حوار الثقافات في زمن العولمة: هل هو ممكن؟

هاني جرجس عياد

 

يمكن القول إن العولمة ليست شيئاً جديداً، إنها فقط مرحلة متقدمة لظاهرة تدويل الإنتاج والمشروعات حيث أصبح الشكل المادي للإنتاج يخضع لمنطق مبادلات الأموال والتواصل، حيث زالت الحواجز بين الأسواق المالية وتغيرت بنياتها ومنظومات التدبير فيها منذ الثمانينيات من القرن الماضي. إنها ليست ظاهرة جديدة طفت على السطح بعد انهيار نظام القطبين في بداية التسعينيات، لكن يمكن القول إن ظاهرة التدويل أخذت شكلاً جديداً واسماً جديداً هو العولمة.



إنها إذن نظام عالمي جديد يحاول جعل العالم صورة ونمطاً واحداً متجاوزاً احترام كلّ الخصوصيات التي صادقت على الاعتراف بها أغلب دول العالم بدءاً بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومروراً بكلّ الاتفاقيات الخاصة. إن من يروج للعولمة ينسى أننا نعيش في عالم متعدد الثقافات، ولهذا لا يمكن للعولمة أن تمنع الثقافات المحلية من التنمية والانفتاح، لكن في الوقت ذاته فاْن تفعيل الأبعاد المحلية يجب أن يتماشى مع المقاربات الجهوية والكونية. فالقيم الكونية المشتركة هي التي تربط المواطنين بجماعتهم وتجعلهم مسؤولين على اقتسام رؤية للمستقبل مبنية على التسامح والعدل والتضامن والثقة والاْحترام المتبادل والوعي بضرورة وجود الديمقراطية والتنمية المستدامة والممارسة المسؤولة. وحتى لا نطيل الحديث في تعريف العولمة فاْنه يمكن اختزال هذا التعريف في أن العولمة "ظاهرة شمولية ومتعددة الأبعاد، فهي تشمل كلّ مجالات الحياة المعاصرة، الاقتصادية والمالية، السياسية والثقافية والتربوية والإعلامية...، ذلك أنها من خلال سلطاتها الجديدة، تمكنت من تحديد هدفها العام، المرتبط بزحزحة البنيات السوسيوثقافية داخل كلّ مجتمع، مع توحيد مجتمعات العالم ضمت البراديجم أو الأنموذج المهيمن داخل المجتمع الغربي". لكن من السمات الكبرى للعولمة هو مسعاها الرامي إلى الاختراق الثقافي لمجتمعات الكون، وربما هذا الأمر هو الذي دفع الكثيرين لرفضها ومعاداتها. والحق، أن العولمة استطاعت زحزحة الثقافات الجهوية المنغلقة على نفسها والتي تتوجه نحو الكونية خصوصاً في ما يتعلق بمفاهيم حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والحرية إلى غير ذلك . لكن هل يمكن للعولمة أن تزحزح المنظومة الثقافية، إذا علمنا أن الثقافة هي إرث تاريخي يحمل الطابع المميّز لكل أمة. 



تحمل العولمة في طياتها، إذن آثاراً على ما هو قائم حالياً، وعلى ما هو مستقبلي، وقد تكون انعكاساتها إيجابية وقد تكون سلبية، لأن آثارها لحد للآن لا تبدو واضحة لعدم اكتمال فواصل تطبيقها.



إن الولايات المتحدة الأميركية، حكومة وشركات ورؤوس أموال قد تضخمت اقتصادياً وتجارياً، وبدا لها الجو خالياً لتملي إرادتها على العالم، دولاً ومجتمعات وأفراداً، وهكذا تحولت الرغبة في إحكام الهيمنة على العالم من دائرة الحلم إلى التنفيذ، محولة العالم إلى سوق كبيرة موحدة ومفتوحة ممّا أدى إلى بزوغ نظام اقتصادي عولمي جديد لا يمكن لأي كان إلا الاندماج فيه وتفعيله لحصد منافعه. وقد كرست لأجل إحكام هذه السيطرة آليات اشتغال كثيرة كالمال والإعلام لتنميط السلوكات والأفكار والأذواق قصد توسيع رقعة السوق الاستهلاكية.



لكن هذا الواقع العولمي تسبّب في خلل مكشوف من جراء الهوة الكبيرة التي تعمقت بين دول الشمال ودول الجنوب حيث الرفاه المطلق شمالاً والفقر المدقع جنوبًا، وقد زادت الهوة عمقاً بين من تأقلم مع العولمة ومن تضرر منها سواء على مستوى الأفراد أم الشركات أم الدول، وكان لا بدّ لهذا الوضع أن يؤثّر بشكل كبير على البنيات الوطنية والثقافية للدول، وظهور حركات مناهضة ورافضة للعولمة، وحركات تحاول جاهدة الاندماج في مسار هذه العولمة .



فكلنا معنيون بالعولمة مهما كان موقفنا منها، لكن نحن معنيون أولاً بفهمها قبل اتخاذ أي موقف منها، لأننا في الكثير من الأحيان نتخذ مواقف سريعة من قضايا خطيرة ومصيرية، وهكذا تكون مواقفنا أقرب إلى ردود أفعال نفسية انفعالية منها إلى تأملات فكرية متسقة ومبررة. لهذا يجب التعامل مع العولمة بشيء من التروي والحكمة لأن الحديث عن العولمة هو حديث عن مصير ومستقبل البشرية، والعالم أجمع، وهو أمر يهمّ كلّ الأمم بغض النظر عن درجات قوتها أو ضعفها، والعالم العربي ليس عالماً معزولاً عن العالم المعاصر وهمومه، فهو جزء منه وهو واقع تحت تأثير إعصار العولمة الكاسح مثله مثل غيره .



إنه ليس أمام العالم العربي إلا حلّ من اثنين : الحلّ الأول، هو رفض هذه العولمة والتقوقع على الذات، وفي هذا خوف من مواجهة الواقع وتحديه، وبالتالي طريق للانتحار والموت البطيء، أما الحل الثاني فهو الانخراط في مسلسل العولمة، ويتضمن هذا الانخراط بدوره مجازفة كبيرة إذا لم نستعد لهذا الانخراط بتقوية قدراتنا العلمية والاقتصادية وبتنمية مستدامة وبوضع استراتيجيات للمقاومة، لأن العولمة تيار جارف تسير نحو أهدافها، فلا الرفض ولا الممانعة بقادر على توقيفها وإذا نحن وقفنا منها موقف المستهلك فقط، سنجد أنفسنا بعد حين من الزمن من دون هوية ولا ثقافة ولا تنمية.



إن رفع تحدي العولمة، وركوب قطار التقدم، يفرض الانخراط في المشروع الديمقراطي وتفعيل المجتمع المدني والمراهنة على الإنسان باعتباره أهم ورقة في العملية التنموية، لكن مع الأسف فاْن عالمنا العربي لم تنخرط أغلب دوله في المشروع الديمقراطي، ولم يتم فيه تفعيل المجتمع المدني، كما أنه غيب الإنسان من التنمية والبناء، بل همش الطاقات والكفاءات الفكرية والثقافية والعلمية مما دفع هذه الأخيرة إلى هجرة أوطانها بحثاً عن مناخ أفضل للعطاء .



إن وضع العالم العربي الهش، وغياب الديمقراطية هو الذي جعله فريسة سهلة للعولمة لأن المجتمعات المتطلعة للحرية والعدل رأت في هذه العولمة، ربما، سفينة النجاة للخروج من أزمتها التي طالت. وهنا تكمن مسؤولية العرب خصوصاً وأنه لم يعد هناك وقت للانتظار، عليهم أن يتسلحوا بكل ما يمكن أن يحفظ لهم مكانهم في هذه القرية التي أرادتها أميركا صغيرة، وأول ما عليهم القيام به هو إعادة النظر في أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية من أجل وضع إستراتيجيات تمكنهم من تقليص الهوة بينهم وبين العالم المتقدم لاسيما أن لديهم كلّ الإمكانيات لذلك.



أمام هذا الوضع، دول فقيرة وأخرى غنية، وأمام ثقافة العولمة التي تريد ابتلاع كلّ الخصوصيات، وتحديداً الثقافية منها، بل إنها تريد عولمة الثقافة، نتساءل عما إذا كان هناك إمكانية، بعد، لإقامة حوار ثقافي؟



بعيداً عن كل يأس محتمل، يمكن القول إن إقامة حوار بين الثقافات أصبح ضرورياً وأمراً ملحاً ولم يعد ترفاً فكرياً، ما دامت هناك ثقافات متنوعة وأن العالم ليس أميركا وحدها، وأن الحضارة الإنسانية لا يمكن أن تُبنى من جانب واحد، بل كلّ البشر شركاء في بنائها، ثم إن الثقافة تحمل في ذاتها وسائل الدفاع عن نفسها.



لكن يبدو أن هناك صعوبات حقيقية في إيجاد أرضية ومبادئ عامة لحوار ثقافي، يقبلها الجميع ويقتنع بها لأن لكلّ واحد منظومته الثقافية، وهذه المنظومة الثقافية لها مرجعيات محددة. لهذا، ولإقامة حوار بين الثقافات، يتطلب منا وقفة متأنية لقراءة ذاتنا ( العربية) وكذا الذات الأخرى ( الغرب )، لأن الغربي، والذي يدعو إلى مبادئ كونية، هو نفسه يعيش سجين خصوصياته الثقافية التي تقصي الآخر وتعجز على الانفتاح عليه، لأن لديه عقدة التفوق على الآخر، ولأنها ثقافة مبنية أساساً على نفي الآخر، وإن كان لا يكلّ من رفع شعارات المساواة والإنصاف والعدل بين البشر. ومن منطلق هذا "التوجه الاستعلائي" للثقافة الغربية عموماً، الصريح أحياناً، والمضمر في غالب الأحيان، تصر كبرى الدول الغربية المهيمنة في عالم اليوم، على مصادرة حقّ الآخرين في الاختلاف والاختيار، وعلى احتكار الحق في بلورة القيم الحضارية والكونية نفسها، وتنكر هذا الحق على الآخرين . فكيف يمكن إذن قيام حوار بين الثقافات أمام هذا الموقف الغربي من ثقافات الآخرين ؟



إن هذا الأمر لا يتأتى إلا بانتفاء أسباب عدم إمكانية قيامه من جهة، وفي ظل وجود الشروط التي سطرناها أعلاه من جهة ثانية. إن على كلّ أطراف الحوار إعادة النظر في موقفها من الآخر، وعلى العرب بالذات إعادة تأسيس الخطاب العربي الإسلامي من جديد والتعريف بالحضارة العربية العريقة، خصوصاً بعد موجة العنف التي بدأنا نعيشها، وظاهرة الإرهاب التي صارت لصيقة بالإسلام والمسلمين حتى غدا المسلم في صورة الإعلام الغربي هو ذاك الإنسان الحامل للقنابل فقط وكأنه بلا ثقافة ولا هوية، وبهذا فقط، يمكن أن نأمل في قيام حوار بين الثقافات لأن كلّ الشعوب محترمة وسيدة نفسها، وكلها متساوية على الصعيد القانوني والبشري بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعند الاعتراف فقط بهذه القاعدة، يمكن أن يجد حوار الثقافات طريقه بدل التصادم بين الشعوب.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك