العقليّة الاقتصاديّة وأوهام الهويّة

عمار بنحمودة

 

مكّنت التحوّلات الديمقراطيّة السياسيين من محو كثير من آثار الممارسات الاستبداديّة، وأقاموا مؤسّسات ديمقراطية ضمنت نجاح الانتخابات وشفافيتها. ولكن على قدر نجاح المسار السياسي في تونس- بالنظر إلى المؤسسات لا الأداء - كان فشل الحكومات المتعاقبة ذريعا في حلّ الأزمات الاقتصاديّة والقضاء على المشاكل الاجتماعيّة التي لا تزال تولّد اضطرابات وتعطّلا لكثير من المرافق العموميّة. ولئن قدّمت التيّارات الإيديولوجية التي أمكن لأصحابها اختبار نظرياتهم على أرض الواقع نفسها قادرة على تقديم حلول سياسيّة لتلك المشاكل، فإنها قد أثبتت عجزها، بل لعلّ أكثر الحقب التي جعلت الأزمة الاقتصاديّة تستفحل هي تلك التي أمل التونسيون فيها، أكثر من أيّ وقت مضى، أن تكون حقبة الحلول الجذريّة ونهاية محنهم الاجتماعيّة. فقد بدا التباعد واضحا بين آفاق انتظار الجماهير التي تظاهرت وأجبرت النظام السابق على التنحّي عن الحكم والسياسيين الذين كثيرا ما قدّموا أنفسهم، باعتبارهم حاملين لحلول تحقّق الشغل لما يزيد عن 15 بالمائة من المعطلين عن العمل. وكانت النتيجة الطبيعيّة خيبة نفسيّة، بدأت آثارها جليّة في فقدان الثقة بالسياسيين ووعودهم وتردّيا للمقدرة الشرائيّة وعجزا عن حلّ مشاكل البطالة والفقر، بل إن حقبة البناء الديمقراطيّ قد جعلت العنف الاقتصاديّ المسلّط على المواطن أكبر من أيّ وقت مضى، وإن كان العنف المادّي والقمع الأمنيّ قد تراجع بشكل كبير بعد أن صارت حرية التعبير أمرا واقعا، إذ أضحى النّضال الذي خاضته قطاعات كثيرة من العمّال والموظفين لهثا وراء المحافظة على المقدرة الشرائيّة، سواء أكان ذلك بالاحتجاجات الشعبيّة أم في إطار "الاتحاد العام التونسي للشّغل". ولكن تلك المقدرة ظلت تتهاوى بتهاوي سعر صرف الدينار وضعف الاستثمار وارتفاع الأسعار[1]. ولئن احتاجت الدولة إلى رجال سياسة محترفين على حدّ عبارة "ماكس فيبر"، فقد كانت خلال الفترة التي عقبت التحوّلات السّياسيّة في يد "دولة الهواة" على حدّ عبارة "فتحي ليسير". ولم تكن بوادر الفشل الاقتصادي ظاهرة فقط في سياسة المديونيّة وإغراق الإدارات بأتباع الحزب المنتصر في الانتخابات الأولى، وإنما في الرؤية الإيديولوجيّة التي كشفت بالفكر قبل تجلّيها على أرض الواقع عن أزمة هيكليّة تتعلّق بالتصوّر الإيديولوجيّ للحلول الاقتصادية، وهو ما نحاول إبرازه من خلال عيّنة لم تمثّل مجرّد مرجعيّة فكريّة للحزب الذي بدأ إسلاميا وانتهى وطنيّا[2]، وإنّما لأنّه مثّل فاعلا سياسيّا في فترة التحوّلات الديمقراطيّة؛ عنينا بذلك راشد الغنوشي.

كانت منطلقات الشيخ/ السياسيّ، وهو يؤسس رؤيته الاقتصاديّة، قائمة على مقاصد لخّصها في هدفين رئيسين؛ هما تجاوز التخلف وإدراك أسباب التقدّم، ولكنّ اللافت للانتباه في هذا التصوّر أنّه يقوم على بحث في القدر المشترك الذي يساهم في تحديد شخصيّة الأمّة. وبذلك فموضوع الاقتصاد في تصوّر الغنّوشي يخرج عن إطار التناول الاقتصاديّ الذي يعتبره من اختصاص الخبراء، ولكنّه محاولة لضبط الإطار العام للعقليّة الاقتصاديّة. وقد أدّاه هذا المسار إلى التّساؤل عن مظاهر التخلّف وعن معناه. فبنيان هذا المفهوم قائم على تجاوز عقليّة العجز والاتكال وتصوّر أن الدول الكبرى هي وحدها القادرة على حل مشاكلنا.[3] "لأنّ الاعتقاد بأنّ المثال الأعلى لمجموعة ما ليس ضمن ثقافتها وتراثها، وإنما هو متوفّر لدى أمّة أخرى، مثل هذا الاعتقاد مظهر من مظاهر التخلّف."[4]

ويخلص الغنوشي إلى أن من أسباب التخلّف استسهال مسارات التقدّم باتّباع منوال تنمية قائم على التحديث التقني دون المشاركة في الاختراع فضلا عن كون العمال أو الموظفين لا يدركون واجباتهم، وإنما يطالبون فقط بحقوقهم. ويقترن التخلف بعقليّة الاستحالة التي تتلخّص في الاعتقاد بأن الشعوب عاجزة عن التقدّم. فالتخلف هو عقليّة عاجزة لا تبدع ولكنها تتكل في كلّ شؤونها على غيرها.[5]وانطلاقا من هذا التشخيص، فإنّ الحلّ كامن في العقليّة التي يجب أن تتأسس حسب رأيه على تحويل الإنسان إلى إنسان يشعر أن حلول مشاكله بين يديه وليست حلولا من روسيا أو أمريكا. وعلة هذا الشعور إرادة حضاريّة يختزلها الغنوشي في استعادة الإسلام الأنقى المسؤول عن تغيير قيم الإنسان وأهدافه. فالارتباط وثيق حسب رأيه بين الجانبين الاقتصاديّ والثقافيّ "فقبل أن نهتمّ بتشييد المصنع أو المدرسة أو الإدارة يجب من أجل التقدّم أن نشيّد الإنسان، ونعرّفه بالغايات التي تحرّكه وتدفعه، والتي تتجاوز مجال الغرائز."[6] وهو يجمع بذلك بين اتقاء شر الطفولة البشرية التي تجعل المسلم منبهرا بالحضارة الغربية بوجهيها الرأسماليّ والشيوعي، ويتقي شر الشيخوخة التي تجعله يعيد ويلوك أمجاد الماضي دون القيام بأيّ جديد.[7] ويظل الإسلام حسب رأيه المحرّك الرئيس، وهو مفهوم لخصه في بعض الأمثلة التي تجسّد تلك القيم الخالدة. "فكانت الخطب في المساجد وكان الاستشهاد بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة."[8]

لعلّ الواقع الذي جسدته تجربة حكم "الترويكا" بقيادة حزب "النهضة" يناقض تماما هذه العقليّة، إذ كان الاعتماد على القروض سمة بارزة في السياسة الاقتصاديّة. ولم تظهر آليات فعليّة لتغيير هذه العقليّة الاتكالية، إذ أصبح الارتهان أكبر لصندوق النّقد الدولي وللدول المانحة وتفاقم حجم المديونيّة[9].

وإن سايرنا الغنوشي في القول إنّ العقليّة أرضيّة ضروريّة لتغيير الواقع الاقتصادي، فهل يمكن أن ننكر أنّ هذه العقليّة نشأت في إطار الثقافة العربيّة الإسلاميّة؟ ألم يكن الاقتصاد الريعيّ/ الاتكاليّ سببا في هذه العقليّة التي يعتبرها مسؤولة عن التخلّف؟ وكيف يمكن أن نتجاهل النتائج الباهرة في مجال العلم والمعرفة في الغرب، فنغضّ الطرف عن تلك العقليّة التي مكّنت هذه الشعوب من إدراك التقدّم وتجاوز عصور الانحطاط كقيم عصر التنوير ومبادئ العقلانيّة والحداثة؟ ألن يفضي العقليّة المسكونة بهويّة باحثة عن المغايرة إلى إنتاج أنموذج تراثي إلى نفس المأزق الذي يخشاه الغنوشي، وهو الشعور بالعجز عن محاكاة أنموذج طوباويّ ترسمه المخيّلة ولا يجد أسباب قوّته في الواقع؟ وهل يمكن لإسلام طقوسيّ مغرق في الشكلنة ترسيخ عقليّة العمل؟ ألم تكن العقيدة الجبريّة سببا في ترسيخ عقليّة الاتكال؟ أليست العلل كامنة في وعينا وواقعنا قبل أن تكون بسبب التغريب كما يدّعي الغنوشي؟ وها هو الواقع اليوم يثبت تهافت ما دعا إليه الغنوشي، فرغم انتشار المساجد وانعتاق الخطاب الإسلامي من الرقابة في تونس. فالعقليّة التي ينقدها الغنوشي ما تزال منتشرة، بل زادت استفحالا. ألا نحتاج حينئذ إلى عقليّة نقديّة متحرّرة من كل براديغم يضبط لها أطر التفكير، وإنما يقوم على تشخيص علميّ وجهد ميدانيّ لإدراك سبل التنمية وتجاوز أسباب الوهن الاقتصاديّ؟

لقد كان الإسلام السنيّ إسلاما سلطويّا اعتمد على الجباية. وإنه لمن التعسّف اعتباره أنموذج تجربة اقتصاديّة تمثّل مرجعيّة للتقدّم. فسبيل التقدّم مثلما بيّن ذلك كثير من فلاسفة التنوير مرتبطة بالحريّة وليست وليدة فكر سلطويّ يحاول صبّ البشر في قوالب هويّة يتصوّرها قادرة على تأسيس عقليّة جديدة. فلئن كان تنميط البشر وتوجيه وعيهم أمرا ممكنا قبل الثورات الفكريّة والعلميّة التي عرفتها الإنسانيّة، فإنّ إنسان اليوم لم يعد قابلا للتنميط والقولبة، بل صار حرّا في اختيار مسارات حياته. أمّا المنوال الاقتصاديّ، فيمكن أن يتأثّر بعوامل متنوّعة؛ فالنجاح فيه مرتبط بالقدرة على الاندماج في اقتصاد السوق وخوض تجربة المنافسة وإيجاد مسالك للتوزيع. وما منوال الاقتصاد الإسلاميّ سوى وهم ومحاولة لاسترضاء نرجسيّة المسلم الفاقد لغلبته.

يفضي مسار التحليل بالغنوشي إلى اعتبار أن "مشكلة المسلمين كونهم لا يعالجون قضايا حياتهم علاجا إسلاميّا ولذلك هم في المؤخّرة."[10] ولكنه لا يسأل ما الذي جعل الآخر في المقدّمة، وهو لم يعتمد الإسلام سبيلا؟ وما الذي جعل المسلمين يؤولون إلى وضع التخلّف وهم يعتنقون الإسلام؟

إنّ وهم الهويّة الاقتصاديّة الإسلاميّة المرتبطة بعقليّة يعدّها الغنوشي مسؤولة عن التخلّف ليعبّر عن مقاربة سطحيّة للمسألة ومتخيّل يتصور صاحبه أن انتقال الشعوب من طور "التغريب" إلى طور "الأسلمة" يمكن أن يبدّل تخلّفهم تقدّما وينقلهم من وضع المغلوبين إلى وضع الغالبين.

ويقترن إصلاح الوضع الاقتصاديّ في نظره بإصلاح الواقع الثقافيّ، إذ يعتبر أنّه "بغير الاتفاق على نوع الثقافة التي ننتمي إليها وتحديد نظرتها الفلسفيّة وقيمها الخلقيّة ومنهاجها العمليّ، سنظلّ نخبط خبط عشواء في علاج كلّ ما يعرض لنا من قضايا."[11]

إنّ تصوّر نمط ثقافيّ يسبق الفكر ويضبط له الحدود لهو تصوّر موروث عن عقليّة الفرقة الناجية التي تضبط لأتباعها والمؤمنين بمبادئها أهم قواعد التأويل ولا تترك لهم سوى هامش محدود لما سمّي بالاجتهاد؛ ذلك الذي لا يتعلّق في نظرهم إلاّ بالفروع ولا يشمل الأصول، وهو نابع من عقليّة تحكمها سلطة الفكر الديني على جميع مجالات المعرفة ووهم الفقيه بأنّه معبر الشرعيّة المعرفيّة.

لقد أتاحت الحرية الفكريّة للإنسان فرص الاطلاع على أنساق فلسفيّة مختلفة والاستفادة من مكتسبات العلوم الإنسانيّة وخُصّص العلم للاقتصاد فرعا خاصّا به تتنوّع نظريّاته وتتطوّر باستمرار، فضلا عمّا تقدّمه اقتصاديّات الشعوب المتقدّمة من تجارب يمكن الاستفادة منها والتعامل معها لا بمنطق المحاكاة التي يصوّرها الغنّوشي اعترافا بالتخلّف وتعظيما لتقدّم الآخرين، وإنّما بالتعامل معها تعاملا عقلانيّا يراعي مدى تلاؤمها مع الدول المنقولة إليها، ثمّ إنّ الحديث عن حلول إسلاميّة يتجاهل واقعا صارت فيه الدّولة القٌطريّة أمرا مقضيّا، ولذلك فمن الصعب تحديد منوال واحد لدول تتفاوت ثرواتها وتختلف حاجاتها وإمكانيّاتها الاقتصاديّة. ومن الصعب تطبيق منوال اقتصاديّ أو الحديث عن نفس العقليّة في دول لها ثروات بتروليّة ودول أخرى ثرواتها الطبيعيّة محدودة. وقد يكون طرح مسألة العقليّة في ظلّ سياسات دوليّة تتضارب فيها مصالح الدول وترتبط ارتباطا مباشرا بقوى ماليّة عالميّة تجاهلا للمصاعب الحقيقيّة التي تعاني منها دول متخلّفة غرقت في التبعيّة، ولم تستطع أن تجد موطئ قدم في المنظومة العالميّة. ورغم أنّ السياق التاريخيّ الذي عرف فشل تجربة التعاضد في تونس، باعتبارها تجربة اشتراكيّة قد كان محدّدا لطبيعة الحلول التي يطرحها الغنوشي، فإنّ المنوال الاقتصاديّ الذي طرحته الدولة التونسيّة آنذاك كان منوالا أكثر واقعيّة اعتمد التخطيط، وضبط حدود تدخّل الدولة في الاقتصاد، وكان لا يتوانى في اختبار النمطين الاشتراكيّ واللّيبراليّ بحثا عن حلول للتخلف. ولذلك، فإنّ الحديث عن عقليّة إسلاميّة ليس إلاّ مزايدة سياسيّة منطلقاتها إيديولوجيّة. ولئن شهدت البلاد التونسيّة في السبعينيات أزمة اقتصاديّة، فإنّ الحلول الطوباويّة التي يقترحها داعية الإسلام السياسيّ ليست إلاّ تعبيرا عن صراع إيديولوجي بدأت ملامحه تتشكلّ في تلك الفترة. ولكنّه قائم كعادته على ردود الأفعال أكثر من قيامه على تأسيس أنساق واقعيّة تشخّص علل الاقتصاد من أجل إيجاد الحلول الملائمة لأزماته. فالتلويح باقتصاد عماده الهويّة الإسلاميّة ليس إلاّ محاولة للإيهام بأنّ الإسلام يقدّم نمطا اقتصاديّا يمكنه منافسة النمطين الرأسمالي والشيوعي. والحال أنّ الاتّجاه نحو فرض هويّة اقتصاديّة ونمط محدّد للتفكير لا يمكن إلّا أن ينتج أوهاما ويزيد الاقتصاد وهنا إذ هو يتعارض مع أبسط قواعد الحريّة وشروط المقاربة العلمية للاقتصاد، وهي آراء لا تتعلّق مقاصدها بالبحث عن حلول للاقتصاد بقدر ما هي وفيّة لمقصد سياسيّ، وهو "تكوين حركة إسلاميّة تنتقل من بناء الفرد إلى المجتمع ثمّ الدولة، بينما تمثّل موضوعة الهويّة محورا رئيسا تدور عليه."[12] وتقوم هذه الهويّة على أساس أسلمة الاقتصاد، وذلك اعتمادا على بعض المبادئ العامّة التي لم يستطع الدّعاة تحويلها إلى منظومة اقتصاديّة، بل ظلّت كسائر الحدود الفقهيّة فيصل تفرقة بين الحلال والحرام كقضيّة الربا والزكاة، وهي ترتهن دوما لمنظومة دينيّة هاجسها الفصل بين المقدّس والمدنّس.


[1] بلغت نسبة التضخم عند الاستهلاك العائلي لشهر فيفري 2018، 7.1%. انظر:

http://www.ins.tn/ar/publication/

[2] انظر: http://congres10.ennahdha.tn/ar/

[3] راشد الغنوشي، من الفكر الإسلامي في تونس، ط1، الكويت، دار القلم، (دت)، ص 14

[4] المرجع نفسه، ص 9

[5] انظر: المرجع نفسه، ص 16

[6] المرجع نفسه، ص 21

[7] المرجع نفه، ص 25

[8] المرجع نفسه، ص 26

[9] بلغ حجم المديونية في تونس 43085 مليون دينار سنة 2015 بينما لم يكن يبلغ سنة 2010 سوى 23583 مليون دولار. بحسب المعهد الوطني للإحصاء. انظر:

http://dataportal.ins.tn/ar/

وانظر أيضا: حسين الرّحيلي، المديونية بين ضرورة التنمية وأداة لاستعمار الشعوب، مجلّة الفكريّة العدد السادس، مارس، أبريل 2016، ص 6- 12

[10] راشد الغنوشي، مرجع مذكور، ص 27

[11] المرجع نفسه، ص 28

[12] محمد أبو رمان، الإصلاح السياسيّ في الفكر الإسلاميّ المقاربات، القوى، الأولويات، الاستراتيجيات، ط1، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010، ص 181

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%84%D9%8A%D8...

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك