عالم الأديان الفرنسي جون سولر: التّوحيد مصدر التّعصب والعنف

حميد زناز

 

كثيرا ما تطمس في الغرب أعمالا علمية جريئة لباحثين تناولوا الديانات التوحيدية بعيدا عن المألوف السائد. ولا تفسير لهذا التعتيم سوى غرق هذا العالم  في بحر الأيديولوجية اليهودية-المسيحية وعجزه المزمن عن التحرر من أساطيرها المذلة للعقل. ينتمي جون سولر إلى هؤلاء المفكرين القلائل الذين درسوا الظاهرة الدينية دراسة عقلانية بحتة وحللوا ما يسمى كتبا مقدسة تحليلا تاريخيا صارما. لم يتعامل معها ككلام منزل  وإنما كأدب إنساني لا غير. أمضى حياته قارئا ومترجما ومحللا  وممحصا لنصوص ‘الديانات التوحيدية’ في لغاتها الأصلية. أثمرت جهوده المتواصلة منذ سنين والبعيدة عن الأضواء أعمالا مركزة دقيقة  جمعها كتابه الضخم ‘بحثا عن أصول الله الواحد’ والمتكون من ثلاثة أجزاء: اختلاق التوحيد (2002 ) قانون موسى (2003) والحياة والموت في التوراة (2004). وفي 2009 عرض حصيلة ما سبق من  تنقيب تحت عنوان: ‘عنف الديانات التوحيدية’.  وفي سنة 2009 أصدر’ من هو الله؟ ‘  وآخر ما أصدر كان سنة 2016′ الله وأنا، كيف نصبح ملاحدة ولماذا نبقى كذلك’.

كما يبدو من عناوين مؤلفاته، فتح سولر ملفات حساسة وقدم فرضيات معاكسة للوعي السائد جعلت الجامعة تنفر منه وترفض مخطوطاته دور النشر المهيمنة على سوق الكتاب وتتجنبه وسائل الاعلام المتشدقة بالحرية والتعدد الفكري وما يسمى زورا مراكز بحث. 

****

ماذا كنت تقصد من وراء استعمالك لكلمة الله في عنوان كتابك “من هو الله؟”                                                                              

في هذا العنوان  “من هو الله؟”  كنت أقصد  الرب الواحد المعبود تحت تسميات متعددة : إلوهيم، غود، الله، من طرف اليهود والمسيحيين والمسلمين. يعتقد كل الناس أنهم يعرفون من هو الله، ذلك الله الواحد الذي ظهر أولا لإبراهيم ثم لموسى، كما في قناعة كل الذين يتبعون الديانات التوحيدية الثلاث. ولكنني أبيّن في هذا الكتاب أنّ الأمر ليس كذلك ابتداء من الفصل الأول الذي هو تحت عنوان: ” بعض التفاسير  الخاطئة  حول  إله التوراة”  حيث أشرح خصوصا أن ابراهيم وموسى هما شخصيتان أسطوريتان  وأن الله الذي توجه إليهما حسب التوراة لم يكن الله  وإنما هو إله خاص بالشعب اليهودي من بين آلهة أخرى.

هل يمكن أن نعرف اسم  وتاريخ  ومكان ميلاد الله الواحد؟                                                                                

لم  يكن التوحيد الحقيقي أو  وحدانية الله بمعنى الاعتقاد بأن ليس هناك سوى ربّ واحد فكرة سابقة عن القرن الرابع قبل الميلاد. هي اختراع من الشعب اليهودي الذي كان في  وضع تاريخي صعب كان فيه مهددا بفقدان هويته. كان اسم إله اليهود  الوطني” يهوه” وكانوا يظنون بأنه أعظم الآلهة ولكنهم لم يكونوا يرونه وحيدا أوحدا. وليس هذا فحسب بل كان له في اعتقادهم رفيقة أو زوجة أيضا اسمها “أشيرا”. ولكن ظهر فيما بعد أن هذا الإله الذي يرعى الشعب اليهودي هو عاجز عن حماية شعبه من أن يسحق تحت ضربات البابليين الذين هدموا معبد أورشليم  وحكموا على نخبتها بالنفي في بداية القرن السادس قبل الميلاد. وحينما حُرر المنفيون، خمسون سنة فيما بعد  من طرف الفرس وتمكنوا من العودة إلى أورشليم، لم يؤسسوا سوى دولة صغيرة، لا تتمتع بالاستقلال ولا تملك جيشا ومحرومة من أي رفاه، كانت ضمن امبراطورية الفرس  العظيمة التي كانت ممتدة حتى مصر.  فكيف يمكن الاستمرار في الاعتقاد أن يهوه كان “أعظم الآلهة”؟

إذن للإله الواحد تاريخ، بيوغرافيا،. ما هي مساهمتك الجوهرية في كتابة سيرة هذا الإله الواحد، إله التوحيديين؟                                                      

أظن أن إضافتي كانت في تفسيري اعتمادا على أسباب إنسانية موضوعية  و دون اللجوء إلى أية خوارق فوق طبيعية  كيف ولماذا جاءت تلك الفكرة الثورية للشعب اليهودي  و في ذلك الوقت بالذات و القائلة بأن لا وجود سوى لإله واحد.   باختصار  شديد  كان للفرس أيضا إله وطني، بمعنى  إله خاص بهم، هو أهورا مَزدا  وكانوا يعتبرونه أعظم الآلهة، خالق السماء  والأرض  والإنسان والذي وعد شعبه بالسيطرة على العالم  الجلي المعروف.  و هو ما كان يقوله اليهود أنفسهم  عن إلههم.    وبمقدار  ما كان التاريخ يؤكد اعتقاد الفرس، كان يكذب  اعتقاد اليهود. و لكي لا يتخلون عن إلههم وبالتالي يفقدون هويتهم أقنعوا أنفسهم في وقت معين أن يهوه  وأهورا مَزدا  هما نفس الإله ولا يوجد سوى إلَه واحد.

ما هي في رأيك أهم كذبة منتشرة حول إله التوحيد؟                                                                       

أكبر فرية هي بدون شك ذلك المعنى المعطى للرواية التوراتية  والذي يحكي أن موسى بعد أن قضى  أربعين يوما  في جبل سيناء وجها لوجه مع الله، عاد حاملا  لوحتين حجريتين يكون الله قد كتب عليهما بخط يده و باللغة العبرية  وصايا  عشر ،  وفي وقت  لاحق  يكون موسى قد استنسخ باللغة العبرية الوصايا الاخرى التي أملاها عليه الله على لفائف.  و هذا كذب لأنه ليس الله الواحد هو الذي كلّم موسى و إنما يهوه، إله اليهود الوطني كما يتضح جيدا من نص التوراة العبرانية مقروءا دون أفكار جاهزة مسبقا. وأكثر من ذلك هذا غير صحيح لأنّ اللغة العبرية في عهد موسى المفترض في القرن الثالث عشر قبل الميلاد لم تكن تُكتب بعد. ولم تكتب إلا بعد أربع أو خمس قرون من ذلك.  ومع ذلك فإن  تلك القصة الخيالية  المقدمة كوحي مؤسس هي  مصدر  الديانات التوحيدية الثلاث.

ما هي نتائج اختلاق التوحيد أو وحدانية الله، هل كان لذلك تأثير على حياة الإنسان وتاريخ الإنسانية بشكل عام؟                                                                                                

لقد أدخل التوحيد إلى حياة الإنسانية التعصب واللاتسامح. لماذا؟ حينما يكون شخص مقتنعا بأن لا وجود سوى لإله واحد  وبالتالي حقيقة واحدة  وخير  واحد  هو الذي يضمنهما، فسيميل  هذا الشخص طبيعيا ومنطقيا  إلى الاعتقاد بأن الديانات الاخرى مجرد أخطاء وخرافات.   وهي ذهنية  يمكن ملاحظة نتائجها حتى في العلاقات بين الديانات التوحيدية الثلاث نفسها إذ نجد أن مؤمني كل ديانة مقتنعون بأنهم يملكون الحقيقة الحصرية حول الشكل الذي يجب أن تأخذه عبادة الإله الحقيقي. فكل واحد منهم يعتبر الديانتين الأخريين هرطقة ينبغي محاربتها باسم نفس الإله  المفترض  أوحد والمشترك بين ثلاثتهم.  وهو عكس ما نلاحظه بالنسبة  للديانات متعددة الآلهة.

هل يمكن أن تتفضل بشرح أوسع ؟                                                                                                                                                   

على النقيض من ذلك التوحيد ونتائجه السلبية، إذا ما درسنا ديانة متعددة الآلهة كديانة اليونانيين على سبيل المثال – وهو ما قمت به في كتابين  “عنف التوحيد ” و”ابتسامة هوميروس” –  نلاحظ  أن  في العالم  الديني المكون من آلهة عديدة وذات أمزجة  مختلفة  ومن الجنسين، لا يستطيع  واحد أو واحدة منها أن يفرض على البشر  احترام عقيدة واحدة ومجموعة من الوصايا لتطبيقها.   فحتى سلطة  زيوس نفسه، ملك الآلهة،  معترض عليها من طرف الآلهة الأخرى، بداية من زوجته هيرا نفسها.   ومن هذا الباب  يمكن ان نفسر  سر  امتلاك الشعب اليوناني لمعنى النسبية الذي يفضي حتما إلى التسامح وقبول الاختلاف.  لقد كتب الفيلسوف بروتاغوراس الذي كان مشهورا في أثينا في عهد  بيريكليس أن “الخير  شيء متعدد الألوان”. ولم يحدث مرة أن وجد صراع في اليونان باسم إله أو عقيدة ما.                                                                                                                                                                                                                                                             لقد  كتبت مرة أن تجاهل “عنف الديانات التوحيدية عمى إرادي”، هل يمكن أن توضح أكثر؟                                  

تُحارب الفكرة القائلة بأن العنف ملازم للإيمان بالإله الواحد محاربة شرسة من طرف مناضلي الديانات التوحيدية الثلاث والذين يرددون  من جهة أن العنف وجد في كل الأديان ومن جهة أخرى يروجون بأن أشكال العنف التي ارتكبت من طرف الأديان التوحيدية ما هي سوى انحراف عن العقيدة الأصيلة التي هي مسالمة في جوهرها.  وشخصيا أعتقد بأن هؤلاء الذين يتكلمون هكذا ليسوا حمقى أو منافقين وإنما يتعامون بشكل إرادي عن رؤية ما يمكن أن يدمر اعتقاداتهم الدينية التي تعطي معنى لحياتهم.

كيف تفهم العلمانية؟                                                                

العلمانية مبدأ  أساسي من مبادئ القانون الفرنسي. هي بنت فلسفة الأنوار الفرنسية وثورة 1789.  وتم إعطاء هذا المبدأ طابعا  رسميا من خلال “قانون الفصل بين الكنائس والدولة” سنة 1905. وكان الهدف إنهاء  “تحالف   العرش والمذبح”،  وقوة الكنيسة الكاثوليكية التي كانت  تطبع ” ملكية الحق الإلهي” في النظام القديم . ولكن وسع قانون 1905 من الهدف الأولي ليشمل كل الديانات ولذلك نقرأ في القانون فصل الكنائس عن الدولة وليس الكنيسة.    وليس المقصود هو محاربة الأديان بل تأطيرها  من أجل جعل العنف الذي قد يمارس باسم  هذا الدين أو ذاك  أمرا مستحيلا.

ومن ناحيتي فأنا مع مبدأ العلمانية قلبا وقالبا. هذا  المبدأ  الذي غالبا ما يساء فهمه خارج فرنسا مع الأسف يمكن تلخيصه فيما يلي:  تسمح الدولة وتحمي ممارسة كل الديانات على شرط واحد هو  وجوب  عدم تداخلها مع السلطة السياسية  وأن تقبل  التعايش مع  غيرها من الاديان ولا  امتياز لدين على دين.  وفي المقابل  تترافق  حرية الضمير والاعتقاد  تلك مع حرية الفكر وحرية التعبير   والتي تسمح بهما وتحميهما الدولة أيضا.   وعلى هذا النحو يكون لكل فرد الحق في نقد أي دين كان وبأية وسيلة كانت.  فالحرية والنقد توأمان غير قابلين للانفصال ولا  يمكن أن يقبل في  الامر أي استثناء.

 لماذا يستمر الإعلام الفرنسي في التزام صمت مريب تجاه أفكارك وكتبك؟                                                                                                                                          

ما  أظهره  وأعرضه من أطروحات يصدم قناعات الكثير من الصحفيين والذين بدل أن يواجهوا حججي بحججهم يفضلون مهاجمتي بالصمت، سلاح الجبناء.  وبعض الصحفيين يمارسون على أنفسهم مراقبة  ذاتية من أجل مهادنة جزء من قرائهم أو مشاهديهم. فكأنهم يقولون بينهم وبين أنفسهم :  “في كتبه   متفجرات من الأحسن لنا الابتعاد عنها. ”   لقد كتب لي   إدغار  موران ، الانتروبولوجي  الفرنسي المعروف عالميا : “أنت مقاطع بقدر ما أنت على حق”.

المصدر: https://www.alawan.org/2018/09/29/%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك