ثقافة الحوار في الاسلام: حرّية الاختيار وحق الاختلاف

محمد السماك

 

في الاساس، لا يكون الحوار الا مع الآخر. وتحديداً مع الآخر المختلف. ان هدف الحوار هو شرح وجهة النظر وتبيان المعطيات التي تقوم عليها، وفي الوقت نفسه الانفتاح على الآخر لفهم وجهة نظره ثم للتفاهم معه. ذلك بان التفاهم لا يكون من دون فهم متبادل. والحوار هو الطريق الى استيعاب المعطيات والوقائع المكونة لمواقف الطرفين المتحاورين، ثم الى تفاهمها.

في ثقافتنا الاسلامية، كما يقول ابو الوليد الباجي، أن من اجتهد وأصاب الحق فقد اجر أجرين. أجر الاجتهاد وأجر الاصابة للحق. ومن اجتهد وأخطأ فقد أجر أجراً واحداً لاجتهاده ولم يؤثم على "الخطأ". نفهم من ذلك ان الاجتهاد، كأي عمل فكري انساني، مفتوح على الخطأ والصواب. فهو ليس مقدساً ولا مطلقاً ولا ثابتاً، بل هو انساني، محدود، ومتغير. 

وفي ثقافتنا الاسلامية ايضاً ان "رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". نفهم من ذلك ايضاً انه ليس لأحد ان يدعي الحقيقة المطلقة. وليس له ان يخطئ الآخرين لمجرد اقتناعهم برأي مخالف. فالحقيقة نسبية. والبحث عن الحقيقة، حتى من وجهة نظر الاخر المختلف، طريق مباشر من طرق المعرفة. وهو في الوقت نفسه اسمى انواع الحوار. 

وفي ثقافتنا الاسلامية كذلك، ان الحوار يتطلب اولاً وقبل كل شيء الاعتراف بوجود الاخر المختلف، واحترام حقه ليس في تبني رأي او موقف او اجتهاد مختلف فحسب، بل احترام حقه في الدفاع عن هذا الرأي او الموقف او الاجتهاد، ثم واجبه في تحمل مسؤولية ما هو مقتنع به. 

ولأن الحوار يحتم وجود الآخر، فلا بد من تعريف الآخر. وهو تعريف لا يمكن ان يتم في معزل عن الأنا. ان فهم الآخر، ثم التفاهم معه، لا يتحققان من دون ان تتسع الأنا له. وبالتالي، كلما سما الانسان وترفع عن أنانيته، أوجد في ذاته مكاناً أرحب للآخر. ان الحقيقة ليست في الأنا. انها تتكامل مع الآخر، حتى في نسبيتها. وهي لا تكتمل في اطلاقيتها الا بالله. والحوار مع الآخر اكتشاف للأنا وإضاءة ساطعة على الثغر والنواقص التي لا تخلو منها شخصية انسانية. ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "الآخر هو وسيط بيني وبين نفسي، وهو مفتاح لفهم ذاتي والاحساس بوجودي". 

الآخر قد يكون فرداً وقد يكون جماعة. وفي الحالين، قد يكون مؤمناً، وقد يكون كتابياً وقد يكون كافراً. الآخر المؤمن هو للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً. والآخر الكتابي في المجتمع الاسلامي هو في ذمة المسلم * والرسول يقول "من آذى ذمياً فقد آذاني". اما الآخر الكافر، فالعلاقة معه مبنية على قاعدة "لكم دينكم ولي ديني". وفي كل الحالات، فان العلاقة بين المسلم والآخر يختصرها الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول محمد "المسلم من سلم الناس من يده ولسانه". 

يقرر الاسلام الاختلاف كحقيقة انسانية طبيعية، ويتعامل معها على هذا الاساس. {يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} (سورة الحجرات، الآية 13). 

خلق الله الناس مختلفين اثنياً واجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ولكنهم في الاساس "أمة واحدة" كما جاء في القرآن الكريم: {كان الناس أمة واحدة فاختلفوا} (سورة يونس. الآية 19)، اي ان اختلافاتهم على تعددها لا تلغي الوحدة الانسانية. 

تقوم هذه الوحدة على الاختلاف، وليس على التماثل او التطابق. ذلك ان الاختلاف آية من آيات عظمة الله، ومظهر من مظاهر روعة ابداعه في الخلق. يقول القرآن الكريم: {ومن آياته خلق السماوات والأرض وإختلاف ألسنتكم والوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (سورة الروم، الآية 22). والقاعدة الاسلامية كما حددها الرسول محمد هي ان {لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى}. وبالتالي فإن الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية. فهو اختلاف في إطار الأمة الانسانية الواحدة، يحتم احترام الآخر كما هو على الصورة التي خلقه الله عليها. 

اذا كان احترام الآخر كما هو لوناً ولساناً (اي اثنياً وثقافياً) يشكل قاعدة من قواعد السلوك الديني في الاسلام، فان احترامه كما هو عقيدة وايماناً هو احترام لمبدأ حرية الاختيار والتزام بقاعدة عدم الاكراه في الدين. 

فالقرآن الكريم يقول: {لكل وجهة هو موليها} (سورة البقرة، الآية 148). وفي اشارة واضحة الى تعدد التوجهات يقول ايضاً: {وما بعضهم بتابع قبلة بعض} (سورة البقرة، الآية 145). 

ذلك انه مع اختلاف الالسن والألوان، كان من طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج، وهو ما اكده القرآن الكريم بقوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما أتاكم. فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (سورة المائدة، الآية 48). و{الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} (سورة آل عمران، الآية 141). و{لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (سورة هود، الآية 118). 

أرسى القرآن الكريم قواعد واضحة للاعتراف بالآخر وبوجهة نظره اجلاء للحقيقة، بما في ذلك، بل في مقدمة ذلك، الحقيقة الإلهية. 
 

حوار الله والشيطان

في حوار الله والشيطان، كما ورد في سورة الأعراف، (الايات من 10 الى 24)، وفي سورة الحجرات (الآيات من 15 الى 40) يقول القرآن الكريم: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الاّ ابليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك. قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين. قال انظرني إلى يوم يبعثون. قال إنك من المنظرين. قال فيما أغويتني لأقعدَنّ لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجدُ أكثرهم شاكرين. قال اخرج منها مذءوماً مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}. 

من خلال هذا الحوار الإلهي مع الشيطان، تبرز حقيقة الثواب والعقاب، الخير والشر، الإيمان والكفر. وما كان لصورة هذه الحقيقة ان تكتمل من دون هذا الحوار. وما كان لهذا الحوار ان يقوم من دون وجود الآخر. 

وفي حوار الله مع الأنبياء تبرز حقيقة الاعجاز الإلهي: {وإذا قال إبراهيم ربِ أرني كيف تحيِ الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ قال بلىَ ولكن ليطمئن قلبي. قال فخذ أربعة من الطير فصُرهُنّ اليك ثم إجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم إدعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم} (سورة البقرة، الآية 260). وفي حوار الله مع عباده، تبرز حقيقة العدل الإلهي، حيث ورد في الآية الكريمة: {قال ربِ لمَ حشرتني أعمى وقد كُنتُ بصيراً. قال كذلك أتتكَ آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (سورة طه، الآية 125). 

وفي حوار الأنبياء مع الناس، تبرز حقيقة التربية الإلهية، في الآية الأولى من سورة المجادلة: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير}. كما تبرز حقيقة الهداية الإلهية: {الم ترَ إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه إن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيِ ويميت. قال أنا أحيِ وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فآت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} (سورة البقرة، الآية 258). وفي حوار الناس مع الناس، تبرز حقيقة الجشع الانساني: {فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا} (سورة الكهف، الآية 34). تبين هذه الآيات الكريمة ان الحوار يتطلب وجود تباينات واختلافات في الموقع وفي الفكر وفي الاجتهاد وفي الرؤى. وفي ذلك انعكاس طبيعي للتنوع الذي يعتبر في حدّ ذاته آية من آيات القدرة الإلهية على الخلق ومظهراً من مظاهر عظمته وتجلياته. 

ان وحدة الجنس او اللون او اللغة ليست ضرورة حتمية لا يتحقق التفاهم من دونها. لذلك لا بد، من أجل اقامة علاقات مبنية على المحبة والاحترام، من الحوار على قاعدة هذه الاختلافات التي خلقها الله، وارادها ان تكون، والتي يتكشف للعلم انها موجودة حتى في الجينات الوراثية التي تشكل بعناصرها شخصية كل منا وتمايزاتها. 

إن للحوار قواعده وآدابه. ولعل من ابرز هذه القواعد والآداب ما ورد في سورة سبأ. كان الرسول محمد يحاور غير المؤمنين شارحاً ومبيناً ومبلغاً. ولكنهم كان يصرون على ان الحق الى جانبهم. فحسم الحوار معهم على قاعدة النص: {انا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} (سورة سبأ، الآية 24). لقد وضع الرسول نفسه في مستوى من يحاور تاركاً الحكم لله، وهو اسمى تعبير عن احترام حرية الآخر في الاختيار، وعن احترام اختياره حتى ولو كان على خطأ. وذهب الى أبعد من ذلك عندما قال القرآن الكريم في الآية التالية مباشرة: {قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون} فكان من آداب الحوار بل من المبالغة في هذه الآداب ان وصف اختياره للحق وهو على حق بأنه اجرام (في نظرهم). ووصف اختيارهم للباطل وهم على باطل بأنه مجرد عمل. ثم ترك الحكم لله: {قل يجمع بيننا ربنا، ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتّاح العليم}. ان احترام حرية الاختيار هنا ليس احتراماً للخطأ. فتسفيه وجهة نظر الآخر ومحاولة اسقاطها ليسا الهدف الذي لا يكون الحوار مجدياً الا اذا تحقق. ان من اهداف الحوار تعريف الآخر على وجهة نظر لا يعرفها، ومحاولة اقناعه بالتي هي احسن بموقف ينكره او يتنكر له. وهو امر يشكل في حد ذاته احد اهم عناصر الاحتكاك الفكري والتكامل الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس. ومن دون ذلك يركد الذهن ويفقد التعطش الى المعرفة عودَ الثقاب الذي يلهبه، وتتحول مساحات الفكر الى بحيرات آسنة. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (سورة البقرة، الآية 251). ان الاختلاف بين الناس، وما يشكل الاختلاف من تدافع، يشكلان احد اهم موجبات عدم فساد الأرض. 

هناك فوارق كثيرة بين علاقة الارادة وعلاقة الفرض. العلاقة الأولى هي نتيجة حوار وثمرة تفاهم، وهي بالتالي فعل ارادي تحقق المحبة والاحترام والثقة. اما العلاقة الثانية فهي حال تنكر لحق الآخر وتجاهل لتمايزاته ولخصائصه، وتجاوز للحوار كوسيلة لفهمه وللتفاهم معه. وهي بالتالي حال مفروضة. وكل ما هو مفروض مرفوض من حيث المبدأ، ومن حيث الأساس، ولذلك فانها لا تحقق سوى البغضاء والكراهية وعدم الثقة. 

ارسى مجتمع المدينة المنورة في عهد النبي محمد قاعدة لاقامة نسق تعاوني بين فئات الناس من مؤمنين وأهل كتاب في أمة واحدة. الوثيقة النبوية أقرت اصحاب الآراء على آرائهم وتكفّلت بحمايتهم كما هم. قام مجتمع المدينة على قاعدة نشر الدعوة مع احتضان الاختلاف. وليس مع تجاهله ولا مع محاولة الغائه. 

حاور النبي نصارى نجران في بيته في المدينة المنورة وأحسن وفادتهم. وعندما حان وقت صلاتهم، لم يجد النبي اي غضاضة في دعوتهم، كما تذكر رواياتُ ثقة، إلى اداء صلاتهم. ان العقيدة، في الاسلام، تستقر بالفكر اختياراً ولا تُلْصقُ باللسان قهراً واجباراً. والقرآن الكريم يقول {لا اكراه في الدين} (سورة البقرة، الآية 256)، والـ"لا" هنا نافية وليست ناهية. اي انها لا تعني لا تكرهوا الناس في الدين، ولكنها تعني ان الدين لا يكتمل وهو لا يكون أساساً بالاكراه. 

على قاعدة هذه السابقة النبوية في دولة المدينة الأولى، فإن الإسلام لا يضيق بتنوع الانتماء العقدي، ولا يؤمن بالنقاء العرقي (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). فاذا كان التنوع من طبيعة تكوين المجتمع، فان الحوار هو الطريق الوحيد الذي يؤدي بالاختيار الحر وبالمحبة الى الوفاق والتفاهم والوحدة. ذلك ان البديل عن الحوار هو القطيعة والانكفاء على الذات، وتطوير ثقافة الحذر والشك والعداء للآخر. 

ان من مقومات الحضارة العربية - الاسلامية احترام الآخر والانفتاح عليه والتكامل معه، وليس تجاهله او الغاؤه او تذويبه. ويشهد تعدد الاقليات الدينية والاثنية في العالم الاسلامي، ومحافظة هذه الأقليات على خصائصها العنصرية، وعلى تراثها العقدي والديني، وعلى لغاتها وثقافاتها الخاصة، على هذه الحقيقة وأصالتها. ان اعتراف الاسلام بالآخر، ومحاورته بالتي هي أحسن وقبوله كما هو، لا يعود بالضرورة الى تسامح المسلمين، بل الى سماحة الاسلام والى جوهر الشريعة الاسلامية. 

فالحوار - كالصداقة - لا يولد بالضغط ولا بالترغيب. علينا (كما جاء في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني بشأن الحوار مع الاسلام) "أن نعمل تدريجياً على تغيير عقلية وذهنية اخوتنا المسيحيين لأن المهم بالنسبة الينا، كما هو مهم بالنسبة للآخرين، محاولة اكتشاف الانسان كما يعيش وكما يأمل ان يكون، ولا يهمنا الماضي بقدر ما يهمنا هذا الانسان المتجه نحو آفاق المستقبل للحصول على عدالة اكثر، وحقيقة اكثر، وحبّ اكثر. هذا هو الرجل الذي يجب ان نعرف. ومع هذا الرجل فقط، يمكن ان نشيد ونبني حواراً اصيلاً وحقيقياً". ويستشهد النص الفاتيكاني بما قاله المستشرق ماسينيون من انه "لكي نفهم الانسان الآخر، يجب ان لا نستولي عليه وندمجه فينا، بل يجب ان نكون ضيوفه". 

ان للحوار اهدافاً مختلفة. فهو اما ان يكون وسيلة لتنفيس ازمة ولمنع انفجارها، واما ان يكون سعياً لاستباق وقوع الأزمة ولمنع تكوّن اسبابها، واما ان يكون محاولة لحل ازمة قائمة ولاحتواء مضاعفاتها. في هذه الحالات الثلاث تكون مهمة الحوار هي العمل على: 

1- ابراز الجوامع المشتركة في العقيدة والاخلاق والثقافة. 

2- تعميق المصالح المشتركة في الانماء والاقتصاد والمصالح. 

3- توسيع مجالات التداخل في النشاطات الاجتماعية الاهلية (كالأندية الرياضية والجمعيات الكشفية والمؤسسات التعليمية والاستشفائية). 

4- التأكيد على صدقية قيم الاعتدال وتوسيع قاعدتها التربوية. 

5- اغناء الثقافة الحوارية التي تقوم على عدم رفض الاخر، والانفتاح على وجهة نظره واحترامها، وعدم التمترس وراء اجتهادات فكرية صدئة من خلال التعامل معها - اي مع هذه الاجتهادات - وكأنها مقدسات ثابتة غير قابلة لاعادة النظر. 
 

التفاهم 

ان اي حوار يستلزم من حيث المبدأ تحديداً مسبقاً لأمرين اساسيين: الامر الاول هو التفاهم على ماذا نتحاور، والامر الآخر هو التفاهم لماذا نتحاور. اي انه لا بد من تحديد منطلقات الحوار وقواعده. 

ينطلق الحوار من قواعد منطقية وعلمية تعتمد على الحجة والبرهان، ويتوسل الجدال بالتي هي أحسن، والموعظة الحسنة. فالله خاطب موسى بقوله: إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، إذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى. (سورة طه، الآيات 44،43،42). ويأمر بإتباع الحكمة في الدعوة: {ومن أحسنُ قولاً ممن دعا الى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالّتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (سورة فصلت، الآيتان 33-34). 

وتأكيداً لهذا المنهج ينهى الله المؤمنين عن اتباع اساليب السفهاء ومجاراتهم في السب والتسفيه لمعتقدات الآخر: {ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم} (سورة الانعام، الآية 108). و"لا بد لكي يبدأ الحوار ان يمتلك اطرافه حرية الحركة الفكرية التي ترافقها ثقة الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة، فلا ينسحق امام الآخر لما يحس فيه من العظمة والقوة التي يمتلكها الآخر، فتتضاءل ازاء ذلك ثقته بنفسه وبالتالي بفكره وقابليته لأن يكون طرفاً للحوار فيتجمد ويتحول الى صدى للافكار التي يتلقاها من الآخر" (عبد الرحمن حللي - حرية الاعتقاد في القرآن الكريم، المركز الثقافي العربي - المغرب، ،2001 ص94 - 96). 

لذلك أمر الله رسوله ان يحقق ذلك ويوفّره لمحاوريه: {قل انما انا بشر مثلكم يوحى اليّ} (سورة الكهف، الآية 110)، {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً الا ما شاء الله ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مَسّني السوء إنْ أنا الا نذير وبشير لقوم يؤمنون} (سورة الاعراف، الآية 188). 

فاذا امتلك اطراف الحوار الحرية الكاملة فأول ما يناقش فيه هو المنهج الفكري - قبل المناقشة في طبيعة الفكر وتفاصيله - في محاولة لتعريفهم بالحقيقة التي غفلوا عنها، وهي ان القضايا الفكرية لا ترتبط بالقضايا الشخصية. فلكل مجاله ولكل أصوله التي ينطلق منها ويمتدّ اليها: {واذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَلَوْ كان آباؤهم لا يعقِلون شيئاً ولا يهتدون} (سورة البقرة، الآية 170). 

كما لا بد لكي ينجح الحوار من ان يتم في الاجواء الهادئة ليبتعد التفكير فيها عن الأجواء الانفعالية التي تبتعد بالانسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمل وتفكير، فإنه قد يخضع للجو الاجتماعي ويستسلم لا شعورياً مما يفقده استقلاله الفكري: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو الا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} (سورة سبأ، الآية 46)، فاعتبر القرآن اتهام النبي بالجنون خاضعاً للجو الانفعالي العدائي لخصومه، لذلك دعاهم الى الانفصال عن هذا الجو والتفكير بانفراد وهدوء (مرجع سابق - عبد الرحمن حللي). 

والمنهج القرآني في الحوار يرشد الى انهائه بمهمة وأداء رسالة يبقى اثرها في الضمير، إن لم يظهر أثرها في الفكر، انه اسلوب لا يسيء الى الخصم بل يؤكد حريته واستقلاليته، ويقوده الى موقع المسؤولية ليتحرك الجميع في اطارها وينطلقوا منها ومعها في اكثر من مجال" (انظر: فضل الله (محمد حسين)، الحوار أبعاد وايحاءات ودلالات - مجلة المنطلق: ،16 عدد 105 - ربيع الأول 1414 هـ). 

ان في ثقافة الحوار في الاسلام آداباً وقيماً ومنهجاً اخلاقياً يحترم الانسان وحريته في الاختيار، كما يحترم حقه في الاختلاف وفي المجادلة. وفي النتيجة ان "من اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فعليها وما ربك بظلام للعبيد". 

* راجع، د. عمر مسقاوي في مقالة له في جريدة "النهار" تاريخ 19/5/2001 حيث يقول في مفهوم الذمية: "والذمة هنا ليست ذمة حماية فوقية كما هو اسلوب الحضارة الغربية المعاصرة، بل هي وعاء الذاكرة الابراهيمية. وتعبير "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" هو تكملة مفهوم اهل الذمة. وهذا يعني ان السلطة حين تأخذ بعدها التنظيمي في المفهوم الاسلامي وتنتقل الى صيغة جديدة في مفهومنا الحديث يصبح وعاء الذمة هو الوعاء الوطني. والوعاء الوطني هو الذمة المتبادلة بين الذين هم في اطارها".

المصدر: http://www.bintjbeil.com/articles/ar/021117_assamak.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك