حوار تاريخي مع صديق غربي

د. محمد عبد الستار البدري
لا خلاف على أن الحوار هو أحد أهم محركات الفكر ووسيلته للرقي العقلي وأداة لتبادل الأفكار لاستنباط الواقع من الماضي. وهذا كان دائمًا شعوري عندما أحاور صديقي السياسي والمثقف الفرنسي، وكما هي عادته فإننا نبدأ من نقطة اختلاف فكري لننتهي باختلاف منهجي. حواري اليوم الذي أنقله هنا ما هو إلا تجسيد لهذا الأمر، خصوصًا أننا كنا مدعوين إلى مأدبة عشاء انتهت بالضيوف كلهم يستمعون إلى السجال الفكري بيننا.

كانت بداية التراشق الذهني طرح صديقي الفرنسي رأيه في عظمة المفكر الفرنسي جان جاك روسو، الذي قرأ كتابه الشهير «العقد الاجتماعي» أكثر من ثلاثين مرة (على حد قوله) ليصبح منارته الفكرية رغم مرور ما يقرب من قرنين ونصف القرن من الزمان. وأكد أن هذا المفكّر وضع الأسس لمفهوم التحرّر الفكري نحو الليبرالية تمهيدًا للتطبيق الديمقراطي في كل المجتمعات الغربية، بما فيها فرنسا، وأن فكره الثوري كان محوريًا في تحرير فرنسا من حكم الاستبداد. ولا أخفي سرًا أن هذا الطرح استفزّني، فابتسمت قائلاً له: «إن الرجل كان مفكرًا عظيمًا لا شك، ولكن المشكلة الحقيقية كانت في وسيلته السياسية للوصول لتحرير الإنسان من القيود التي فرضها الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي عليه، وفق ما كتبه في أول صفحة في كتابه. إن وسيلته للوصول إلى الديمقراطية لم تكن عبر الانتخابات أو أي أداة سلمية جماعية، بل أن الرجل طرح مفهوم (الإرادة العامة) التي تعبر عنها القلة الواعية، وهو المفهوم الغامض الذي أخذته القوى المتشدّدة في فرنسا لفرض النظام الشمولي بدلاً من الديمقراطية. وهو المفهوم ذاته الذي استخدمه كل طغاة العالم من ستالين إلى هتلر وموسوليني، وهو أيضًا المفهوم ذاته الذي استخدمته الحكومة الفرنسية لقتل ما يربو على خمسة وعشرين ألفًا من المواطنين، إذ كل فئة مستبدة تستند إلى مفهوم التعبير عن (الإرادة العامة) للوصول إلى غايتها».

هنا انتفض صديقي الغربي وردّ علي قائلاً: «إن انحراف التطبيق ليس مسؤولية الكاتب بل مَن يطبق أفكاره». لكنني أكدت أن الرجل ترك هذا الأمر في غموض، لأنه كان مدركًا أن القوة المنظمة أيًا كانت هي التي ستتولى السلطة في فرنسا الثورية. وردّ على الردّ فذكّرني بأن «روسو كان رمزًا أخلاقيًا عظيمًا على المستوى الفردي والجماعي»، فابتسمت وقلت له بوضوح: «أشك في ذلك على المستوى الفردي!».

عند هذه المرحلة وجدنا الجالسين معنا في حالة صمت أمام هذه المبارزة التاريخية بين مصري ينتمي إلى حضارته المركّبة وغربي يرتبط بحضارته المستمدة من التجربة الأوروبية. وتدخّل شخص آخر مستفسرًا عن إمكانية تطبيق الديمقراطية استنادًا إلى التجربة الغربية في الدول الأخرى، ومنها الشرق الأوسط، فاستمرت المقارعة الفكرية بيننا يغشينا صمت الحضور ونظراتهم الملتهبة تتطلع للجولة الجديدة، خصوصًا أن أغلبهم ينتمون للحضارة الغربية. وعند هذا الحد طرح صديقي الغربي مقولته بأن «التطبيق الديمقراطي الفوري هو الحل»، وأن «على العالم النامي أن يقتفي أثر الثقافة الغربية للتوصّل إلى أقصر الطرق نحو الديمقراطية باتباعها على ما هي عليه اليوم، لأنها أفضل النماذج المطروحة على الساحة السياسية والعملية والفكرية، وبدايتها هي الفصل التام بين الدين والسياسة وترك السياسة للساسة والدين لرجاله». وهنا أبديت اتفاقي مع جزء من أطروحته واختلفت حول وسيلة التنفيذ. فأشرت إلى أن الطريق الغربي نحو الديمقراطية لا يمكن اقتفاء أثره، لسببين رئيسيين: الأول، أنها تجربة خاصة بأوروبا وتركيبتها التاريخية التي لا يمكن أن تتكرّر، خصوصًا في العالم العربي. والثاني، أنها مرّت بمزيج من التطورات الاقتصادية والاجتماعية غير قابلة للتكرار، ومن ثم ضرورة الكف عما سميته بـ«تقديس التجربة الذاتية» أو ظاهرة الـ«Ethnocentrism» في العلوم الإنسانية. وقلت إنه لا يمكن أن يكون التطوّر السياسي للعالم العربي اليوم من خلال فرض اتباع نمط التعامل الديني - التاريخي الأوروبي، فالإسلام السنّي ليس بمؤسسة مثلما كانت المسيحية ممثلة بكنيسة روما، كما أننا لا يمكن أن نفصل الإسلام عن التطوّر الاجتماعي المقبل، خاصة في العالم العربي. وعندما جاء رده الصريح المباشر بأن «العلمانية هي الحل مثلما حدثت في أوروبا»، وأنه «لا بد من تطبيقها بكل قوة وعنف إذا لزم الأمر»، أوضحت له أن اختلاف التجربتين يجعل تطبيق هذا النسق السلوكي الغربي بشكله القائم غير مقبول اجتماعيًا، فالإسلام لا يمكن فصله عن مضمون المسيرة الاجتماعية على النمط الأوروبي في هذه الدول، خصوصًا بالنسبة للمعاملات والاجتماعيات، وأن هذا سيخلق هزة اجتماعية واسعة النطاق ومسارًا للفرقة وكسر الوئام المجتمعي، وإن كان هذا ليس معناه أن يكون الحكم ثيوقراطيًا، فهذا مرفوض شكلاً وموضوعًا فضلاً عن أنه ليس موجودًا في مسيرة التاريخ السنّي.

عند هذا الحد انفعل صديقي الغربي قائلاً: «ما الحل إذن؟»، فأوضحت له أن الحل في «الدولة» ومفهومها ومؤسساتها. وأضفت: «أوروبا لها رفاهية الانفتاح بلا خوف على الدولة، ولا أحد في العالم الغربي مع رفضه لسلوكيات الدولة سيختلف على أنها ضرورة، فحتى القلة الفوضوية لا تؤمن بتدمير الدولة كاملة مع اختلافهم بالنسبة لدورها ومؤسساتها، واليوم في أوروبا لو خرج حزب سياسي ديني وطالب بإخضاع السياسة لمفهوم الأممية المسيحية فلن يجد له نصيرًا لأن تجربة الشعب الأوروبي أوضحت خطورة هذا بوضوح بعد حروب دموية لقرون، فضلاً عن أن الحلم الأممي الأوروبي مرتبط اليوم بمفهوم الاتحاد الأوروبي وليس (الإمبراطورية الرومانية المقدسة)، كما كان في مطلع القرن السادس عشر». وتابعت أن «الاختلاف الثقافي واضح وصريح ولا يمكن اقتفاء أثر التجربة الغربية في العالم الإسلامي، ومن ثم، أهمية دور الدولة وتقويتها، فالدولة هي الكيان الأهم القادر من خلال مؤسساتها على بداية الطريق الديمقراطي أو الانتهاء إليه على حد سواء»، محذرًا من خطورة ما يمكن وصفه بـ«الانتقال الديمقراطي الفوري» Hypo - Democratic Syndrome.

وهنا باغتني بالسؤال عن الموقف في حالة ما إذا لم ترغب النخب السياسية في العمل على الديمقراطية في مؤسسات الدولة؟ فأوضحت له أن الزمن كفيل بهذه المسألة، لأن الأمر ليس مرتبطًا بالنخبة الحاكمة وحدها، بل بالشعب ذاته. ذلك أن بعض الشعوب تركيبتها السياسية والاجتماعية بل والتاريخية قد تؤخر الهدف الديمقراطي، فالمجتمع القبلي يختلف عن «الزراعي المستقر» Sedentary، ولكل تركيبته. والوقت هو العنصر الحاسم خاصة في عالم مفتوح مثل عالم اليوم، الذي لا تكون النخبة هي المتحكم الأوحد، بل تطور الشعب وانفتاحه على الشعوب الأخرى لا يمكن الاستهانة به. وفي النهاية يعد دور الدولة فيصلاً، فمن دون الدولة وهياكلها لن تكون هناك ديمقراطية، فالعدم لا يخلق إلا العدم، والمبدأ ذاته يُطبق في السياسة، فالديمقراطية على حساب الدولة لن يسفر إلا عن العنف والضيق.

عند هذا الحد أبدى صديقي الفرنسي ضيقه الشديد مصرًّا على أن «الديمقراطية لا تأتي إلا من خلال الإرادة الشعبية وحدها»، فأوضحت له مرة أخرى اتفاقي على أن الإرادة الشعبية ركن مهم للغاية، لأن الديمقراطية هي تجسيد لها في النهاية، ولكن هنا سندخل مرة أخرى في مشكلة التاريخ الأوروبي أي صراعات واسعة النطاق أدت إلى نشوب الحروب الأهلية وتفشيها هناك، فهل من المفترض أن تخوض هذه الدول تجارب الحروب الأهلية بعد حروب التحرير؟ فقال لي: لو كان هذا ثمن الديمقراطية فما المانع، مثل ثورات التحرير؟!

عندها ابتسمت قائلاً إن «الحروب الأهلية الأوروبية لم تنتهِ بتدمير الدولة ومؤسساتها، وإن اندلاع الحروب الأهلية اليوم سيختلف عن أوروبا. وأغلب الظن سيفرض سيطرة أقوى الفرق تسلحًا وانتشارًا، وهم ليسوا بالضرورة ديمقراطيين، فالدولة هي وعاء الديمقراطية وليس العكس، كما أن الديمقراطية لن تأتي من الحرب على الأنماط الأوروبية بل تحتاج إلى حوار وقناعة عامة لأغلبية الشعب بأنها الطريق الأفضل والشعوب قادرة على تغيير مسارها بأقل الخسائر». ولما أبدى امتعاضه من هذه الفكرة حسمت الجدل الدائر بقولي: «تعدّدت الديمقراطيات والطرق كثر».
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك