل - كالتبرّع بالدّم مثلًا - يراها البعض خارج سياق إحياء عاشوراء أو طريقة الجماعة في التّعبير عن ذاتها)، إضافةً إلى وضع القيود الواقعيّة على الممارسين لهذه العادات بطريقةٍ حكيمة وحازمة.

وفي مجال آخر، لا يمكننا أن نرى تعظيم بعض غلاة الشّيعة لأبي لؤلؤة (قاتل الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب) معزولًا عن بعض الأبعاد القوميّة لدى هؤلاء المتطرّفين قوميًّا، والتقى ذلك مع عناصر أخرى لها علاقة بدور عمر في إبعاد الإمام عليّ عن الخلافة وتهديده بإحراق داره - وفيها السيّدة فاطمة بنت النبيّ (ص) - إذا لم يخرجوا للبيعة، واختلطت الأمور بفعل تقادم الزّمن.. كلّ ذلك لا يمكن إهماله في عمليّة المقاربة الموضوعيّة للمسألة؛ لأنّ تصوير الأمر على أنّه موقفٌ للشّيعة عمومًا، أو للتشيّع، أو حتّى للإيرانيّين الشّيعة، أمرٌ في غاية الظلم والجور، وهو يُعقِّد علاج المسألة، ويجعلها تأخذ أكبر من حجمها، وربّما يصعب علاجها حِينَئِذٍ.

نبش الكتب القديمة هنا أيضًا لا يجدي؛ لعين ما ذكرنا آنفًا، من أنَّ المقاربات الفكريّة وحدها لا تشكِّل العامل الوحيد لبداية ظاهرة، كما أنّها لا تشكِّل العامل الوحيد لإنهائها، ولا بدّ من دراسة متكاملة لكلّ العوامل التي ساهمت في النّشأة والاستمراريّة لهذه الظّاهرة، ومن ثمّ العمل على تعديل هذه العوامل لتخدم إنهاءها أو تحجيمها.

ثانيًا: رمي الشّيعة بالتقيّة

في كثير من الحوارات المذهبيّة، عندما تصل إلى مستوى عقلاني، وتبدأ الحجَّة تقارع الحجّة بمنطق العلم والعقل، تُدفَع مسألة التقيَّة إلى الواجهة، ليُقال إِنَّ الشّيعة يمارسون التقيّة، وهي تعني أنّه لا حرج لديهم من أن يخفوا قناعاتهم الحقيقيّة تجاه مسألة سبّ بعض الصّحابة مثلًا، ويقولوا للملأ إنّه حرام، لأجل الخروج من الإحراج الإعلامي أو الاجتماعي أو السياسي وما إلى ذلك، وهذا كلّه يدفع إلى تصوير الشيعة على أنّهم منافقون، أو باطنيّون؛ وفي ذلك إفساد لأيّ تقارب يمكن أن يخفِّف من وتيرة المشاعر المذهبيَّة المتفاقمة على نار الحروب الإعلاميّة والسياسيّة والميدانيّة المتنقّلة تاريخيًّا وجغرافيًّا...

ولكنّ هذا الموضوع ينبغي سحبه نهائيًّا من التّداول، ولا يصحّ أن يوضع كعائقٍ أمام أيّ حركة حوار يمكن أن تنشأ بين السنّة والشّيعة حول أيّ من القضايا الفكرية والعقدية العالقة، وذلك لعدّة أسباب:

١ـ أنّ كلّ تراث الشيعة منشور على شبكة الإنترنت، ولم تكن كتبهم أصلًا بعيدةً من متناول الناس، ولكنّ حركة النّشر المتطوّرة حديثًا جعلت كلّ شيء بمتناول العالم كلّه، وهذا لا يتوافق مع الصّبغة الباطنيّة التي يمكن أن نجدها عند بِعض الفرق، والتي تعتبر أنّ تعاليمها أسرار، وكتبها محرّماتٍ على الأغيار، وما إلى ذلك.

٢ـ أنّ الحوارات البينيّة التي تجري في داخل المجال الشّيعي أمرٌ واضح للملأ، وهذا من مفاعيل حركة الاجتهاد المفتوح، وهذا الخطاب لا يجري في الأروقة الداخليّة، وإنما تتحرّك به دروس تُبَثُّ مباشرةً على مواقع الإنترنت من الحوزات العلميّة المتنوّعة، وتُنشَر به كتبٌ وبرامج متلفزة وما إلى ذلك.

٣ـ أنّ التقيّة في أصلها موقف وقائيّ أباحته الشّريعة في حالة الخوف على النفس بالدَّرجة الأولى، وذلك ضمن فقه الضّرورة الّذي يبيح المحظورات في الحالات الاستثنائيّة، تمامًا كأكل الميتة في حال الخوف على النّفس من الموت أو التّلف، وهذا يُقتصَر فيه على مقدار الضَّرورة لا أكثر، ولا يمكن أن يتحوَّل إلى قاعدة عامّة. وإذا كانت حالات الخوف على النفس طبعت تاريخًا طويلًا من استهداف المسلمين الشّيعة من قبل السّلطة الجائرة كجهات معارضة، فإنَّ الأمر لم يعد كذلك اليوم في عصر التّواصل والوضوح. وقد ورد في الحديث عن الإمام محمد الباقر(ع): "التقيّة في كلّ ضرورة"[1]، وعن الإمام جعفر الصّادق(ع)، أنّ التقيَّة "مما لا يؤدّي إلى الفساد في الدين"[2]، وعنه (ع): "إنّما جعلت التّقيّة ليُحقَن بها الدّم، فإذا بلغت التقيّة الدّم فلا تقيّة"[3]، وبهذا لا تجوز التقيّة إذا أدّت إلى فساد الدين، وتحوّله إلى حالة من الباطنيّة الخافية على أجيال المتديّنين في مدى الزّمن، ونحن نعرف أنَّ الزمن عاملٌ سلبيّ جدًّا في الجانب الاعتقادي للنّاس؛ لأنَّ ما يكون واضح التّمييز لدى الجيل الأوّل، قد لا يصبح كذلك لدى الجيل الثّاني والثالث، وهكذا..

٤ـ التقية بالمعنى الذي أسلفناه ليست مسألة شيعيّة، وإنما هي مسألة إسلاميّة قد أقرّها القرآن الكريم والسنّة الشّريفة؛ وهذا واضح لمن أراد المراجعة لأبواب الإكراه والضّرورة في الفقه الإسلامي.

ثالثًا: عدم ربط الحوار بالسّياسة

واحدة من المنزلقات الخطيرة الّتي ينزلق إليها العقل الإسلامي، سنّيًّا كان أو شيعيًا، هو ربط الحوار العلمي والفكري بالصِّراع السياسي؛ لأنّه حِينَئِذٍ يمكن أن يتمظهر في مظهرين كلاهما سيِّئ:

الأوّل: دخول الفكر في حالة تبريريّة لما هو قائم، وبما يتوقَّف عليه قيام كيان الجماعة، سواء كانت دولة أو حزبًا أو منظَّمة أو ما إلى ذلك؛ وعند ذلك لا يعود الفكر فكرًا، بل يصبح تكراريًّا ومواربًا، ويفقد برهانيّته ودليليّته الحقيقيّة، ليغرق في تزخيم الشَّكل وتضخيم آليّات الإفحام النّفسي وتسجيل النّقاط، وفي هذا مفسدة لكلِّ أصحاب فكر؛ بل مفسدة للمذهب نفسه؛ لأنَّ الفكر سيكون عاجزًا عن مواكبة المتغيّرات التي تضع الفكر أمام تحدّياتٍ يحتاج فيها إلى أن يعيد النّظر في بعض الأفكار التي ورثها عن المراحل السّابقة من الكتابات أو معالجات العلماء أو كتابات الفقهاء والسّلف.

ونستطيع اليوم - على سبيل المثال - أن نرصد تنامي ظاهرة الإلحاد في المجتمعات المتديّنة، السُنّية والشيعيّة على السّواء، انطلاقًا من اعتبار مسألة الإيمان بالله أو بالنّبيّ أو القرآن، مسألة بديهيّة لا يرقى إليها الشّكّ، وأنّ الأدلّة التي صاغها السابقون كافية لمواجهة أسئلة فرضتها إشكاليّات ومعطيات جديدة أمام الفكر البشري، وخلدنا نحن إلى تسجيل النقاط في مسألة تحريف القرآن الذي هو موجود في بعض كتب الأحاديث لدى الشيعة، ليردّ الشيعة بوجود أكثر من ذلك في كتب الأحاديث لدى السنّة، وبذلك ضاع القرآن الكريم من ذهنيّة النّاشئة التي تسمع تشكيكات آبائها بالقرآن فقط لتسجيل النقاط المذهبيّة على الطرف الآخر!!!

الثانيتحويل النتاج الفكري إلى آليَّة من آليّات السلطة لإدارة الصّراع، ليس ضدّ الآخر المذهبي فحسب، وإنما في داخل المجتمع المنتمي إلى مذهب واحد؛ لأنَّ اعتياد العقل المذهبي على هذا اللّون من الانشغال، من شأنه أن يصبح أرضًا خصبة للسّلطة في بذر بذور الشّقاق، وقد تكون مسألة "خلق القرآن" التي أثارت موجةً من التكفير العارم في داخل المجتمع الإسلاميّ السنّي بالذّات، شاهدًا على هذا اللون من استغلال السلطة لما هو ديني، من خلال أجهزة المخابرات والعيون المبثوثة حتى في أروقة العلماء ومجالس الفقهاء وباحات المساجد!

نستطيع اليوم أن نلقي نظرةً عامّة إلى واقعنا، لنجد كيفيّة استثمار كثير من الأفكار من قبل دول وأجهزة إعلام مرتبطة بالكثير من الجهات المشبوهة، لتحريك الواقع ورسم معادلات وتغيير خرائط على مستوى المنطقة.

إنّ الحوار الفكري والعلمي والثقافي، لا بدّ من أن يتحرّك في إطار آليّاته العلمية البحتة، ولا يصحّ بحال أن نجعل الخطاب العلمي رهنًا بما تطلبه السياسة، وما يحتاجه السياسيّون للمحافظة على مواقعهم، أو لتبرير مواقفهم التي قد لا تنسجم مع المبادئ الّتي يعتقد بها السنة والشيعة على السواء؛ والله من وراء القصد.


[1]  وسائل الشيعة، ج 16، ص 216، ح 6.

[2]  المصدر نفسه، ص217، ح8.

[3]  المصدر نفسه، ص 235، ح2.

المصدر: http://arabic.bayynat.org.lb/ArticlePage.aspx?id=22082

الأكثر مشاركة في الفيس بوك