الحرب النفسية وتطوراتها.. وهدم الدول

جميل عفيفي

 

مئة ألف تغريدة يوميا تصدر على مستوى العالم تبث الشائعات والمعلومات المغلوطة لمحاولة ضرب الاستقرار وإثارة الفتن الدينية والإثنية، والتشكيك في قيادات بعض الدول من أجل إثارة الفتن وخلق نوع من البلبلة، وذلك وفقا لإحصائية أجرتها مجموعة الرؤية الاستراتيجية، روسيا والعالم الاسلامي، والتي مقرها موسكو، ويأتي خلف ذلك العدد المهول من الأكاذيب اليومية أجهزت استخبارات لدول كبرى من خلال لجان إلكترونية متخصصة في هذا المجال فقط، وهذا ما يطلق عليه حروب الجيل الرابع.
لم ينتبه الشعب المصري مع بدء استخدامه لمواقع التواصل الاجتماعي انه سيتعرض لحرب من نظام جديد، وهو التطور الحقيقي للحرب النفسية التقليدية، والتي كانت تتم عن طريق نشر الاكاذيب عبر وسائل الإعلام، أو عن طريق الطابور الخامس في بعض الدول، حيث يبثون الإحباط ونشر الأخبار الكاذبة في أماكن التجمعات، وذلك خلال الحروب التقليدية، مثل الحرب العالمية الثانية، واستمرت تلك الحرب النفسية التقليدية حتى احتلال العراق في عام 2003، وقد حققت العديد من النجاحات فى هذا الوقت.
ومع تطور التكنولوجيا المعلوماتية، وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، بدأت تتطور الحرب النفسية، بل إن أجهزة الاستخبارات التي تعمل في هذا المجال وجدت ضالتها في كيفية ايصال الرسالة المطلوبة الى المتلقي في ثانية واحدة لتنتشر بعد ذلك كالنار في الهشيم، وتحقق الهدف المطلوب منها.
ومع بدء التخطيط لمشروع الشرق الأوسط الموسع الذي تم إقراره في قمة حلف الناتو في اسطنبول في عام 2004، والذي يهدف إلى إعادة تقسيم منطقة الشرق الاوسط، وتدمير الجيوش الوطنية وتغيير عقيدتها، تم البدء في إطلاق مشروع حروب الجيل الرابع من خلال مواقع التواصل، ومن خلال تدريب مجموعات من الشباب في الخارج على شن تلك الحروب لتمهيد الطريق للعملية الكبرى، وهو تدمير الدول ذاتيا من الداخل، من خلال ما أطلق عليه مسمى الربيع العربي.
وإذا نظرنا الى مصر كنموذج لتلك الحرب الجديدة، فسنجد أن الدولة المصرية تعرضت لهجمة إلكترونية شرسة بداية من عام 2008 واشتدت في عام 2010، عندما بدأ الضرب في جهاز الشرطة المصرية وبث مقاطع فيديو لتجاوزات بعض المنتسبين لها، ومن بعدها قضية خالد سعيد، ونشر العديد من الأكاذيب بعدها لتكون ذريعة للنزول يوم عيد الشرطة يوم 25 يناير، ومن بعدها أحداث 28 يناير وما تلاها من أحداث دامية.
ومع ابتعاد الشرطة عن المشهد لفترة قصيرة، بدأت الحرب الإلكترونية ضد الجيش المصري بعدّه هو الحامي الوحيد للدولة المصرية، والمحاولات المستمرة لجره للدخول في صراع مسلح مع الشعب، وهو الأمر الذي ظهر جليا في أحداث مجلس الوزراء وماسبيرو والعباسية، إلا أن القوات المسلحة كانت تستوعب ما يحاك بها، لذا دائما ما كانت تفوت الفرصة.
وبالطبع بعد ثورة 30 يونيو، اشتدت الحملة وسعت الى التشكيك في القيادة السياسية، واستمرت تلك الحملة وكان يقاومها الشعب المصري. ومع بداية المرحلة الثانية للرئيس عبدالفتاح السيسي، اشتدت أكثر تلك الحرب، والهدف الأول والأخير إيقاف مسيرة الإصلاح للدولة المصرية، والسعي دائما الى فقد الشعب الثقة في كل شئ، واستغلال عملية الإصلاح الاقتصادي لمحاولة نقل أخبار مغلوطة جميعها تشكك في القيادة وأيضا القوات المسلحة، لأن المعروف أن الجيش المصري السند الحقيقي للشعب، والمعني بالمحافظة على الأمن القومي المصري، وتظهر أيضا تلك الحرب وشراستها مع كل تقدم للدولة أو للقوات المسلحة. وإذا نظرنا للهجمة الشرسة لحرب الجيل الرابع ضد مصر، فسنجدها لعدة أسباب، أهمها سيطرة القوات المسلحة على الوضع في سيناء بنسبة كبيرة جدا، وأيضا بدء عملية التحسن الاقتصادي بعد حقل ظهر، وعودة  مصر الى دورها الريادي في إفريقيا والمنطقة العربية.
وتعد حرب الجيل الرابع هى التطور للحرب النفسية التقليدية. مضمون الحرب النفسية موجود منذ بداية الصراع الإنساني، لكن اختلاف الاصطلاح يرجع إلي اختلاف المفهوم. فمثلا، البريطانيون يطلقون اسم الحرب السياسية علي النشاط الذي يعرفه الأمريكيون باسم الحرب النفسية وقد وصف (سير روبرت لوكهارت) المدير العام للجنة التنفيذية للحرب السياسية في الحرب العالمية الأولي الحرب السياسية بأنها عبارة عن تطبيق الدعاية لتخدم حالة الحرب، وعرفها الرئيس الأمريكي في حينه (بتعبيد الطرق أمام القوات المسلحة)  وتسهيل مهمتها، وهذا المفهوم لا يختلف كثيرا عن التعاريف الواردة للحرب النفسية.
  ومن أوائل التعريفات التي ظهرت للحرب النفسية ذلك التعريف الأمريكي الذي يقول (إن الحرب النفسية هي استخدام أي وسيلة توجد للتأثير في الروح المعنوية وفي سلوك أي جماعة لغرض عسكري معين، وقبل ظهور هذا التعريف قدمت مدرسة الجيش البري التعريف التالي:
تتضمن الحرب النفسية استخدام الدعاية مع عدو، مع استخدام عمليات عسكرية أو إجراءات أخري تدعو الحاجة إليها لتكملة مثل هذه الدعاية. وبعد ثمانية عشر شهراً من ظهور التعريف السابق، قدم الجيش الأمريكي معجما جديدا يتضمن المصطلحات الحربية عرف الحرب النفسية بأنها (استخدام مخطط متن جانب الدولة في وقت الحرب أو في وقت الطوارئ لإجراءات دعائية بقصد التأثير في آراء وعواطف ومواقف وسلوك جماعات أجنبية عدائية أو محايدة تعمل علي تحقيق سياسة الدولة وأهدافها.
 ظهر معجما آخر للبحرية الأمريكية عام 1946، وأعيد طبعة في عام 1950 جاء فيه أن المهمة الأساسية للحرب النفسية هي فرض إرادتنا علي إرادة العدو بغرض التحكم في أعمالة بطرق غير الطرق العسكرية ووسائل غير الوسائل الاقتصادية وجاء في هذا التعريف أن الحرب النفسية قد تكون قصيرة المدى فتشمل:
أ‌- الدعاية الاستراتيجية.
ب‌- دعاية القتال.
ج- نشر الأخبار.
د- خداع العدو بطريقة منظمة محكمة.
ه- دعاية سرية.
 ويعرف الأمريكيون الحرب النفسية بأنها سلسلة من الجهود المكملة للعمليات الحربية العادية عن طرق استخدمها النازيون، أي لها تصميم وتنفيذ الخطط الاستراتيجية الحربية والسياسية علي أسس نفسية مدروسة.
  أما من وجهة نظر الألمان، فقد تضمنت هذه الكلمة تغيرا طرأ علي عملية الحرب النفسية ويقدر (لاينبارجر) في تعريفه للحرب النفسية، والذي ورد في كتابه (علم النفس)  الصادر عام 1955 أن الحرب النفسية (استخدام الدعاية ضد العدو مع إجراءات عملية أخري ذات طبيعة عسكرية أاقتصادية أو سياسية. 
  إن الغرض الأساسي من أي من هذه التعاريف هذه فرض الإرادة على العدو بغرض التحكم في أعماله بطرق غير الطرق العسكرية ووسائل غير الوسائل الاقتصادية لأن الحرب النفسية عمل من شأنه أن يجبر العدو علي أن يحول رجالة وعتاده من الجبهة النشطة ويجعله يقيد رجاله وأسلحته في منطقة معينة استعداد لهجوم لن يأتي وذلك ما يسمي (التمويه) من خلال عمليات الحرب النفسية قصيرة المدى أو بعيدة المدي بما يسمي حديثا (الاستراتيجية والتشكيل).
أوردت الموسوعة العربية الميسرة تعريفا يكاد يتقارب مع التعريفات التي وضعت للحرب النفسية في العصر الحديث يقول من ضمن تعريفه لمادة (حرب) عنها ( وهي حرب أهلية يهمها تخريب وتدمير قوات المحاربين وممتلكاتهم وغير المتحاربين بهدف إملاء شروط معينة علي الفريق المهزوم، وإملاء عقيدة دينية، أو مذهب سياسي، أو حماية تلك من أي عيب). ويعد هذا التعريف أقرب التعريفات الواردة في المعاجم العربية للحرب النفسية، حيث قال إنها تهدف لإملاء شروط معينة أو عقيدة دينية أو مذهب سياسي.
  ومما لاشك فيه أن الحرب النفسية تعد جزءا من النشاطات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية التي تتم خلال الحرب الفعلية أو الحرب الباردة، ومن هنا جاء اتصالها بعلم السياسة من حيث كونها في النهاية تقوم لخدمة سياسة الدول المصدرة لها والقائمة عليها، ولا ريب فى أن سياسة الدولة المصدرة للحرب النفسية هي التي تضع الإطار والضوابط لهذه الحرب.
 
الحرب النفسية بعيدة المدى:
تتضمن الحرب النفسية بعيدة المدى نشر الأخبار بطريقة مستمرة وبوسائل شتي بغرض مساعدة السياسة الخارجية للدول ورفع سقفها والحصول علي التعاطف والتأثير.
والحرب النفسية هي استخدام علم النفس بصفة عامة وعلم النفس العسكري بصفة خاصة لإحراز النصر، وإن شن أي حرب نفسية ضد ما يعني وجوب معرفة الخصم، أي دراسة الجوانب النفسانية، لأنه يمثل المدخل الذي يحكم السلوك لدي الطرف الآخر. وهنا تبرز أهمية علم النفس والمدرسة السلوكية كأحد الأسس المهمة لفهم وشن الحرب النفسية الحديثة، وذلك لأن علم النفس وحده بما يدرس من السلوك الإنساني وما يضع من أساليب دقيقة لقياس مقدرات الأفراد واستعداداتهم وما يتوصل إليه من فهم لروح الجماعات هو الذي يستطيع أن يسدد الخطي نحو الوفاء بمطالب الحياة العسكرية في العصر الحديث الذي فطن له الغرب فاهتم قادته بإستفاء حاجة الجيوش من الإحصائيين النفسيين، ومن هنا جاء الاهتمام به كميدان لا يمكن للعسكرية الحديثة الاستغناء عنه.
 
العلاقة بين الحرب النفسية والحرب الأخرى:
في خضم الصراع لابد من إعداد الدولة للحرب، وذلك بتوفير جميع المستلزمات وجميع المتطلبات التي تحتاجها الدولة لخوض الحرب ومباشرة الصراع بعد الأخذ بمجمل أسباب القوة المادية والمعنوية وتلك التي تهيأ عادة للحرب خصوصا، وذلك بتسخير جميع قدرات وموارد الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية لتستطيع تحقيق خططها وسياساتها الاستراتيجية الهادفة إلي سعادة الإنسان عبر ما يمكن أن نطلق عليه (الحرب السياسية) التي هي بمجملها (حرب العقل والحكمة)، وحرب المنطق والاقناع، وحرب الشجاعة والإدارة، وحرب العلم والمعرفة، وحرب الفكر والعقيدة، وحرب الاتجاهات والرأي العام، وحرب الروح وروح الأمة الحية، مع تأكيد أن الحرب السياسية تتقدم على العمليات العسكرية، ولكنها معا تعمل بانسجام تام بهدف تحقيق الانتصار على الخصم في الصراع الدائر بين الطرفين.
 
أنماط الحرب السياسية:
أولا- الحرب الفكرية - الأيديولوجية – العقائدية:
هي الأساس في الحرب السياسية والأصل الملهم للأهداف العليا التي عليها تقوم، ومنها تنشأ وتتبلور، ثم هي التي تصبغ هياكل الدولة وسياساتها وخططها بصبغتها، وفي هذه الحرب يظهر الصراع علي شكل حرب عقيدة ضد أخرى، وفكر صحيح يقف مع الحقيقة وآخر يناصر الباطل.
ثانيا- الحرب الاستراتيجية الخداعة:
هي مجموعة النشاطات والأعمال والإجراءات التي يتم إتخاذها وتنسيقها علي المستوي الاستراتيجي العسكري والوطني في المدي القريب والبعيد، والمتضمنة استقلال جميع القوي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية للدولة في زمن السلم وزمن الحرب لتحقيق الأهداف الوطنية العليا باستخدام الذكاء لكشف مواطن العدو وتضليله حتي يقترف الأخطاء ويخسر الحرب.
ثالثا- الحرب النفسية:
هي الاستخدام المخطط والمدروس للدعاية وسائر الأساليب الإعلامية الأخرى المصممة للتأثير في آراء وأفكار ومشاعر واتجاهات وسلوك المجموعات المعادية والصديقة والمحايدة بهدف فرض إرادتنا عليها، تحقيقا لأهداف الدولة، وهذه الحرب تعمل باتجاهين هما:
أ– داخلي تجاه الأفراد وجموع الأمة عموما. 
ب- خارجي تجاه العدو وذلك ضمن أدوات الإعلام المعروفة ووسائل الحرب النفسية. 
رابعا- الحرب الاستخبارية:
هي حرب المعلومات التي تحشد قواها وطاقاتها ضمن سلسلة من الإجراءات والنشاطات التي تتعلق بنواحي الأمن والمكتومية والحماية السرية، والتي يجري تطبيقها علي الأفراد والمواطنين بهدف زيادة الحذر والحيطة وخدمة المجهود الحربي، بالإضافة لعمليات البحث والتحري والاستقصاء وجمع المعلومات لتقييمها وتحليلها، ومن ثم تغيير حالة العدو بناء عليها.
 
دور الطابور الخامس في الحرب النفسية:
يعد الطابور الخامس من أبرز وسائل وأدوات الحرب النفسية، وهو يتكون من العملاء والخونة والمرتزقة الذين يقوم العدو بتجنيدهم ، وبينهم عيون داخل  صفوف الأمة تنحر كيانها وتضخم صورة العدو في نفوس الناس. وقد نشأ هذا التعبير (الطابور الخامس) فى أثناء الحرب الأهلية قي إسبانيا عند هجوم الفاشت علي مدريد عندما تفاخر قائد الهجوم قائلا، إنه فضلا عن الطوابير العسكرية الأربعة التي ستهاجم من الخارج يحسبون حساب الطابور الخامس وهم بذلك يشيرون إلي أنصارهم داخل المدينة. ويمكن تصنيف الطابور الخامس حسب رؤيتهم هذه إلى صنفين رئيسيين متميزين:
الأول: الناس المخدوعون الذين أصيبوا بحمي الدعايات النازية وهؤلاء من العناصر الكارهة للاستعمار البريطاني، والوطنيين المتوثبين المتحمسين ومن الأميين في السياسة. ويتم استخدام هؤلاء نتيجة الجهل والظروف الموضوعية التي بالإمكان أن تؤثر فيهم أي جهة مرجعية. 
الثاني: هو الرتل الخامس بمعناه الصحيح وهذا يتكون من أناس يحترفون مهنة الجاسوسية وخيانة الوطن لقاء أجور أو مناصب عالية ومنافع شخصية ومن الرجعيين ذوي المصالح الطبقية.
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك