الدولة والمقدّس

عمار بنحمودة

 

تعود نشأة الدولة إلى إشكاليّة أنطولوجيّة أساسها البحث عن صيغ شرعيّة لتبرير إخضاع الإنسان إلى سلطة الإنسان، فمفهوم الدولة هو بمثابة وسيط بين الإنسان والإنسان، وجهاز يحوّل خضوع البشر إلى كيان رمزي ومادّي. ولهذا فهو يطرح إشكاليّة الشرعيّة ويثير خلافا حول تصوّرها، لتؤول الحصيلة النهائيّة إلى قسمة ضيزى فيها قويّ يحكم وضعيف يخضع. فكيف يستطيع الإنسان إقناع غيره ليخضع؟

ليست الدولة إذن ظاهرة طبيعيّة عند الإنسان، وإنّما هي نتيجة ذكاء بشري، وغايتها إيجاد تفسير وتبرير اجتماعي للسلطة السياسيّة، وهي من إنتاج خيال الإنسان يتصل فيها العالم السياسي بالعالم السحري، فيقيم لها قواعد اعتقادا ورموزا. والدولة واحدة من الأساطير التي أنتجها الخيال الإنساني الخصب. ولعلّها احتاجت منذ نشأتها إلى مبررات قويّة حتّى تجد شرعيّتها في أنفس المحكومين إقناعا بالسلطة التي تفرضها عليهم وحملا على الخضوع إليها طوعا وكرها، فهل وظّف واضعو مفهوم الدولة المقدّس؟ هل المقدس هو سرّ الطاقة التي مكّنت الدولة من الثبات مبدأ يحكم الوجود الإنساني؟ وهل في النظريّات الفلسفية التي اهتمت بالدولة ما تنجلي به ملامح المقدّس؟

إنّ الناظر في مفهوم الدولة يمكن أن يسلك طرائق قددا في مقاربتها، ومنها السؤال عن نشأتها وحقيقة الحاجة التي دفعت الإنسان إليها، مثلما يمكن لنا النظر في تاريخيّة مفهوم الدولة أي اتباع سيرورة تطوّرها وأهم الثوابت التي حافظت عليها وما طرأ على تصوّرها وتجسيدها الواقعي من تطوّر، أما المسار الثالث فيمكن أن يتّجه صوب تفكيك بنية الدولة بمعرفة مكوّناتها ،وهي دراسة آنيّة تقودنا حتما إلى اختيار عيّنة أو أكثر من أجل تفكيكها، ودراسة العلاقات الداخليّة بين عناصرها، كالعلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدولة، أو العلاقة بين التشريع والتطبيق في جدل الأصول القانونيّة مع الواقع. ولا يخفى أنّ زاوية المقاربة العلميّة من شأنها أن تقود الباحث نحو وجهة دون أخرى مادام العلم قائما على قسمة الحقيقة بين شركائها، وتنويع زوايا النظر حملا على التنوّع والاختلاف تحقيقا لإنسانيّة الإنسان.

صار المقدّس أمرا ثابتا ملازما للدولة في أشكالها المختلفة وإن اختلفت مبررات تلك القداسة

وسنحاول في هذه الدراسة رصد مفهوم الدولة في علاقته بسؤال المقدس من خلال تتبع آراء بعض الفلاسفة الذين قاربوا مفهوم الدولة، وليس مفهوم المقدّس أقل غموضا منه فالأمر المشترك بينهما أنهما لا يدركان إلاّ في تجليهما ، فالدّولة كيان رمزي قد يتجلّى في المؤسسات الحكوميّة، أو الرّاية الوطنيّة، أو في الحدود الجغرافيّة، وهي في تسميتها أقرب إلى الحدود بالمفهوم الديني التي تعتبر محرّمات يستوجب التعدّي عليها العقاب، أما المقدّس فهو بدوره لا يدرك في ذاته فقد أكّد "رودرولف أوتو"(Rodolf otto) على طابعه اللاعقلاني وعلاقته بالعامل العقلاني، وتحدّث "روجي كايوا" (Roger Caillois ) عن الانفعالات الغامضة والملّحة للمقدس، ورأى فيه دوافع عميقة للحياة الجماعيّة تماما كالدولة واعتبر أن نظريّة المحظورات تقوم بتنظيم المجتمع وفق ثنائيات صارمة . فلقد أكّدت جلّ المقاربات التي اهتمّت بالمقدّس منذ دراسة "دوركهايم" (Emile Durkheim) للأشكال الأساسيّة للحياة الدينيّة على الوظائف الاجتماعيّة التي يمارسها المقدّس، وكانت سلطة المقدّس من الثوابت التي حكمت تصوّرهم، فعاينوا المقدس في تجلّياته، وبيّنوا أثره في الفرد والمجموعة. ورغم أنّهم لم يجدوا في كثير من الأحيان إجابة شافية عن سرّ انجذاب الإنسان الأزليّ إلى المقدّس وخضوعه لسلطته، كحديثهم عن الطابع اللاعقلاني، أو تأكيدهم على ثنائية الرغبة والرهبة التي يمارسها سحر المقدّس على البشر، إلاّ أنّهم قد نبّهوا على وظائفه وأثره في المجتمعات البدائيّة عبر رحلة استقراء للاعتقادات القديمة والأديان. ولكنّ سعيهم ظلّ يسير في خطّ يتوازى مع مفهوم الدولة ذاته باعتباره إنتاج ذكاء بشري يبرّر سلطة الإنسان على الإنسان، فلا تزال المقاربات التي عنيت بالدولة في أشكالها المعاصرة تتحدّث عن هيبتها وحرمة أراضيها وقداسة راياتها الوطنيّة، وبعضها الآخر يرى أن استكمال قداسة الدولة لا يكون إلاّ عبر شرعيّتها اللاهوتيّة وصبغتها الدينيّة كالدولة اليهوديّة أو الدولة الإسلاميّة التي يحلم بتحقيقها أصحاب الفكر الأصولي. فالمقدّس صار أمرا ثابتا ملازما للدولة في أشكالها المختلفة وإن اختلفت مبررات تلك القداسة، ومثلما يجد الملوك قداسة دولهم في منطق التوريث، ويجد الخلفاء قداستهم في الرافد الإلهي، تجد الأنظمة الديمقراطيّة المعاصرة قداستها في سلطة الأغلبيّة وقوّة القانون والتعاقد. والدولة لا تستمدّ قيمتها في ذاتها وإنّما فيما تمارسه على الناس من سلطة لا تظهر في أزياء البوليس وأسلحة الجيش، وإنّما فيما تخلقه داخل الأنفس من رغبة ورهبة، ولهذا فالناظر في مواقف الفلاسفة من مفهوم الدّولة يجد أنّهم يشتركون في بحثهم عن تبرير لسلطة الدولة ويتخذون ذرائع فكريّة لإقناع الناس بقداستها وفق أنساق مختلفة تختلف مسمّياتها ولكنّها تشترك في تأكيدها على قداسة الدولة. فهم لا ينفكّون يجدون مبرّرا لوجودها، وفي ذهنهم أن المعضلة الأساسيّة التي أعاقت تلقّي مفهوم الدولة هي إقناع فريق من النّاس وهم الأغلبيّة بقبول حكم الأقليّة وإقرارهم بأفضليّتها، فقد كان أول صدام شهده مفهوم الدولة مع الحرّية، إذ هي بالأساس محاولة لتقنينها والحدّ منها. ولهذا فقد احتاج أفلاطون إلى تبرير الدولة باختلاق خرافة ونشرها في المدينة مؤداها أن الآلهة صبّوا طبائع الحُماة من الذهب بينما سكبوا طبائع الأعوان من الفضّة، أمّا طبائع باقي أفراد المتحدين فصنعوها من الحديد والنحاس. وقد سن قاعدة تقول بأنّ المدينة سيداهمها الخراب إذا ما تجرّأ أحد من هذه الفئة أو تلك على القيام بعمل يختصّ به سواه من الفئة الأخرى. وتلك هي الأكذوبة النبيلة. (أعلام الفكر السياسي،1991، ص15) فقد احتاج أفلاطون إلى أسطورة تجعل من الطبقيّة التي أقرّها خاضعة لتبرير مقدّس وتصنّف الناس كالمعادن وهي تجعل من خروج الناس عن معادنهم مدنّسا يهدّد النّظام الذي تقوم عليه المدينة الفاضلة ويحلّ الفوضى. وبنفس القدر الذي كان فيه أفلاطون يقدّس الحكمة المجسّدة في رمزيّة الذهب، فقد اختار لمدينته حاكما فيلسوفا جعله بمثابة إله صغير يمثّل صوت الحكمة على الأرض ويجسّد الخير المطلق، بينما جعل خروج الفئات من أصحاب المعادن الأخرى عن دوائرها تدنيسا للمقدّس السلطوي وتهديدا للدولة بالفوضى في الوقت الذي تحدّد غاياتها الأسمى في النظام.

ولم يكن أرسطو رغم الطابع التجريبي الذي وسم فلسفته قادرا على إفراغ الدولة من روح القداسة فقد جعلها التجسيد الأسمى للخير بقوله: "من الواضح أنّ كلّ المجتمعات ترمي إلى خير وأنّ أخطرها شأنا والحاوي كل ما دونه يسعى إلى أفضل الخيرات: وهذا المجتمع هو المسمّى دولة أو مجتمعا مدنيّا." (السياسات،1957، ص71) ولعلّ فكرة الخير هي الوجه الآخر للمقدّس الذي يسعى إليه الإنسان، إنّه قوّة مجرّدة تنسجها أجهزة الدولة ويحققها القائمون بالسلطة فيها، وبذلك تصير المعادلة أن الخير المقدّس في ذهن الإنسان يصير غير متحقق دون دولة فهي بهذا المعنى معادل رمزي للخير المطلق.

ولم يكن هوبز قادرا على إفراغ مفهوم الدّولة من شحنة المقدّس فقد اختار مفهوم "اللوفياثان" وسيلة لتبرير هذه السلطة التي تبعث الخوف في الأنفس مثل المقدّس بقوله: " إنّ السبب النهائي والغاية وهدف البشر التوّاقين بطبيعتهم إلى الحرية وممارسة السلطة على الآخرين، من خلال فرض قيد على أنفسهم والذي يجعلهم يعيشون في إطار الدولة، يكمن في التحسّب لما يضمن المحافظة على أنفسهم وتحقيق المزيد من الرضا في الحياة. وبعبارات أخرى يكمن هدفهم في الخروج من حالة الحرب البائسة، وهي نتيجة ضرورية للأهواء الطبيعية التي تسيّر البشر، عند انتفاء قوّة فعلية تنظّم حياتهم، وتجعلهم يحترمون تنفيذ تعهداتهم التعاقدية خوفا من العقوبة، كاحترام قوانين الطبيعة التي سبق عرضها...

في الواقع تشكل قوانين الطبيعة مثل العدالة والإنصاف والتواضع والرحمة ومعاملة الآخرين المعاملة نفسها التي نرتقبها منهم نقيضا للأهواء الطبيعية، التي تحملنا على التحيّز والغرور والانتقام. وهذه القوانين هي موضع احترام لأنها تثير الخوف."(اللفياثان،2011، ص ص 175-176)

ومثلما يتولّى المقدّس بجميع أشكاله تحقيق التوازن للمجموعة المؤمنة عبر الخضوع إلى قوانينه فإنّه يبيح ضربا من العنف المقدّس من أجل الحفاظ على توازن الجماعة إذ أكّد دوركهايم أنّ العنف والمقدس غير منفصلين، وكذا الدولة والعنف غير منفصلين، وتتأكّد هذه العلاقة من خلال احتكار الدولة لمفهوم العنف واعتباره عنفا شرعيا مثلما أقرّ ماكس فيبر (Max weber) ذلك، فالدولة شأنها شأن المقدّس لا يمكن أن تستغني عن العنف فهو ركن من أركانها وواحد من طقوسها وفي إطار المقدّس أو الدولة يجد العنف شرعيّته.

مثلما يتولّى المقدّس بجميع أشكاله تحقيق التوازن للمجموعة المؤمنة عبر الخضوع إلى قوانينه فإنّه يبيح ضربا من العنف المقدّس من أجل الحفاظ على توازن الجماعة

يرى " هوبز " أنّه "لكي تكون العقود سارية يلزم وجود حاكم يضمن تنفيذها، ومن هنا يسعى الإنسان إلى الهروب من حال الطبيعة بواسطة العقد الاجتماعي، ولكن في هذه الحالة لا يكون للعهود ولا للعقود أية قيمة حيث لا توجد ثقة بين الناس الأمر الذي يوجب وجود قوة ضاغطة لها السيادة على الجميع، ومن يملك هذه القوة يكون له ما يمكنه من أن يضطر المتعاقدين على احترام تعاقداتهم، وأن يفرض عليهم عقوبات تتجاوز النفع الذي يحوزونه من خيانة العهود، ومن هنا لا توجد إلاّ عاطفة الخوف التي نعتمد عليها. والعقود بلا سيف ليست سوى ألفاظ كما يقول هوبز " فيجتمع عدد من الناس ويتّفقون على اختيار حاكم أو هيئة حاكمة تمارس سلطتها على الجميع ويتنازلون لها عن كلّ سلطاتهم، وبهذا يوجد اللوفياثان الإله الأرضي الذي يدينون له جميعا بالسلام والحماية". فيجتمع عدد من الناس ويتفقون على اختيار حاكم أو هيئة حاكمة تمارس سلطتها وتنهي حالة الحرب الشاملة. ولا يحتمل أن يكون هذا العقد قد وقع كحدث تاريخي، وإنّما هو أقرب إلى أن يكون أسطورة يفسّر بها هوبز رضى الإنسان عن تحديد حرّيته وخضوعها للسّلطة، ذلك لأنّ الغرض النهائيّ هو أن يحمي النّاس أنفسهم من حالة الحرب. وبمقتضى هذا العقد يتنازل الجميع عن إرادتهم لإرادة الحاكم فيكون له بمقتضى هذا العقد السلطة المطلقة لعمل كل ما يراه صالحا لرعاياه. (الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس، 1999، ص 80-81)

ولعلّه الأمر ذاته الذي أكّد عليه سبينوزا فهو يرى أنّ "الشرط الذي يمكن أن يتكوّن به مجتمع إنساني دون أدنى تعارض مع الحق الطبيعي، ويمكن به احترام كل عقد احتراما تاما. هذا الشرط هو أنّه يجب على كل فرد أن يفوّض إلى المجتمع كل ما له من قدرة، بحيث يكون لهذا المجتمع الحق الطبيعي المطلق على كل شيء، أي السلطة المطلقة في إعطاء الأوامر التي يتعيّن على كلّ فرد أن يطيعها إمّا بمحض اختياره وإمّا خوفا من العقاب الشديد. ويسمّى نظام المجتمع الذي يتحقق على هذا النحو بالديمقراطيّة، فالديمقراطيّة هي اتحاد الناس في جماعة لها حق مطلق على كل ما في قدرتها." (رسالة في اللاهوت والسياسة، 2008، ص372) فتفويض الفرد للجماعة كلّ قدرة هو تماما كالاستسلام اللاعقلاني للمقدس الذي بحسب مقاربة "رودولف أوتو"، يفرض سحره على الجماعة ويسلبها إرادتها، والخضوع يظل أمرا لا ريب فيه إمّا طوعا أو كرها.

وكذلك اعتبر هيجل أنّ "الروح الكامنة في الأمة وفي تاريخها ...هي التي صنعت الدساتير في الماضي وتصنعها في الحاضر." (أعلام الفكر السياسي،1991، ص 99) هذه الروح هي المقدس الذي يصير كروح الأجداد في المتخيّل الأسطوري يضمن للقبائل القديمة التوازن والحماية من الأرواح الشريرة مثلما يضمن للإنسان المعاصر التوازن السياسي والاقتصادي والاجتماعي وفق أنساق عقلانيّة ومؤسسات دستوريّة. ويرى هيجل أن الدولة "هي التي تجعلنا موجودات عقلية كاملة " فالغاية العقلية للإنسان هي الحياة في دولة. فنحن بحاجة إلى الدولة لنعيد إلى الأفراد وحدتهم بعد تشتّت المصالح الخاصّة التي كان ينمّيها المجتمع المدني"(معجم مصطلحات هيجل،2000، ص519). ولهذا فإنّه يصوّرها بأنّها "مسيرة الله على الأرض." (معجم مصطلحات هيجل،2000، ص521). ونتيجة لذلك فإنّ هيجل يؤكّد أنّ "الواجبات السياسية هي واجبات أخلاقيّة نمارسها لأنّنا مواطنون في دولة لها قوانينها"(أخلاق السياسة،1993، ص6)، فهو يرى الدولة انعكاسا لقداسة إلهية ويقرن بين الواجبات الأخلاقيّة والواجبات السياسية ضمانا لقيمتها.

ولئن تفاوت التأكيد على العنف بين الفلاسفة بتأكيد بعضهم على ضرورة حماية هذه الروح الجماعيّة بالقوّة حتّى تصير مقدّسات الدولة محلّ رهبة وخوف، فإنّ البعض الآخر جعل من الوعي وسيلة لبلوغ هذه الغاية النبيلة لاعتباره أنّها نابعة من روح جماعيّة أساسها أخلاقي.

و لكنّ العنف وإن غاب عند بعض الفلاسفة في مفهومه المادي المباشر فقد ارتدى حلّة الرمزيّة عند البعض الآخرين، فالعقد الاجتماعي عند روسو يظلّ سلطة رمزيّة تنصهر فيها إرادة الفرد مع الجماعة، ولهذا فقد ارتبط مفهوم النظام بالمقدّس من خلال تأكيد روسو على أهمّيته بقوله: "النظام الاجتماعي حقّ مقدّس لا يحتاج إلى أساس خارج ذاته، ويقوم أساسا لكلّ الحقوق الأخرى، بيد أنّ هذا الحق لا ينبع قطّ من الطبيعة إنّه قائم إذن على اتفاقيات، والغرض هنا أن نعرف ما هي هذه الاتفاقيات "(العقد الاجتماعي،1980، ص9) وهي التي تضع الفرد داخل دائرة التعاقد وتجعل حريته داخل ذلك الميثاق المشترك تماما مثلما يفرض المقدّس على الإنسان قوانينه سواء ما تعلّق بالأمكنة أو الأزمنة أو الطقوس التي تمارس عادة بشكل جماعي وظيفته جعل الفرد عنصرا فاعلا داخل المجموعة.

وبذلك يمكن القول إنّ الدولة قد قامت منذ نشأتها على استغلال مفهوم المقدّس، فالدولة لا معنى لها ما لم تستطع حمل الناس على الإيمان بخيرها رغبة في عطائها وخوفا من عقابها ورهبة من زوالها، وهي نفس الاستراتيجيّة التي تتّبعها الأديان التوحيدية مثلا فهي تغري الناس بجنّات عدن تجري من تحتها الأنهار، وترهبهم بنار تلظّى لا يصلاها إلاّ الأشقى الذي كذّب وتولّى، والدولة بهذا المعنى هي استعادة للبنية التي يقوم عليها عالم المقدّس الدّيني، مادامت تعتمد في أصل تكوينها على مفهوم الأسرة، ذلك أنّ قبول مفهوم الأب هو صورة من قبول مفهوم الإله وهي في الدولة تنعكس قبولا بفكرة الملك أو الرئيس، وقبول الدولة بدأ من خلال استغلال مفهوم العائلة ولذلك كانت الأشكال الأولى للدولة ملكيّة وراثيّة، فثمّة تناظر بين بنى المقدّس يكوّن ثوابت لاواعية ويسهل على الإنسان قبولها فهي منغرسة في اللاوعي الجمعي للإنسان. ولذلك فالإنسان لابدّ أن يجد في الدولة تلك الطاقة المقدّسة التي تهب للعالم والوجود معنى ونظاما، وهو يهرب من الفوضى التي ترتبط بالعدم، ويحتاج دوما إلى مبرر سحريّ قد يسمّيه الخير أو الطبيعة أو النظام أو العقد الاجتماعي أو اللوفياثان ،أمّا من حاول تعرية المقدس فقد وقع في دائرة المدنّس وأفرد إفراد البعير المعبّد بل لعن كما لعن الشيطان بسبب عصيانه ،" فماكيافيللي " صاحب كتاب " الأمير" حاول كشف أساليب المغالطة وحيل السائس، وأخضع أفعاله إلى منطق "الغاية تبرر الوسيلة" ولذلك "اقترن اسم ماكيافيللي دوما بالسمعة السيئة. وبات وصف المرء بالماكيافيللية يوازي اتهامه بالمكر الذي لا يعرف حدّا. وماكيافيللي هو أحد شياطين الدراما الأوروبية، وأحيانا يغدو رديفا لإبليس بالذات" (أعلام الفكر السياسي، 1991، ص40.)

لقد كان ذنبه الأكبر أنّه عصى قوانين المقدّس، وقام بتعرية وفضح تلك الطّاقة السّحريّة حتّى حوّلها إلى طاقة خداع ومكر مفرغة من كلّ قيمة وليس لها سوى غاية وحيدة هي النجاعة. فقد تحدث مثلا عمّن وصلوا لمنصب الأمير بالخديعة ونزل بصورة الأمير إلى مرتبة الحيوانيّة وإن استعارة بقوله "كان الأمير مضطرا إلى أن يعلم جيّدا كيف يتصرّف كالحيوان، فهو يقلد الثعلب والأسد ...على المرء أن يكون ثعلبا ليواجه الفخاخ ويكون أسدا ليخيف الذئاب". (الأمير، 2004، ص ص 89-90.)

لقد قلب ماكيافيللي وجهة البحث في مفهوم الدولة، فقد صارت مقاربته متجهة نحو الكشف عنها، وتعرية بناها الخفيّة بدل الاحتجاب وإلباسها ثوب المقدّس، وهو ما يبرّر ما لقيه كتابه من معارضة وشيطنة. إنّها العودة إلى الإثم الأكبر فقد بدت سوأة الدولة من خلال إثم " الأمير".

لعلّ مفهوم المقدّس لا يقلّ غموضا عن مفهوم الدولة، فهو عند المؤمن طاقة عجيبة تثير مشاعر الخوف والرهبة وتوجّه حياته وفق نواميسها. فبالمقدّس يبني الإنسان عالما محميّا ومتناسقا وموجّها، عالما يدعو إلى التفاؤل. والكون المقدس كفكرة الدولة يبرُزُ من الفوضى ولا ينفكّ يواجهها بصفتها عكسه المريع على حد عبارة بيتر برجر. بل لعلّ الدولة هي واحدة من تجليات المقدس ذلك أن مرسيا إلياد قد أكد على "أن الإنسان يأخذ علمه عن المقدس لأنّ هذا يظهر، ويبدو كشيء مخالف تماما للدنيوي، ولترجمة عمل هذا المظهر للمقدس عرضنا مصطلح التجلّي hierophanie)) الذي هو ملائم خصوصا وأنه لا يقتضي أي إيضاح إضافي: فهو لا يعبر سوى عن أن ما أدخل في مضمونه الاشتقاقي، يعني أن بعض الشيء المقدس يظهر نفسه لنا " (المقدس والمدنس،1988، ص ص 16-17) إنّه يظهر في شكل طوطم أو في شكل مكان مقدّس أو في شكل طقوس مثلما يمكن أن يظهر في شكل دولة. أليست كلّ مكونات الدولة مقدسات: مؤسساتها وقصور ملوكها أو رؤساؤها، وقوانينها ورايتها وحدودها؟

لعلّ مقاربة الفلسفات التفكيكية هي التي حاولت تعرية الخيوط الخفيّة للسلطة والدولة، فقد سعى فوكو مثلا إلى الإجابة عن سؤال " كيف تعمل السلطة؟" فبحث أولا في قواعد القوانين المحددة شكليا للسلطة، وثانيا في آثار الحقيقة التي تنتجها السلطة وتقودها، وانتهى إلى مثلث السلطة، والقانون، والحقيقة، إنّه المثلث ذاته الذي ينطبق على المقدّس، فهو بحث عن الحقيقة تتحكم فيه الضوابط والقوانين ويمنح السلطة قداستها، فمثلما تنتج القواعد القانونية التي تقيمها الدولة خطاب الحقيقة، تنتج القوانين المقدّسة والطقوس خطاب الحقيقة المتعالية. فهما يشتركان في هاجس مأسسة الحقيقة وخيوطهما بطريقة خفيّة لا تظهر سوى تجلّيات لتلك المؤسسات وروح قوانينها وقداستها.

ولكن كيف يمكن للمقدّس ذاته أن ينتج أشكالا متناقضة يفضي بعضها إلى سلطة فرديّة مستبدّة بينما يفضي الآخر إلى سلطة ديمقراطيّة؟ وهل يصير بحثنا في اعتماد الدولة على مفهوم المقدّس مبرّرا لفهم تشبّث بعض الأصوليين بقداسة الدّولة الدينية؟ وهل صارت الديمقراطيّة نهاية تاريخ المقدّس وقدس الأقداس التي لا يمكن تصوّر شكل آخر يخالفها؟ وهل تحكمها قداسة الأغلبيّة فعلا أم أنّ سلطتها هي في الحقيقة سلطة طبقيّة؟ وهل تستوي قداسة الدول باختلاف منازلها السياسية والاقتصاديّة؟

قائمة المصادر والمراجع:

- أرسطو(1957). السياسات (ط1) (الأب أوغسطيس البولسي مترجم).بيروت. اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإسلامية.

- اسبينوزا(2008)، رسالة في اللاهوت والسياسة(ط1). (حسن حنفي. مترجم). بيروت. دار التنوير.

- إلياد مرسيا (1988). المقدس والمدنس(ط1). (عبد الهادي عباس. مترجم). دمشق. دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع.

- أنوود، ميخائيل(2000). معجم مصطلحات هيغل(ط1) (إمام عبد الفتاح مترجم) مصر.المركز المصري العربي.

- ر.م.هير(1993) أخلاق السياسة (ط1)، (ابراهيم العريس.مترجم) بيروت. دار الساقي.

- روسو، جان جاك (1980). العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي (ط1). (عمار الجلاصي وعلى لجنف مترجم). تونس. دار المعرفة.

- العروي.عبد الله (2001). مفهوم الدولة(ط7). المغرب/ لبنان. المركز الثقافي العربي.

- فوكو، ميشال(1997). يجب الدفاع عن المجتمع (الزواوي بغورة. مترجم). بيروت. دار الطليعة.

- كراننستون. موريس (1991). أعلام الفكر السياسي (ط3) بيروت. دار النهار.

- مطر،أميرة حلمي. (1999). الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس(ط1) مصر. دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع.

- مكيافيللي (2004) كتاب الأمير(ط1). (أكرم مؤمن مترجم). السعودية/مصر. ابن سينا للنشر/مكتبة الساعي.

- هوبز (2011). اللفياثان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة (ديانا حرب وبشرى صعب. مترجم) (ط 1) أبو ظبي/بيروت. دار كلمة /دار الفارابي.

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك