عرض موجز لتاريخ الصراع بين الشرق والغرب طيلة 25 قرناً

محمّد قطيش

هذا المقال يعرض لأهمّ مراحل الصراع بين القوى الكبرى في العالم (أو ما يعبّر عنه بالصراع بين الشرق والغرب)، وفيه تفصيلٌ للأحداث التي سبق أن ذكرناها في مقالٍ سابق بعنوان “بين الشرق والغرب… أين نحن؟“. لا بدّ في البداية من التذكير بما ذكرناه في مقالنا السابق في فقرة تحت عنوان “صراع عسكري وتفاعل حضاري”:

من الملاحظ أنّ أبرز مراحل الصراع بين الشرق والغرب غالباً ما كانت تؤدّي إلى قيام حضارة جديدة. حدث ذلك عندما اجتاح الإسكندر المقدوني الشرق (الإمبراطوريّة الفارسيّة حينها) في القرن الرابع قبل الميلاد، وما نتج ذلك من قيام الحضارة الهيللينيّة، كذلك الأمر عقب الفتوحات الإسلاميّة التي انطلقت في القرن السابع للميلاد، وقد نشأت على إثرها الحضارة العربيّة الإسلاميّة التي امتدّت من إسبانيا غرباً إلى حدود الصّين شرقاً، والتي دامت قروناً. الأمر نفسه ينطبق على الحروب الصليبيّة بين القرن الحادي عشر والثالث عشر، التي يعتبر المؤرّخون أنّها أسّست للنهضة الأوروبيّة المعاصرة، فهي سمحت لأوروبا، التي كانت تعاني حينها عبء قرونٍ من التخلّف والجهلن أن تحتكّ بأعظم حضارة في ذلك العصر، فاستفادت من علومها في إرساء دعائم نهضتها الحديثة.

 

وفيما يلي تفصيلٌ لأبرز مراحل الصراع بين الشرق والغرب. وتجدر الإشارة إلى أنّنا ركّزنا على الأحداث القديمة تاريخيّاً أكثر من تركيزنا على التاريخ المعاصر الذي نمرّ عليه بعجالة.

المرحلة الأولى من الصراع: الفرس والإغريق

امبراطوريّة الإسكندر المقدوني والإمبراطوريّة الفارسيّة

امبراطوريّة الإسكندر المقدوني والإمبراطوريّة الفارسيّة

المرحلة الأولى من الصراع بين الشرق والغرب كانت بين الفرس واليونان طيلة القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. فقد حاول الشرق بزعامة الفرس نقل ميدان الصراع السياسي والحربي إلى داخل أراضي الغرب الذي تتزعّمه اليونان، وبدأ الأمر بمحاولة كوروش الفارسي إخضاع المدن اليونانيّة والعودة إلى فارس، وكذلك حملة دارا (داريوس) الأوّل الفارسي إلى الدانوب وعودته إلى العاصمة الفارسيّة سوسة دون جدوى. وبدأت المواجهة الفعليّة سنة 490 ق.م، عندما نزل الجيش الفارسي داخل الأراضي اليونانيّة لتحلّ به الهزيمة في موقعة ماراتون، وليعود أحشويروش الفارسي بعد عشر سنوات (480 ق.م) بجيشٍ ضخم وينتصر على اليونان. لكنّ تحالف المدن اليونانيّة عاد وانتصر على الفرس سنة 479 ق.م. ومع ذلك استمرّ الخطر الفارسي حتّى تزعّم الإسكندر المقدوني اليونان سنة 336 ق.م، ونقل ميدان الصراع إلى داخل أراضي الشرق بعد عبوره الدردنيل، وأنزل الهزيمة بدارا الثالث الفارسي في إيسوس سنة 333 ق.م وجومابيلا سنة 331 ق.م، فانهارت الإمبراطوريّة الفارسيّة في الشرق لتحلّ محلّها الحضارة اليونانيّة “الهللينيّة” (333 – 64 ق.م).

المرحلة الثانية من الصراع: الفرس والبيزنطيّون

المرحلة الثانية من الصراع كانت بين الفرس والبيزنطيّين، في الفترة 611 – 630 م. فقد استمرّ الغرب يسيطر على الشرق زمن الدولة الرومانيّة (64 ق.م – 395 م)، حيث كانت المسيحيّة قد ظهرت في الشرق لتصبح الدين الرسمي للدولة الرومانيّة في عهد قسطنطين الكبير سنة 313 م، وبانقسام هذه الدولة إلى رومانيّة في الغرب، وبيزنطيّة في الشرق، قامت الدولة البيزنطية سنة 395 م. وقد تميّز الصراع بالصبغة الدينيّة بين الفرس الوثنيّين والبيزنطيّين المسيحيّين، خاصة عندما استولى الفرس في عهد الملك خسروشاه ومنذ سنة 611 م على معظم الشرق، فطردوا البيزنطيّين من أنطاكية وطرطوس ودمشق، واحتلّوا بيت المقدس ودمّروا كنيسة القيامة التي شيّدها قسطنطين الكبير، ثمّ استولوا على “صليب الصلبوت” (أي الصليب المقدّس أو خشبة الصليب) ونقلوه إلى عاصمتهم المدائن، كما حملوا زكريا بطريرك بيت المقدس أسيراً إلى فارس. وسنة 612 م عسكر الفرس في غريسبوليس Chrysopolis تجاه القسطنطينيّة. ثمّ سقطت الإسكندريّة في يد الفرس سنة 619 م، كما سقطت مصر بأكملها. وهذا التوسّع أثار العالم الغربي المسيحي، وخصوصاً الدولة البيزنطيّة التي تمّ التوسّع على حسابها، فقام الإمبراطور البيزنطي هرقل الأوّل (610 – 641 م) بإعلان الحرب لاستعادة بيت المقدس والصليب المقدّس، وقد استمرّت هذه الحرب سبع سنوات (622 – 628 م)، نقل هرقل المعارك خلالها إلى داخل الأراضي الفارسيّة، فلقي الفرس هزيمة ساحقة. وتمّ عزل كسرى الثاني وقتله ليتولى الحكم ابنه قباد شيرويه، فعقد الصلح واستردّت بيزنطة ممتلكاتها، وأعاد هرقل الصليب المقدّس إلى موقعه في 21 آذار 630 م. ويعتبر المؤرّخون هذه الحرب أوّل حرب مقدّسة قام بها العالم المسيحي، وأشار القرآن الكريم لهذه الحوادث في سورة الروم.

الإمبراطوريّة الرومانيّة في اوج اتساعها

الإمبراطوريّة الرومانيّة في أوج اتساعها

المرحلة الثالثة من الصراع: الفتوحات العربيّة الإسلاميّة والعالم المسيحي

المرحلة الثالثة كانت استجابة للتحدّي الغربي الذي بدأ مع السيطرة اليونانيّة (333 – 64 ق.م) ثمّ الرومانيّة – البيزنطيّة (64 ق.م – 633 م)، فبظهور الإسلام خرجت القبائل العربيّة من شبه الجزيرة العربيّة في وحدة لم يشهد العرب مثيلاً لها، وانتشرت شرقاً وغرباً تحت راية الإسلام. وخرجت فارس من حلبة الصراع بعد القضاء على إمبراطوريّتها، وانتزع العرب منها زعامة الشرق بعد أن أدخلوها تحت راية الإسلام. وأصبح الإسلام وجهاً لوجه امام المسيحيّة، فبعد هزيمة البيزنطيّين في بلاد الشام إثر موقعة اليرموك سنة 634 م (13 هـ)، وسقوط بيت المقدس سنة 637 م (16 هـ)، ثمّ مصر، لم يعد للدولة البيزنطيّة وجود في المشرق العربي الإسلامي، وتراجعت إمبراطوريّتها إلى داخل آسيا الصغرى حيث وقف العرب المسلمون أمام أبواب القسطنطينيّة وتحت أسوارها التي كادت تسقط لولا دفاع الإمبراطور البيزنطي ليوالايسوري عنها سنتي 717 – 718 م (99 – 100 هـ). وبمتابعة الفتح العربي الإسلامي في بلاد شمال إفريقية (ليبيا والمغرب الكبير) وصقلية وجنوب إيطاليا، ثمّ نقل المواجهة العسكريّة إلى داخل الأراضي الأوروبيّة بعد عبور مضيق جبل طارق نحو إسبانيا (الأندلس) ونحو جنوب فرنسا، توقّف الفتح العربي الإسلامي نهائيّاً في غرب أوروبا بعد هزيمة والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي على يد زعيم الفرنجة شارل مارتل في موقعة تور أو بواييه سنة 732 م (114 هـ).

أراضي الدولة الإسلاميّة في عهد الأمويّين

أراضي الدولة الإسلاميّة في عهد الأمويّين

وهنا يمكن القول أنّ انتصار شارل مارتل في بواتييه يعادل نجاح ليوالايسوري في وقف الإنتشار العربي الإسلامي عند البوّابة الشرقيّة لأوروبا. ففي شرق أوروبا كانت الشعوب البلقانيّة والروسيّة لا تفقه من المسيحيّة ونظمها ومعتقداتها إلا النزر اليسير، فلو استقرّ المسلمون في القسطنطينيّة لوجدوا في هذه الشعوب مجالاً خصباً لنشر الإسلام، وامتداده داخل شرق أوروبا. ويؤكّد هذا الأمر كيف ساعد فتح القسطنطينيّة سنة 1453 م (857 هـ)، أي بعد سبعة قرون، الأتراك العثمانيّين على الحكم باسم الإسلام في طول شبه جزيرة البلقان وعرضها. أمّا في غرب أوروبا، فقد اصطدم العرب المسلمون بقوّة مسيحيّة منظّمة، وحتى لو تمّ لهم النصر في بواتييه لظلّ بينهم وبين فتح فرنسا وتحويلها إلى الإسلام عقبات كثيرة، نظراً لما كان بها من قوّة الكنيسة والملكيّة الفرنجيّة، عكس حال شرق أوروبا حيث كانت مراكز المقاومة الروحيّة والسياسيّة شبه معدومة بين الروس والمجريّين أو بين البلغاريّين وصقالبة شبه جزيرة البلقان.

وباختصار، أصبح العالم العربي الإسلامي وجهاً لوجه مع العالم الأوروبي المسيحي، سواء في الشرق عند أسوار القسطنطينيّة، أو في الغرب عند حدود الأندلس، ممّا مهّد للمرحلة الرابعة من الصراع بين الشرق والغرب؛ الحروب الصليبيّة.

المرحلة الرابعة من الصراع: الحروب الصليبيّة في المشرق العربي الإسلامي

المرحلة الرابعة هي الحروب الصليبيّة التي استمرّت قرنين من الزمان (1096 – 1291 م/ 489 – 690 هـ)، والتي تعتبر امتداداً لفكرة الصراع الطويل والمرير بين العالمين الشرقي والغربي. لذلك خرج الغرب الأوروبي متستّراً بالدين تحت راية الصليب غازياً المشرق العربي الإسلامي بحجّة حماية أوروبا من الإسلام، فأضفى على حملاته الصفة الصليبيّة، كما اتخذ الصراع في هذه المرحلة طابعاً جديداً لم يعرفه من قبل وهو “الطابع الدولي”، إذ اشترك في هذه الحروب الصليبيّة معظم الشعوب الأوروبيّة الغربيّة التابعة للكنيسة الكاثوليكيّة التي تتزعّمها البابويّة.

الإمارات الصليبيّة في المشرق الإسلامي

الإمارات الصليبيّة في المشرق الإسلامي

يعتبر بعض المؤرّخين الحروب ضدّ المسلمين التي تزعّمها أباطرة بيزنطيّين، مثل نقفور (963 – 969 م)، وحنا الشنينق (969 – 976 م) في أنطاكية والرها، والحروب التي قام بها المسيحيّون الغربيّون في إسبانيا سنة 1018 م، وصقلية (1060 – 1090 م)، حروباً صليبيّة. لكنّ الحقيقة أنّ الحروب البيزنطيّة لا تعدو كونها مجرد محاولات فرديّة يغلب عليها العنصر السياسي، ولم يكن للكنيسة البيزنطيّة أثر عليها، لذلك لا يمكن اعتبارها حرباً صليبيّة بيزنطيّة. أمّا الحروب في إسبانيا وصقلية فيمكن اعتبارها مقدّمة للحروب الصليبيّة بهدف إعادة الشرق تحت سيطرة الغرب.

وقد اختلف المؤرّخون حل بواعث الصراع بين المشرق العربي الإسلامي والغرب الأوروبي الصليبي، فيرجعها كل منهم لباعث وعامل معيّن رغم أنّه في الواقع وليد بواعث عديدة وعوامل مختلفة من سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وتوسّعيّة، لكنّ الكنيسة الغربيّة ممثّلةً بالبابا “الباعث الشخصي” استطاعت إخفاء هذه البواعث جميعاً وراء ستار الدين وشعار الصليب، ليظهر أمام العالم الغربي المسيحي وكأنّه الباعث الديني هو الدافع الحقيقي لهذا الصراع الذي ظهر بشكل حروب عرفت بالصليبيّة. واتفق معظم المؤرّخين على تقسيم هذه الحروب التي تعرّض لها المشرق العربي الإسلامي إلى سبعة:

  • الحرب الصليبيّة الأولى (1096 – 1099 م/ 489 – 492 هـ) نحو بيت المقدس وساحل الشام.
  • الحرب الصليبيّة الثانية (1146 – 1148 م/ 541 – 543 هـ) نحو دمشق.
  • الحرب الصليبيّة الثالثة (1189 – 1192 م/ 585 – 588 هـ) نحو عكا.
  • الحرب الصليبيّة الرابعة (1202 – 1204 م/ 599 – 601 هـ) نحو القسطنطينيّة.
  • الحرب الصليبيّة الخامسة (1217 – 1221 م/ 614 – 618 هـ) نحو مصر.
  • الحرب الصليبيّة السادسة (1228 – 1229 م/ 625 – 627 هـ) نحو بيت المقدس.
  • الحرب الصليبيّة السابعة (1248 – 1250 م/ 646 – 648 هـ) نحو مصر.
  • الحرب الصليبيّة الثامنة (1268 – 1270 م/ 667 – 669 هـ) نحو تونس والمغرب العربي.

وهذه الحروب الصليبيّة، رغم تسمية المؤرّخين لها بأرقام بلغت الثمانية، هي في النهاية عمليّة مستمرّة متواصلة، لا تفصل بينها هذه الأرقام الثمانية أو السنوات المحدّدة خلال القرنين اللذين شهداها. فقد كانت تتدفّق على الشرق باستمرار قوّات صليبيّة قادمة من الغرب.

المرحلة الخامسة: العثمانيّون وأوروبا

كانت المواجهة في هذه المرحلة بين الدولة العثمانيّة والغرب الأوروبي، فبعد فتح القسطنطينيّة ثمّ انتصارهم على المماليك، تزعّم العثمانيّون الشرق لقرون، ووجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع أوروبا، فدخلوا معها في تنافسٍ دام طويلاً، وتشعّبت صور هذا الصراع ونتائجه بحيث لا يمكننا تفصيلها في هذا المقال، وذلك إلى أن سقطت الدولة العثمانيّة عقب الحرب العالميّة الأولى. حينها بدأ يبرز في الشرق قوّة جديدة هي الإتحاد السوفياتي، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتّحدة تكرّس نفسها زعيمةً للغرب. نتج عن ذلك ما كان يُعرَف بالحرب الباردة التي استمرّت من عام 1945 إلى 1991 تاريخ تفكّك الإتحاد السوفياتي.

الإمبراطوريّة العثمانيّة في أوج اتساعها

الإمبراطوريّة العثمانيّة في أوج اتساعها

أهمّ المراجع:

د. عصام شبارو، السلاطين في المشرق العربي: معالم دورهم السياسي والحضاري. دار النهضة العربيّة، بيروت 1994.

المصدر: https://fakkerfree.wordpress.com/2013/11/30/%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D9%85%D9...

 

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك