حوار الأجيال .. جدلية تتنازعها القناعات !!

أحمد بن سالم الفلاحي

 

يستلزم الواقع والضرورة أن يكون هناك حوار مستمر بين الأجيال، وهو حوار ليس الهدف منه أن يتهم كل جيل الآخر، وأن يقف كل منهما متتبعا مثالب الآخر، ولا أن يكون هذا الحوار هو انتصار أعمى لموقف الآخر، وإنما يبقى حوارا تقييميا لما عليه حال الآخر، فالحياة منذ نشأتها الأولى، وهي تشهد ترقيا في كل جوانبها، ويأتي الإنسان ليضيف بعدا آخر في هذا الترقي من خلال جهده واجتهاده طوال سني عمره التي تمتد طويلا، وتؤرخ على الواقع الكثير من المآثر؛ التي تبقى خالدة؛ حيث تتناسل مفردات هذا الإنجاز، محددة ثورة انتقالية من حال إلى حال، ومثمنة جهد هذا الإنسان الذي خلق لعمارة الأرض ليكون فيها خليفة صالحة لبني جنسه، ولما يحيط به من كائنات ومخلوقات لا أول لها ولا آخر، ولكن على امتداد هذا العمر، لم تكن هذه الصورة التكوينية للإنسان لتظل على تكورها في حقيقة هذه الـ «خليفه» بل تطرح دائما أسئلة محورية عن علاقة هذا الإنسان بما حوله، وعن علاقته ببني جنسه، وتتراكم جدلية الأسئلة حتى على مستوى التفاوت في العمر والمعرفة وخبرات الحياة، ومن هناك يأتي مفهوم «جدلية حوار الأجيال»، وفي هذا الحوار تكون هناك ثمة مفارقات موضوعية، في التقييم وفي الحديث، والسبب هو «العمر أو السن» فعليه تقاس هذه الموضوعية، وعلى أساسه تقام أسس المفارقة، لأن الأمر؛ في هذه الجدلية؛ لا يقتصر على مظاهره الخارجية فقط – الشكل أو اللون – وإنما يذهب عمقا الى مجموعة التغييرات الفسيولوجية المصاحبة للترقي «العمر» فالعمر حالة تراكمية «كمية» وهذا الكم له تأثيره، سواء في المحافظة على ما تم اكتسابه؛ أو تأصيل القناعات أكثر وأكثر للبقاء على هذا المكتسب والنظر إليه على أنه الأصلح، وأن الجديد في أغلبه مفسد، ونتيجة لهذه المفارقة في التقييم يبدأ الحوار، حيث تنتصر كل فئة سنية لمكتسبها .

وتأتي المفارقة «الموضوعية» هنا أن المكتسب في لحظة العمر الآنية تؤسس قناعة بأن هذا الأمر أو الفعل؛ صحيح وبصورة مطلقة عند صغار السن، ويكون ذات الفعل خطأ جوهريا وبصورة مطلقة عند كبار السن، فكل واحد هنا حريص على مكتسبه، وعلى الدفاع عنه، على اعتبار أنه الأصلح، وينافح عنه بقوة القناعة المتأصلة عنده، وإن كانت المسألة النسبية عند صغار السن أكثرها مساحة من الطرف الآخر (كبار السن)، ربما لمحدودية خبرات الحياة، لذلك يلاحظ سرعة التغيير عند هذه الفئة أكثر، وسرعة الافتتان بالجديد أكثر، والحرص على اعتناقه أو تقليده أكثر، ومستوى المقاومة التي يبديها الكبار، سواء بالنصيحة أو بالتهديد أو بالمواجهة المباشرة؛ إذا تطلب الأمر؛ قد لا تجدي نفعا في كثير من المواقف، لأنه في الغالب أن صغار السن لا بد أن يجدوا في طريق اعتناقهم للجديد؛ أحد هذه «المصدات» من الكبار، وتحدث هذه المواجهات بين الطرفين بصورة تلقائية ومباشرة، ويستسيغها الطرفان كممارسة تلقائية بلا تكلف، ويتعايشان معها، حرصا من الكبار؛ كما يعتقدون ويؤمنون؛ على مصلحة الصغار، وصبرا من الصغار؛ كما يؤمنون بضرورة التغيير، ولذلك تبقى الجدلية قائمة عبر الأجيال.

تمثل هذه المناكفة المستمرة بما يسمى «حوار الأجيال» وهو حوار ممتد، بلا توقف، تتناوب في استمراره والحرص عليه توالي الأجيال، فصغار السن اليوم الذين يقاتلون على مكتسباتهم الزمنية الآنية، هم ذاتهم كبار السن غدا، الذين سوف يقاتلون على مكتسباتهم طوال سني العمر الممتدة عبر عشرات السنين، وهناك من يتعدى المائة عام، فعلينا أن نتخيل الكم المتأصل من القناعات عند هذا الإنسان الذي تعدى المائة عام من السنين، وهو يعايش هذا الكم الكبير من الأحداث والمواقف، والصور على مختلف أشكالها، وتعدد ألوانها، ولذلك أراه من الظلم الكبير أن يأتي فرد لم يتجاوز العقد الثالث من عمره ليفرض واقعا جديدا، على فرد هو في العقد الثامن أو السابع من عمره، ويجبره على اعتناقه وقبوله، حيث يجبره على تجاوز كل هذا المكتسب الكمي والنوعي اللذين اكتسبهما طوال السنوات الثمانين، أو السبعين، هذه من المواقف التي يقزم فيها المكتسب العمري، وهذا لا يصح إطلاقا، وهذه المواقف تحدث غالبا بين الأبناء والآباء أو الأمهات ، وهذه إشكالية مستمرة في الحياة الاجتماعية، ولا سبيل الى حلها أيضا، أو وقف نزيفها لوجود وجهات نظر مختلفة عند كل طرف.

كل هذه الممارسات التي تحدث في البيئة الاجتماعية، مقبولة بصورة مطلقة، وتعزى إليها ديناميكية المجتمع وحيويته ونموه، وقدرة أفراده على إقامة حوار دائم بين أجياله، وليس في ذلك من مظنة، إنما الأمر يختلف في نتائجه عندما تتداخل هذه المسألة في خضم البيئة المؤسسية، فهنا الأمر يأخذا أبعادا مختلفة، لأن المؤسسة – في كافة أنشطتها – لا تقوم على مفهوم العقد الاجتماعي، كما هو الحال في البيئة الأسرية، المعمول به في الحياة الاجتماعية، وإنما تقوم على أسس فنية «صناعية» تدخل (الآلة) في تكوينها وآليات عملها، فالبيئة المؤسسية مرتبطة اكثر بالمخرجات «النتائج» وهذه الآلات تحتاج إلى عقول «طرية» قادرة على استيعاب متطلباتها الفنية، وهذا ما لا يتحقق عند كبار السن، فالقدرة الاستيعابية لديهم لن تصل الى مستوى كفاءة صغار السن، وهذه حقيقة يجب التسليم لها، وهذا ليس عيبا في حق كبار السن، وكما يقال: «لكل زمن دولة ورجال» ومن هنا تأتي الضرورة في البيئة المؤسسية بأن يكون محور طاقتها العملية فئة الشباب لقدرتهم على الابتكار والإبداع، ويظل الكبار في دور الاستشارة، إذا تطلب الأمر ذلك، ولذلك يعزى هنا وجود مجموعة الأخطاء في البيئة المؤسسية لوجود مجموعة كبيرة من فئات كبار السن تتحكم في القرار المؤسسي؛ من وجهة نظر تقليدية؛ قد لا تتواكب وسرعة الحياة اليومية، التي تشهد تسارعا غير عادي، يواكبه تطور الآلة بصورة غير عادية، بينما يقبع المتخصصون والمؤهلون من فئة الشباب خلف مكاتب لا قيمة موضوعية لها أحيانا، سوى العائد المادي آخر كل شهر ميلادي، بينما تنجز المؤسسة الحديثة في عدد من التجارب الدولية كما نوعيا من النتائج، مما يعلي من سقف دورها المحوري في عمليات التنمية في الدول التي تكون فيها.

نقرأ في كثير من الممارسات التي تبديها الدول في التعامل مع الأطراف الأخرى، ونرى أنها لا تخرج كثيرا عن هذه المشاكسة المستمرة بين الأجيال، وخاصة في تعاطيها مع الآخر، حيث يسيطر البعد التاريخي كثيرا على جملة التفاعلات التي تحدث بين مختلف الأطراف، فالدول التي ترى في نفسها – انها بحكم التاريخ – لها قرار النهي والأمر، لا تزال تتمسك بذلك، ولو كلفها ذلك دفع أثمان باهظة، بينما يختلف سلوك دول أخرى حديثة في تركيبة المجتمع الدولي، حيث تتميز بالحيوية والديناميكية، وتكون «ثيمة» الحرص فيها أكثر على جمع مكاسب لا تدخلها في صراعات ومواجهات، لأنها تحررت من الشعور بالمكتسب التاريخي، مقابل حرصها على المكتسب الحديث وهو «تعزيز القدرات الاقتصادية والتنموية» وهو مكتسب يخاطب ضروريات العصر ومتطلبات الحاضر، لإيمانها بأن الاهتمام بالموارد الاقتصادية هو السبيل لتعظيم المكتسبات في مختلف المجالات، دون أن تدخل نفسها في متون الصراعات المباشرة مع هذا الطرف أو ذاك، ولا تولي مسألة «الزعامة» الكثير من الاهتمامات، ولذلك هي تتصدر اليوم القوى الاقتصادية في العالم، متجاوزة بذلك القوى الاقتصادية «التقليدية»، ونفس الصورة يمكن مقاربتها بالتكتلات السياسية «التقليدية» التي سادت في أواخر القرن العشرين ، فإذا بأجيال القرن الحادي والعشرين تنبذها، وترى فيها عرقلة لانطلاقات التنمية الحقيقية، ولذلك انهارت معظم هذه التكتلات، وما بقي منها مرتبك، وتتخلله تناقضات كثيرة، وبالتالي فهي آيلة الى السقوط أيضا، وهذه من سنن الله في الكون، وستبقى الحياة للأصلح، على عكس ما يقال: «الحياة للأقوى» لأن القوة مكون مادي، قد يتفوق في زمن ما لوجود ظروف آنية مساعدة على هذا النمو، لا تلبث أن تزول، بينما الصلاح يركن أكثر الى تعزيز القيم الإنسانية التي تظل لها القدرة على البقاء والمقاومة، كلما آمن الناس بأهمية بقائها .

المصدر:http://www.omandaily.om/617696/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك