المصداقية الغائبة لوسائل الإعلام

د. هايدي وجيه

 

شاهدت صورة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يصافح نظيره الكوري الشمالي كيم جونج أون، فتذكرت مقولة للزعيم الفرنسى شارل ديجول "لا يوجد دولة لديها أصدقاء وإنما مصالح"، لكن هذه الجملة لا تنطبق فقط على الدول، وإنما على وسائل الإعلام .
 ففي عصرنا الحالي، أصبح الإعلام يترنح بين المصداقية أو استغلال فكر الأفراد، وتسير أفكارهم إلى اتجاهات قد تكون غير مرغوبة، حيث أصبحت وسائل الإعلام تعبر عن فكر مالكها أو الدول التي تملكها، أي كما يطلق عليها "إعلام رجال الأعمال  أو "إعلام الدول".
خلال الأحداث التي يمر بها العالم اليوم، أظهرت وسائل الإعلام الأجنبية أنها تتحدث بلسان من يمولها .. ومن الأحداث التي أوضحت ذلك ما يلي :
التحول تجاه الاتفاق الإيراني:
  منذ إعلان ترامب انسحابه من الاتفاق النووي الغربي مع إيران الذي عقد في أبريل 2015 ، بدأت وسائل الإعلام تتحدث عن هذه القضية. وحينها ذهبت صحيفة واشنطن بوست  الأمريكية إلى أن الاتفاق "سيغير الشرق الأوسط بشكل كبير نحو الأفضل"، لكن ذلك الموقف اختلف تماما بعد انسحاب ترامب أخيرا من الاتفاق النووي. إذ كتبت الصحيفة ذاتها أن إيران مقبلة على مزيد من الفوضى، في ظل المسار التصادمي الذي تتخذه الولايات المتحدة وأوروبا فيما يتعلق بالاتفاق النووي، وأن لدى إيران القدرة على زعزعة الاستقرار في العراق، وأفغانستان، ودول الخليج بشكل يفوق الولايات المتحدة وإسرائيل .
 أما شبكة سى إن إن الأمريكية، فقد أذاعت حوارا للأمير خالد بن سلمان، سفير السعودية بالولايات المتحدة، قال فيه إن إيران ترغب في خلق حزب الله أخر في اليمن، وإنها تهدد أمن منطقة الخليج، وطالب المسئول السعودي بإصلاح الاتفاقية مع إيران. أيضا، أذاعت الشبكة أن ترامب يدعو لإبرام اتفاق جديد مع إيران يعالج سلوكها "المزعزع للاستقرار" في سوريا واليمن .
أردوغان من حليف إلى عدو:
في الماضي القريب، وصفت واشنطن بوست الأمريكية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه الحليف المهم للولايات المتحدة في العالم الإسلامي الذي يناضل من أجل حل الأزمة السورية التي أنهكت اقتصاد بلاده بشكل سريع، وأغمرته بمئات الآف من اللاجئين، ووصفته بأنه الجسر بين واشنطن والأمة الاسلامية، لكن ذلك الموقف اختلف الآن، حيث كتبت الصحيفة ذاتها أن أردوغان حول بلاده إلى سجن استبدادي، وأن التغريدات في عهده تحولت إلى جريمة ، وأن الديمقراطية المتعثرة انتقلت إلى نظام ديكتاتوري، ومن ثم رأت الصحيفة أنه يجب وقفه.
 السؤال هنا، ما هو سبب انتقاد الصحف الأمريكية  المفاجئ لسياسة أردوغان؟ يرجع السبب إلى الخلاف الذي وقع بين أنظمة الحكم في الولايات المتحدة وتركيا حول الأوضاع في سوريا. إذ دعم ترامب القوات الكردية الانفصالية في سوريا، ورفض تسليم المعارض التركي عبدالله جولن المتهم بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في يوليو 2016. وقد دفعت هذه التصرفات أنقرة إلى التقرب من موسكو كحليف لم يكن في الحسبان .
بموازاة ذلك، قامت الولايات المتحدة، في 9 أكتوبر 2017، بتعليق جميع خدمات التأشيرات في مقر السفارة الأمريكية في تركيا باستثناء المهاجرين. وازدادت الأزمة بين أنقره وواشنطن تصاعدا عقب صدور حكم قضائي بحق موظف في قنصلية الولايات المتحدة بتهمة التعاون مع "الكيان الموازى" التابع لجولن. كل هذه الأسباب دفعت إلى هجوم وسائل الإعلام الغربية ضد سياسة أردوغان. فبعدما كان يتم وصفه بأنه حليف ديمقراطي بات الآن ظالما وديكتاتورا .
وبينما تهاجم وسائل الإعلام الأمريكية أردوغان، فإن قناة الجزيرة التابعة لدولة قطر الحليفة لتركيا تروج يوميا لإنجازات ذلك الرئيس التركي، وتساند قراراته في الانتخابات المبكرة. وفي المقابل، تشوه الأكراد لصالحه عبر حملة إعلامية شرسة.
أفضل صديقين بعد عداء محكم:
نعود مجددا إلى اللقاء التاريخي الذي جمع ترامب وكيم بعد عقود من العداء. ففي يوم 12 يونيو 2018، جلس الزعيمان على طاولة واحدة في سنغافورة للتوصل إلى اتفاق لنزع النووي من كوريا الشمالية، وإنهاء الحرب الباردة بينهما. ومنذ عقد هذه القمة حفلت وسائل الإعلام بتعليقات مختلفة.
 إذ نشرت صحيفة الديلى تلجراف البريطانية أخيرا صورة للقاء الزعيمين فى أثناء القمة تحت عنوان "ترامب وكيم  يظهران للعالم أنهما أفضل أصدقاء"، في حين كانت الصحيفة ذاتها قد كتبت في الماضي عن الزعيم الكوري الشمالي أنه قام بحظر المرح واللهو، بالإضافة إلي اتهامه بإعدام 340 شخصا من بينهم 140 مسئولا .
أما صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، فلم تغير سياستها التحريرية نحو كوريا الشمالية إلا قليلا، حيث وصفت القمة بأنها "لوحة جميلة"، من أجل تعزيز الشرعية، وأن الوثيقة التي خرجت بها لا تنص على نزع السلاح النووي.
بينما حاولت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) تخيل الحياة لعائلة افتراضية في كوريا الشمالية، واسمها "ليس"، وهى تدور حول أب يخاطر بحياته لصيد السمك، ويحاول أن يوفر العيش لأبنائه في ظل الظروف الصعبة التى تمر بها كوريا الشمالية .فيما أذاعت قناة فوكس نيوز الأمريكية تقريرا خاصا عن قيام نواب برلمانيين من النرويج بالمطالبة بمنح جائزة نوبل للسلام لترامب، لأنه عقد قمة تاريخية مع كيم، دون العلم، هل ستنجح القمة ويلتزم الطرفان بالوثيقة، أم ستنتهي إلى الفشل في نهاية المطاف؟
وإذا كان هذا حال وسائل الإعلام العالمية، فماذا عن وسائل الإعلام الكورية المسيطر عليها من قبل الدولة؟ فقد نشرت هي الأخرى تقارير عن قمة سنغافورة ، زعمت فيها أن ترامب قدم مجموعة من التنازلات إلى كيم لم يتم ذكرها في البيان المشترك للبلدين، في حين أن الولايات المتحدة لم تؤكد بعد محتويات هذه التقارير، إلا أنها توحي بأن الزعيمين توصلا إلى اتفاقيات شفهية أكثر من ذلك  الذي وضع على الورق (وثيقة الاتفاق). في السياق نفسه، ذكرت وكالة الأنباء المركزية الكورية (KCNA) أن كيم وترامب اتفقا على أنه "من المهم الالتزام بمبدأ الخطوة خطوة، والعمل المتزامن في تحقيق السلام والاستقرار ونزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية". ومن شأن ذلك أنه يخالف ما قالته إدارة ترامب حتى الآن، والتي تصر على نزع السلاح بالكامل.
نتاجا لكل هذه الوقائع، نتساءل: أين الموضوعية في عرض وسائل الإعلام الأجنبية للأحداث؟، وهل ترى تلك الوسائل أن ما تقدمه هو المصداقية، أم أنها تتحدث بلسان نظام الحكم الذي يسيطر عليها، وتكيف آراءها مع تغيرات العلاقات السياسية بين الدول في النظام العالمي، الأمر الذي يثير شكوكا حول مصداقية الإعلام الأجنبي في تناوله للأحداث، ويجعله مجرد حبر على ورق يدرس فقط لطلبة الإعلام في المعاهد والجامعات.
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك