الإسلام والوطنية

د. محمد بن إبراهيم السعيدي
 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه إلى يوم الدين وبعد: 

فهذه مقالة عن معنى الوطنية وأقسامها والحكم فيها كما بدا لي بعد التأمل الذي أسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت فيه إلى الصواب، وقد دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع أمران : 

أحدهما: أنني من خلال حواراتي الكثيرة مع الشباب من حملة الفكر المتطرف أو المتعاطفين معهم أو المتسائلين عن فكرهم أجد أن شعور أصحاب هذا الفكر بالتعارض بين الاهتمام بالوطن وحمل الهم الإسلامي يعد من أبرز الدواعي إلى تسرب الفكر الضال الذي يعد الوطن والعناية به من أبعد الأمور عن عناية منظريه بل إن الحديث عن الوطن ومنجزاته يعد لدى معتنقي هذا الفكر أو المتعاطفين معهم إحدى الكبائر الكبار التي تتناقض والاتجاه العام لديهم الذي يزعم أن الهم الوطني يتعارض مع الهم الإسلامي . 

الأمر الآخر: وجدت مما يساعد منظري هذا الفكر على الانقضاض على التفكير الوطني تاريخ الحركات الوطنية في العالم العربي حيث توصف الحركات الوطنية في العالم العربي بأنها حركات علمانية محاربة للإسلام قولا وعملا، وقد قامت بعض هذه الحركات بعد توليها للحكم في بلادها فعلا بمحاربة التوجهات الإسلامية أما الحركات التي فشلت في الوصول إلى السلطة فإنه قد ثبت تاريخيا علاقاتها المشبوهة مع أعداء الأمة 

هذا التصور يستغله كل منظر للحركات الفكرية المتطرفة لدفع الشباب والتغرير بهم للتفكير بعيدا عن مصالح أوطانهم . 

لهذا فإن الحديث عن الجانب الوطني وربطه بالإسلام والوصول إلى قناعة ووعي بضرورة تقديم مصلحة الوطن على أي اعتبار آخر وأن هذا التقديم هو من صميم الدين ولا يتعارض مع كون الإسلام هو المبدأ الأعظم والغاية المثلى التي نحيا ونموت من أجلها ,وأن تعارض مصلحة الدين ومصلحة الوطن من الأمور لمتعذرة إذا قسنا المصلحة بالمقاييس الشرعية ، أقول إن كل ذلك يعد ضربة في مقتل للفكر المتطرف الضال ، أسأل الله أن أكون قد وصلت فيها إلى ما هو الصواب والحمد لله رب العالمين . 



معنى الوطنية وتاريخ هذا المصطلح: 

الوطن في اللغة : تتوافق كتب اللغة في تعريف الوطن ولا تكاد تخرج عباراتهم في ذلك عمََا لخَصه صاحب كتاب الكليات ج1/ص940 حين قال: (الوطن هو منزل الإقامة والوطن الأصلي 

مولد الإنسان أو البلدة التي تأهل فيها ووطن الإقامة هو البلدة أو القرية التي ليس للمسافر فيها أهل ونوى أن يقيم فيه خمسة عشر 

يوماً فصاعداً ووطن السكنى هو المكان الذي ينوي المسافر أن يقيم فيه أقل من خمسة عشر يوماً.) ويلحظ أن هذه الكلمة رغم كونها صحيحة النسبة إلى اللغة العربية وأهلها عريقة النسب من حيث أصولها الاشتقاقية إلا أن استخدامها في المعنى اللغوي الذي أشار إليه أهل اللغة كان قليلا فلا تكاد تراها في الشعر الجاهلي أو شعر صدر الإسلام إلا قليلا، كقول رؤبة بن العجاج: 

أوطنْت وطْنا لم يكن من وطَني *** لو لم تكن عاملها لم أسكن

ولعل قلة استخدامها عند العرب بهذا المعنى هو السر في التعبير في القرآن عن الوطن بالديار والبيت 

كما في قوله تعالى: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ" [البقرة:84] وقوله تعالى :"كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ" [الأنفال:5]. ذكر أبو حيان أن المراد ببيته: المدينة، البحر ,4/ 458 

أما الموطن فقد جاء في القرآن مجموعا على مواطن في قوله تعالى: "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ" [التوبة:25] والمراد بها مقامات الحرب ومواقفها، مأخوذٌ من توطين النفس أي تهيئتها على مثل هذه المواقف كما أفاد أبو حيان في البحر المحيط ، 5 / 24 

وفي عصرنا الحاضر: لم يخرج معنى الوطن عن دلالته في أصل اللغة لكنه أصبح أوسع دلالة في عرف الناس، وإن كان علماء اللغة في العصر الحاضر يأبون الاعتراف بهذا المدلول الواسع فنجد واضعي المعجم الوسيط يستمرون في نقل كلام الأوائل في تفسير هذه الكلمة، قالوا: (الوطن مكان إقامة الإنسان و مقره وإليه انتماؤه ولد به أو لم يولد). 

أما المُتَواضع عليه في عصرنا الحاضر في معنى الوطن فقد أجمله الشيخ محمد عبده بقوله: (المكان الذي للمرء فيه حقوق وواجبات سياسية) وذكر الشيخ: أن هذا حده عند الرومان، تاريخ الأستاذ الإمام، 2/194 

ويمكن تعريفه أيضا: بأنه: المكان الذي ينتمي إليه الإنسان في حدوده السياسية، وإن تعددت أقاليمه واختلفت انتماءات أهله العرقية والدينية والمذهبية. 

فهذا التعريف لا يلغي التعريف اللغوي، وهو أوسع منه حيث يجعل كل ما تضمه الحدود السياسية من الأراضي وطنا للإنسان وليس الوطن مقصورا على مكان الولادة أو النشأة أو الإقامة . 

هذا بالنسبة للوطن أما الوطنية: فقد انتقلت من دلالتها على النسبة إلى الوطن أو مؤنث الوطني إلى الدلالة على معنيين متغايرين، الأول: اتجاه سياسي، والآخر: قيمة خلقية، وفي تقديري: أن الخلط بين هاتين الدلالتين وعدم تمييز إحداهما عن الأخرى أدى إلى الخلط أيضا في الحكم عليهما من زاوية دينية . 

فالاتجاه السياسي: نشأ في أوربا مصاحبا للاتجاه القومي هناك وكانت الدعوة في هذا التوجه إلى الثورة على الإمبراطوريات الأوربية التي يجتمع في ظلها عدد من الأقاليم التي لم يك بينها من جامع سوى في انتمائها إلى الدين المسيحي، وبالتالي كانت تلك ثورة على الرابطة الدينية في أوربا . 

وانتقلت هذه الفكرة الاستقلالية من أوربا إلى العالم الإسلامي ولا سيما تركيا حيث عاصمة الخلافة، ومصر التي كانت محط أنظار المثقفين العرب ومنها رفاعة الطهطاوي الذي لعله أول من نقل كلمة الوطن بمفهومها الغربي إلى اللغة العربية وكانت السيادة فيها للعثمانيين ومحمد علي باشا وأبنائه ثم خضعت لحكم ثلاثي غريب، حين تقاسمت الأدوار فيها كل من بريطانيا وأسرة محمد علي والدولة العثمانية. 

أما في تركيا فكان حزب تركيا الفتاة يحمل على الجامعة الإسلامية التي كان ينادي بها السلطان عبد الحميد ويسعى إلى رابطة طورانية تعزل الشعب التركي عن الشعوب الإسلامية التي لا يقترب منها في العنصر, وتتقرب من الشعوب التي تقاربها في الأصول العرقية وإن كانت تُباينها من جهة الديانة كالعرق الجرماني 

يقول عبد العزيز جاويش وهو من أعلام الحركة الوطنية في مصر _1293-1347_ في مقال له عن أصل الفكرة الوطنية (إن الشعور بالوطنية اصطلاح أفرنكي –أي: إفرنجي – انتقلت بذوره إلى الشرق من مطاوي العلوم العصرية وأصول المدنية الحديثة التي اهتدى إليها الغرب) 

وكان من دعاة الوطنية في مصر من هم شديدوا العداء للرابطة الدينية التي تذكرهم دائما بالاستبداد التركي فقدموا رابطة الوطن على رباط الدين ودعوا إلى مصر مستقلة سياسيا وفكريا عن أي رابطة أخرى بل إن منهم من فضل الاحتلال البريطاني على الرابطة الإسلامية وصرح بعداوة الاتجاه الإسلامي بل تجاوز إلى ربط مصر بتاريخها الفرعوني وعزلها عن التاريخ الإسلامي ومنهم من غازل الاتجاه الإسلامي والرابطة الإسلامية وحاول تصوير الأمر على أنه لا تناقض بين الاتجاه الوطني السياسي وبين الجامعة الإسلامية وكانت تمثلهم صحف المقطم ومجلة المقتطف والجريدة .والتجارة، ومن الأحزاب الحزب الوطني ومصر الفتاة وحزب الأمة . 

وهذا النوع من الوطنية لا يقره الإسلام لعدة اعتبارات 

1- كونها فكرة انفصال سياسي عن وحدة الدولة الإسلامية، والإسلام دين اجتماع وليس دين تفرق، ويَعُد الإسلام الاجتماع مكسبا ولذلك فهو ينبذ أي فكرة انفصالية, قال تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" [آل عمران:103] كما جاء الأمر بالالتزام بجماعة المسلمين في أحاديث كثيرة منها :قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم ج3/ص1480 

"من أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ على رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أو يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ" 

2- كونها دعوة للتكتل على أساس الإقليم يجعلها دعوة تحجيمية إضعافية مآلها إلى ضعف دائم غير متناه ’ إذ إن كل إقليم لا يُؤمَن أن يطالب أهل كل ناحية منه بالانفصال ولهم الدعوى نفسها التي انفصل بها إقليمهم عن محيطه الكبير، والإسلام دعوة للقوة بكل معاييرها ومن معايير القوة الاجتماع وعدم التفرق . 

3- وأيضا هي دعوة تقدم مصلحة الإقليم والترابط فيه على مصلحة الدين ورابطته، ونحن وإن كنا نوقن بأنه لا يمكن أن تتعارض المصلحتان في الحقيقة، إلا أنه يتصور تعارضهما ظاهرا في أذهان أصحاب هذا الاتجاه ,حيث لا يعدون الدين معيارا لتمييز المصالح والمفاسد، وقد أمرنا الله تعالى بتقديم الدين على الوطن عندما نقع فيهما بين خيارين، قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً" [النساء:97]، كما قدم الله تعالى المحبة في الدين والتآخي فيه على جميع العلاقات الإنسانية، قال تعالى: "لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [المجادلة:22]. 



الوطنية كقيمة خلقية: 

تلتقي الوطنية بوصفها قيمة خلقية والوطنية بوصفها توجها سياسيا في أمر واحد لا غير، وهو توجههما إلى الوطن بمفهومه الواسع أي حيث تنتهي الحدود السياسية لا بمفهومه التراثي الضيق . 

أما هذه القيمة وإن اتسع نطاقها من محل الإقامة أو النشأة أو الولادة إلى كل شبر من أراضي الدولة فإنها باقية على ما كانت عليه في سماتها النفسية منذ خلق الله الإنسان . 

ويمكن تعريفها بـ: محبة في القلب لمحل الانتماء يظهر أثرها في مدى غيرة المرء على وطنه وحرصه على الرقي به والحفاظ على مكتسباته ومودة أهله وبغض أعدائه. 

وهذه المحبة مركوزة في الطبائع لا يكاد ينفك عنها قلب امرئ، سوى من كان في نفسه مرض يحرف فطرته عن طبعها السوي، ونحن نعرف الأخلاق الفطرية من أنفسنا ومن سبرنا لمن حولنا ونظرنا في تاريخ الإنسانية، فإذا وجدنا ثَمََ خلقا لا ينفك عن الإنسان أنَا وجد في الزمان والمكان علمنا أنه مما فطر الله الناس عليه ولا تبديل لخلق الله . 

ولسنا لإثبات فطرة من الفطر بحاجة إلى كتاب فلسفي أو نقل عن عالم ما، فما نعلمه من أنفسنا لا نحتاج إلى تعلمه من غيرنا . 

ومن حكمة المولى عز وجل أن غرس هذه الفطرة في النفوس، ليتحقق إعمار الكون الذي أمر الله بعمارته، فسُكنت الصحارى والقفار وأعالي الجبال وأحبها أهلها وتناسلوا فيها آلاف السنين بالقدر نفسه من الحب الذي أفاضه أهل الأودية والأنهار ومنابت الغابات على ديارهم، بل وقاتل أهل القفار وقتلوا دون ديارهم كما قاتل أهل الغابات وقتلوا . 

ودين الله الذي ارتضاه لخلقه لا تُعارض أحكامه ما فطرهم عليه من سجايا وأخلاق، وإلا نكون قد زعمنا في الشرع عدم الحكمة أو التكليف بما لا يطاق، وهذا كما لا يخفى من الممتنع شرعا ولله الحمد والمنة . 

بل جاء الشرع مؤيدا للفطر ومهذبا إياها وحاميا لها بالشريعة من أن تنزلق بها الأهواء إلى مالا تحمد عقباه . 

فمما يُعْرف به تأييد الشرع لمحبة الأوطان: ما جعله الله تعالى 

من الثواب العظيم على هجرتها إليه سبحانه عندما تتوفر شروط الهجرة وموجباتها، ولعله لم يكن للهجرة هذا الفضل لولا ما لمحبتها من التأثير في النفوس السوية، وتمسك الأحرار بأوطانهم وتحملهم في سبيلها مغبات كل شيء . 

قال تعالى: "وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً" [النساء:100]. وقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قرينة للإسلام والحج في تكفيرها لما قبلها من الآثام، كما في صحيح مسلم ج1/ص112 (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ ما كان قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ ما كان قَبْلِهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ ما كان قَبْلَهُ). 

وقرن الله تعالى قتل النفس بالإخراج من الوطن في ميثاقه سبحانه على بني إسرائل: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ" 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام سادة من أحبوا أوطانهم، فقد روى ابن حبان في صحيحه ج9/ص23 

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ). 

وكان صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه يشتكون الشعور بالغربة حتى كان بلا ل ينشد إذا ارتفع عنه الوباء

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي إذخر وجليل 

وهل أردن يوما مياه مجنة *** وهل يبدون لي شامة وطفيل

فقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري ج2/ص667 

(اللهم حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أو أَشَدَّ ) 

وروى أصحاب السير فيما نقله في الروض الانف ج3/ص25 

حديث أصيل الغفاري حين قدم من مكة فسألته عائشة كيف تركت مكة يا أصيل فقال تركتها حين ابيضت أباطحها وأحْجَنََ ثمامها وأغدق إذخرها وأمشرََ سلمها فاغرورقت عينا رسول الله وقال لا تشوفنا أصيل ويروى أنه قال له دع القلوب تقر . 

ولنا أن نقيس الوطنية على القبلية، فقد جاء الإسلام إلى العرب والقبيلة هي الرابطة الأقوى بينهم، وهي الغاية المثلى التي يعيشون ويموتون من أجلها، بل كانت القبيلة هي مصدر القيم في حياة العربي، وجاء الإسلام و ألغى القبيلة كغاية ومصدر للقيم، لكنه لم يلغها كرابطة بين أهلها يستعملها في ما يحقق للمجتمع الإسلامي منافع في التكافل والنصرة وغير ذلك مما جاءت به السنة النبوية، فليكن شأننا مع الوطنية كشأن الإسلام والقبلية، فما زاد من الشعور الوطني عما قدمته سالفا في تعريف المشروع منها وهو الحب وما يثمره، أمر غير مشروع لإفضائه إلى مفاسد لا يقرها الدين وتتنافى مع مقاصده . 



فإذا كان هذا الحب مشروعا فليكن مشروعا ما يثمره من الغيرة على المحبوب والحرص على الرقي به والحفاظ على مكتسباته ومودة أهله وبغض أعدائه. 

وتكون المشروعية أكثر لزوما بل فرض عين حين يكون الوطن مسلما بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فما من رجل أو امرأة إلا وهم دائنون بـ لا إله إلا الله محمد رسول الله وما من مدينة أو قرية إلا وتشهد مآذنها بشهادة الحق وتسير شوارعها بقيم الدين الحنيف ويُتَرَنََم في مدارسها بآيات الذكر الحكيم قراءة وتفهما ويؤمر في أسواقها وجنباتها بالمعروف وينهى عن المنكر ويسعى بين أهلها بالأمن والعدل . 

عندها لا نحكم على محبة الوطن بأنها فطرة أو خلق وحسب لأنها تصير عبادة لا يتم الإسلام إلا بها . 

ولا ضير من اتساع نطاق الشعور بالانتماء من القرية أو المحلة إلى ما تضمنته حدود الدولة، إذ هو كسائر المشاعر النبيلة لا يمنع الإسلام من اتساع نطاقها, كالمحبة والكرم والعطف، مادام المحبوب والمكرم ممن أبيحت لنا محبته وإكرامه والعطف عليه. 



الوطنية والأخوة الإسلامية: 

إن الأخوة في الله سبحانه وتعالى على دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه إحدى المسلمات التي لا يمكن الجدال فيها وتقتضي هذه المسلمة أن يكون بين المسلمين من التواصي والتراحم والتآخي كما بين الإخوة في النسب : "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الحجرات:10] وفيما جاء في صحيح البخاري ج5/ص2253عن أَنَسُ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَبَاغَضُوا ولا تَحَاسَدُوا ولا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري ج2/ص862 

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كان في حَاجَةِ أَخِيهِ كان الله في حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ الله عنه كُرْبَةً من كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله يوم الْقِيَامَةِ) وفي صحيح مسلم ج4/ص2000عن النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ قال قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :( الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إن اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى له سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ) 

وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني في المعجم الأوسط ج7/ص270عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم و من لم يصبح ويمس ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم). 

وهذه النصوص الرائعة في ترسيخ مبدأ الأخوة الإسلامية، هي عينها النصوص التي ينبغي أن يترسخ بها مبدأ الشعور الوطني بكل جوانبه . 

ذلك أن المسلمين وإن ثبتت الأخوة لكل منهم أينما كان إلا أنهم لا يمكن أن يكونوا في درجة واحدة من الأولوية في الحقوق كما أننا لا نطالبهم في كل مكان بدرجة واحدة من الواجبات نحونا . 

فالأولية في الاستحقاق من قِبَلِنا هي لمن لنا عليهم الأولية في الواجبات نحونا، وهؤلاء بلا شك هم الأقربون الذين يعولوننا ونعولهم بحكم تساوينا في الاستحقاق من هذا الوطن، كما أن لنا بهم صلات أخر غير الإسلام والمشاركة في الاستحقاق من هذا الوطن ألا وهي صلة النسب والمساكنة في الدار المعتبرتان شرعا . 

والعمل بالأوليات في مجال أخذ الحقوق وإعطائها مبدأ لم تغفله الشريعة، ومن أمثلته: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه كما في صحيح البخاري ج2/ص518عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(خَيْرُ الصَّدَقَةِ ما كان عن ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) وفي رواية أبي أمامة رضي الله عنه كما في صحيح مسلم ج2/ص718 قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يا بن آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لك وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لك ولا تُلَامُ على كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ من الْيَدِ السُّفْلَى) 

وانظر إلى هذا الحشد من الروايات التي يسوقها البخاري رحمه الله دالة على فقه الأوليات : 

قال رحمه الله صحيح البخاري ج2/ص518 

: بَاب لَا صَدَقَةَ إلا عن ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ تَصَدَّقَ وهو مُحْتَاجٌ أو أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أو عليه دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى من الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وهو رَدٌّ عليه ليس له أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ الناس وقال النبي صلى الله عليه وسلم من أَخَذَ أَمْوَالَ الناس يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ الله إلا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ على نَفْسِهِ وَلَوْ كان بِهِ خَصَاصَةٌ كَفِعْلِ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه حين تَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَكَذَلِكَ آثَرَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ وَنَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عن إِضَاعَةِ الْمَالِ فَلَيْسَ له أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ الناس بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ وقال كَعْبُ رضي الله عنه قلت يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ من تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ من مَالِي صَدَقَةً إلى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ صلى الله عليه وسلم قال أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لك قلت فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الذي بِخَيْبَرَ . 

فحق من يجمعك وإياه الدين والمساكنة أوجب عليك من حق من يلزمك بأحدهما . . 

ويقاس على هذه الحقوق سائر أنواع الحقوق من النصرة والحفاظ فمن يشاركك في الوطن أولى بهذه الحقوق ممن يليه . 

وكيف لا يكون كذلك وبينك وإياه شراكة في الكفالة الاجتماعية التي يضمنها لك تساويك معه في الاستحقااق من خير هذا الوطن، فما تأخذه من راتب إن كنت موظفا، هو من أعطاك إياه، وما تجنيه من مكاسب إن كنت غير ذلك، إنما أخذتها منه، وما يصيبك من خير هو أول منتفع به بعدك وما ينزل عليك من ضر هو من يليك في تحمل مشاقه . 

وعلى ذلك فلا يمكن أن تكون نصرتك لأخيك في الإسلام النازح عنك في الوطن طريقها جسد أخيك الأقرب أو ماله أو أمنه ومن اعتقد ذلك فقد قرأ في تعاليم هواه الأعوج ولم يقرأ في تعاليم الإسلام، وشر الهوى ما كان على علم قال تعالى: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" [الجاثية:23]. 

وحين نقول: إن مصلحة الوطن لا يمكن أن تتعارض مع مصالح الدين إذا نظرنا إلى قياس المصلحة بمنظور ديني، فإننا نكرر ذلك، في نصرة إخواننا المسلمين، حيث لا يمكن أن تكون نصرتهم بإضعافنا وتفكيك جماعتنا وإنهاك دولتنا، لأن من نزعم نصره لا يريد نصيرا ضعيفا منهكا منشغلا بخلله منكفئا على جراحه، بل يريد مناصرا قويا مجتمعا ملتفتا إلى عدوهما بِكُلِِه لا ببعضه . 

وكيف يكون لنا أن نتفرغ إلى عدو مشترك ونحن نعالج ضعفنا أو نضع يدا في المعركة ويدا نشد بها خواصرنا من الألم ؟ إن ذلك لشيء عجاب . 

إن المسلم النازح إذا وقع في مصيبة فله منا كل شيء إلا شيئا يلحق بنا ضررا لا يرضاه هو لنا ويجزع لنا هو من أن يلم بنا كما ألم به . 

وليس هذا من باب شح النفس في شيء، كما أن إفساد النفس بما لا يصلح به الغير ليس من الإيثار في شيء أيضا 

فالإيثار خلق رائع حين أتحمل المشقة من أجل أن يرتاح أخي، لكنها أبعد ما تكون عن مقاصد الشريعة والعقل والطبع السليم حين أظن أن صلاحه في هلاك نفسي وإفساد أرضي، إذ كيف يكون صلاح غيري في ضياعي وهلاك مكسبي، وقد قال الله في الثناء على المؤثرين "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الحشر:9], فجعل الله الإيثار في تحمل الخصاصة وهي شدة الحاجة ولم يجعله في تحمل الضرر والفساد في الدين والبدن، كما جعل الإيثار مرتبة عليا ليس مكلفا بها كل أحد، بل ليس مكلفا بها أحد، وإنما هي من عظيم الأعمال التي تبلغ بصاحبها ويبلغ بها مراتب الكما، وقد أشار البخاري رحمه الله في النص المتقدم إلى ذلك، ومن حمل الناس قسرا على نوافل العبادات مما لا يطيقه سوى أصحاب المقامات فقد شرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله . 

ومن يريد أن يفسد أرضا من بقاع المسلمين من أجل صلاح أخرى فقد طلب الشفاء بما حرم الله وقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صحيح البخاري ج5/ص2129 

(إِنَّ اللَّهَ لم يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وقد حرم الله الإفساد في الأرض مطلقا ولم يستثن حالا دون حال "وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ" [الأعراف:56] 1 – "وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" [الأعراف:85]. 

"فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ" [الأعراف:22]. 

وجاء التفسير العملي لهذه الآيات من صحابة رسول الله الكرام رضي الله عنهم، حين مشوا لفتح الدنيا وهم يحلون وصية قائدهم انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا تَغُلُّوا وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنوا إن الله يحب المحسنين. 



الوطنية والحدود السياسية: 

الحدود السياسية معروفة مذ كانت الدول، ولكن سلطة هذه الحدود على الأفراد وإلزام الناس بالتابعية للدولة هو من خصائص هذا العصر التي لا يشركه فيها غيره من العصور فيما أحسب، وهذه الحدود هي نقطة الارتكاز لدى كثير ممن رد على الوطنية واعتبرها منافية للإسلام بالكلية، فذكروا أن هذه الحدود قد وضعها العدو للتفريق بين أبناء الأمة الواحدة، ونجح في ذلك حيث أصبح التمايز بين أبناء المسلمين على أساس هذا الشريط الوهمي الذي لم يعدكما كان في السابق حدا لسلطات الحاكم على الأرض بل أصبح أيضا حدا لسلطاته على الأفراد . 

وهذا الكلام صحيح بكليته في الدول التي كانت لبرهة من الزمن في قبضة دول الاستعمار، وصحيح أكثره في تلك الدول التي لم تنشأ في ضل الاستعمار ولم تطأها قدما مستعمر، ولكنه رغم صحته في الجملة لا يصح متعلقا لتحريم الشعور الوطني، إذ إن هذه الحدود موجودة رغما عنا أيا كان القول في سبب وجودها، كما أن القول بتحريمه لن يؤدي إلى محوه من الصدور على وجهه الذي وصفت أولا ، بل سيشعر الناس بالتناقض بين مشاعرهم الفطرية التي لا حيلة لهم فيها وبين أحكام دينهم ولا يخفى ما في ذلك من المفسدة على نفس الإنسان وبدنه وعلاقته بمن حوله . 

ولا أطنني أذهب بعيدا إذا قلت إن ما يحدث من بعض شبابنا من إفساد في الأرض باسم الدين إنما هو ردة فعل عنيفة للإحساس بالتناقض بين تعلقهم الفطري ببلادهم وأهلها وبين ما يفتيهم به البعض من كون هذا الإحساس أمر محرم شرعا . 

ثم إن الحدود السياسية وإن قلنا بأن الاستعمار هو من وضعها ليست بعد أن أصبحت واقعا معاشا شرا محضا، وعليه فلا يمكن أن تكون مناطا للتحريم ,بل إن ما نتج عن هذه الحدود من أخطاء يمكن معالجته بغير النهوض على الواقع ومعاندته وتحريم ما لم يأت كتاب ولا سنة بتحريمه، وذلك كما فعلت دول السوق الأوربية حيث وصلت من التقارب بينها إلى ما يمكن أن يعد إلغاء واقعيا لهذه الحدود . 

ونحن نتحدث عن الوطنية باعتبارها قيمة أخلاقية، وبهذا الاعتبار ليست الحدود السياسية أسوارا عالية لا يمكن تجاوزها، كما أنها ليست خطوطا وهمية لا اعتبار لها، بل هي نقاط البداية ونقاط النهاية لجهات من الأرض يضمن فيها الإنسان حقوقا أصيلة على الراعي والرعية يستوجبها انتماؤه لهذه الأرض، بحيث إذا تجاوزها تصبح حقوقه مرتهنة بما يقدمه للبلد المضيف من فروض وواجبات . 

ويمكن لهذه الحدود أن تتسع كما يمكن لها أن تضيق حسب ما يجِد في داخلها وفي محيطها من عوامل الضيق والاتساع التي عرفناها في تاريخ الدول، وتضيق معها حدود الانتماء وتتسع أيضا لكن وفقا للحقوق الأصيلة المصاحبة دوما للحدود السياسية . 

وهذا المفهوم يخالف ما عليه المنادون بالوطنية باعتبارها توجها سياسيا، فالحدود عندهم يمكن أن تضيق ولا يمكن أن تتسع، إذ إن الوطن لديهم مرتبط باسم الإقليم الذي ينتمون إليه لا بالحدود السياسية التي تضمه، لذلك نرى في الدولة الواحدة مطالب انفصالية على أساس وطني ويندر أن نجد مطالب وحدوية إلا على أسس قومية أودينية، ولهذا قدمت أن الوطنية كتوجه سياسي غير مقرة شرعا باعتبارها نزعات انفصالية غير متناهية . 



الوطنية وحقوق الإمام: 

يرى البعض أننا في غير حاجة للقول بالوطنية على أي أساس من الأسس، وذلك أن ما ننشده من الانضباط والطاعة مكفول في الإسلام بإيجاب طاعة الإمام، فإذا أوردنا على المتمرد ما يلزمه من الحقوق لولي الأمر فقد قطعنا عليه الطريق بحكمٍ أصيل في الشرع لا لبس فيه، وصريح العبارة ممتنع على التأويل، وحققنا بذلك ما نرجوا أن نصل إليه دون أن نلجأ إلى تكلف تشريع مصطلح دخيل علينا ثقافة وتاريخا . 

والجواب: أن مسألة الوطنية ليست من المسائل الافتراضية التي تعد مناقشة الفقهاء لها تكلفا أو ترفا فكريا، بل هو مصطلح ينادى به في كل مكان وتقوم على أساسه حركات وتنظيمات وتهراق في سبيله دماء وأموال، وعليه فلا يصح أن يترك دون أن يدرس ويبين الوجه الصحيح فيه . 

ولا شك أن ما ورد في الكتاب والسنة من وجوب الطاعة لولي الأمر والحث على لزوم الجماعة له أبلغ الأثر في كبح كثير من الأنفس الجامحة إلى الفرقة وإثارة الفتن، ولكن ذلك لا يعني بحال أن نجعل طاعة الإمام ملغية لسواها من القيم ا بدل عن أن نتخذهما متضافرتين من أجل تحقيق ما نرومه من الغايات. فإن تضافر الدليلين على مدلول واحد مما يحقق صحته ويؤكد الثقة بثباته. 

كما أن حب الوطن ليس مدرأة للفتن ومجلبة للأمن والاستقرار وحسب كحال طاعة الإمام، فهو حب ,ولا يكون الحب صحيحا حتى تظهر آثاره في تصرفات المحب نحو محبوبه، وإذا صدق القلب في محبة الوطن أثمر رفقا وتهذيبا في تعامل الجوارح مع أجزاء هذا الوطن ومكوناته، كما يثمر إخلاصا وصدقا في العمل من أجل نمائه وتقدمه، وغيرةً على أهله ومكتسباته 

وختاما أسأل الله تعالى: أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا 

 

المصدر: http://www.islamtoday.net/bohooth/artshow-86-9463.htm

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك