بين الفطرة والتحصيل الثقافي

عبد اللطيف الأشمر

 

كتب ابن خلدون رائد علم الاجتماع العربي، في مقدمته الشهيرة في القرن الرابع عشرالميلادي: «عندما تـكثر الجباية تشرف الدولة على الافلاس» . 
 
وعندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون، والكتبة والقوّالون والمغنون النشاز والشعراء النظّامون والمتصعلكون وضاربو المندل، وقارعو الطبول والمتفيهقون (أدعياء المعرفة) وقارئو الكفّ والطالع والنازل والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون .
 
تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط، يضيع التقدير ويسوء التدبير، وتختلط المعاني والكلام، ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل.
 
عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف، وتظهر العجائب وتعم الشائعات، ويتحول الصديق الى عدو والعدو الى صديق، ويعلو صوت الباطل، وتظهر على السطح وجوه مريبة، وتختفي وجوه مؤنسة، وتتبدد الأحلام ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه، وتصبح اقرب الى شمع مدام «توسو» ويصبح الانتماء الى العائلة اكثر التصاقا، والى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان.
 
يضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء والمزايدات على الانتماء ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والتخوين وتسري الشائعات عن هروب كبير وتحاك الدسائس والمؤامرات ، وتكثر النصائح من القاصي والداني، وتطرح المبادرات من القريب والبعيد، ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته، ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار، ويتحول الوضع الى مشروعات مهاجرين، ويتحول الوطن الى محطة سفر، والمراتع التي نعيش فيها الى حقائب، والبيوت الى ذكريات والذكريات الى حكايات.
 
ما اشبه هذه الايام بما سبق وذكره ابن خلدون، فالناس لم يعودوا يحتملون بعضهم، والنقاشات تصبح مبتورة اذا لم تتحول الى «هواش» على ابسط القضايا، خصوصاً وان المنطقة تمر في ظروف عصيبة تكاد تكون انتقالية ومفصلية ولا تحتمل الاصطفافات المرهونة بالطائفة او المذهب، ومن المفترض ان يلتقي المفكرون على الحد الادنى من الوطنية، لكنهم بالفطرة تجدهم يميلون الى هذا الطرف او ذاك دونما تفكير حيث تسبق العاطفة العقل والتعقل فيكثر التخندق والتعسكر، لأننا افتقدنا الى الموضوعية والفعل واصبحنا شئنا ام ابينا اسرى لردود الفعل فضاع كل ما اكتسبناه من ثقافة تحصيلية افنينا اعمارنا للوصول اليها. 
 
رحمك الله يا ابن خلدون.. هل كنت تتجسس على المستقبل منذ سبعمئة عام؟!.
 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك